تصور القاصة العراقية في مقاطع النص الثلاثة معاناة المرأة الكاتبة الدفينة في علاقتها بالأسرة. رتابة الحياة الزوجية في تفاصيل يومها الروتيني، والعلاقة الجسدية وهي تجتر فرط التكرار، والعلاقة بالبنت التي تزور أهلها وما يشوب تلك العلاقة من أواصر عميقة تشي بعذابٍ مكتوم.

الزائرة

دنى طـالـب

1

الساعة تقارب الواحدة ظهرا. يزدحم المكان من حولنا برائحة احتراق حواف الخبز المحمّص، والماء المغلي يدور في الكوبين ويذيب حبات القهوة فتشهق وتبقبق وتموت على السطح. يبتسم. بقايا جبنة صفراء يتخلى لي عنها ويكتفي بدهن خبزته بمربى التوت التي انفصل ماؤها. هادئان. نأكل بنهم وبسرعة وسرحان. يتسرب وشيش الشارع من شق النافذة بتموّج إلى أذنيّ. الزجاج ينفتح على ضوءِ مطفأ لسماءٍ خريفية. ساقاي تمتدان إلى الكرسي الذي بجانبي وهو على المائدة أمامي يعيدُ تشغيلَ حاسوبه المحمول بينما يحرّك الملعقة.

لم نغتسل منذ البارحة، منذ العاشرة ليلا أظن. تيبّس غشاء أبيض رقيق على أصابعنا وعلى مناطق في شَعر رأسينا. تمويه عنكبوت حسب! قفزتُ من الفراش إلى المائدة ملتفّة باللحاف، وهو لإشعال سيجارة قبل أن يهيئ لنا شيئا من فطور ويأتي به مرة واحدة في صينية من الخشب. صوت نشرة أخبار بعيد. لم يطفئ أحدنا المذياع في غرفة النوم. جائعان، متعبان، مشعثّان. فمي لا ينفتح لغير اللقمة وفمه أيضا.

أراهن على نظرته صوب النافذة؛ أسكِتُ كلَّ جرس انذار، ألعن قوانين العمل، الإيجار والساعات الإضافية والخفارات، الأنظمة الساقطة والحالية وتعاقب الشمس والقمر وأخطار التدخين.

صامتان. يفرغ الكوبان. أنهض. تهتز الطاولة، نظرته إلى أين، وجهتي المطبخ لأغلي المزيد من الماء. ترافقني شراهة نهار وأنا عارية ورأسي يسير على الأرض بخفّة.

الماء ينزل من الحنفية بعطسةٍ قوية ويرشّني مرة واحدة فأصرخ.

ثم يعود لينتظم في تدفّقه ونبضي. أستيقظ من نومي كزائرة عابرة أو إني استعدت ذاكرة.

2

الصرخة في لوحة موتك.

الصرخة البعيدة من بيت الجيران لموت الأب.

الصرخة المختلفة تصعد من الفراش العالي فوقي إلى سقف الغرفة وتسقط عليّ وأنا طفلة أنام على حشيةٍ تحت على الأرض، استثناءاً بسبب الحمى، جانب سرير أمي وأبي.

الصرخة من امرأةٍ تدفع برأس وليدها قبلي في الردهة المجاورة.

الصرخة برؤية الكتاب الذي وصل أخيرا عبر البريد من هناك، يصاحبه غثيان مرٌّ من الكتابة وما صدَرَ للكاتبة حديثا.

الصرخة على شاشة التلفزيون من فمّ امرأة جالسة على الأرض، قريبا من مكان الانفجار وسط بغداد.

كلانا جامد. صرخات مكتومة. أفواه مفتوحة. زوايا الفم تتشقق واللسان يلعق دما دافئا، يسيل على زجاج الكاميرا؛ لا يتحرك فيّ سوى عينيّ. لا صوت.

3

كابوس. نتناوب لنهزَّ بعضنا. الهواء قليل. نوسع من فتحة النافذة. أقول كثيرا والصوت لا يطلع. ملفات حبيسة الحاسوب. نحسبها جيدا. هل حسبناها حقا؟ ما المعنى؟ تهزني! ولكن، لا طاقة لدي لأقول شيئا. أنقطعُ عنكَ وأسدلُ نوافذي. أشيح بوجهي بعيدا عن الكتابة والحروف. أترك ما يطمئنك وأدخل الغابة.

والوقت كثيف فقط عندما نمارس الحب. والحب يكون بديهيا فقط حينها! أو يفسح للرغبة الطريق لتتحرر مني وتروح بذاتها تغتنم الفرصة مهووسة لتؤكد لي إني على خطأ. إني كنت دوما على خطأ. الوقت المتاح قليل فتقودنا بأقصى سرعة لها. الوقت المتاح لا يجعله يرتخي بهذه السرعة وأدرك أني أفلت العقال وسأرتبك وسيرتبك ونتلكأ. حدود هذا الزمن تبهرني. هوة ساحقة هذه البرهة التي أكاد أتراجع فيها وهو يحاول فيها أن يعين الرغبةَ لتتمكن مني. يحاول أن يعلو هو وصوته ليسكِتَ صوتا موسوسا انتقل مني إليه. هذا الزمن الذي أحاذر فيه لئلا يطلع صوت مني أو تنزلق فكرة. أُقسم أحاذر لأعينهما بيأسي في إنجاح المحاولة مجددا ودموعي تطفر- ليست سوى أداة مساعدةٍ أخرى، غير يديّ وهما تتشبثّان برقبته، تَقْبلان أن تنتشلاني من غرقٍ محدق!

4

أدخل بعد منتصف الليل بحذر إلى غرفة ابنتي وهي الزائرة. أطمئن لدفء غرفتها في تلك الليلة الخريفية الباردة. لم نغير الكثير في غرفتها، كما هي عدا المدفأة، نشغلّها حين زياراتها.

أحتاج أن أشمّ الغرفة بين حين وحين، وأحيانا أقف في المنتصف منتظرة، أترك لظلمتها أن تكرّس لي غربتي.

تغطُّ في نوم عميق. جبينها متعرّق عندما اقتربتُ وانحنيتُ بحذر شديد لأقبّلها. تفزّ مرعوبة فجأة وتتشبّث بيدي، تمسك بي وتظلّ تصرخ بأعلى صوتها بهلع. أجلس على طرف السرير وأحضنها بقوة. أقبل رأسها. إشش، بهدهدة تتباطأ.. تتباطأ حتى يثقل جسدها وتغفو ثانية بين يديّ. أبقى لساعتين من دون حراك وقد تيبس ظهري. يبلل عرقُ رأسها صدري؛ كيف تنصتّتْ لهواجسي، كيف سمعتني وأنا لم أكن سوى قلق يتجسد في فكرةٍ تشبه عيبا وراثيا، من دون صوت، كنتُ قد تسللتُ لأودعّها! لِمَ لا تُفلتني!