تنسج الكاتبة المخضرمة في نصها الروائي القصير عالماً خاصاً وشخصية تحلم بعودة ماضي في خرافات تنسجها الحكايات عند أفول مجد الدول العظمى، فتتابع حياة الأمير الأخير في علاقته بالموسيقى والأيقونات والمرايا والمرأة التي يعثر عليها ويقترن بها فينبثق الصراع بين أحلامه الميتة وحيوية الشريكة المترعة بالحياة.

موسيقى صوفية

لطفية الدليمي

1- الظل والموسيقى
نعمت الروح بسلامها عندما استسلم الجسد لحداده, غير ان السيدة (سامية النعمان) ظلت واقعة تحت هيمنة تلك الموسيقى الصوفية طوال  الأحد عشر شهراً من أشهر الحداد, موسيقى مستبدة رتيبة, تغمر البيت مثل مدِّ  بحري يرتفع دونما ميقات لا تؤثر فيه دورة القمر أو انهيال الشهب, ولا ينحسر إلا ليخفت قليلا أو يتباطأ ثم يعاود اكتساحه لها ولبيتها الراقد في الحداد المفروض عليها.

وخلال هذه الأشهر دربت السيدة سامية النعمان نفسها على تجاهل هذه الموسيقى الطاغية رغم ضجتها وتواصلها وما تنثره من خدر وذوبان في الزمان , نجحت في تجاهلها مدفوقة باحساسها بتبدد الزمان ومعرفتها ان الحياة – حياتها – تمضي بسرعة الضوء وأن ما تبقى لديها من عمر قد لا يتجاوز بضع لحظات كونية ثم ينطفئ كل شيء.

دربت نفسها على مساكنة الحزن الذي كان ينغرز ابراً ورؤوس مدىً مدببة في روحها حتى أدمنته وباتت تفتقده كأنه رائحتها الإنسانية أو ظلها, أو صدى صوتها, قاومته ثم أحبته وهو يشع من أنفاسها ويذكرها كل لحظة إنها حية, حية رغم جنون الاقتتال الذي يجتاح مدينتها البحرية .

كان الزمان يسيل ويتقطر ويجف مثل قطرات الندى في المفازات الحارة, وكانت الموسيقى تحاصرها وتكبلها بالرؤى وتظللها بانخطافات وخدر يصيبها بين فترة وأخرى, لكن الموسيقى خفتت اليوم وتراجعت وركد الحزن, فتساءلت : أكلُ ذلك وهم؟..

أتلك الرؤى والانخطافات وهم؟..كلا ..الألم ليس وهما لأنه يغوص في لحمها والموت ليس أكذوبة لأنه مر في هذا البيت أمامها, والحرائق ليست سراباً, والحياة تهرب منها وهي مكبلة بثياب حدادها, وقد بدأت اليوم تلمح اشارات وامضة, لغة نيران كتلك التي تتخاطب بها القبائل البدائية مع قرع الطبول, وعندما ظهرت الإشارات خفتت الموسيقى وغابت وهيمن الصمت الجديد على البيت, دنت منها الاشارات وطوقت مثل أسلاك ساخنة رأسها وضربت صدغيها بقوة وأرجفت أصابعها فاستفزت ونهضت مذعورة كأنما أيقظتها طرقات زائر على بابها بعد انتصاف الليل.

الصباح, والبيت الذي اعتادت ركوده القاتل بدا لها أشبه بمدفن قديم حنطت فيه جثث السنوات والآمال الكبيرة والصبوات وأيام الشقاء.

وكان للإشارات الضوئية أثر تيار كهربائي متقطع في جسدها, فانتفضت مثل طائر مائي أثقلت جناحيه أوحال البرك الآسنة, وتمتمت لنفسها: سأغير كل شيء ..

واختيارت أن تبدأ بالستائر, أنزلت الستائر العتيقة المثقلة بغبار الزمن ودخان الحريق وأنفاس الموتى وأبخرة الرطوبة وألقت بها بعيدا في انتظار أن تحرقها.

وخرجت إلى المدينة المتوترة في هدنات زائفة, اشترت ستائر رقيقة من تول بلون العاج مزخرف بزخات من زهور مخملية, فكرت : ستتيح لها الستائر أن تشهد الحياة, وستنبثق قصص الناس الآخرين في اللحظة التي تقع عليهم عيناها, يصبحون موضوعا جديراً بالاهتمام , يصيرون تسليتها وهمها و وهمها, وترتبط بهم تفسر حركاتهم الزائفة والصادقة, تعابيرهم الملتاعة والفرٍحة سيشكلون لها المشاهد المرتقبة ويحيكون لها نسيج الدراما اليومية رغم ابتذالها وتكرارها..

أمامها الآن أشجار الدلب والصنوبر البحري في باحة المبنى الذي يقع شرقي دمشق , امامها أحواض الزهور وكل ما يمكن أن يرى من نافذة البيت, ستتيح لها الستائر الشفافة أن ترى دون أن تضطر إلى سحب الستارة, تتفرج وهي ما تزال في قبضة حدادها الشرقي على امرأة تنشر ثياباً زاهية في الشرفة المقابلة, وأخرى ترسل إشارات غّزِل إلى رجل يبادلها لعبة الإيماء والتمويه, وثالثة تهدهد طفلها وسترى قطة تلتهم  طائراً وقذيفة تخترق الطابق الرابع من المبنى المجاور, سترى وترى وتعاود الاتصال بالحياة..

 تساقطت مخاوفها مثل أوراق توت, وسطعت أمامها أشجار جديدة بأوراق نضرة لها حفيف نباتي عذب, ولها زفير من رحيق الحياة طغى على عتمة الموسيقى الصوفية التي كبدتها  أكثر من أربعة عشر عاماً من حياتها, وفي المشهد المولود للتو تألق وجه رجل – الحلم وسمعت في الصمت الطري صوته ووجدته يحط على يديها مثل طائر الفردوس وهي تطوي حافات نسيج النول وتثبت فيه المشابك المعدنية وأخذت تتدفق صور ذهبية لأزمنة مرتجاه منسوجة من الحب وسلام الأرض والموسيقى النضرة المتجددة.

عند ذاك خمدت الموسيقى الصوفية وصمتت, وارتعشت سامية النعمان, ركدت أشياء الموت وتبددت روائحه, وغاب الخراب الذي طمس معالم البيت واختفت على مدى برهة آثار العفن والندوب وأثار الحريق التي بقيت تلاحقها طوال أشهر الحداد, كانت يداها تتحركان خلال نسيج الستائر مثل يدي عازفة سنطور ضوئي محاطة بأمواج التول وانعكاسات الأضواء, بينما تنهمر في سمعها أصداء كلمات جديدة يبتدعها صوت رجل – الحلم.

بعد ساعة علقت الستائر الشفافة فغلفت الغرفة بضياء غبشي مشع ثم ألقت بثياب الحداد وارتدت ثياباً للحياة, من لون زمردي أخضر تعلوه غيمات من شرائط ومخرمات رائعة, ورقد ثوب الحداد على الأرض مثل كفن غادرته الجثة التي مسّها سحر الحياة.

بدأت تنعم بما هو أبعد وأبقى وأنبل من المتع الصغيرة الزائلة التي تتبدد لحظة الحصول عليها, ها هي الآن تستدعي  الرجل – الحلم بروحها وتلتقي به في الأمداء المضيئة لكنها تفاجأ بظل شبحي قاتم يرتسم على الستائر الشفافة وله هيئة مسطحة تنقصها كثافة الوجود الحيوي التي تميز ظلال الأحياء, توقف الظل قبالتها في وقفة عنيدة مستفزاً سلامها الجديد, وعندما أمعنت التحديق به وفي صلفه المعاند, تبينت فيه مع فزعها ودهشتها هيئة شريكها الراحل (فخري توركلي) بقامته المديدة نفسها وترفعه البارد وعناده القديم. وبعد قليل رأته ينحني على حافة النافذة الخارجية يلمس عناقيد زهور الجيرانيوم الحمراء والوردية ثم يمرق مسرعاً بحركة متلصصة ما بين شجرتي الدلب المواجهتين لها ويندغم في سماكة الجذعين ليذوب بعدها ظلا باهتاً بين الظلال, وتراءى لها مرة أخرى يتحرك وراء عريشة الياسمين الممتدة على السنادات الخشبية وبعدها يتلاشى متعلقاً بأطراف الريح ليضيع بين الغيوم.

ازدادت الموسيقى صخباً في أرجاء البيت متصاعدة من مسامات الحجر وبقايا المقتنيات العتيقة.

أعدت سامية لنفسها قدحاً من القهوة وأحكمت إغلاق الدريئات الخشبية على النوافذ واحتضنت وجه الحلم الذي تلوذ به من عالم الموت وحصار الموسيقى المخدرة, وتهرب إليه من الشرور المحدقة بها وعدوانية الأشباح التي تهددها.

بعد قليل تناهي إليها صوت نشيج مكتوم, خرق بقايا الصمت وعندما استمر ميزت فيه صوت نحيب (فخري توركلي) في ليالي يأسه وعجزه  وأيام فشله عن حل لغز المرايا أو وهو يقاوم انهياره أمام (رهاب الحرائق) والحياة التي دمرها بحلمه البيزنطي العقيم.

امتزجت مع النشيج تقاسيم عودِه التي كان يعزفها في ليالي السمر البائدة حيث يسيطر بموسيقاه الصوفية على صحبه ومريديه والمعجبين بعبقريته في النحت والعزف ومعارضة الفلسفات بفلسفات  جديدة سرعان ما يدحضها بنفسه.

وبين النشيج والتقاسيم أخذت تتساقط أصداء أحاديث وكلمات وعبارات سمعتها  مرارا  منه ومن صحبه حتى غدت كوابيس كريهة تحط عليها كالرجوم.

قاومت, وقاومت لكي لا يهرب الحلم ولا يدمره هذا الاكتساح الشرير لأيامها, قاومت الظل الكريه وأصداء الأحاديث والنشيج والموسيقى التي تأتي مما وراء الحياة.

قاومت وهي ترى وجه الرجل الحي مشرقاً في أفقها, قاومت روائح الموت ومناورات الشبح قاومت عندما أخذ حضور الموت يهدد الحياة وما فيها.

جربت أن تتجاهل زيارات الظل المسائية وتجنبت الإنصات لشهقات النحيب الممتزج مع إيقاعات موسيقى الخدر والانخطاف. ولكن الظل الشبحي ظل يحاصرها بملاحقاته الفظة بعد أن استبد بحياتها وبددها بخرافة (الحلم البيزنطي) والشطحات الباطلة. ثم اكتشفت في الصباح التالي ذبولا جماعيا للأزهار في أحواضها، تيبست بتلات الداليا الشيفونية وذوت نورات الأقحوان وانتثرت أشلاء عناقيد الجيرانيوم على البلاطات, ثم تبينت ان الذبول حدث في الليل ولم يكن بتأثير حرارة شمس النهار وما كان ليحدث لولا لمسات يدي الشبح التي نقلت إليها عدوى الفناء.

عندئذ قررت أن تتخلص من بقايا ذلك الماضي المقتنيات الخرافية والأثاث التاريخي المتهالك وكل تلك الأشياء التي أقام عليها (فخري توركلي) صرح حياته الوهمي فبدأت تنفذ الأمر رفعت, كل المرايا البيزنطية التي كانت الغرف تغص بها وأبعدت تماثيل رؤوس العباقرة من كل العصور, ودمى البورسلين المتشظية وعشرات غلايين الخشب والتحف وألقت بها في مخزن وراء المبني ثم بدأت تزيل العفن المعشعش في البيت وتمحو   آثار الحريق الذي اجتاحه قبل أحد عشر شهراً, وفتحت النوافذ وغيرت مواقع الأشياء كلها, ولم تستبق سامية من بين كل تلك الأشياء سوى المرآة التي ظل إطارها النحاسي المطعم بأنياب ذئاب طوروس محتفظاً بزينته الوحشية الصادمة, لم تتبين الدافع الخفي لاحتفاظها بهذه القنية الغريبة من كنوز زوجها الراحل, وعندما تحرت في طوايا ذاكرتها اكتشفت انه ذلك المعتقد الشعبي القديم التي يقول بقدرة أنياب الذئاب على درء الشرور فكان الناس يحملونها تمائم تدفع عنهم ضراوة الوحوش والأخطار وشبح الموت.

شيء أشبه بضباب رمادي كان يموج بين السطح الزجاجي للمرآة والطلاء القصديري, خيل لسامية انه بقايا من دخان الحريق احتبس ها هنا وركد طوال الأشهر الماضية, ثم رأت تلك البؤرة القاتمة المتكثفة وسط المرآة كأنها شارة الموت. أو لعلها أشبه بثقب (فضائي أسود) من تلك الثقوب ذات الشراهة الكونية التي تجتذب كل الأجرام إليها وتبتلعها وتذيبها في كثافتها المروعة.

علقت سامية المرآة الذئبية إلى يمين خزانة الكتب الرئيسة في الغرفة الكبيرة وحانت منها التفاتة نحو الباحة الخارجية فاكتشفت أن الزهور عادت إلى التفتح, تألقت براعم القرنفل والتمعت نورات السنتوريا الزرقاء بلون أعماق البحر, وفي خفوت الموسيقى تناهى إليها طنين أسراب نحل وصرير جنادب الصنوبر الثاقب, وحفيف أجنحة شفافة ولهاث مخلوقات مسرعة تنسرب في تيار الحياة.

واصلت الموسيقى الصوفية ترددها بدرجات متفاوتة من الوهن والخفوت, بدأت سامية تخرج إلى عملها وتنساها لكنها كانت تجدها في انتظارها كلما عادت وهي تطلق عليها غبار زمن (فخري توركلي) ومراياه وتماثيله وتذكرها بزمن الوقوف عند حافات الممالك البائدة.

 

 2مرايا بيزنطة
كان البيت قد امتلأ بمقتنيات أثرية لا حصر لها, أشياء لها التماعات زائفة, أدوات تفوح بروائح الممالك العتيقة, وصلت إلى البيت من عصور مختلفة وتراكمت في طبقات زمنية تمثل أمجاد الحضارات الآفلة, قطع أثاث استانبولية ببهرجات شرقية مطعمة بالأصداف والمرايا, طنافس سلاطين, رياش عثمانية  من دمقس عتيق وستائر بروكار وموسلين مذهب, أواني نحاس مطعمة بالميناء العراقية, فضة مؤكسدة تبقت عليها لمسات نساء مرصودات للموت, سجاد يروي حكايات عشق خرافية وأساطير بطولة, مباخر لا تزال تفوح بالمسك, مشاكي معدنية يزينها زجاج  ملون يفيض بأقواس قزح وانعكاسات لا نهاية لها.

إلا ان المرايا كانت تحتل المكانة الأولى بين مقتنيات البيت, وتغطي مساحات الجدران والزوايا والممرات, وهي مرايا عتيقة تحمل تراث منطقة تاريخية شاسعة تمتد من أواسط اوروبا حتى اواسط آسيا, مرايا تزينها تيجان من عاج الفيلة, وأكاليل من الصدف وقرون الأيائل, وتلتمع على بعضها أحجار كريمة من الجزع والعقيق وأحجار الدم, مرايا غرست في أطرها أنياب ضوارٍ ومحار من بحر  ايجه و مرايا زينت بشذرات من الفيروز واللازورد, ومنها مرايا ذات أغوار سحيقة, تبدو مثل بحيرات خادعة ومرايا تردد آلاف الانعكاسات إذا مسها شعاع تائه يسقط عليها من زاوية معينة, وبينها مرآة زينتها جماجم أفاع ٍ من ارضروم رصعت محاجرها بالتوباز واليواقيت الحمر, أتى فخري توركلي ببعضها من أقصى بقاع الامبراطورية البيزنطية, وجمعها خلال سني عمره في تلك الأيام الخوالي التي تزدهر فيها بعض أنواع الاستثمارات من تهريب  تحف وآثار خلال  الحروب العظمى , وأنفق من أجل اقتنائها ثروة خيالية, اشترى بعضها من خانات استانبول وقلاع أزمير وحصون ادرنة, وأحضر إحداها بواسطة عملية تهريب مدهشة من مدينة تيرانا عاصمة البانيا وحصل على  بضعة منها من بائع تحف تركي اكتشفها في سرداب ملحق بقصر من قصور السلاطين المهجورة, كانت تحتجز فيه النساء المغضوب عليهن من محظيات وجوارٍ وسبايا ولا تعطى لهن سوى وجبة طعام واحدة يومياً وحولهن مرايا كثيرة يعذبوهن بها إذ يرقبن ذبول الصبا والحسن يوماً بعد يوم في سرداب الجنون المميت.

ووصلت إليه مرايا مع ما ورثه من أبيه من طرف ونفائس ثم أمضى عمره الباقي يرمم أطرها ويعيد إليها ما فقدته من أصداف وحبات عقيق وأحجار فيروز ويواقيت وظل يحملها معه من بيت الى بيت ومن زمن الى آخر وهو يواصل الترحال عبر سنوات عمره ما بين مدن تركيا وموانئ سوريا حتى انتهى به الأمر إلى بذل ارث سلالته الذي آل اليه من أجل تحقيق حلمه البيزنطي بنفسه.

وظلت سامية النعمان طوال سني عيشهما المشترك تلهث وراء ارتحالاته المفاجئة راكضة بين المدن والبيوت, تمارس الحياة بعكس تيار رغباتها وتقاوم نذر انهيار زواجها العقيم من آخر سليل لملوك بيزنطة العظام الذي كان يسخر كل شيء لتحقيق حلمه الملكي بينما كانت سامية تتخلى عن كل الأشياء وتعيش بأسلوب مضاد لمكونات وجودها.

وأمام هذا العمر المضنى بالعجز وموت الأمل, كانت تلتزم صمت النادمين الذين غصوا بوليمة خسائرهم, فيبدأ (فخري توركلي) بالقاء تبعة الشقاء والعقم ووباء الترحال على المدن والأرواح التي تسكن البيوت, وسطوة الجهات الأربع ومهبات الرياح وأنواء البحر وحركات النجوم في أفلاكها, ثم حاول بدهاء العراقة الموروثة وثعلبية السلالات المنحدرة من عروش الامبراطوريات أن ينسيها ويتناسى معها كل الأحداث المحتدمة حولهما  الحرب الأهلية العمياء وفساد الأنظمة في الأرض المطلة على البحر المتوسط وعذاب الإنسان المعاصر في مستنقعات الموت  في الحروب والجوع والأوبئة, ثم دفعها بإيحاءات يجيدها, وبأحاديث يحسن تصريفها بلباقة موروثة إلى أن تهمل الإنصات لهدير حركة الزمان في علبة التاريخ المقلوبة, وان تدير عينيها عن فكرة الحتميات المفروضة على الحلم الإنساني, حتى آل بها الأمر إلى اللوذ بتلك الملاجئ التي يحتمي وراءها اليائسون والعجزة والقانطون من كل أمل.

وصارا يتوسلان الغيب, ويحرقان بخوراً من أصماغ جاوه لاسترضاء أرواح الأسلاف المتجولة ما بين حدود (إمبراطورية بيزنطة ) والجبال الشرقية وامتدادات صحارى العرب, إلا انهما لم يحظيا بغير المزيد من الشقاء والتسليم بلعنة العقم.

فاذا انتقلا إلى بيت جديد يشتريه فخري توركلي في مدينة جديدة تراه ينشغل في الأيام الأولى باختيار أشرف الأمكنة وأبرزها (لمرايا بيزنطة) ثم ينصرف بعد ذلك إلى تنسيق مجموعة تماثيل رؤوس العباقرة ودمى البورسلين وغلايين الخشب ومجلدات الفلسفة الالمانية ومصادر التصوف والموسيقى والكتب  التي تبحث في علم آثار بيزنطة في الأمكنة الأخرى.

أبدت (سامية النعمان) في عام عيشهما المشترك كرفيقي حياة -نوعاً من اعتراض مهذب على وفرة المرايا التي أصبحت تحيط بها أينما اتجهت في أنحاء البيت وتضللها عن حقيقة الأشياء والملامح والحجوم والألوان, وتعكس لها عشرات النساء اللائي لهن وجه سامية وملامحها المستكينة القانطة واللائي يناقضنها بشرارات تمردهن واشتعال عيونهن, وأولئك الهازئات منها, حتى كادت تفقد صوابها, فأخذت تغطي المرايا بأستار وسدول كلما خرج (فخري توركلي) من البيت, لكن أوقات خروجه بدأت تتناقص بالتدريج, حتى قطع معظم علاقاته بالخارج واكتفى باستقبال الضيوف من الصديقات والأصدقاء كل ليلة في منزله.

وزاد من رعبها ان المرايا كانت تقلب كل شيء بطريقة تخلف اضطراباً دائماً في وعيها, إذ يصير اليمين يساراً واليسار يمينا وتختلط الجهات, وتضيع الحقائق التي تعلمتها في فوضى الانعكاسات اللانهائية بين المرايا الغريبة.

اقترحت أن يبيع بعضاً من مراياه الأثرية, وحرضته باثارة شهوة الثراء: (سيهرع جامعو النفائس لشرائها, إذ يتعرفون قيمتها التاريخية, وسوف تهبط علينا الثروة التي تعوضنا عن خسارتنا الدائمة) أظهر لها معارضة مرحة, طمسها بافتعال الأحاديث والحكايا الطريفة ثم  قادها بلباقة إلى أحاديث أخرى متوهما أنه ينسيها عذاب حصار المرايا لأيامها, غير انها واصلت تذمرها بنبرة مهددة: سأترك البيت, سأهجرك إذا ظلت كل هذه المرايا اللعينة تحاصرني, ظل فخري توركلي مطرقا وقد صدمته مفاجأة فيها بذرة من تمرد النساء القتال, لكنه ظل صامتاً يحدق في عمق عينيها الجميلتين القاتمتين وهي تردد بعزم ولكن أشبه بالمنومة المسحورة:

أنا أو هذه المرايا, أنا أو هذه المرايا.. أنا أو..

كان السر البيزنطي يحتدم وراء نظرته وفي خلجات روحه ذلك التعالي البارد الذي ينظم مسار كل حركة وقول فلا يدع هؤلاء الناس يتصرفون بتلقائيتهم أو يفصحون عن أنفسهم بيسر.

كان مثلهم يدع الشخص المقابل أسير انتظار ممض لما سيقوله ويفعله دون أن يحدس شيئاً مما يدور في رأسه.

ظلت شفتاها ترتعشان بنوع من الندم أمام امتداد صمته السادي الذي يحاصرها بما لا تتوقعه , وبعد برهة قال سليل آخر أباطرة  بيزنطة المقدسين:

لقد منحتك يا سامية عندما اخترتك شريكة وجود  منزلة أميرة من أميرات بيزنطة, أنت  رفيقة آخر سليل من سلالة الإمبراطور (قسطنطين الثاني عشر) وأجد الآن ان من حقك بعد عام من عيشنا المشترك أن  أطلعك على (سر المرايا البيزنطية) هذا السر الذي تناقلته الأسرة  جيلا بعد جيل منذ عهد جدي قسطنطين الذي قتل بيد (السلطان العثماني محمد الفاتح) وهو يدافع عن عاصمة ملكة التي أحرقها الفاتحون, تقول رواية السر ان مرايا القصر الإمبراطوري توزعت في مدن وممالك شتى بعد حرق المدينة ونهبها من قبل  الفاتحين, ولكن أحداً من أسلافي لم يتوصل إلى عدد المرايا، هذه المرايا التي تمتلك خاصية عجيبة ستعد فيما لو تحققت إحدى أهم عجائب الشرق – فهي إذا وضعت بترتيب معين شرط  أن يكتمل عددها الحقيقي – وفي ساعة محددة من ساعات النهار, فانها ستظهر مشهداً خارقاً لمدينة بيزنطة القديمة, سترى المدينة حية تلتمع فيها بوابات القصور وانعكاسات الشمس على البوسفور وتشع التيجان وتتألق سيوف المحاربين وتشتعل قباب كنيسة ايا صوفيا في مشهد ملكي خارق الجمال, حتى ان الماء يرى وهو يموج في البحر, والأشجار وقد حركتها الرياح القديمة.

- وما جدوى ذلك؟.. وما جدوى استحضار مشهد مدينة ميتة؟

 -يقول ناقلو السر ان من سيحقق هذه الأعجوبة يرث مجد بيزنطة أو ما تبقى منه ويمكنه العودة إلى القسطنطينية يضيء روحها الميتة بأمجاد الشرق البيزنطي التي سيعيدها إلى الحياة.

 - وهكذا إذن أنت لا تحيا بما تريده كانسان موجود في الحاضر بل تخضع لما أوحاه لك الموتى, أيعقل أن تستسلم لرغبة سلف ميت؟.. لماذا لا تؤثر في عالمك الحي بوجودك وارادتك؟ لماذا تتبنى حلم أناس ماتوا ولا تصنع حلمك الشخصي.. أتؤمن حقاً بما أوحته لك خرافة الموتى؟

 - أجل, إلا لكنت الآن قانعاً بالعيش في ميناء بحري جميل اعني بتجارة النسيج والرخام التي ورثتها عن والدي.

 - وتمضي العمر كله تحاول الإمساك بحلم الأموات وتهمل زمنك ولا تصنع له ولنفسك شيئاً؟

-  أنا أحمل مسؤولية هذا الأمر ونتيجته, وسأجد الطريقة الصحيحة لحل لغز المرايا وترتيبها لأشهد مدينة بيزنطة أمامي وإذا افترضت أن عدد المرايا قد اكتمل فان احتمالا واحداً من بين آلاف الاحتمالات يمكن أن يؤدي إلى حل اللغز وتتحقق المعجزة.

 لقد مرت أكثر من ستة قرون انفق فيها مئات من أسلافي سنوات أعمارهم وهم يحلمون ويبحثون عن المرايا ولم يتوصل أحد منهم  إلى الاقتراب من حدود الحقيقة.

وربما سيقع لي ما وقع لهم وأفشل, أنا الذي لاحقت المرايا عبر البلاد باحثاً فيها عن الشارة الإمبراطورية السرية التي لا يعرفها سواي.

- ولكن ما الذي جعلك تكتم عني كل هذا منذ تعارفنا؟

- اعتقدت أنك لن تتقبلي الأمر , خشيت أن أفقدك وسأطلعك على السر عندما تترسخ علاقتنا..

 - عندما تمتلكني كليا, وعندئذ سأكون مرغمة على قبول الخرافة الميتة, أنا لن أغفر لك هذه الخيانة.

-  أردت فعلا أن أمتلك الحياة ممثلة فيك, أن امسك بها هي والموسيقى الصوفية التي التقينا عند الولع بها – أردت حقا أن أعيش سنة واحدة للحاضر بلا مواجهة مع العدم، لحبك  وحده , لكي أمتلك القوة على تحقيق الحلم.

- أنت لا تجيد سوى محبة الأشياء الميتة, أنت لم تصنع شيئاً للحاضر, أردتنا ان نحيا في ظل أحلام الموتى من أسلافك وتفكر بعقولهم العاجزة, أنت لا تحبني يا فخري, إنما تحب خرافتك وعدمك  وحده ،

- سامية, هل يعني هذا انك ترتابين في سر المرايا؟ تشكين في حبي لك؟ هل يدفع لي القدر بسوء الطالع الموروث الذي أصاب أسلافي ولاحقنا جميعاً؟.. كنت أظنك ستفهمين لوعة أن أحمل مسؤولية حلم يعيد لي مجدا ضاع, عندما التقيتك خيل إليّ أنك ستفهمين ما لم تفهمه سواك من النساء.

-  أنا.؟ كلا (يا فخري توركلي) أنني أفهم أن أعيش الحاضر أن افعل فيه شيئاً صغيراً بنفسي لم يفرضه علي الموتى بوصية ميتة.

 - قبلك رفضت والدتي الأمر ومنعت أبي من تعليق لوحة (أنساب ملوك بيزنطة) على جدران البيت, وهو الذي حمل لوحة الأنساب كما تحمل المقدسات من القسطنطينية إلى طرابلس ليثبت للمرأة التي أحبها ولأهلها انه سليل ملك عظيم, كانت أمي مثلك تسخر من قصة المرايا وترفضها وتلوم أبي لاهتمامه بها, ترى هل تتشابه النساء في رفضهن لأحلام الرجال من أشباهنا؟..

كانت سامية قد صدمت بالمفاجأة ولكنها عرفت السبب الذي فسر لها نوبات عصاب (فخري توركلي) وأوقات انطوائه الدائمة واهتمامه المهووس بالموسيقى الصوفية التي هجرتها هي ..

أحاطتها أشياء البيت العتيقة, فشعرت بأنفاس العداء تلفحها, أنفاس الأشياء العفنة والميتة, الأغطية والطنافس والوسائد في غرفة النوم, كان كل شيء ضدها, يده الباردة التي زحفت على كتفها, أحست بها مثل أفعى عمياء تدب على جلدها المقشعر, أبعدت نفسها عنه وتمنت لو أنها لم تلتق به, هذا الذي سحرها بخرافته الخفية وخدعتها سيماء الأسى التي تقنع وجهه.

حسبت في البدء ان ولعه باقتناء المرايا ما هو إلا بعض من ولعه باقتناء التحف والنفائس, محض هواية لثري متبطل بطر, يعزز بالمقتنيات هشاشة روحه, همس لها متأسياً: كنت أنتظر ان تعينيني, أردت منك أن تقفي معي لاستعادة مجدي الضائع ولا أدري بأية مقاييس تتعاملين مع الحياة؟ إن للإنسان أن يفعل أي شيء للوصول إلى مبتغاه, ويسلك الطرق التي يراها صحيحة إليه, هل ألام على هذا..؟

صمتت سامية, كانت الخديعة أكبر من كلماتها التي ستقولها, بأية مقاييس يتعامل مع الحياة؟.. انه يبرر كل شيء ويعمل كل أمر من أجل الوصول إلى هدفه..

كان قد قال لها يوماً.. تعلمي من الطبيعة أساليبها, البشر ليسوا وحدهم المضللون, الطبيعة مخادعة, تلك الأسماك الرعادة القاتلة وتلك التي تخرج من جسدها ما يشبه دودة حمراء تقتنص بها الأسماك الأخرى, وتلك النباتات التي تبتلع المخلوقات الأخرى بإطباق أزهارها أو أوراقها عليها, وضحكت يومها من هذا الحديث الذي عدته طرفة أو مزحة صغيرة من تلك التي تنتشر في أحاديثه اليومية, لكنها الآن وعت قانونه وفهمه الخاص للحياة وما فيها.

كان (فخري توركلي) يجمع تماثيل رؤوس لعباقرة من عصور مختلفة جرمان وسكسون, ورومان, رؤوس منحوتة بكلاسيكية مقننة, تغفل شأن الروح وتعلي شأن مقاييس الجمال الخارجي على حساب المشاعر, فتبدو معها التماثيل كتلاً من رخام جميل تشمل ما حولها بنظرات مزدرية وكبرياء حجري, وكان فخري يتبع نظاماً معيناً في رصف تلك الرؤوس يفضح نزعته الأرستقراطية التي يتحصن وراءها الورثة العاجزون.

كان يضع تماثيل الفلاسفة الألمان مع مجلداتهم في مواقع الصدارة من المكتبة الرئيسة ثم يأتي برؤوس معبوديه من الرومان بعدهم ثم السكسون, ثم يتساوى الآخرون مع الكتب والدمى وغلايين الخشب والأقداح.

وبدأ فخري توركلي يجري تجاربه على المرايا علانية بعد أن كان السر يمنعه من القيام بها أمام سامية فيغتنم فرصة خروجها إلى عملها في الجامعة أو لزيارة طبيب أو إلى الجمعية النسوية فيقوم بمحاولاته الفاشلة.

بدأ اليوم ينزل المرايا ويرتبها ويغير مواقعها عشرات المرات لعله يهتدي إلى الوضع الذي يتحقق معه اللغز البيزنطي, وعلى مدى ساعات النهار وهو يستمع إلى الموسيقى الصوفية, ثم ما لبث ان ابتكر طريقة رياضية يسرت له المحاولات التالية بعد أن اطلع على كتاب في الرياضيات للعالم الألماني (لايبنتز) فشرع يدون التجارب الفاشلة بصيغ رياضية مرمزة تفادياً لتكرارها, ثم يستعين بالمدونات لتغيير مواقع الرموز على الورق حسب معطيات التجارب اللاحقة حتى تجاوزت الأوراق بضعة آلاف ورقة لم يقدر له أن يضيف إليها الورقة الأخيرة قط.

فإذا استبد به اليأس كان يحاول استعادة بوصلة أحلامه القديمة, فيلوذ بممارسة النحت ويعمل أزميله في حفر الحجر وخشب الزان لتنجلي التجاويف والنتواءات عن ملامح وجه جديد لأحد معبوديه, يحتل موقعاً جديداً بين الرؤوس ودمى البورسلين التي تمثل أبطالاً من ملاحم إغريقية وتيوتونيه ونوردية في لحظاتها المأساوية القصوى, وبين الكتب وعشرات من الغلايين الغريبة الأشكال والألوان.

ولاحظت "سامية النعمان" ان كثيراً من الكتب التي تخصها بدأت تختفي من فوق الأرفف والخزانات, وان رؤوسا جديدة أو دمى جديدة تحتل مواقعها, حتى اكتشفت ذات يوم إن كتب الشعر والمعاجم والأعمال الأدبية والفكرية المعاصرة قد أزيحت كلها ولم تتبق سوى مجلدات الفلسفة الألمانية وبعض كتب التصوف والموسيقى وما يتعلق بآثار بيزنطة إلى جانب كتاب (النبوءات) للعراف اليهودي (نوستراداموس) الذي كتبه باللغة اللاتينية في القرون الوسطى وشغل به أهل عصره حتى استبد أخيرا بعقول الناس في أواخر القرن العشرين والى جانبه كتاب (المثنوى المعنوي) لجلال الدين الرومي وكتب الكشف عن طوالع الأمم لراهب بيزنطي مجهول جعله فخري توركلي مرتكزا لبحثه عن سر المرايا.

ثم عثرت على أحد كتبها الأثيرة تحت قائمة الأريكة الاستانبولية المتهالكة التي اختل توازنها  بسبب قدمها وتخلخل أجزائها, عندئذ عمدت إلى إخفاء ما تبقى لها من كتب تعنيها مع مخطوطة يومياتها وقصائدها التي كانت تثير حنق أمير بيزنطة وغضبه.

كان يسألها: لماذا لا تكتفين بمقام الأميرة وتتركين عملك في الجامعة وكتابة الشعر والتعاون مع الجمعيات النسوية؟..

فتقول له: أنا لا أريد أن ازحف على يدي إلى الوراء, ولا أطيق حمل تراث الأميرة الميت فوق كتفي لأنني أكره أن أعبد ماضيك, أكره عبادة الموتى.

 -ولكن ذلك الماضي الذي تزدرينه هو  الذي متعك بحياة الترف الحاضرة بالمآدب الراقية والملابس والمجوهرات الموروثة عن جدات كن أميرات باهرات.. لولا ذلك الماضي لما تمتعت برحلات إلى جزر ايجه الرائعة ولما أقمت في قصر جدتي في أزمير, ألا يعوضك هذا الترف عن هذياناتك الشعرية؟

 - كلا فأنا لن أرضخ لذلك الماضي المتهاوي, أريد أن أفعل شيئاً لهذا الزمان.. أكره الأشياء الميتة..

-  لا فائدة, مازلت خاضعة لسطوة الذاكرة الموروثة من أهلك.

-  بل لسطوة الحاضر, إنما أنت الذي تسكنه ذاكرة السلالة الملكية البائدة, ألست تدعي امتلاك ذاكرة أمير سيعيد مجد بيزنطة؟..

-  وهل ترتابين في ذلك..

-  بل لا أعترف به قط..

 - وأنا الذي رأيت فيك مستقبل أميرة, مشروع ملكة لبيزنطة وكم كنت سأحبك لو يسرت لي هذا الأمر.. أنت لا تعرفين قدر الأميرة, لكني سأفعل كل مستحيل لأغسل روحك مما علق بها..

لم تسأله سامية كيف سيغسل روحها ويستبدل رأسها, لم تسأله بأي حامض مذيب سيطهر ذاكرتها من أضواء قصائدها ويملأه بالخثارة الملكية الباردة وزئبق السلالات الميتة السام.

وبدا وجهه شديد القسوة وهو يتحدث عن شعرها مقارنة بحلمه الميت, قالت له:

- إنني أصنع حلمي بالشعر, وأنت تستعير حلم الميتين وتتحكم بخطاك رغبات الموتى..

- أيتها الأميرة .. أيتها الأميرة أنت لا تملكين أن ترفضي.

- ولا تملك أن ترغمني على العيش بذاكرة الموتى, والنظر بعيونهم إلى زمني..

 

3-  في حضرة جلال الدين الرومي
أكان حقاً وجهه؟.. هذا الماثل أمامها ببلادة القسوة وفظاظة رائحة الماضي  المنبعثة منه؟ أهو ذلك الوجه المميز  بوسامة الأباطرة البائدين؟ والذي تبدي لها مثل أسطورة وقد غمره الوهج الذهبي لنور القناديل والثريات التي كانت تتدلى كأمطار من ضياء ومعادن وبلور من سقف قبة ضريح (جلال الدين الرومي) في مدينة قونية التركية؟

أجل, أنه الوجه نفسه الذي تميزه الغضون العميقة, مع فارق بسيط: لقد سقط عنه جلال السحر الذي يفجره الحب, وهجرت عينيه إنسانية العاشقين فغدتا مطفأتين, وهنالك التقته ثم لم يفترقا بعدها, فتنتها إطلالته الخريفية وذلك الورع المنطوي على تعاسة إنسانية مبهمة إنما أرعبتها مسحة الكبرياء الباردة التي كانت تموج ما بين الملامح وغضون الوجه الأصهب, وتجعد الشعر الرمادي المغمور بالضوء الذهبي, فيبدو رأسه الجميل شبيها برؤوس التماثيل الأزلية التي لايمسها البلى..

وإذ انشغلت بكل هذا نسيت إحساسها بالغربة, ودخلت تجربة الدهشة, تلاشى عن وجهها اكتئاب المسافرة المستوحشة الذي لازمها مذ وصلت إلى مدينة (قونية) الراسية على سفح من سفوح طوروس الغربية أشبه بسفينة نوح جديدة جنحت إلى سفح جبل (الجودي) بمن ابتغوا النجاة.

قاومت (سامية النعمان) هذا الانسحار المفاجئ بما تملك من معارف وخبرات وثقافة وأعراف تدين لها بالولاء, أمرت نفسها أن تنجو من ذلك الافتتان المذل برجل غريب مما لم تتعرض له من قبل, إلا إن نفسها العاصية لم تذعن لأوامرها بل ارتمت في غمر من النور والألوان وترددات الموسيقى الصوفية الغامضة المنبثقة من كل أرجاء المكان موقعة بنقر دفوف مولوية تستدعي الجنون, رأت نفسها بجعة بثياب درويش ابيض يدور في دوامة اللامنتهى حتى يبلغ درجة الانخطاف والتلاشي.. رأته معها في دوران الأذرع وشحوب الوجوه المأخوذة وكان وجهه ذو التقاطيع الرومانية الشرقية يشع بإيحاءات نبل وورع لم تر نظيراً لها في وجوه البشر.

وخلال دوامات بخور الشرق وعطوره المثيرة امتدت بين المرأة والرجل بروق وتمتمات, وتألق وجهها بآيات من الجمال جعلته نموذجاً حياً للبهاء الانثوي وتجمد الزمان ووقفت المرأة الآتية من مدن المتوسط الشرقية, الحاملة في عروقها دماء أم عراقية وأب لبناني وخلايا أجداد وجدات ترسم جذورهم شبكات متقاطعة الخطوط على امتداد صحاري وجبال وسواحل بلاد العرب وقفت مستسلمة لهذا الانسحار وطغيان اللحظة الغاشمة, متجاوزة ذكريات الألم وعذابات التاريخ وأوجاع الاحتلال وندوب المظالم على امتداد تاريخها الإنساني.

جاءت إلى هنا سعياً وراء مصادر لدراستها في (موسيقى التصوف في القرون الوسطى), تجولت أشهرا بين مدن عربية وتركية, طرقت أبواب التكايا حيث لا يباح دخول النساء, وجاست خلال أقبية الأديرة التاريخية سائرة مثل شبح بين غبار الكهانة وأصداء التراتيل, زارت أضرحة مقدسة ومكتبات شرقية شتى حتى بلغت بها (سفينة نوح) مدينة قونية حين حطت الحمامة وأتت إليها بغصن الحب, وهنا التقت بالرجل الغريب, وامتثلت على نحو مباغت لتناقضه الكلي معها.

بدا لها في مهابته الخارجية مثل حلم ملكي, بطلا مجبولا من هيولى المآسي القديمة وتراب الفواجع الأرضية, سيدا من ممالك الخرافة, أبلت شبابه الصبوات وترك الإخفاق واليأس على غضونه رماد الألم, سمعته يتمتم بكلام مبهم فارتعدت لتهدج نبرات صوته الشبيه بأنين ناي رخيم, فتنها اختلاج شفتيه اللتين أفصحتا عن شهوانية ذابلة بينما وجدت تناقضاً فظاً ومحيراً بين الرقة الأنثوية التي فاضت بها حركة يده وتلك الضخامة الهرقلية لجسده وحدة ملامحه التي لم تعدم ظل سماحة شرقية عذبة.

حدست سامية أن وراء كل هذا التناقض روحاً إنسانية مستوحدة, مضناة, وهي التي حاورتها واستدرجتها إلى تلك النقطة الخطرة التي هيجت حنانها.

عندما التفّت الرجل إليها تألق في وجهها ضوء صغير هي التي تمتلك تلك الملامح المحايدة المغلقة التي يحتمي وراءها البشر ممن يتآكل أعماقهم عنفوان النار, بينما يتحصنون وراء حياد الملامح ويتعذبون بها.. وبدا أنه التقط ذلك السر عندما التقت عيونهما وتوهج محيا المرأة بأنوار جديدة حتى بدت أشبه بصور الأيقونات المقدسة المرسومة بماء الحزن والوجد وماء الذهب..

كان الرجل الحلمي قد أفضى لها باعترافه عندما التقط خيط الفتنة الخفي في تكوينها البسيط واكتشف أنها كانت تكبح كل اشراقات روحها بتعقلها وانشغالاتها, فأفضى لها يوما برغبته في دخول ملكوتها الموصد, وكان يدرك إن وراء هذا القدر من الحزن والصمت والجمال الخفي شيئاً أكبر مما يتاح للبشر, شيئاً ذا نفحة إلهية, لكنها استشفت وراء صوته ذلك الوجع السادي الذي سيعذبها به ويخفيها من رحابة الدنيا, خشيت ان يلقي بها في زاوية مهجورة ويخفيها وراء عشرين ستراً مثل أية قُنية ثمينة, ثم لا يلبث الحب أن يذوي في العتمة والامتثال العبودي, وتغدو في النهاية جثة حية, تستحيل سماداً عضوياً متحللاً يغذي به شجرة غروره, قالت له:

 -  إذا كنت تحبني حقاً فانتظرني حتى أنتهي من مشاريعي ورسالتي وأعود إليك.

 - سأحبك أينما تذهبين وفي كل الأزمنة وانتظرك.

لكن الحرب الأهلية لم تنتظر أحداً فقد باعدت بينهما بالدمار الذي ابتدعته, وفقد كل منهما الاتصال بصاحبه حتى أيقنت من نسيانه لها.. وتقبلت هبة الحرب التاعسة لها, وفي تلك الفترة أغراها أحد أساتذتها المستشرقين بالبحث عن (موسيقى التصوف في القرون الوسطى) فلم تقاوم, كانت  تريد أن تنشغل بأي شيء ينسيها الكارثة, واندفعت متقهقرة إلى الوراء, تجمع المدونات والنصوص الموسيقية من الأمكنة التي لا تنتمي إلى الحاضر, والتكايا حيث حلقات الذكر والرقص الدينى والقداسات  حتى بلغت في رحلتها التراجعية مدينة قونية لتجد (فخري توركلي) أمامها مثل مخلوق يليق بتلك الأزمنة البائدة, يسد أمامها كل السبل حتى لا تجد سبيلا سواء..

الآن بعد كل تلك السنوات, لا تذكر سامية النعمان جيداً ما جرى في ذلك اليوم, كل ما تذكره انهما طافا معاً بمتحف (جلال الدين الرومي) واطلعا على المخطوطات والمقتنيات ومصادر الموسيقى المولوية وحدثها (فخري توركلي) عن متصوفين من العصر البيزنطي الأخير وأطلعته على المدونات التي حصلت عليها والرسائل التي تلقتها من باحثين ومولعين بالآداب الصوفية, متصوف من بغداد, شاعر من طنجة, جامع مخطوطات من تونس هو الذي دفعها لتقصد متحف (جلال الدين الرومي ) فأسرعت نحوه  دونما تردد وانفلتت من عصرها لتفقد كل شيء, تذكر أنها كانت ترتدي ثوباً رقيقاً من خام إغريقي تزينه مخرمات ونقوش تمنحها هيئة كاهنة شابة طالعة من معبد منسّي وقد انتشر شعرها الأسود الطويل مثل هالة ليلية تهدد النهار, بهرته بكل هذا وخيل إليه انه يرى أميرة نسيها الزمان منذ قرون على حافات الحياة.

كان فخري توركلي يؤمن أن للحب مفعولا يوازي مفعول سلسلة من الألغام الموقوتة في تتابعات زمنية, تتفجر تباعا وتؤجج ما خبا من جذوات الروح.

لم تمنحه زوجته الألمانية التي انفصل عنها قبل عامين سوى إصرارها على تأكيد قناعتها المنطقية في الحياة ورفضها الامتثال لخرافة المرايا, فهجرته وعادت تدرس الفلسفة الألمانية في جامعة بون متنازلة عن سحر لقب الأميرة البيزنطية.

كان يقول : عقلان متضادان لا يمكن أن يلتقيا, أما هنا, مع هذه المرأة المجبولة من شمس الشرق وأسراره فالأمر مختلف, فليثأر إذن لحلمه البيزنطي ويأخذ هذه الناعمة إلى بيت المرايا, وينسيها تجوالها وراء موسيقى الدراويش وقداسات الأديرة, سيأخذها, إنه يريدها.. وما لم يكن متوقعا صار بين يديه..

كان والده قد ترك له تجارة ونصف دم عربي انحدر إليه من أمه الطرابلسية التي أنجبت آخر سليل لملوك بيزنطة فظل يتنقل ما بيت الإسكندرية وإنطاكية وطرابلس طوال تلك السنين مخلصاً خلالها لحلم المرايا وفلسفة شوبنهاور ونيتشه وفيورباخ, منبهرا بموسيقى فاغنر وتاريخ بيزنطة, ثم لكي يتسلى درس الموسيقى في معهد استانبول للموسيقى الشرقية, وعزف بشارف وسماعيات وارتجالات وتقاسيم صوفية في أشهر قاعاتها ثم عاد إلى مراياه بعد أن صنع غيمة من دندنات العود ظلت تلاحقه في كل مكان.

يومها أخذ (سامية النعمان) إلى تكية على مشارف (قونية) شهدا ذكرا ومجلس سماع ورقصاً دينياً لمريدي الطريقة (المولوية) حلّقا ساعة مع الدراويش مأخوذين بإيقاعات الصنوج والدفوف, طائرين وسط حلقة من دوامات بيضاء تدور إلى ما لا نهاية بالأجساد المنخطفة الصاعدة إلى حالات الوجد, وتجولا في كل أنحاء المدينة متنازلين عن ورعهما الصوفي الذي كان شارة الابتداء أسقطا التناقضات والمخاوف وكل ما يقف بينهما وبين الحب وتحققه, تناسيا العصور والسلالات وأبقيا المرايا, تنازلت سامية النعمان عن تلقائية المرأة المعاصرة لتتجمد في لباقة أميرة تحكمها حدود اللياقات وأعراف النبالة.

-         4 - فوبيا الحرائق

أقاما في هذا البيت وهو آخر بيت اجتاحته خرافة المرايا البيزنطية, وحملا إليه تحت جلديهما شقاء كل السنوات الآفلة وعذابات تاريخين متقاطعين تحف بهما سبعون من المرايا ومخطوطات فخري توركلي) التي يعارض في متونها فلسفات ويشرح نظريات دورة الحضارات في التاريخ سعياً وراء إثبات منطقي لإمكانية  انبعاث مجد بيزنطة على يد آخر سليل ينجح في حل لغز المرايا, بعد أن سبقه أسلاف تربعوا على قمم التاريخ وحركوا مصائر الدنيا .

كان يهمس لها إذ يمسيان على وسادة الليل والتعب:

 - مصيري أن أرث مجد بيزنطة, فأعينيني , أحبك..

-  مصيرك أن تحيا حياة البشر, أحبب حياتك لا موتك.

-  هلا تطلعت إلى لوحة (أنساب ملوك بيزنطة) إن السلالة تنقصها نجمة واحدة أخيرة وتكتمل، وعندما أموت ضعي اسمي هناك.. وأعيديها إلى متحف استانبول.

 - أحببتك دون أن أعرف لعنة هذه الخرافة ولكنك تحبني من أجلها.. أنت لا تحب أحدا سوى خرافتك وقد افلت من بين يديك الزمان.

 - أكره نبرتك الشعرية, أكرهها, سأشفيك من هوس الشعر, أنت أميرة مبجلة ثمينة العبارة.. لا تنثر كلماتها بين الناس.. إذا لم تكفي عنها سأحرقها ذات يوم.

فتهجر سرير الخرافة وتختلي بنفسها وفي وجهها تختلج أبقى رغبات الإنسان وأبسطها بينما تلوب على وجهه ظلمات الكراهية وأطياف الخرافة الشرسة.

تختلي بنفسها في قاعة البيت, تستمع إلى الموسيقى, محاولة الإفلات من عبودية المكان, وتتلاشى بين الأصوات في نشدان ورع للنجاة, تسعى للخلاص من ألمها الأكبر باستدعاء آلام صغيرة وتعاسات تملأ بها ثغرات أيامها, ففي تلك الأيام عاودتها نوبات الربو الذي شفيت منه قبل سنوات طويلة لتعينها بمعاناة آلام الجسد على احتمال آلام الروح, كان الربو يستعيد قوته بعون من رطوبة البيت وتعاسة القلب, حتى إذا طال بها عذاب المرض, سعت إلى مقاومته, فعمدت بدءاً إلى مكافحة الرطوبة التي اكتسحت جدران وأرض البيت – القبو – التحت أرضي ..

وتفاقمت الرطوبة عند مطلع الخريف في المدينة البحرية  وتفصد عرق الحجارة على الجدران الخرساء, تندت سطوح المرايا  ونضحت التماثيل وتكاثر الفطر هباءات من عفن أبيض مجتاحاً الكتب والوسائد والأخشاب والثياب والستائر وغلايين الخشب والأواني ودريئات النوافذ, وعشش العفن في الأريكة الاستانبولية المرصعة بالأصداف والمكسوة بمخمل سلطاني النقوش..

لم تكن سامية النعمان قد شهدت طوفانا للرطوبة والعفن مثل هذا في  المدن الساحلية التي عاشت فيها, حتى بدا لها الأمر كأن الجدران تنزف أحزان كل البشر الذين أقاموا بينها لتذكرها بتشابه المصائر عند حد النهاية.

 عندما اختارا  العيش  معا في هذا البيت سحرها بهاؤه وأدهشتها سعة الحجرات ونوافذها المطلة على باحة مغروسة بأشجار الدلب والياسمين, بهرها بريق الرخام المعرق على جانب مدخله كما بهرها وجه (فخري توركلي) في حضرة (جلال الدين الرومي)

كان العيش في المدن الساحلية الرطبة قد أورثها الربو المزمن إذ كان أهلها يتنقلون ما بين بانياس وطرابلس وصيدا وجدة, وعندما أفاقت وهي في سجنها البيزنطي وجدت نفسها تقف على حافات الممالك البائدة وقدماها تخوضان في مستنقعات اليأس. وإذ انتصف خريف المدينة البحرية لم تنفع مدافئ أنابيب المياه الساخنة في مقاومة الرطوبة وعجزت مدافىء الغاز والزيت عن تبخير كل ذلك القدر من عرق الدهور, فعمدت سامية إلى مدفأة الرخام المنسية تعيد إليها الحياة, فدعكت أطرافها النحاسية بالبرنيق, صقلت رخامها الكابي ثم استدعت عاملا مختصا بتنظيف المداخن المهجورة فانتشل من مدخنتها أعشاش عصافير وسنونوات وأكداساً من سلح الطيور والخفافيش وكوماً من حجارة سوداء لامعة تشبه رجوماً من كوكب مجهول, واشترت من حطاب جبلي أخشاب صنوبر وبطم من أجل أرجها الطيب الذي قد ينفع في تطهير جو القبو من وبائه المتفشي.

وفاجأت (فخري توركلي) بالنار التي توهجت وألقت ظلال لهبها على كل ما في القاعة الواسعة في احتفال مجيد بالدفء والسطوع وعبقت في أرجاء البيت أنساغ الصيف وانتشرت أشذاء الجبال وعطر راتينجات الصنوبر ممزوجاً بشذى التربنتاين المتصاعد من احتراق خشب البطم المقدس.

وأتت إليها هذه الغمامة من عطور الطبيعة بوجه ذلك الرجل الذي يحتل أحلامها, جاءها على موجة من ضياء بدا معها شاحباً محزوناً ومسها بلفح أنفاسه على وجنتها وسمعته يهمس لها:

 -اطلبي النجاة مما أنت فيه.

مدت يدها إلى وجهه فذاب الضوء على أصابعها المرتعشة وتلاشى الوجه وضاعت الملامح.

وفي تلك اللحظات, كان (فخري توركلي) يحاول السيطرة على بوادر هياج لعصابه الموروث وعذابه من (رهاب الحرائق) اخذ يقاوم رعب اللهب بعزف تقاسيمه الصوفية على عوده معلنا تصوفه الهجين الذي يجمع بين رهبنة الأديرة ودروشة التكايا ومجون عابدي ديونيسيوس في وعاء من موسيقى الجنون, وأخذت الأنغام ترتطم بالجدران وترتد إليه ساحبة إياه بسنواته الستين إلى القرار العميق حيث يهمد الصوت وينحل إلى ذبذبات في ذلك الارتجال الذي يبدأ بصيغة (الكانتاتا) ثم يتشوش في اقتباسات من ترنيمات نشيد ديني لباخ وينعطف صعوداً نحو ترتيلة سريانيه ظلت تتردد منذ قرون في دير عراقي شمالي, لتتلاشى التراتيل المختلطة في نوع من ايقاعات الموسيقى المولوية  الباعثة على الدوران والانخطاف, عندئذ كان ينسى النار, ويشتد نقر أصابعه الرخامية على جسد العود, يشتد حتى يتكامل بين يديه  ذلك المزيج المذهل من الأصوات والآهات فتغيب نظراته وترتعش يداه وتختلج عضلات وجهه ويتوقف هذا المشهد العجيب عندما تنهض سامية من حلمها الدنيوي لتحرك النار في المدفأة ويتطاير الشرر وتمس يديه شرارات متتاليات. عندئذ يهيج  لاعنا رهاب الحرائق في دمه, فيهب لاعناً امرأته والنار التي ستلتهمه كما التهمت عرش جده قسطنطين الثاني عشر بطوفان من لهب انهار بعده مجد بيزنطة وتهاوت أسوار حاضرتها القسطنطينية.  خشيت سامية الاقتراب منه, وعندما تهاوى جالساً على مقعده لمحت دموعاً تنساب على الغضون العميقة, أثارت دموع الرجل المرتعب حنانها القديم, أشفقت على عذابه رغم ما أحست به من ازدراء إزاء جبنه الذي وصم رجولة السليل الملكي بالخوف من شرارة صغيرة.

في تلك اللحظات اعترف لها بأحد أسراره الدفينة, أعلن عن عذابه بـ (فوبيا الحرائق) رهاب النار الذي آل إليه من أسلافه الذين تعود أصولهم إلى إمبراطور بيزنطة المهزوم بعد حرق مدينته وبدل أن يزهو كما كان يفعل كل ليلة بما يكلل نسبه من أمجاد الأباطرة العظام, رأته محاطاً بهالات الرماد والرعب وفي عينيه خوف قبيلة من التائهين على حدود الحياة.

وظل ينظر إليها والى نيرانها الموقدة بذلك الرعب الموروث وكان يحاول إقناعها بالتخلي عن مدفأة الحطب, ولكن ضيوفهما أولعوا بما أضفته على البيت من جو يذكر بصالون إنكليزي عريق فاستسلم لهذا المجد المضاف مع رعبه وتفتت قلبه أمام كل هبة لهب وطقطقة شرر.

واتفق معها على أمرين: أن لا توقد النار في حضوره ولا تطفئها إلا عندما يغادر آخر ضيوفهما البيت ويبتعد هو إلى غرفته.

فسعدت المرأة بإيقاد النار وتغذيتها وإخمادها كل يوم مجنبة إياه عذاب (فوبياه) الرهيبة.

وأخذ ينسل كل ليلة إلى غرفته منتعلاً خفين من فرو أرانب الأناضول, ومتلفعاً بوشاح مهدب من صوف كشمير, يسرع للغرق في أمواج أغطية نسجت  من شعر ماعز الجبال وبين مساند من دمقس و(بروكار) مذهب , ووسائد من ريش ديوك الروم, خليط من بدائية ضاربة في أعماق الزمان وبقايا حضارة آفلة يحاول بعثها بديكوراته المضللة.

يدس جسده الهرقلي الذي تغضن جلده تحت الدثار فيعبق جو الغرفة برائحة تبغ الغلايين التركي المخمر, يحتسي كأساً من كونياك نابليون عله يطرد أشباح النار ويستحضر بسالة الملوك, لكن النار ووجه سامية يحاصرانه, فيهرب منهما إلى حنينه البيزنطي, ويعيد لنفسه أسطورة المرايا.

وفي إحدى الليالي, استلقت سامية على الأريكة الواسعة  مستمتعة بنضج النار وقد اكتمل احتراق حطبها العطر بعد منتصف الليل وخيل إليها أن طائر رخ عظيم حط في الغرفة واختطفها وحلق بها ثم أخذ يجوب سماوات البلاد عابرا الجبال الراسية بين ثلاثة بحار رأته يهبط بها على شواطئ المرجان في جدة ثم يرتفع بها نحو جبال (مدين) ولا يلبث أن يشرق بها نحو مفازات (اليمامة) ليعود ويغرب نحو احراج الأرز والصنوبر في لبنان ويحط بها عند شطآن الطفولة فتجد الوجه العزيز شاخصاً نحو امتدادات البحر مستغرقاً في ذهوله الشعري منتظرا أن تعود إليه, يمد نحوها يداً, تقترب ويقترب, ويحاول أن يحررها من قبضة الرخ الذي سيلقي بها مثل ذبيجة في وادي الماس والزبرجد, لكنها تتوقف مثل صخرة, وتبتسم ابتسامة المستسلم لمصيره, ابتسامة تشبه اختلاج الألم وتغمض عينيها ويداه مرفوعتان نحوها, ونحو السماء, يطير بها الرخ ويحجب جناحاه الهائلان قرص الشمس عن البحر والرجل ويغيب كل شيء في ظلمة الرعب.

تنسى إخماد النار, تنسى جنون (فخري توركلي) وتعود تغص برحيق النشوة العظمى التي تركتها عند تخوم الموت.

تسرع نحو المدفأة, وهي تخال ما يتهددها من نوبات جنون الرجل لو انه اكتشف استبقاءها النار حتى انبلاج الفجر, تسكب دورق الماء وقد استبدت بها رغبة واحدة, رغبة شريرة صغيرة: أن يعجز الماء ذات ليلة عن إخماد اللهب فتجتاح النار كل شيء, إلا أن النار المدجنة تذعن لسطوة الماء سريعاً, فتغمد خناجرها في الرماد وتطلق رائحة موتها في غلائل من بخار ورماد وشرر.

يعاود سامية السعال إذ تستنشق هبات الرماد, تضيق أنفاسها وتحتقن عيناها وتوشك على الاختناق فتنهار على الأريكة الاستانبولية الشبيهة بنعش, وتعتصر بين أصابعها بخاخة لدنة لتستنشق رذاذها الكيميائي وبعد قليل تهدأ الحشرجة وتنتظم الأنفاس ويسترخي الذراعان وتطفو بقايا الألم على الوجه. وفي صمت آخر الليل تتناهى إليها أصوات إيقاعات غامضة مثل موسيقى سماوية لم تسمع ما يشبهها قط, ويخيل إليها ان هذه الموسيقى العظيمة تمتد فوق المدينة التي حطمها الاقتتال, وتتحول الأصوات إلى دوامات وبين الدوامات تتجول نبرة صادحة طليقة, هي نبرة ذلك الصوت  الذي همس لها ذات يوم (اطلبي النجاة مما أنت فيه).

حطت الأصوات والكلمات عليها مثل غبار النجوم الذهبي, وتعالت حولها أصداء موشحات ومواويل وذيول عتابا ومقامات وأضيئت في السماء -التي كانت تبدو من بين شقي الستائر - حقول من الخضرة الساطعة وتدفق لحن يجمع بين مقام الصبا وصوت الرجل مضفوراً مثل جديلة ضوء تتدلى وسط عتمة الليل.

وعندما أشرقت الشمس وجدت نفسها غارقة بين مسودات قصائدها الجديدة بينما نهض (فخري) ليتابع حل معضلة المرايا تاركا لسامية أن تتدبر أمور حياتها وتواصل العيش في عزلة روحها, وقد انتهى به الأمر أن دفعها بوسائل إقناعه المتفاوتة عنفاً وليناً إلى التخلي عن مناقشة رسالتها في موسيقى التصوف واستولى على المدونات للاستفادة منها في عزف موسيقاه الليلية التي تشبعت بها الممرات والجدران وظلت أصداؤها تتردد مرتطمة بالأواني والثريات والدمى ورؤوس الفلاسفة الرخامية والمرايا وسامية تقاوم وتسير على مياه البركة الراكدة, تتلقى بركات حزنها واصطبارها جرعات صغيرة من أمل, وتنشغل بالعمل في جمعية نسوية ترعى أبناء شهداء الحرب الأهلية وتصدمها أمازونية النساء العاصيات وتشمئز من استسلامها الشخصي لخرافة توركلي ولا تبحث عن طريقة للخلاص وسط وديان الموت.. لم تحاول الفرار, إنما ظلت تتجول في البيت وخارجه أشبه بسمكة أو طائر يخفق بجناحين مثقلين بالحنان على ذلك الرجل الذي تشفق أن تسلمه للوحدة والجنون.

تستقبل صديقات وأصدقاء مسحورين بالعبقريات الخرافية (لفخري توركلي) هاربين من جحيم اقتتال الشوارع إلى قهقهات الثمل والهزء من كل ما يحيط بهم, يلتهمون مع الشواء والمقبلات وكؤوس الشراب أشلاء الأحاديث, يغصون بالضحكات الخاوية, وسامية تختنق بدخان الغلايين وحزنها من أجل تلف العالم وانهياره من حولها, وفخري توركلي يقود الجوقة نحو الغياب يجتذبها بإيقاعات موسيقى الدروشة التي هجرتها سامية بعد أن استعبدتها زمناً.

وفي إحدى تلك الليالي, أبلغت سامية بإصابة صديقة لها في حادث انفجار سيارة ملغومة فأسرعت تعودها في المستشفى ثم تعذرت عليها العودة إذ احتدم القتال حول المنطقة المحيطة بالمستشفى فاضطر الزائرون ومنتسبو المستشفى إلى المبيت في ردهات المرضى.

بينما واصل زوار (فخري توركلي) رقصهم بين المرايا البيزنطية والنار, أشبه بعبدة أوثان معاصرين, تركهم فخري في صخبهم وقد توزعوا بين الغرف والممرات ومطبخ البيت يحاورون المرايا ورؤوس التماثيل المتعالية ويداعبون الدمى الملونة ويجربون تدخين التبغ التركي المخمر في الغلايين الفخارية والخشبية, وبدأ للمرة الأولى يحاول تجربة المرايا في الليل, نقل المرايا من أماكنها ونثر أوراق فرضياته الرياضية وقرأ صفحات من كتاب نبؤات نوستراداموس, ثم التقط عوده وعزف تقاسيم شجية في مقام (الحجاز) وعندما تهيأ للشروع في لعبة المرايا, أحس بجسده خفيفاً ومحلقاً, نسي الذين حوله, ونسي سامية ولم يعد يذكر سوى بيزنطة ومراياها, أنزل المرآة المزينة بأنياب ذئاب طوروس ووضعها برهة أمام المدفأة ريثما ينزل المرآة المتوجة بجماجم أفاعي ارض روم, وما أن استقرت المرآة أمام اللهب مباشرة حتى اندلع من المدفأة تيار من الشرر وانعكس عن المرآة آلافا من شلالات الشرر المتقدة تحولت إلى سيل من لهب التهم السجادة والمقاعد وعلا الصراخ, وتجمد فخري توركلي وتيبست أوصاله في رعب جنونه من النار, وسقط مثل جدار متداع دهمه السيل.

ما كان يعلم أنه عثر آخر الأمر على لغز المرايا المروع عندما أنجزت النار حلمه البيزنطي وأخذت المرايا تتشظى وتتناثر مثل اطلاقات نارية وجرح بعض الحضور بينما ألقى الآخرون أغطية ووسائد على موضع اللهب وسكبت دوارق الماء في أرجاء البيت.

ووجه فخري توركلي الذي صلبه الرعب يحدق إليهم بعينين خضلتين بدأتا تفقدان بريق الحياة وهما تريان رقصة اللهب في أرجاء الغرفة بين أشباح الرجال والنساء.

سهر الحاضرون لدى جثته حتى الصباح, وعادت (سامية النعمان) لتجد البيت مغموراً بالرماد والمياه السوداء, وقد تناثرت الشظايا وتساقطت رؤوس العباقرة وتهرأت الكتب بين النار والماء, بينما غشيت المرآة المطعمة بأنياب الذئاب غيمة ضبابية من دخان وتشكلت في وسطها بؤرة قاتمة كأنها سرة الموت.

 - 5 - الأعجوبة الأخيرة

أضناها جهدها في تجاهل الموسيقى الصوفية والظل الشبحي وملازمة الحزن لأيامها. كانت الموسيقى تزداد عناداً ورتابة كلما اقتربت سامية من مرآة أنياب الذئاب, فكرت بالأمر لكنها لم تحمله محمل الجد وعندما بدأت ترتب كتبها على أرفف الخزانة الكبيرة بعد أن رفعت عنها تماثيل معبودي (فخري توركلي) وغلايينه ومجموعات الدمى التي تبقت عليها آثار الحريق – اختل توازن المنضدة الصغيرة التي أرتقتها لتصل إلى الرفوف العلوية, فوضعت يدها اتقاء السقوط على البؤرة القاتمة في المرآة مصادفة وعندئذ خمدت الموسيقى مرة واحدة وعم صمت سماوي في كل أرجاء البيت. تنبهت سامية لهذه الأعجوبة فرفعت يدها لكي تتأكد من الأمر فعادت الموسيقى حادة بإيقاعات رتيبة كتمتها مرة أخرى بوضع يدها على البقعة السوداء فعاد الصمت الجميل وانهمر مثل روح خيرة وغسل الجو من تلك اللجاجة القاتلة لموسيقى الموت فاستطاعت أن تميز صوت طرقات على الباب وان تسمع صداح هزار على شجرة الدلب وحفيف أغصان الصنوبر, وتردد صدى الطرقات على الباب وسط الصمت الكريستالي فأنزلت المرآة من فوق الجدار وهي تكتم البقعة السوداء فيها وتحملها باتجاه الباب, وعندما فتحته وجدت رجل الحلم شاخصاً أمامها وخيل إليها أنها سمعته يقول لها: ها نحن معا يا سامية, وإذ دهمتها المفاجأة أسقطت المرآة على الأرض فتحطمت وتناثرت الأنياب والشظايا وغمرت المدخل موجة دخان سرعان ما تلاشت في حضور أعجوبة الصمت.

 

  أعمال الكاتبة لطفيّة الدليمي

1-        ممر الى أحزان الرجال - قصص - بغداد - 1970

2-       البشارة - قصص - بغداد – 1975

   3- التمثال - قصص - بغداد

   4- اذا كنت تحب - قصص- بغداد -1980 - طبعة ثانية المدى 2015

   5- عالم النساء الوحيدات - رواية وقصص - بغداد - 1986- طبعة ثانية دار المدى-2010   

   6- من يرث الفردوس - رواية-الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة - 1989  طبعة        ثانية   دار المدى 2014

   7- بذور النار - رواية - بغداد - 1988

   8- موسيقى صوفية- قصص- بغداد ( حصلت على جائزة القصة العراقية 2004 ) - طبعة ثانية 2013  دار المدى - بغداد

   9- في المغلق والمفتوح- مقالات جمالية

   10- مالم يقله الرواة- قصص -الاردن - دار ازمنة - 1999

   11-- شريكات المصير الأبدي- دراسة عن المراة المبدعة فى حضارات العراق القديمة -دار عشتار- القاهرة- 1999طبعة ثانية  دار المدى 2013  بغداد

   12- خسوف برهان الكتبى-رواية- 

   13- الساعة السبعون- نصوص-بغداد – 2000

   14- ضحكة اليورانيوم- رواية- 2000 -

   15- برتقال سمية - قصص- 2002- بغداد-

   16- حديقة حياة- رواية

   17- يوميات المدن - 2009 - دار فضاءات -الاردن

   18- كتاب العودة الى الطبيعة – بغداد 1989

   19- رواية ( سيدات زحل )    2010- دار فضاءات - الاردن طبعة ثانية دار فضاءات 2012 - طبعة ثالثة 2014

   20-  كتاب   كوميكس باللغة الاسبانية  بعنوان ( بيت البابلي )  مستل من فصول  روايتي سيدات زحل  - 2013  دار نورما - مدريد

21- مسرات النساء - قصص - دار المدى - 2015

22-   اذا كنت تحب - قصص - دار لمدى 2015

 

في الترجمة عن الإنجليزية

  23 -بلاد الثلوج- رواية - ياسونارى كواباتا - دار المامون - بغداد 1985- طبعة ثانية دار المدى 2013

     24 -ضوء نهار مشرق- رواية - أنيتا ديساي- دار المامون - بغداد1989- طبعة ثانية  دار المدى 2012

     25 - من يوميات أناييس نن - دار أزمنة - الأردن -1999- طبعة ثانية - دار المدى 2013

     26 - شجرة الكاميليا- قصص عالمية - بغداد 2000

     27- حلمُ  غايةٍ ما - ترجمة لسيرة حياة كولن ويلسون   صدر حزيران 2015  عن دار المدى

      28 - أصوات الرواية - حوارات مع نخبة من الروائيّات و الروائيين - صدر كهدية مجّانية مع مجلّة دبي الثقافيّة العدد 121 في يونيو 2015

 الأعمال الدرامية

      29 - مسرحية الليالى السومرية - نالت جائزة أفضل نص يستلهم التراث السومريّ- قراءة مغايرة لملحمة كلكامش

      30 - مسرحية الشبيه الاخير-1995   

      31 - مسرحية الكرة الحمراء - 1997

      32 - مسرحية قمر أور

      33 - مسرحية شبح كلكامش

      34 - مسلسل تاريخي عن الحضارة البابلية بِـ ( 30 ) ساعة

      35 - سيناريو صدى حضارة - عن الموسيقى في الحضارة الرافدينية

الدراسات

  36 - جدل الانوثة فى الأسطورة - نفى الانثى من الذاكرة

       37 - كتابات   في موضوعة المرأة والحرية..

       38- دراسات فى مشكلات الثقافة العراقية الراهنة..

       39-  اللغة متن السجال العنيف بين النساء والرجال- لغة للنساء في سومر القديمة..

       40 - صورة المراة العربية فى الاعلام المعاصر

       41 - دراسات في واقع المراة العراقية خلال العقود السابقة وبعد الاحتلال

       42 - دراسات في حرية المرأة - اعداد وتحرير وتقديم - مركز شبعاد  2004 بغداد

       43 - كتاب أوضاع المراة العراقية في ظل العنف بأنواعه وعنف الإحتلال – اعداد وتحرير وتقديم 2005

        44 - مختارات من القصة العراقية  -  ترجم الى الانكليزية والاسبانية -  تحرير وتقديم   - دار المأمون