وقفَت عربةُ الخيول على قوس الشارع الدائريّ المحاذي لسُور جامع (الكواوزة) يلّفها الظلام، في ركنٍ يتوسط قائمين مائلين: أسطوانةَ المئذنة على قاعدتها المربّعة، ونخلةَ الجامع. ثبّتَ الحوذيُّ الجالس على مقعده المرتفع في صدر العربة نظرَه على الضوء الشحيح الصادر من المدخل الواطئ للمصلّى الذي ابتلعَ آخرَ العباسيين في جوفه، قبل دقائق من انطلاق أذان صلاة العشاء. أقلَّ الحوذيُّ شيخَه ليؤمّ المصلين كعادته في ليلة كلّ جمعة، وانزوى ينتظر خروجه بعد انفضاض الصلاة. وفي أثناء الانتظار أطلقَ الحوذيّ العنانَ لمجساته وراء عهدٍ دابر، كانت الخيول فيه تملأ إسْطبلَ الأُسرة الكوّازية التي ينتسب إليها الشيخ العباسيّ، وكانت جذوع النخيل تميل، كنخلة فناء الجامع المظلم، على دلالات الاشتباك بين الطبيعيّ والإنسانيّ في شخصيات ملاكي الأرض الناقعة برطوبة البحر وحلاوة التمر.
خلال انتظاره لشيخه، سرحتْ خواطرُ الحوذيّ إلى دار عمّته في بستان من أملاك الأُسرة العباسية في مقاطعة (الصالحية) على الضفة الشرقية من شط العرب، وشاهد أباه الفلاح مشدوداً إلى جذع نخلة الدار يُجلَد أمام عينيه وعينيْ عمّته جزاء تقصيره في تسديد ديون المُغارسة لسيّده الملاّك، وكي يسدّد الدَّيْن بعد وفاة الأب، انضمّ الابنُ إلى إسطبل الأُسرة حتى امتدّ به العمر وبشيخه وبالخيول التي دأبتْ على الوقوف ليلة كلّ جمعة في ركن الشارع المحاذي لسُور الجامع القديم. كانت نخلة (الصالحية) العيطاء واحدة من النخلات التي استنبتَها عبيدُ (المختارة) من نَوَى حملَها المهاجرون الأوائل من جزيرة العرب إلى أرض السواد، ومن فسيلٍ سطَّرَه فلاحو البصرة (التعّابون) في المقاطعات الأميرية العثمانية الموهوبة للولاة والقضاة وأمراء القبائل وشيوخ الطُرُق الصوفية استرضاءً لميولهم الجانحة إلى امتلاك الأرض وما عليها. راحت النخلة العيطاء تنجب نخلات من نوعها، فاستغرسَ الكواوزةُ نخلةَ الجامع من فسائلها، وارتبطتْ خواطرُ الحوذيّ بجذعها المائل، كما ارتبط جذعُ أبيه بجذع أرومتها السحيق.
استبطأ الحوذيّ خروجَ شيخه من المصلّى، ورابَه سكونُ الليل وصفاؤه، فزاغَ بصرُه وهُيئ له أنه يرى جذعاً بشرياً متحركاً ينفصل عن جذع النخلة المائل في الفناء المظلم ويقود مجساتِه إلى نهايةٍ محتملة لعلاقة طويلة مصفوعة بالذلّ والمديونية. خُيّل للحوذي أنّ يد النهاية أقرب مما يتصوّر لجسد شيخه الجاثي على ركبتيه أمام المصلّين، وأنّ الجذع المتحرّك يسير باتجاه مدخل المصلّى الواطئ، المعقود من الجصّ والحجارة، مارّا باسطوانة المئذنة المرشوقة مثل عمود مائل من السماء، يهبط الدرجات ويقف تحت مصباح المصلّى، ثم يقترب بحذر من الشيخ الجاثي، وقد انفضّ المصلّون من ورائه، ويهمس فوق رأسه: "طالت صلاتُك يا شيخي، لم أعهدك تطيل السجود غير هذه الليلة". يخاطب الجذعُ البشريّ الشيخَ من وراء لثامه، فلا تندّ عن الشيخ إلا تمتمات يتجاهلها الجذعُ المقترب بحذر، ويزيح عباءته ملوّحـاً بخنجرٍ يسـتلّه من وسـطه: "شيخي، يومٌ لك ويومٌ عليك. خُذْ هذه الطَّعنة". يرتسم الظلُّ الفارع للجذع البشري على عقد المحراب المتصدّع، وينطرح على باطن الزخارف والكتابات القاشانية، ثم يهوي بثقل ذراعه على جُمّارة الظهر البيضاء، يرتعب الحوذيُّ في مقعده لانشقاقها، ويعجب من الطراوة التي غاصَ نصلُ الخنجر فيها.
أفاقَ الحوذيُّ على صوت الشيخ يأمره بالمسير، فساعدَه على ارتقاء درجة العربة الخلفية، والانزواء في جوف الخباء، ولم يستطع أن يكتم سؤالَه بعد أن قطعَت العربةُ مرحلةً من الطريق: ليت الشيخَ العباسيّ يفسّر حلماً طاف بالحوذيّ بين اليقظة والمنام، خلال انتظاره له، فوق صفوف نخيل شط العرب، فرآها تُجزّ كما تُجزّ رؤوسُ العبيد. لكنّه لم يتلقَ جواباً عن سؤاله، ما عدا كلمات دفنَها خباءُ العربة مع رمّة الشيخ: "اكتمْه في صدرك، وعجّلْ بالمسير". حثّ الحوذيّ حصانيه وساطَهما، فنهبَت العربةُ شوارعَ المدينة الخالية نحو الضّواحي التي تضمّ بقايا بيوت الكواوزة.
عادَ الحوذيّ بصحبة زوجته وأطفاله لزيارة عمّته في يومٍ رمضانيّ لهّاب، لاستطلاع موقع الحلم الذي يراوده خلال فترة انتظاره أمام الجامع، فرأى النخلةَ العيطاء قد ازدادت طولاً واستدقاقاً، وشُدَّ إلى جذعها المسحوق كوزُ ماء بالحبال التي شُدَّ بها أبوه وجُلِدَ قبل سقوطه من قمّتها، وعمّته التي هرِمَتْ وانطوى جذعُها تتوكأ على عُرجون وتقترب بدبيب غير محسوس من النخلة لترشق زِيقَ ثوبها بقبضة ماء بارد من ناقوط الكُوز. ابتهج الأطفال لسقوط ريش الحمام من عشّ في كوّة بجدار البيت الطيني، وتبرَّمت أمُّهم من حرارة البساتين ولزوجة سائل أثمار (البَمْبَر) الصمغيّ، بينما قرأ الأب الأميُّ نصَّ الغرس والتعب والمساءلة (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسْها) في كل ذرّة تراب فتّتَتَها قدمُه الحافية.
ما أغزر العلامات المحذوفة من طريق قصّتنا عن آخر العباسيين، وما أكثر الأخبار التي اجتاحتْها نصوصُ المدن الحجرية المتناسلة والقلاع الحربية والمراصد المتقدّمة على ضفاف الأنهار وسُطور النخيل. قَضَتْ إمبراطوريةُ العلامات الإقطاعية على مواسم الغرس والقطاف والكبْس والتجارة، وروايات النواطير والصعاليك واللصوص والمجانين التي يتداولها الفلاحون على نهر (الأبلّة)، كما قَضَتْ على أمل الحوذيّ في تفسير حلمه. استبدّتْ طبيعةُ القِلاع والقصور بعلامات الأرض العذراء : اليُوخان والكُوز والمِسحاة وأعشاش الحَمام وزهور الرمّان وعرائش الكروم. أرخى الحوذيُّ عنانَ خيوله، عسى أن تلتقي حوافرُها بالسطر الأخير من سُطور تفسير حلمه، فيسدّد ما تبقّى من دَيْن المُغارَسة المستحقّ على أبيه، ويضع الشيخَ العباسيّ سالماً أمام باب بيته. ولكن هل يستوي دَيْنُ النصّ ودَيْنُ الأرض؟
أفاقَ الحوذيُّ على أقدام شيخه ترتقي سلّمَ العربة وترتمي في الخباء المُسدَل وراء ظهره. شهرَ الحوذيُّ سوطَه وحثّ الحصانين الساكنين بلسعات لامسَت الهواء، فجريا على مهل وتثاقل. ولما قطعَت العربةُ مرحلةً من الطريق, ذكّرَ الحوذيُّ شيخَه بتفسير حلمه عن النَّخل المقطوع، فردّدَ الشيخُ كلماتِ الليالي السابقات: "اكتمْه في صدرك وسِرْ".