في سرد سلس وممتع نعيش مع الروائي المرموق تفاصيل رحلة حياة شخصية عراقية مثقفة حالمة في زمن سلطة الطوائف والمليشيات التي تضيق الخناق عليه، فيضطر للهجرة إلى أوربا عن طريق التهريب. وفي أوربا يحاصر من المهاجرين بنفس الطريقة ليخلص إلى قناعة تلتقي مع التطرف الغربي، عبر تفاصيل بالغة الدلالة.

عازف الغيوم

على بدر

I

اتصل نبيل مساء بوالده ليخبره قراره بالفرار من البلد مع أحد المهربين هذا اليوم ليلاً. لم يتردد الوالد بمحاولة إقناعه بالعدول عن هذه الفكرة الخطرة، وإنه سوف لن يجد السعادة في المنفى. وذكره بأحد أقاربه الذي عاش في أميركا زمناً طويلاً، وأصبح تاجراً لنوع من السيارات الكلاسيكية التي تنتجها شركة بيوك، وبالرغم من المخاطر الكثيرة، بعد الاحتلال الأميركي للبلد، إلا أنه عاد ليفتح محلاً لبيع منتجات إيف سان لوران الفرنسية، ثم أغلقه ليبيع نوعيات غالية من السجاد الإيراني الذي يستخدم للصلاة.

أغلق نبيل سماعة الهاتف مع شعور طفيف بالحزن، وعاد لجمع أغراضه المهمة التي سيحملها معه ولاسيما بعض الكراسات الخاصة بالموسيقى، وكتابين مهمين واحد عن الهارموني، وآخر كتاب شعبي عن علاقة فريق البيتلز البريطاني بفلسفة ما بعد الحداثة.

لن يفهم الأب الذي عاش فترة الستينات والسبعينات الذهبية طبيعة نبيل المتقلبة أبداً. كان عمه الذي درس فيما مضى في روسيا أيام العلاقات القوية بين العراق والاتحاد السوفيتي السابق أكثر تفهماً له. كان شخصاً حيوياً يدمن شرب الفودكا، ويدخن السيجار، ويرتدي قبعة أشبه بقبعة لينين. إلا أن عمه توفي من عامين بعد سيطرة القوى الإسلامية على البلد. حسنٌ فعل، قال نبيل، فلا تستقيم حياة عمه المترفة الباذخة مع النزعة المتقشفة للقوى الإسلامية التي منعت كل شيء يتعلق بمباهج الحياة.

- من أين سيأتي بالفودكا، من أين سيأتي بالسيجار، وأين سيجد الكافيار؟

ومع أن عمه مات بالسرطان، إلا أن نبيل عد موته نوعاً من الاحتجاج الصامت على وجود هذه المخلوقات هنا.

*

جمع نبيل كل شيء في حقيبة صغيرة. واستلقى على الأريكة في صالون شقته بانتظار رنة الهاتف من المهرب. بعد دقائق شعر أنه جائع، فنهض من مكانه وأخرج قطعة بيتزا مارغريتا من الثلاجة وصب لنفسه كأساً من الكوكا كولا وأخذ يأكل. فكر بما قاله له والده عن مساوئ المنفى وحكاية أحد أقاربه الذي عاد من أميركا، وأخذ ينصح الآخرين بعدم ترك البلد والذهاب إلى الغرب. هذه الحكاية ذكرته بموعظة صغيرة أطلقها الشاعر الفارسي صائب التبريزي الذي عاش في القرن الحادي عشر لأحد أصدقائه: قال له إن حماراً كان يضرب ويهان من قبل صاحبه في قرية اعتادت على إهانة وكراهية الحمير، وفي يوم هرب هذا الحمار إلى قرية مجاورة وقد اندهش من أن هذه القرية على العكس من قريته، فهي تبجل الحمير. فعاش هناك زمناً طويلاً فيها من الاحترام والطعام حتى نسي جميع الإهانات التي وجهت له في قريته السابقة، إلا أنه وفي يوم شده الحنين إلى القرية السابقة ليزورها، فخرج من هذه القرية إلى قريته، وفي الطريق شاهد أحد الحمير من أصدقائه في القرية السابقة، هارباً وهو يتلفت من الخوف. فناداه:

 - ماذا تفعل؟

 قال له الحمار الآخر: والله قررت الهروب من هذه القرية التي تهين الحمير، لقد شبعت من الذلّ والإهانة والتعذيب، وأريد أي مكان آخر سوى هذا المكان.

فقال له وهو حزين جداً:

 - أرجوك اسمع نصيحتي عد إلى قريتك فأنك لن تشعر بأنك حمار إلا فيها!

*

ما أن أنهى نبيل طبق البتزا، حتى أدار التلفزيون على قناة أباحية، ليتخلص من ملل الانتظار. فالقنوات الأباحية هي الشيء الوحيد المتاح بهذا البلد، وهنالك دكان في ركن الشارع فيه تقني يمكنه أن يفك تشفير أية قناة بمبلغ قليل من المال. وأكثر روّاده من الإسلاميين فقد أصدروا فتوى أن التطلع على غير المسلمات حلال!

رن جرس الموبايل، وقد طلب منه المهرب الهبوط، فهو بانتظاره في السيارة بالأسفل. ابتهج نبيل وارتبك في الوقت ذاته. حمل حقيبته بسرعة. أطفأ التلفزيون. التفت ملقياً نظرة أخيرة على شقته، وهبط سريعاً إلى الأسفل. كانت السيارة في الباب بانتظاره، وهي من نوع هوندا قديم، لونها أزرق وعليها آثار تصليح لاصطدامها من الجهة اليمنى. جلس على الكرسي إلى جنب السائق. كان الأخير في الستين من عمره، ذا سحنة ريفية، بشعر أبيض، وشوارب سوداء قاتمة، كأنها صبغت بصبغ أحذية. يرتدي بنطلوناً صناعة تركية رخيصة، وقميصاً، موضة محلية لشخص أصغر من عمره لتلك الأيام.

ما أن انطلقت السيارة في الشارع حتى تساءل نبيل بقلق في نفسه: إن كان هذا هو المهرب الذي سيوصله إلى أوربا وهو أشبه ببوصطجي منه إلى مهرّب، وإن كان يودّ أن ينجز مهمّته بهذه السيارة القديمة التي تشبه سيارة محل توصيل البيتزا؟ 

ألقى آخر نظرة على الحيّ: عمود الكهرباء في الركن، وبيتان كانا جميلين فيما مضى وأصبحا شبه متداعيين، ودكان امرأة عجوز مسيحية مغلق بعد سفرها، والتحاقها بأهلها في ديترويت. أما العمارة التي يقطنها هو، فهي الوحيدة المضاءة بمولدة كهربائية صغيرة، ذلك لأن الحيّ معتم لانطفاء الكهرباء فيه. شعر بالارتياح لمفارقته هذا الحيّ الذي أهانه وأذلّه. فنبيل عازف تشيللو، درس هذه الآلة في مدرسة الموسيقى والبالية في المنصور، وعمل في الفرقة السيمفونية الوطنية كعازف للموسيقى الكلاسيكية. 

أن تكون عازفاً لموسيقى كلاسيكية في الشرق الأوسط مهنة ليس سهلة أبداً.

 أول ما واجهه نبيل في حيه الجديد اعتراض الجيران. فقد فوجئ يوماً بعدد من أهل الحي الذين تجمعوا أمام العمارة، طالبين منه أن يكفّ عن إزعاجهم بهذه الموسيقى، فهم لا يستطيعون النوم من هذا الصوت الغبي. وتساءل عن كمية الأصوات وأنواعها التي تأتيهم كل يوم، ومن كل مكان، في هذا الحي الحقير الذي كان حياً راقياً، وسرعان ما اجتاحته الطبقة الرثة، بعد الحرب: أصوات منبهات السيارات، أصوت المطربين الشعبيين من المسجلات التي يحملها المراهقون، ويدورون بها في الشوارع، مطارق ثلاثة حدادين في السوق، صراخ العتالين في الطريق، إطلاق العيارات النارية لأتفه الأسباب، صراخ الأطفال وزعيقهم في الشارع.

كلّ هذا لا يزعجهم، ما يزعجهم فقط هو صوت التشيللو، وهو يعزف كونشرتو ضوء القمر لبيتهوفن!

آه من الطبقة الرثة! قال نبيل وهو ينظر بحنق إلى حيه.

يحب نبيل أن يستخدم هذا التعبير على الدوام في عرض مشكلته مع العالم الخارجي. وكان لا يني أن يؤكد أن ماركس استخدمه في الأيديولوجية الألمانية لئلا يتهم بالتعالي الطبقي. وكان المثقفون يستخدمونه بنفاجٍ عالٍ في بغداد، لتوصيف الغوغاء، وسكنة بيوت الصفيح، والمشردين، والشحاذين، واللصوص والذين اجتاحوا المناطق الراقية في الفترة الأخيرة. أما نبيل فيتقدم أكثر في استخدامه مادة للهجاء ذلك أن ماركس ذاته قد هجا الطبقة الرثة، بسبب تلونّهم وخياناتهم أثناء التحولات السياسية الكبرى. وهكذا هم أيضاً بالنسبة لنبيل "فبعد أن كانوا مليشيات لصدام في الماضي تحولوا إلى مليشيات دينية".

ما أكثر الإهانات التي وجهت لنبيل من الطبقة الرثة، أخرها هي الأشد قسوة. حين قبضت عليه مجموعة إسلامية وهو عائد إلى منزله، يحمل في يده آلة التشيللو الموضوعة داخل حقيبة سوداء كبيرة. أوقفوه عند عمود الكهرباء وهو عائد بعد ظهيرة يوم قائظ. كان متعرقاً ومتعباً ويودّ الوصول بأقصى سرعة للبيت، وتناول قنينة ماء بارد من الثلاجة وشربها.

كان قائد المجموعة هو الأصغر سنّاً، له وجه أمرد أشبه بمؤخرة معزة. سأله ما هذه التي في يده:

- تشيللو!

- آه ... ماذا يعني؟

- آلة موسيقية!

- أه آلة موسيقية وغربية أيضاً؟

- موسيقى عالمية!

- أنت تريد أن تعطيني درساً؟

- لا.. ولكن..

- ألا تعرف أن التشبه بالكفار كفر، وان الموسيقى في الإسلام حرام؟

قبل أن ينطق نبيل بأية كلمة، انهال الأوباش المسلحون على آلته وحطموها، بالأقدام وضرباً على الأرض. أما قائد المجموعة فقد تكفل بضرب نبيل بالكف. صفعه فطارت النظارة ذات الإطار الذهبي في الهواء، وسقطت على الرصيف، مع عاصفة من الضحك. صفعه مرة أخرى، ثم أخذ يمزق له قميصه الأبيض من ماركة رالف رولون والذي يحبّه جداً. وكان الحي بأجمعه تقريباً غارقاً بالضحك.

شعر نبيل بالإذلال والإهانة بشكل فظيع. صعد إلى شقته وهو يلهث. ذهب إلى الثلاجة تناول قنينة ماء باردة وشربها كاملة. استدار نحو مرآة المغسلة وأخذ يتطلع إلى وجهه، وآثار الصفعات عليه. خلع قميصه الممزّق، ورماه على الكرسي. ثم ذهب لينظر من الشباك لمصير آلته، فوجدها قطعاً متناثرة بيد الأطفال، يحملون أجزاء منها وهم يركضون، أو يقلدون العزف عليها وهم يضحكون.

جلس على الأريكة. الشيء الأهم هو كيف يمشي في هذا الشارع بعد الإهانة التي واجهها؟

لقد كان فيما مضى مكروهاً في الحي ولكنه محترم. إذ ينظر له السكان باحترام ويعرفون أهميته. شخص صامت، يرتدي نظارة طبية -دليل على ذكائه-، ملابس كلاسيكية أنيقة، له وجه غامض لا يشبه عامة الناس في الحي، وآلة موسيقية غريبة، يمشي باستقامة كل يوم يخرج صباحاً ويعود مساء. فبعد صفعه، وإهانته، وكسر آلته، ومحو هيبته فهم كما لو مسخوه من بشر إلى ممسحة لبلاط الأرضية.

تذكر مرة أحد أساتذته في الابتدائية، كان شخصاً وقوراً صامتاً، طويل القامة، يرتدي بذلات أنيقة ومهيبة. في الغالب يضع على رأسه قبعة، ويحمل حقيبة جلدية. إذا مرّ فكل طلاب المدرسة تصمت لرؤيته. كان الأكثر احتراماً على الإطلاق بسبب جلال وقاره. وفي يوم مرّ في الطريق المقابل للمدرسة وكان جميع الطلّاب قد خرجوا توّاً، وتوقفوا أمام البوابة الكبيرة، وإذا بكلب من دون الجميع هجم عليه بشراسة، فصرخ المعلم بصوتٍ عالٍ وأطلق ساقيه للريح. فركض الكلب وراءه، طارت قبعته وأفلت حقيبته من الخوف بينما اشتعلت عاصفة من الضحك الشيطاني للطلاب بسبب هذا المشهد. هنا سقط وقاره تماماً، كما سقطت هيبته. لم يعد يحترمه أحد. لقد أخذ الطلاب يتمردون عليه ويسخرون منه.

تساءل نبيل في نفسه:  كيف سيسير في الشارع بعد هذه الإهانة، كيف سينظر في عيون الناس، وكيف سينظرونه؟

أدار الرموت كونترول على قناة أباحية وتمدد على الأريكة.

*

في الصباح شاهد الشارع خالياً فغادر بسرعة، لم يصادفه أحد. لكن عند عودته في الظهيرة واجه  المجموعة الإسلامية المسلحة ذاتها في الطريق، فاضطربت أقدامه، وحين اقترب منهم ابتسم له قائد المجموعة وطلب منه التوقف بأدب. فتوقف نبيل وقلبه يخفق بقوة. قال لنبيل:

- اسمع نحن سامحناك بسبب انتهاكك لقواعد الإسلام فيما يخص الموسيقى، ولكن نريد منك كفارة، وهي أن تدفع مبلغاً من المال لبناء جامع في هذا الحي، واستطرد:

"أنت كما تعرف... كان سكان هذا الحي فيما مضى أثرياء مع ذلك لم يبنوا جامعاً في المنطقة، الحمد لله الآن تخلصنا منهم، السكان الجدد يريدون بناء جامع ونحن نجمع التبرعات، وعليك أن تشارك بهذا..فماذا تقول؟".

وافق نبيل مضطراً بطبيعة الأمر، قال لهم سينظر ما عنده، وسيكلمهم بعد يومين. قالوا له:

"نحن نمهلك أسبوعاً، ولكن بعدها لن نسامحك".

 وافق نبيل أيضاً. صعد السلم إلى شقته. فتح الثلاجة. أخرج قطعة من الستيك المقلية، كانت باردة من المفترض أن يسخنها، ولكنه كان متوتراً جداً. أخرج قطعة من الخبز الأسمر، من علبة من الخشب مغطاة بقماش أبيض، ثم فتش عن علبة من البيرة، فلم يجد سوى واحدة، هذا يعني إنها آخر ما بقي له من البيرة في المنزل. إذا شربها لن تكون هنالك علبة ثانية.

أخذ يأكل قطعة الستيك الباردة، والخبز الأسمر، مع البيرة، وهو يفكر بالأمر كالآتي:

لو كان المسلحون، أو غيرهم، قد طلبوا منه بناء خمارة، سيقدم لهم كل ما له من مال من دون ندم. أما جامع، فالأمر بحاجة إلى تفكير. ذلك ان جميع الإرهابيين قد خرجوا من الجامع، لم يخرج إرهابي واحد ليفجر نفسه من خمارة! وبالتالي لو قالوا له أنهم ينوون بناء خمارة، كي يجلس فيها شباب الحي، ويتحدثوا فيما بينهم، ويقضوا وقتاً ممتعاً، ولن يفكروا بقتل أنفسهم والآخرين، سيستجيب لهذا الأمر عن طيب خاطر، ولكن بناء جامع؟ الأمر لا يمكن قبوله بسهولة.

فكر نبيل حينها أن الخمرة في التراث الإسلامي لم تكن محرمة. وظل المسلمون يشربونها طوال تاريخهم. فأبو حنيفة النعمان الذي عاش في القرن الثامن الميلادي في بغداد، وهو أحد أكبر فقهاء الإسلام، كان يحلل شربها والمتاجرة بها. وهو يفرق بين السكر وهو ذهاب العقل وهذا حرام وشرب الخمرة، فأنت يمكنك أن تشرب على ألاّ تسكر. ثم أنه يحلّل النبيذ والبيرة، لكن نبيل لا يعرف ما هو موقفه من الويسكي والموخيتو والكومباري. مع أن الويسكي لم يكن موجوداً في ذلك الوقت إنما هو اختراع اسكتلندي حديث، ولكنه ترتسم في ذهنه على الدوام صورة شاعر بغدادي عاش في القرن الثامن، كان يعبد الخمرة، اسمه أبو نواس، يمسك في يده كأس الويسكي المضلع مع بعض مكعبات الثلج، وفيه الجوني ووكر. الصنف الذي يفضله والده على سائر الأصناف.

بعد أن أنهى نبيل أكل الستيك بالخبز الأسمر، وبعد ان شرب علبة البيرة الصغيرة، شعر أنه بحاجة إلى واحدة ثانية. ولكن من أين؟

حسن أليس هنالك من حل لمشكلته؟ الإهانة التي وجهت له. كرامته المهدورة. الموسيقى التي عليه أن يتخلى عنها. هل هذه حياة؟ ماذا يفعل. من زمان فكر بالهروب إلى أوربا، ولكن لم يكن الوقت قد حان فعلاً، أما الآن فقد حان فعلاً، وها هو الآن جنب المهرب الذي سيقوده إلى المكان المحلوم، أو ما يطلق عليه أيضاً بالمكان الآخر. تذكر بيتين من الشعر تضمنهما لا يتذكر الشاعر: المكان الآخر، المكان المستحيل، وهو أشبه بالمدينة الفاضلة، فردوس محلوم يعيش فيها الفنان كما لو أنه يعزف على الغيوم.

لكن السؤال الذي طرحه نبيل في تلك اللحظة على نفسه:

"هل يمكن الوصول إلى المدينة الفاضلة أو المكان الآخر، بسيارة تشبه سيارة توصيل البيتزا؟"

*

لم يكد نبيل يعبر الحدود حتى أصعده المهربون في شاحنة كبيرة مع عشرين شاباً آخر. هكذا انتهى قلقه من سيارة توصيل البيتزا التي تكفلت فقط بإيصاله إلى الحدود التركية! إنها شاحنة مغلقة لتصدير الإطارات، دفع نبيل سبعة آلاف دولار كأجرة للمهرب، فأدخلوه في صندوق خشبي كبير فيه فتحات صغيرة  للتنفس، فيه قناني للماء ومعلبات طعام، كونسيروة، وأكياس نايلون تستعمل للبول والغائط في رحلة أمدها عشرة أيام فقط للوصول إلى المدينة الفاضلة. الشاحنة تسير في الليل وتتوقف في النهار كي ينام السائق. عند التوقف، أو قبل الانطلاق في الليل، يجمع السائق أكياس النايلون ليرميها في مكان بعيد. هكذا سافر نبيل داخل صندوق في شاحنة مغلقة، لذا فهو لا يرى الطريق في الخارج. لا يعرف من أين دخلوا ولا أين وصلوا، السيارة تسير فقط، وهو في صندوق يحسب الساعات التي تمر ساعة بعد أخرى. ما كان يقلقه هو نصب واحتيال المهربين، فقد سمع الكثير من الحكايات عنهم، منها أنهم يأخذون المهاجرين بسيارة، يدورون بهم في المكان ذاته، ومن ثم يتوقفون في الليل ليقولوا لهم ها نحن في أوربا، وفي الصباح سيكتشف المهاجرون أنهم لم يغادروا تركيا.

*

المرة الوحيدة التي خرج فيها نبيل في الطريق كانت بعد أن نفدت أكياس النايلون التي يستخدمها لتغوطه. انتهت عنده، هو وشاب أفغاني آخر، فأخبرا السائق بذلك. وافق السائق، بغضب وبتذمر من دون شك، على أن ينزلهما في غابة لقضاء حاجتهما. ذهب الأفغاني أولاً، حين عاد، قال لنبيل:

- أظنّ أن هذا المكان هو بلغاريا.

فكان الدور لنبيل أن يخرج من الشاحنة ويتجه إلى الغابة المظلمة. في الواقع لا يعرف كيف استنتج هذا الأفغاني أن تكون هذه الأرض هي بلغاريا، ذلك أنها تشبه أية حديقة في تركيا. لكن كلمة بلغاريا بالذات قد مسّت نبيل مثل عصا سحرية. فهذه الكلمة تثيره مثل كلب بافلوف. ففي طفولته كان لعمه صديقة بلغارية، زارته مرة في منزله، جاءت من صوفيا كي تراه. وقد اصطحبه عمه مرة معه في سهرة في بار الفندق مع صديقة لها أخرى، تقطن في بغداد، في الثمانينات. وقد شرع الثلاثة، بشرب الفودكا، والرقص على أنغام الموسيقى الصاخبة، والأنوار الملونة. لا يتذكر نبيل، فيما إذا كان عمه قد اصطحبه معه، أو أن أهله قد أرسلوه مع عمه كي يبقى رقيباً عليه، لئلا تغويه الفتاة البلغارية، وتفترس عفته. غير أن العمّ لم يكتف بالشراب ومراقصتها وصديقتها فقط، إنما رآه نبيل كيف يمد يده بين أفخاذها لمداعبتها. كانت الفتاة شقراء، لونها أبيض. لم ير نبيل امرأة بيضاء مثلها من قبل أبداً، ولاسيما أفخاذها. بقي الصبي مطأطئ الرأس، خجلاً حتى نهاية السهرة. وبعد عودته للمنزل لم يخبر أهله بما رأى، ولكن هنالك مشهد ظل يتكرر من طفولته حتى هذا اليوم، هو أن عمّه قد جرد البلغارية من كل ثيابها، إلاّ من عقد في رقبتها، وطرحها على الأريكة وأخذ يضاجعها. لا يعرف نبيل حتى اليوم، إن كان هذا الأمر من خيالاته، أم حقيقة.

على العموم صارت كلمة بلغاريا عصا سحرية، تعيد له الصورة ذاتها كلما سمعها ترنّ في أذنه. وما أن عاد إلى الشاحنة وقد تلمّس مكانه في الظلام، حتى شعر بانتصابه، إلى أن غفا، دون أن يعرف كيف.

II

قال له المهرّب: اهبط بسرعة هذه هي بروكسل.

لم يكن مصدقاً أول الأمر. فحين هبط من السيارة كانت بمواجهته ساحة مظلمة وقذرة، لا تتميز عن أي ساحة في العالم الثالث. ثم اصطحبه إلى منزل شبه متداع، وقديم في الركن، بسرعة فائقة. فتح الباب بالمفتاح، وأدخله إلى الداخل.

-هل نحن في بروكسل؟ سأل نبيل المهرب مستنكراً. هل هذه بروكسل؟ إنها أقذر من بغداد. 

رافقه المهرب إلى الداخل، كان السلم قذراً، رائحة الأحذية والجوارب، تغزو الفضاء. في الباب دراجتان عتيقتان. صندوق البريد محطّم، والرسائل متناثرة في كل مكان. صعد معه على سلم خشبي يهتزّ إلى شقّة صغيرة، أنارها له، وأعطاه المفتاح، وقال له:

"تخفّ هنا، يوماً أو يومين، ثم سلّم نفسك للشرطة كلاجئ".

*

رمى نبيل حقيبته على الأريكة في الصالة. وسار بضعة خطوات ليتفحّص الشقّة. كانت محتوياتها في فوضى أشبه بفوضى حرب الفرس، المعركة التي وصفها غوبينو في إيران في القرن التاسع عشر. دولاب كبير غير متسق يشغل معظم مساحة المكان. كراسي محطّمة، سجاد غير نظيف، على الحائط بوستر إعلاني رديء، وهنالك علم تركي، وعلم مغربي. لا اثر للعلم البلجيكي مطلقاً. ممر صغير يقود إلى مطبخ أشبه بقنّ مزدحم بطباخ بعينين على طاولة، وهنالك أوان، وطاوات، وطناجر وسخة، بعضها فوق بعض. أما رائحة المكان فزنخة، والزيت يبقع الحائط.

- معقولة أنا في بلجيكا؟

ثم هنالك الحمام، وهو صغير أيضاً، دوش صدئ، ضوء أصفر شاحب أشبه بهذا الموضوع في دكان الخضروات في الحي الذي يسكنه في بغداد، يخلو من أي اسم للنظافة، والأكثر من هذا هنالك صوندة للشطف كما يفعل المسلمون عادة، وليس كالأوربيين الذين يستخدمون ورق التواليت.

- معقولة أنا في بروكسل؟ 

فكرته عن أوربا، هي السكن في أبهة، حياة لوكس، رفاهية من نوع خمسة نجوم، لمعان أرضية، عطور تنبعث من كل مكان. وليس هذه الخربة التي لا تعدو أن تكون شقة في بغداد، بل حتى شقته في بغداد أفضل منها. داخ، أصابه دوار، صعدت الحمى في جسده، ولاسيما أن حكاية المهربين النصابين الذين يدورون في المكان ذاته، ومن ثم يلقوا بالمهاجر في حديقة، أو في منزل، لا يعدو أن يكون في ضاحية من ضواحي اسطنبول أو أزمير أو أدنة، طنت في رأسه مثل نحلة.

استلقى على الأريكة واجماً، مد يده فقبضت على الرموت كونترول المرمي إلى جانبه، استدار، فرأى التلفزيون المثبت على الحائط، بهدوء شديد أخذ نبيل يدير القنوات، أكثرها تركية أو مغربية، قلة منها غربية ولاسيما تلك الخاصة بالإعلانات، أما بشكل عام فهي قنوات رياضية، قنوات إخبارية، قنوات موسيقية، قنوات للأزياء، قنوات للطبخ، قنوات للمسابقات، والملفت للنظر حقاً، لا وجود لقنوات إباحية.

"معقولة لا وجود لقنوات اباحية في بلجيكا. هل يطبقون الشريعة هنا؟"

سرعان ما شعر بالجوع، فذهب إلى الثلاجة، وجد ساندويشة ملفوفة في كيس مكتوب عليه بالعربية سناك محمد. التهم الساندويشة ثم ذهب إلى الحمام. حين خرج شعر بأنه متعب جداً، فتمدد على الأريكة وغط في نوم عميق. استيقظ في منتصف الليل، كان متعباً وعطشاً، فتناول كأس ماء، وأمسك الرموت كونترول قلب القنوات بحثاً عن قناة أباحية لكنه لم يجد. فاستقر على قناة للموسيقى. كانت الموسيقى جد رومانسية وحالمة، أصغى جيداً. شعر بهدوء كبير في نفسه. فجأة قفزت في ذهنه صورة الفارابي الفيلسوف العربي الذي عاش في القرن الثامن الميلادي. فقد رأى في الموسيقى عنصراً مهما في المدينة الفاضلة، ذلك أن فكرة العدل تأتي من فكرة التناغم في الموسيقى. هل يمكن أن نعد فكرة السعادة قائمة على قضية رياضية أو منطقية، الفارابي يقول نعم. الطبقة الرثة تقول لا! ابتسم مع نفسه، هل سيستخدم هذا التعبير الطبقة الرثة في أوربا أيضاً؟ انقلب نبيل على الجهة الأخرى، أغمض عينيه أخذ يصغي بكل صفاء إلى الموسيقى الهادئة القادمة من التلفزيون. وما زالت أفكار الفارابي تدور في رأسه، في استخدام الموسيقى في علاج الأمراض النفسية والعصبية. ها هو يشعر بأنه سعيد. أو على الأقل مطمئن. فالموسيقى أداة سحرية قريبة من التنويم المغناطيسي.

دقائق ثم استقام على الأريكة، وضع يده على خده وما زال الفارابي في ذهنه، هل كان أذكى من الفلاسفة الإغريق حينما تجاوز النزعة الشكلية للفلسفة الإغريقية في النظر إلى الموسيقى. هكذا تساءل نبيل في نفسه ذلك أن الإغريق اكتفوا بفهم الموسيقى مجرد صوت في حركة، أو تشكيل زخرفي في حالة حركة، لكن الفارابي عمق فهمه ليصل بها إلى المشاعر وما يصاحب هذه المشاعر أيضاً. هكذا هو الآن....مرتاح، مسترخ، منطلق، يسبح في الغيوم، في تلك اللحظة جاءه صوت واهن سرعان ما بدأ بالارتفاع، إنها صلاة شخص مسلم بصوت عالٍ. تكرّر الكلام ذاته مرة بعد مرة. مثل التكرار في الموسيقى الشرقية. تذكّر جدّه يصلّي هكذا بصوت عالٍ، ولاسيما في الصباح ويمنعه من النوم. فلجدّه صوتٌ قبيحٌ أشبهُ بهذا الصوت القادم من الشقّة المجاورة، لكنه لا يكفّ عن الجهر به في كل صلاة. لو كان صوته جميلاً لا بأس، ولكن أن تسمع صوتاً يردّد الأشياء ذاتها مثل موسيقى القرب فهذا يصعب احتماله. هنالك شيء آخر:

 هل نحن في بلجيكا؟

في تلك اللحظة شعر أن الفارابي تهاوى، فكرة الموسيقى، العدل، السعادة، كلها أصبحت تتلاشى شيئاً فشيئاً، ويحل محلها الخوف لئلا يكون في بلجيكا.

- أين أنا حقاً؟

في البداية أنكر نبيل أن يكون ما سمعه حقيقة. حاول أن يشكك بالأمر، ولكنه تأكد فيما بعد. كان الصوت واضحاً، مخارج الأصوات ترنّ في الغرفة المجاورة. شعر باليأس، رمى نفسه فوق الأريكة بحزن. فقد أطاح هذا الصوت بالمقدار القليل من الأمل الذي كان عنده. وقد أصبح قلقاً وحزيناً لئلّا يكون في بلجيكا إنما في بلد آخر. في بلد مجاور لبلده، في العراق، في تركيا، في إيران، إنهم المهربون اللصوص وقصصهم على الدوام. حين أراد النوم لم يستطع. أخذ يتقلّب، وضع الوسادة على أذنه دقائق ثم سكن قليلاً، الشيء الوحيد الذي لاح له مسلياً وممتعاً وسط هذا الجو الكئيب هو أنه استعاد بذاكرته الفتاة البلغارية وكيف ضاجعها عمه على الأريكة حينما كان يراقبهما وهو صبي، وكيف ارتسمت في ذهنه سيقانها البيض الملساء جداً.

*

استيقظ نبيل صباحاً باكراً جداً، ارتدى قميصه على عجل، غسل وجهه في المغسلة، ارتدى حذاءه وهبط من السلم القذر إلى الخارج. سرعان ما تبدد قلقله. إنه ليس في تركيا، ولا في العراق ولا في إيران إنما في مدينة لم يتعرف عليها جيداً من النظرة الخارجية، لكنها من دون شك في أوربا. حي للمهاجرين على الأرجح. هنالك العديد من السود الذين يسيرون في الشارع، هنالك العديد من العرب، من الآسيويين، من اللاتين، واجه الكثير من المحجبات في طريقه ولكن هنالك أوربيات أيضاً. اللافتة الزرقاء الموجودة على الحائط تشير أننا في شارع سيرجنت براين في حي أندرلكت في بروكسل، وعلى اللافتة أن هذا العريف قد قتل في العام 1812 من أجل ترسيخ الحضارة في الكونغو. ابتسم وهو يقرأ كلمتي (حضارة) و(كونغو). القصة الاستعمارية ذاتها وهي تتكرر في كل مرة! شعر بسعادة، بتشف، بتهكم في البدء من البلجيكيين، شعر بتنوير ما، وهو يرى مكر التاريخ بعينيه، وكيف تحولت هذه القصة من جندي بلجيكي في الكونغو إلى كونغو أخرى في بلجيكا. من الرابح؟ مكر التاريخ مرة أخرى. ضحك: هاهاهاهاها ... وسار في خط مستقيم في الشارع حتى وصل شوسيه دو مونس، شارع واسع يقطعه الترام، منازل قديمة، بارات أفريقية، سناك تركي، لافتات المطاعم مكتوبة بالعربية كلها تقدم الحمص، الفلافل، الكباب.

- هل قطع نبيل كل هذه المسافة الطويلة كي يأكل الكباب هنا؟

هاهاهاها ضحك بصوت مسموع.

التكرار العربي مرة أخرى. قال نبيل في نفسه.

آه إنه الشيء ذاته، الصوت ذاته، البنايات كأنها تتشابه، المطاعم تقدم الطعام ذاته، انتبه نبيل أيضاً إلى حقيقة أخرى استمدها من فهم الفارابي للموسيقى العربية التي تقوم على التكرار، أن فن الأرابيسك العربي أيضاً، ليس مجرد فن زخرفي خالص، انحناءات وتنويعات لا تحصى إنما يتعدى ذلك، ليصل إلى نظرة العربي الروحية للزمان الدائري الذي يحكم الكون. فلسفة ههه ضحك. توقف. ابتسم. قال بصوت مسموع: طز! من يهتم.  

*

كلّما أوغل في السير ازداد الشارع ازدحاماً. وصل حتى المجزرة. مكتوب على بوابتها الكبيرة الملطخة ببقع الدم:

"ذبح على الطريقة الإسلامية".

قرر العودة إلى غرفته خشية أن يضيع وسط الحشود. في طريق العودة رأى محل السناك مكتوب عليه شي محمد المغربي. دخل. حدق في أطباق الطعام الموضوعة خلف الزجاجة. طلب ساندويشاً، وقليلاً من الفريت سفري.

التلفزيون يقدم أخبار الجزيرة. الجالسون: أفارقة، عرب، أتراك، إيرانيون. النادل يتكلم التركية. بسرعة أعد له طلبه، وضع الساندويش في كيس وقدمه له. بينما هو خارج صادف رجلاً في الخمسين من عمره، لحية سوداء مصبوغة، شارب شبه حليق، يرتدي ملابس أشبه بالملابس الأفغانية، موضة الثوار الجدد، الموديل الذي يتشبه به السلفيون منذ الحرب الأفغانية ضد الجيش السوفيتي. شعر أن هذا السلفي يتعقبه دون أن يلتفت إليه. ولكن ما أن وصل إلى باب منزله حتى قبض عليه من يده. التفت نبيل فزعاً. فقال له السلفي:

- ألست مسلماً؟

ارتبك نبيل، وقال بعد تردد:

- نعم نعم انا مسلم!

- وكيف تأكل يا رجل كيف؟ قالها بغضب مما جعل نبيل يرتبك فعلاً. 

- سيدي وهل ممنوع على المسلم أن يأكل؟

- بالطبع ممنوع! بل حرام أيضاً! ماذا يقول عنا الكفّار؟ 

- كيف حرام؟

- نحن في رمضان يا رجل! ألا تعرف رمضان؟

- نعم! ولكن رمضان في بلجيكا؟

- يعني إذا أتيت إلى بلجيكا، تتخلى عن إسلامك؟

- لا طبعاً! ولكن سامحني يا سيدي! نسيت!

- بالطبع أنا سأسامحك، ولكن لا اعرف إن كان الله سيسامحك أم لا ؟

- أأمل أنه سيسامحني.

أراد أن يغادر بسرعة ، فمسكه الرجل من يده.

- أين؟

- إلى بيتي!

- لا ...دقيقة واحدة...أسمع! أنت طالما أخطأت وفي رمضان فعليك أن تدفع كفارة لذلك.

- أدفع كفارة؟

- نعم! كفارة!

بقي نبيل فاغراً فمه أمام هذا الرجل الذي استرسل:

"في الواقع أنت تعرف هنا المسلمون كثيرون، ولم يعد هذا الجامع يستوعبنا، فنريد أن نبني جامعاً آخر، ولهذا نحن نجمع تبرعات من المسلمين المقيمين هنا، وبما أنك مسلم، وأفطرت في رمضان، ومن أجل أن يسامحك الله على فعلتك الشريرة هذه، عليك أن تدفع مبلغاً من المال لبناء الجامع، وعندئذ سيسامحك الله ..أنا أعطيك ضماناً بذلك".

- سأفكر بالأمر، علي أن أرى كم عندي، وكم أدفع، وسأرد عليك.

- أين تسكن بالضبط؟

- في هذه البناية!

- آه أنت تقطن قرب أحد إخواننا، أنه رجل مؤمن جداً. اسمع سنمرّ عليك غدا لنعرف كم تدفع.

تركه نبيل، وانطلق بسرعة ليصعد إلى الشقة مضطرباً وحائراً. كاد أن يفقد أعصابه في البداية. وضع الكيس على الطاولة. ذهب إلى الثلاجة فتحها لم يجد شيئاً فيها. عاد وجلس على الأريكة. تناول الكيس وأخرج الساندويش، وبدأ يأكل. كان قد شعر بقليل من العطش، ارتسمت في ذهنه علبة البيرة الأخيرة في آخر يوم له في بغداد. قرر أن يذهب ليجلب لنفسه بضعة علب بيرة. أطلّ من الشبّاك، رأى السلفي وقد غادر المكان، تلفّت يميناً وشمالاً، رأى شيئاً غريباً:

رأى حذاء معلقاً بحبل يهبط من الشقة العلوية إلى شقته. فاضطرب، عاد ودخل إلى شقته، شعر بأنه ربما مراقب من أحد ما.

عاد إلى ساندويشته. وضع الفريت في صحن، وراح يبحث عن الكاتشاب في المطبخ، ثم عاد مرتبكاَ تماماً. الأمر محسوم بالنسبة له: لن يدفع درهماً واحداً لهؤلاء المتشدّدين سواء في بغداد أو هنا، ولكن أي حظّ هذا؟ فقد هرب من بلاده بسببهم، وها هو يجدهم أمامه هنا. هل يحدث هذا؟

*

بعد ساعة خرج من المنزل، سار في شارع جوريز حتى النهاية متحاشياً وجود السلفي في الركن من الشارع، حتى وصل إلى شارع عريض جداً اسمه آفنيو فيين. كانت هناك عدة محلات ألمونتاسيون تبيع الحاجيات المنزلية. دخل أحدهما. الأقرب إلى الشارع العام في واقع الأمر. رأى في المقدمة صاحب المحل، وهو باكستاني صامت، يقوم بخدمة المحلّ، من دون أن تتحرك عضلة واحدة في وجهه. اشترى منه أربع علب بيرة، وهو يتلفت لئلاّ يراه أحد، ثم عاد من شارع بورنيه إلى شارع السيرجنت براين. ما أن وصل على مبعدة خطوات من منزله، حتى فاجئه شخص، كان مختبئاً في الركن:

- هل أنت مسلم؟

اضطرب نبيل دون أن يعرف ماذا يجيب. كان الشخص من البيض، هكذا بدا ظاهرياً. شعر أشقر طويل، مشدود إلى وراء، وعينين خضراوين، ولكن بملابس عتيقة تقريباً.

- نعم ...نعم...لماذا؟

- هل تبيع الحشيش؟

اضطرب نبيل بشكل أكبر، قال له نافياً:

- لا ...لا ...أبداً، لم يسبق لي أن تعاطيت هذه الأشياء.

- لا تخف يا رجل أنا أريد أن أشتري! لا أعرف كنت جئت مرة هنا، واشتريت من شخص في هذه البناية، كان العلامة هو أن يعلق حذاءً كبيراً، بحبل من الأعلى، دليل على أن لديه كمية ليبيعها.

- آه! اسمع الشخص الذي يسكن في الشقة التي فوق شقتي، كان قد علق حذاء، قبل ساعة ... لم أكن أعرف السبب...

- آه يبدو أن الكمية قد نفدت...تعرف هذه الأيام رمضان، لا يتعاطى المسلمون الخمرة، فيبحثون عن الحشيشة...

- آه ...قال نبيل، ثم لم يجد غير أن ينظر في الوجه اليائس لهذا الأشقر، ويقول له:

- حسن. أتمنى لك حظاً سعيداً..

انطلق نبيل إلى البناية، فتح الباب، وصعد إلى الشقة عبر السلم القذر، قافزاً الدرجات اثنين، اثنين.

III

الحياة ليست سهلة جداً في بروكسل، كما أنها ليست صعبة! ولكن المدينة الفاضلة لم تتحقق بعد، منذ أفلاطون إلى اليوم أليس كذلك؟

هكذا قال نبيل أمام المرآة وهو يحلق شاربه أوّل مرّة في حياته. مسح الشعر عن الشفرة بيده، ثم رجّها تحت صنبور الماء المتدفّق من الحنفية، نظر إلى وجهه من دون شوارب. غريب نوعاّ ما ولكن الأمر يمكنه أن يعتاد عليه. وهو يرتدي بنطلونه وقميصه، تساءل في نفسه: ماذا ينقص المدينة الفاضلة التي فكر بها الفارابي قبل أكثر من عشرة قرون؟

- التناغم.

هكذا هي فكرة نبيل عن المجتمع، وقد أخذها أيضا عن مفهوم الموسيقى عند الفارابي. فالصوت الواحد لا ينتج موسيقى، إنما الموسيقى تتشكل من خلال الاختلاف بين الأصوات، لكن هذا الاختلاف بحاجة إلى هارموني، إلى تناغم كامل، وإلا يتحول الاختلاف إلى نشاز يبطل الفكرة الأساسية التي تنخلق الموسيقى أصلا ًمن أجلها.

الطريق المؤدي إلى محلات بيع الآلات الموسيقية في السان جوس كان مزدحماً ذلك اليوم، العجوز الوقور شرح لنبيل مزايا آلة التشيللو التي لديه. لم يكن لنبيل المبلغ اللازم لشرائها بعد، ولكنه ما زال يجمع المال درهماً، درهماً. لا يهمّ. سيقتنيها فيما بعد. حياته تسير ببطء هنا في أوربا لكنه يحرز بعض التقدم. على الأقلّ حصل على اللجوء في بلجيكا، استطاع أن يستأجر شقة صغيرة في السان جوس، قرب ساحة مادو، الحي الذي يقطنه عدد كبير من المهاجرين الأتراك. لم يختره، ولكنه أرخص من الأحياء التي يقطنها الأنديجن. كما أصبحت لديه صديقة بلجيكية. وهذا المهم: اسمها فاني!

*

تعرف على فاني في حفلة قامت في بار يقع في البارفي دو سون جيل. في بار الميزون دو ببل. البار ذاته الذي كان يقرأ فيه لينين الصحف الروسية والفرنسية قبل الثورة. وقد تحول إلى بار برجوازي هذه الأيام، لم يزعج نبيل كثيراً هذا الأمر، فهذه مسيرة كل تقدم. الثروة في النهاية هي هدف الثورة. ملك المكان رجل عجوز، خدم لسنوات وسنوات، فيما بعد تم رميه. يوم الحفلة هو المساء الأخير الذي سيكون واقفاً فيه، مثل عمود النور ليضيء البار، وإن كان يشعر بحاله مثل راقصة الباليه العجوز التي سترقص في ليلتها الأخيرة وهي تعرف أنها سترمى في الغد في مخزن السقيفة مع المهملات. إلا أنه كان سعيداً وقد سلم عليه نبيل بحرارة ظاهرة، إلى جانبه تقف فاني. سلم نبيل عليها أيضاً. بعد ثوان دعاها على كأس موخيتو فقبلت الدعوة. جلب الكأس ووقف أمامها صامتاً مثل مسمار. انتبهت لقدومه وهي تتحدث مع شخص آخر، تناولت الكأس:

- بصحتك! ووقفت أمامه وجهاً لوجه. من جانبه تملكه حب النظرة الأولى، مثل أي شرقي لا يحتاج في هذه الحالة أن يحسب أي حساب عقلي مع جسد نصف عار أمامه. أما هي فقد جاءت من ثقافة ديكارتية حتى وإن لم تقرأ في حياتها سطراً لديكارت، محصت الأمر يميناً وشمالاً. رأت فيه شاباً أسمر، وسيماً، موسيقياً موهوباً يريد أن يندمج في مجتمعها بأية صورة، شخص حالم بالمدينة الفاضلة، شخص موسوس مثل عازف الغيوم، بشيئين اثنين: المدينة الفاضلة والأوركسترا. وهكذا شرح نبيل لها فكرته:

ما يبحث عنه في أوربا هو الأساس الهارمني الداخلي، لنقل أنها فكرة النظام التي تأخذ معناها الدقيق من الكلاسيكية، وهذه الأخيرة هي التي ستوصلنا إلى المدينة الفاضلة. يصبح المجتمع مثل أوركسترا، الوتريات هم الغربيون الشقر، يمثلون العمود الفقري في الأوركسترا مثل: الكمان، والفيولا، والكونترباص، والتشيللو. ثم اللاتينيون، ويمثلون الآلات النفخية، مثل: الأبوا، والفلوت، والكلارينيت، والباصون. ثم الشرقيون، عرب، أتراك، فرس، أكراد، فهم مثل الآلات النحاسية: ترومبيت، هورن، ترومبون، وتيوبا. وهنالك الأفارقة مثل: الطبول، والدرامز. وهنالك الآسيويون، مثل: بعض أنواع السيمبالات.

لم لا أليست هذه الصورة تؤكدها العلوم الإنسانية؟

هذا النوع من التراتب الذي يضع الغربيين في المقدمة أراح فاني كثيراً. وبين الأضواء في البار وكؤوس الموخيتو، وأنفاس سجائر المارلبورو، والثلج المبروش، وكلام الحب، وتكات آلة التصوير الرقمية، بهذا الجو انخلق الحب. كان يوماً قائظاً، أمسيةً خانقةً من أمسيات الصيف. رقصت فاني معه بتنورتها الزرقاء، بجلدها الرقيق الذي يتوهج تحت نور المصباح، بعنقها الذي يشبه الفلوت، بنظراتها الضائعة أشبه بنظرة طفل. جلسا أمام بعضهما أشبه بطائرين في قفصين متقابلين. شعر أنه يحبها من اللحظة الأولى، لم يعد بحاجة إلى برهان. شيء واضح تماماً، مثل قطرة مطر وراء الزجاج تكبر وتسيل مع الوقت. ولا تختفي أبداً. لقد شعر بتغيير كبير في كل شيء إن بمشاعره أو بجسده.

قال لها أنه لا يحب النساء العربيات اللواتي يختصرن وجودهن بالملابس الغالية الثمن، وهلس الشعر، وعلب الماكياج، وصبغ أصابع القدمين، وقراءة مجلات البوردة وحواء وسيدتي، والبحث عن أبناء البرجوازيين الوسيمين الذين يغازلون الفتيات في المولات الكبيرة. قال لها أنه أحبها لأنه وجدها جميلة، ناعمة، هشة جداً، مثل لوحات الجماليين اليابانيين ذوي الألوان المدهشة، بينما العربيات مكتنزات، ألوانهن ضاربة للسمرة، ومربربات الافخاذ، والصدور، بسبب أكل الحمص. وأطلق ضحكة عالية.

*

بعد ساعات أصبحا في الفراش معاً، في شقته الصغيرة في السان جوس. نبيل العاري الذي وقف أمام فاني ليشرب قنينة ماء كاملة بسبب تعرقه لم يحسب حساب الطبيعة، تلك اللحظة، ولا حساب الثقافة أيضاً. من الطبيعة أن فاني تطلق أصواتاً عالية أثناء الجنس، هذا شيء لا يمكنها أن تسيطر عليه، هي تصرخ وتصرخ بقوة، ليس لديها عوائق، ليس هناك من سبب يقمعها، طبيعتها التي تعيش فيها من دون حدّ. حينئذ لم يبق أحد في العمارة لم يسمعها. البعض أطلق ضحكة عالية لهذا الصوت وهو يترقب تحولاته، فصمت قليل، لتغيير الوضع ثم تنطلق الأصوات مرة أخرى. البعض كان منتشياً ومثاراً أيضاً، لكن كان هنالك من هو غاضب أيضاً، وهو من حساب الثقافة والتقاليد الذي لم يحسب له نبيل حساباً.

شاهد نبيل فاني في الصباح تسير عارية. كان الصفاء مفاجئاً ومطمئناً؛ فقد رقد في السرير وهو معجب بعلاقتها المتصالحة مع جسدها. كانت فاني تسير دون أن تضع على جسدها أي شيء، لا ستياناً ولا كالسوناً. تدخن، تأكل، تقرأ وهي عارية. ترفع ساقها مرة تنزلها مرة أخرى. لم ير نبيل هذا العري المسالم ولا حتى في أكثر أحلامه إيروسية، إنه عري نابع من جوهر الطبيعة ومن روحها. انقضت ساعة كاملة ونبيل مستلق في السرير، دون أن ينطق كلمة واحدة، دون أن تتحرك شفاهه بأدنى صوت. كان يتفرج وحسب. يتفرج على فاني العارية، وهي تتحرك في هذه المساحة الضيقة من الغرفة. لقد شعر نبيل أن هذه المشاهد التي أمامه تقلص عالم الأحاسيس القديم الذي جلبه معه، تذلها، تجوّعها، تفرِّغها من دمها. ثم تغذيها بكل الإثارات الممكنة، بل وتحقنها نوعاً من الحسية العالية. هذه الحسية لا تلغي الهيام ولا الفضول. فالجنس هنا عكس الشرق، لا ينمو في العتمة، إنه ينمو في الوضوح، يأتي ممتزجاً بالصوت والحركة والرائحة والموسيقى وربما الكحول والأفيون. ثم تساءل من قال أن جمال الجسد يهبط في العري، فكرة تافهة، العري هو تحقيق الواقعية، هو أشبه بالموسيقى الكلاسيكية من حيث تحقيقه لواقع كما هو في تجريده، إنها نوع من بقايا استطيقيا عصر النهضة، التي رأت في الفن العاري ذروة من ذرى البشرية التي يجب أن نسموا باتجاهها. وجوهر الفكر الكلاسيكي يكمن في القناعة العميقة في أن الحياة منطقية ومنسجمة مع الطبيعة.

*

في اليوم التالي كان نبيل قد عاد متأخراً في الليل مع فاني، كانا نصف مخمورين، نصف منتشيين. دفعت فاني حساب التاكسي بينما سبقها نبيل إلى باب الشقة، وهنا المفاجئة، وجد جاره التركي بانتظاره. كانت شواربه السود مبرومة للأعلى، عضلاته لا تخطئها العين فهو حدّاد، له قبضة خشنة حقّاً يكرهها نبيل جدّاً لأنها لا تناسب يد عازف تشيللو ناعمة.

 قال التركي لنبيل بوضوح:

- سيدي أنا لا أحاسبك على ما تفعله في شقتك. ولكن الأصوات التي تطلقها صديقتك وبهذه الصورة أثرت كثيراً على عائلتي.

- لم أفهم! قال نبيل.

- وأنت تمارس الجنس مع صديقتك فهي تطلق أصوات عالية تسمعها كل العمارة، سامحني، أنا لدي بنات مراهقات ومحجبات، ولا يمكن أن نقبل بهذا الوضع.

لم يجب نبيل بأي كلمة، سوى أن قال له:

- أنا لا دخل لي ليس أنا من يطلق هذه الأصوات .. إنها هي. كانت فاني تقترب. حين رأى التركي أنها فتاة شقراء بلجيكية. قال له وهو ينسحب.

- الأجدى أن تتكلم أنت معها لا أنا.

سألت فاني:

- ما الأمر؟ ماذا يريد منك هذا الرجل.

 شرح نبيل لها الموضوع:

"أن هذا الرجل يطلب منك ألا تطلقي أصوات عالية أثناء الجنس، ذلك أن لديه بنات مراهقات ومحجبات وهو لا يحب أن يعرفن شيئاً عن هذه العملية".

استشاطت فاني غضباً.

- ماذا ... ماذا؟ صرخت بقوة في بهو العمارة، كي يسمع الجميع.

- أنا في بلدي، أصرخ مثلما أشاء ومثلما أريد، ومن لا يعجبه فليأخذ بناته إلى بلده، وهناك لن يسمعن سوى صوت الآذان، أما هنا فأنا أفعل ما أشاء.

حين عادا إلى الشقة قررت فاني أن تفتح جميع الشبابيك على مصراعيها هذه المرة، كي يسمع من لم يسمع في المرة السابقة، وليسمع بصوت أعلى من سمع بصوت واطئ في المرة السابقة. تعرت تحت المصباح، خلعت ملابسها ببطء وتلذذ كاملين لتضعها قطعة .. قطعة على الكرسي وسط الشقة، ثم رمت نفسها بحرية كاملة على السرير، مدت يديها نحوه وهي تبتسم وقالت له:

- هيا اخلع ملابسك وتعال بسرعة، سأسمع بناته اليوم أصوات لن ينسينها أبداً.

بعد لحظات سمع كل من في العمارة أصوات فاني الصاخبة في الفراش، أصوات كانت تضرب حتى الجدران وليس طبلات الآذان فقط.

*

في اليوم التالي قالت فاني لنبيل أن صديقتها تينا تدير برنامجاً لموسيقى الحجرة في منزل للقرن التاسع عشر جنوب بروكسل، وسترحب به لينظم إلى فرقة تنتمي للمكان لو كان لديه آلة تشيللو. لكن نبيل من عام كامل يجمع الشيء القليل من المساعدات الاجتماعية التي يحصل عليها، لذلك قالت له فاني أنها ستقدم له مبلغاً من المال يمكنه أن يشتري هذه الآلة. ابتهج نبيل جدّاً. أخذ المبلغ منها وذهب في الحال  إلى محل آلات الموسيقى.

دخل البائع العجوز بنفسه إلى الفاترينة، حمل الآلة الأخيرة ووضعها في الصندوق الأسود، بينما يكاد نبيل أن يرقص من الفرح. كان مبتهجاً جداً، ويتحدث بكلام لا معنى له بسبب شدة جذله. وهذا انعكس على البائع العجوز الذي كان يرقب نبيل منذ عام، وهو يقف كل يوم أمام الآلة عاجزاً عن دفع ثمنها. لذلك منحه خصماً خاصاً أبقى عدداً من اليوروات في جيبه.

خرج نبيل عائداً إلى منزله، مرّ بمحلّ كبير للملابس بحثاً عن طقم أسود، مهيئاً نفسه لحفلة موسيقى الحجرة التي وعدت بها تينا صديقة فاني. ثم قفل راجعاً إلى المنزل ليضع آلة التشيللو في شقته، ثم يلتحق بفاني في عملها في شوسيه دي واترلو، وربما سيذهبان هذا المساء إلى السينما في غاليري دي رين.

حين وصل قريباً من المنزل شعر بشيء غريب هناك يجري. رأى جاره الحداد التركي مع شخصين آخرين يقفان عند باب العمارة. ما أن وصل نبيل حتى قبضا عليه. قال له التركي:

- ما هذه التي تحملها؟

- آلة تشيللو!

- آه تشيللو، وتريد أن تسمعنا موسيقى تصويرية مع هذا الفيلم الأباحي الذي تقوم به مع صديقتك.

ضربة واحدة أطارت له نظارته في الهواء وسقطت على الرصيف.

- ضربة حداد! قال نبيل في نفسه. الضربة التي جاءت على عينه أفقدته الرؤية تماماً، ثم استلم الشخصان الآخران آلة التشيللو ليحطماها وينثراها خشباً على الأرض. بينما انفلت نبيل من قبضة الحداد ما خلا شالوت أطاره على درجتين من السلم، ثم نهض وانطلق باتجاه الشقة، فتح الباب واختفى في الداخل.

ذهب مباشرة إلى الثلاجة، تناول قليلاً من الثلج، ووضعه على عينه. خرج إلى الشرفة ليرى مصير التشيللو فرآه خشباً محطماً على الأرضية، اختفى التركي ورفيقاه، ولم يكن هنالك من أحد غير البواب وهو يجمع الحطام في كيس ليرميه في محل أزبال العمارة. 

IV

إن فكرة الهارموني لم تفقد بريقها بعد في رأس نبيل. كان جالساً في شقة فاني في حي أوكل. وهو يفسر الأمر كالتالي، إن الهارموني هو أساس الموسيقى. إن وجود صوت نشاز بين هذه الآلات التي تصنع الموسيقى سيحقق انعدام الهارموني وبالتالي أن كل البناء سينهار. يستنتج نبيل من هذا أن وجود المهاجرين في بلجيكا هو أساس فقدان المجتمع للهارموني. ببساطة لأنهم من ثقافة مختلفة. هم يشكلون نوعاً من الهارموني في مجتمعاتهم، حين كان بينهم، أي حينما كان في بلده، كان يشكل صوتاً نشازاً، كان يهدم التناغم في مجتمعاتهم. حين تركهم وجاء إلى أوربا ذلك ببساطة لكي يأخذ ذلك الهارموني نصيبه من الائتلاف، بينما هو وحياته ينسجمان بشكل كلي مع نوع الهارموني الاجتماعي في أوربا.

النتيجة التي قالها نبيل وبوضوح شديد:

إن وجود المهاجرين في أوربا يعد صوتاً نشازاً! إذن عليهم الرحيل. 

هذه الفكرة أخذت تضرب كالرصاص في رأسه. بينما بدا على فاني الانزعاج الواضح منه. فأراد أن يخفف عنها هذا الأمر بالطريقة التالية:

- اسمعي لا أقصد من الأمر أن يكون عرقيّا ...أنما بالأحرى هو انفصال ثقافي.

- لا أفهم... ماذا تعني...؟ قالت له هذا بينما كانت ترتدي قميصها من دون ستيان. 

- أقصد أن العالم ينقسم إلى مكانين جغرافيين وبالتالي ثقافيين، فهنا نحن، أما هم فهم هناك، من يؤمن بنا فليأت لنا، من يؤمن بهم يذهب لهم. لكن أن نبقى هنا وهناك ... نصبح عندهم أصوات نشازًا، ويصبحون عندنا نشازاً ...وهذا هو سبب الفوضى في العالم.

- أوه يا نبيل هل رأيت كالسوني في مكان؟

- إنه هناك جنب السرير...

سارت فاني عارية تبحث عن كالسونها بينما هو تبعها في حديثه:

- اسمعي أنا جئت إلى الغرب بحثاً عن المدينة الفاضلة، حلم من أحلام الفارابي الذي أراد أن يجعل كل شيء معيارياً، وبناءً عليه ستكون المدينة التي يخلقها بموسيقاه مدينة فاضلة. هل تسمعيني؟

- نعم اسمعك! قالت وهي تشم كالسونها قبل أن ترتديه. أوه هذا وسخ! وراحت تبحث عن كالسون ثان في الدولاب، بينما سار هو وراءها.

- اسمعي! أليست الموسيقى معيارية؟ إذن ستؤسس من نموذجها معياراً عمرانياً حضارياً سكانياً، بكل ما تحمل من قيم سامية...هكذا كان يؤمن الفيلسوف العربي وهو يتكلم عن أفلاطون وأرسطو في المدينة الفاضلة! ارتدت فاني كالسونها وبنطلونها. وقالت له:

- اسمع أنت! اذهب إلى المطبخ، وكل قطعة البيتزا التي وضعتها لك في الفرن، ولا تشغل بالك بهذا الأمر، وإلا ستحترق البيتزا كما في المرة السابقة...  ثم طبعت على خده قبلة وخرجت مسرعة.

*

استدار نحو المطبخ، أخرج قطعة البيتزا نيباليتوني الساخنة من الفرن، ثم صب لنفسه كأس كوكا كولا، وراح يبحث عن الكاتشاب. في الدولاب غير موجود ...ثم بحث في الثلاجة لم يجده، بعدها تذكر أنه قد أخذه معه بالأمس إلى الشرفة حيث أكل الهمبرغر هناك.

حين ذهب إلى الشرفة شاهد صحيفة لوسوار مفتوحة على خبر مكتوب بالبنط العريض عن مظاهرة لليمين المتطرف في شوارع بروكسل، بينما الشرطة تحذر ذلك أن السلفيين ينوون القيام بمظاهرة في اليوم ذاته ضد مظاهرة اليمين.

من هنا فكر نبيل:

لماذا لا يشارك. يجب أن تأخذ أفكاره حيزها من العمل، وأن لا تبقى أسيرة لشقة فاني الضيقة في حي أوكل. حتى هجرته إلى الغرب، الم يقل الفارابي إذا وجد الشخص الفاضل نفسه، في مدينة فاسدة، عليه أن يهجرها إلى مدينة فاضلة؟ إن لم تكن موجودة في زمانه فإنه سيعيش غريباً وفي حياة رديئة الموت فيها أفضل من الحياة! وهكذا جاء هنا إلى أوربا...مدينة فاضلة! لكن المشكلة أن المهاجرين هم الذي يدمرون فضائلها! هؤلاء سيحولونها إلى أرض فساد وفوضى. الطبقة الرثة بتعبير ماركس! السفالة بتعبير الفارابي! حيث وصفهم الفارابي بأنهم جماعة الفساد، والفوضى، والتقتيل، والمعاندة، والهزل بعيداً عن العمل في المدينة الفاضلة.

*

قرر نبيل الذهاب إلى البارك رويال حيث مظاهرة اليمين المتطرف التي تطالب بطرد المهاجرين من البلاد. في الواقع لم تكن الفكرة التي لدى اليمين واضحة في ذهن نبيل مطلقاً. فهو لم يسبق له أن ناقش أحدهم أو اطلع على أفكارهم. صديقته فاني يسارية، لديها كراهية لتصرفات المغالين من الطرفين، ولم تكن يوماً تحمل أي أحقاد على المهاجرين، فصديقها السابق كان أفريقياً، ومرة كانت مع تركي، وكان لها في يوم صديق مغربي.

الأمر مع نبيل أخذ طابعاً عدوانياً هذه المرة. فخرج من منزله في أوكل، واتخذ طريقه في الشوسيه دو واترلو ليمر بالبارفي دو سون جيل، ومن ثم أخذ الباص ويلحق بالمظاهرة. سار في الشارع وهو ينظر كل شيء ويتفحصه، يركز نظارته بإصبعه على عينيه ويفحص الأشياء بعمق وقوة. (نظارته من ماركة برادا ذات إطار معدني مذهب ومدور، تشبه نظارة المايسترو الذي يظهر في الصورة أمام الأوركسترا الموجودة في محل الآلات الموسيقية في السان جوس). إيماناً منه أن  فحوى الفكرة هو خلق عالم جميل، عالم متناغم، خالٍ من الأصوات النشاز.

*

وصل المظاهرة. كانت الأعلام الزرقاء كثيرة، الوجوه مصبوغة. بعضهم لون شعره بألوان مختلفة. البعض نقش على جسده وشوماً عبارة عن شتائم وتوعّد ضدّ المهاجرين. اللافتات المرفوعة مكتوبة بخطوط تنتمي للقرون الوسطى. كل هذا لم يمنع نبيل من الركض بمرح ظاهر، بخفة، بابتهاج، شيء أشبه باللعب ليكون في وسطهم طالباً منهم، بالتهذب الذي عرف به، أن يحمل إحدى لافتاتهم.

وجه نبيل ...وجه مهاجر لا تخطئه العين، هو وحده الذي يعتقد أن الإيمان هو الذي يوحد الناس لا ميثيولوجيا الأعراق ولا ميتافيزيقيا الألوان، ولا الملامح. هنا أصبح نبيل بينهم. تلقفته الأيدي من كل مكان، لقد تجمعت المظاهرة كلها تقريباً على نبيل من أجل سحقه وتهشيمه، وهو بينهم عرف أنه مقتول لا محالة، كان يتصور أن السبب هو سوء فهم لا أكثر. لكن الأمر يتعدى هذا الأمر بالنسبة لهم. كان قربه من الموت لم يمنحه أية فرصة للتفكير لا بالفارابي لا بالهارموني ولا بالمدينة الفاضلة.

على الجهة الأخرى شاهد المتظاهرون السلفيون أن أحدهم سيسحق من قبل المتظاهرين اليمينيين، من هنا بدأ هجومهم. كان الأمر بالنسبة لهم هي حرب للدفاع عن أحد الأخوة في الدين، وقد أصبح فريسة بين أنياب الذئاب الكفار، لم يكن لنبيل غير هؤلاء السلفيين الذين جاءوا لإنقاذه، لقد دخلوا بالعصي والسكاكين دفاعاً عن هذا البطل. وقد أنقذوه فعلا. لم يكن هذا وحسب بل اعتبروه بطلهم. بطل المسلمين الذي هاجم مظاهرة اليمينيين بشجاعة فائقة، وهكذا حملوه على الأكتاف، وضعوه في إحدى سياراتهم ونقلوه إلى منزل أحد هم في شوسيه دي إكسل.

*

اضطجع نبيل على الأريكة، خلفه راية الله أكبر على الحائط. وضعوا أمامه الفواكه وخرجوا ليكملوا معركتهم مع اليمينيين.

كان ذهن نبيل خالياً تماماً. رن هاتفه كانت فاني هي التي تتصل. لم يجبها. كان متعباً جداً. نام ساعة ثم استيقظ، كان إلى جانبه رموت كونترول وأمامه تلفزيون، أشعل التلفزيون وأخذ يبحث عن قنوات أباحية. حصل على واحدة، ابتسم. شعر أن تعلقه بالأفلام الأباحية هو نوع من تعلقه بالواقعية. ذلك أن فيلم البورنو هو نوع من تحقيق آنية حقيقية حيث يصبح ما هو مشاهد ها هو الآن في هذه اللحظة وهو يحدث. لا يفقد الجنس قطعاً سحره حينما يكون صريحاً، بل يصبح مصدر إزعاج. مع ذلك ليس بالضرورة أن يخلط مع العاطفة، أو الرغبة، أو الأهواء ...إنما يمكن للشبق، أن يتغير لونه، نكهته، إيقاعاته، قوته، من خلال تجريده مما هو خيالي عاطفي رومانسي وعرضه في صفاته المميزة المدهشة، في تحولاته الحاذقة، في عناصره المثيرة.

*

أمضى نبيل اليوم كله في منزل السلفيين. في الصباح خرج عائداً إلى منزله.

سار في الشارع. كانت هناك فكرتان قاتمتان في ذهنه، واحدة عن أفلام البورنو والأخرى لشراء تشيللو جديد ليواصل عمله في الموسيقى من دون تنظير. مرت في ذهنه أفكار أخرى عن فاني.

شاهد في شوسيه داكسل مراسم تشييع فخم، عجوز مستلق في التابوت على عربة الموت المغلفة بالمخمل. زهور وأكاليل كثيرة جداً. هنالك حشود كبيرة من الناس على محلات الملابس بسبب تنزيل الأسعار. مر بمحل زارا توقف عند فاترينه ليرى سعر طقم أسود من الممكن أن يرتديه ويشارك في حفلة موسيقى الحجرة. اتصل بفاني لم تجبه. مر بمحطة مترو البورت دو نامور. مر تحت أبنية عالية. عبر الاختناقات المرورية وهو مستمر بالتفكير، مر تحت جسر مشاة. عبر شوسيه دو وافر سار في الأزقة الخلفية. دخل إلى متجر لبيع الكتب- فيلغران، شاهد صورته في صحيفة لوسوار محمولاً على أكتاف السلفيين. ابتسم وخرج. دخل مقهى انترنيت ليتفقد بريده الإليكتروني. عبر الشارع بسرعة مع أن الإشارة الخضراء لم تشتعل بعد. مر بمحل بيع الآلات الموسيقية في السان جوس وجد مكان التشيللو فارغاً، ثم اختفى قبل أن يراه البائع العجوز. مرّ بأكشاك خضروات عبر الشارع مقابل شقته. اشترى فاكهة وصعد سلم العمارة. فتح الأدراج في المطبخ والتقط سكيناً قشر برتقالة ثم فتح باب الشرفة، وضع قشورها في السلة. أكل البرتقالة وقرر أن يستحم.