بين الذات والعالم، المخيلة وتجارب الواقع القاسية في أوطان سممت الإنسان حتى لو وصل بر الأمان كما حال الشخصية المحورية في هذا النص العميق والجميل للكاتب العراقي المرموق. يعيش المنفي في كوابيس تجاربه القاسية. هنا في السجن وعبثية الوجود والإحساس حيث يحل الخيال والوهم محل الحياة الواقعية، ليتحول إلى إدمان، وسيحمل السجن معه أينما حلّ.

اللعبة

حميد العقابي

فُتحَ بابٌ وبحركةٍ آليةٍ يتقنها السجّانُ جيداً اندفعتُ إلى داخل الزنزانة. ضربة عند أعلى الرقبة من كفٍّ عريضةٍ مثل رفشٍ، هي التي حددتْ لي اتجاهي في عمقِ الظلمة لأجدني متكوّماً على نفسي قربَ جدارٍ رطبٍ، ثم شيئاً فشيئاً بدأتِ العينُ باختراقِ العتمة لتظهرَ وجوهُ السجناء كأنها خارجةٌ من وادٍ مظلم.

"هل تشاركنا اللعب؟"

قال السجينُ الذي يجلسُ لصقي بعد أنْ أخرجَ رأسه من بين ركبتيه وقد كان متكوّراً على نفسه حتى حسبتُه كتلةً صمّاء. تطلعتُ إليه بصعوبةٍ فرأيتُ عينيه مضيئتين كعيني قطّ في الظلمة. حاولتُ أنْ أمتنعَ عن الإجابةِ إلا أنه راح يهزّ ذراعي بقوةٍ وهو يكررُ بتوسلٍ :

"ها، ماذا قلت؟ هل تشاركنا اللعب؟"

"وماذا سنلعب؟"

قلتُ بتذمرٍ فتطلعَ إليّ وارتسمتْ على شفتيه ابتسامةُ حزنٍ، ثم نهضَ وراح يخلعُ قميصه بسرعةٍ :

"انظرْ، هل ترى هذا القميص؟"

هززتُ رأسي وأنا أنتظرُ بقلقٍ كي يوضحَ لي ما يقصد. جلسَ مقرفصاً أمامي حتى لامستْ جبهتُه جبهتي وقد كوّرَ قميصه بين قبضتيه:

"هل تراهن كم قملة في هذا القميص؟"

حاولتُ أنْ أنطقَ بكلمةٍ إلا أنّ حشرجةً في عنقي منعتني، وقبل أنْ انفجرَ بالبكاء، وجدتُ بقيةَ السجناء قد تجمّعوا حولنا منقسمين إلى فريقين وراحوا يراهنون بتحمسٍ، ولأني سجينٌ مستجدّ كما وصفوني فقد نُسبتُ إلى أحدِ الفريقين قبل أنْ يأخذوا رأيي في اختيارِ الفريقِ الذي أرغبُ في الانتسابِ إليه.

"فردي."

"زوجي."

وضِعَ القميصُ مركزاً للدائرة وراح الجميعُ يحدقون إليه بجنون، وكلما التقطَ أحدهم قملةً رفعها أمام خيطِ الضوء المتسربِ من الفتحةِ الصغيرة الموجودة في أعلى الجدار ثم راح يقصعها بزهوٍ ويعاود البحثَ عن أخرى.

تلك كانت التجربةُ الأولى لي في السجن، ومع تكرار الأمرِ رحتُ أكتشفُ ألعاباً أخرى، ولأنها لم تجد هوى عند الآخرين أو في أحيان كثيرة كنتُ أسجنُ في زنزانةٍ انفرادية لذلك كنتُ أراهن وحدي فاكتشفتُ لعبةَ التأمل والحديث مع الجدران أو أمارسُ لعبةَ استفزازِ الذاكرة. وحينما مللتُ من استعادةِ الماضي، رحتُ أحاولُ تطويرَ اللعبة بأنْ أستعيدَ حادثةً من ماضيّ وأتوقف عند نقطةٍ لأغيّر مجرى الحكاية أو أصححَ خطأ وقعتُ فيه لتأخذَ سيرتي الذاتية منحىً يختلفُ عن حقيقتها، حتى أصبحتْ لي سيرةٌ ذاتية تختلفُ عن سيرتي الحقيقية، بل لم أعدْ أتذكر ماضيَّ إلا وفقَ ما اجترحته مخيلتي. أما أحلامي المستقبلية فقد اقترحتُ على نفسي منذ بدايةِ اللعبة أنْ تكونَ صغيرةً وبعيدةً عن الواقع وكيلا يغريني الطمع فآخذُ جرعةً كبيرةً من ترياقها فتودي بي إلى الموت أو الجنون، بعبارةٍ أخرى أردتُ لها أنْ تكونَ أقربَ إلى الوهمِ منها إلى الحقيقة، مع إدراكي بأنها لن تتحققَ أو تخيب.

هكذا...

أفتحُ باباً في الجدارِ وأدخلُ:

"ما أسهلَ الوهمَ!"

غرفة في اللامكان مضاءةٌ بشموعٍ وتعبقُ فيها رائحةُ بخور، مفروشة بسجادٍ ناعمِ الملمس ومحاطة بوسائدَ حريرية، جدرانها مرايا وسقفها سماء مرصّعة بنجومٍ ساطعة. صوتٌ يناديني فالتفتُ لأجدَ نفسي جالسةً في ركنٍ من أركانِ الغرفة. تشيرُ إليّ أنْ أتقدمَ. تنهضُ لاستقبالي، تقدّمُ لي باقةَ وردٍ أشمّ فيها رائحةَ نهرٍ (إنه النهر نفسه.. ذلك النهر الذي سرقوه من طفولتي يوماً وأجبروني على الرحيل بزورقٍ مثقوبٍ على اليابسة).

"هل عاد النهرُ إلي؟"

"الله، ما أعدلَ الوهمَ!"

أجلسُ قربَ نفسي، ودونما شعورٍ أستلقي واضعاً رأسي على فخذها فتضعُ يدها على رأسي، تداعبُ شعري بحنو :

"دللول يا الولد يبني دللول ... عدوك عليل وساكن الجول"

"الله، ما أكرمَ الوهمَ!"

وحين أفيقُ سأجدُ كلّ المرايا مهشمةً وعلى أجزائها ارتسمتْ أشلاءُ وجهي.

"لا، لا تخفْ! إنه محضُ وهم."

وكما قلتُ إنّ الأحلام للسجين كالأفيون وقد أقنعتُ نفسي بالقليل محذّراً إياها من الإفراط.

حينما غادرتُ آخرَ سجنٍ منذ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة قلتُ سآخذ استراحةً من الأحلام،  وسأتحررُ من آثارِ السجن، فقد أخبرني أكثرُ من شخصٍ مرّ بالتجربة نفسها بأنّ فكرةَ الهرب التي تراودُ السجين في أحلامه ستزولُ شيئاً فشيئاً بعد أنْ يتحرر، غير أني وإنْ كنتُ طليقاً إلا أنّ شيئاً غريباً يشدّني إلى السجن، ولم تزلْ فكرةُ الهرب تراودني حتى وأنا في أسعدِ اللحظات وفي أجملِ الأماكن. أهربُ من يقيني، من شكّي، من أوحالي، من فرحي، من حزني، من شوقي، من عشقي، من بغضي، من ظلّي، من نفسي، من صوتي..... حتى وجدتُني في هروبٍ دائم.

"هل تشاركني اللعب؟"

انتبهتُ إلى جهةِ الصوتِ فرأيتُ صاحبي نفسه يقفُ أمامي منكسراً وهو يكرر :

"ها، ماذا قلت؟ هل تشاركني اللعب؟"

لا أدري لماذا فرحتُ فرحاً شديداً لرؤيتهِ على الرغم من أنه لا يشكّل في ذاكرتي سوى لحظاتٍ تعيسةٍ من ماضٍ أحاولُ أنْ أهربَ منه، فقلتُ دون ترددٍ وكأني أعيدُ الزمنَ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة:

"وماذا نلعب؟"

قلتُ بلهجةٍ يختلط فيها الودّ بالسخرية وأنا أتطلعُ إلى كفيه اللتين أخفيتا شيئاً حسبتُه قميصاً. وحينما هززتُ له رأسي موافقاً على الرهان رغبةً مني لاستعادة ذكرى غابرة، جلسَ على الأرض ونشرَ خريطةَ العالم أمامه، وقبل أنْ ينطقَ بسرّ اللعبة، أوقفتُه بحركةٍ من يدي فتطلعَ إليّ مستفسراً عن سبب انفعالي المفاجئ فأشحتُ بوجهي عنه بكبرياء وتجاهل. حاولَ أنْ يُغريني بلعبتهِ إلا أني رفضتُ بإصرار، وحينما يئسَ من إغرائي قال كأنه يتشبثُ بآخرِ خيطٍ للأمل، وربما كان يحاولُ أنْ يدافعَ عن نفسه بوجهِ ما حسبه ترفعاً مني، فجاء كلامه لا يخلو من السخرية :

"ولكنكَ ما زلتَ سجيناً!"

فقلتُ بعناد:

"ربما، ولكن لي ألعابي الخاصة."

ارتفعتْ ضحكته ولاحتْ على وجههِ علاماتُ خبثٍ وعداء. تقدم نحوي ناشراً ذراعيه، كأنه يهمّ باقتناصِ طائرٍ محاصرٍ في زاوية. تملصتُ من بين قبضتيه، وهربتُ، هربتُ، وحينما أدركتُ بأني ابتعدتُ عنه بمسافة تمنعه من اللحاق بي، توقفتُ. التفتُ إليه فوجدتُه واقفاً ويشيرُ إليّ بسخريةٍ ويضحك. شعرتُ بغيظٍ، جعلني أفكرُ بالعودة إليه لأنشبَ أظافري في عينيه، وحينما اقتربتُ منه توقفَ عن الضحك، وبوجهٍ تلوحُ عليه علاماتُ الجدّ سألني:

"ألستَ القائلَ: قد تسكنُ الديدانُ حلماً في عيونِ الغرباء؟"

"بلى."

أجبتُ دونما وعي ودون أنْ يخطرَ في ذهني تلك اللحظة كيف أنه عرفَ بأني قائلُ هذا المقطع الذي استيقظَ معي اليومَ ورحتُ أردده مع نفسي كمفتتحٍ لقصيدةٍ جديدة، فارتفعتْ ضحكته مرةً أخرى. هجمتُ عليه وخلتُني قد اقتنصتُه، غير أنه تسربَ من بين أصابعي مثل حلمٍ عابر، أو ربما وهم من أوهامي الكثيرة.

 

فايله / دنمارك