يرى الناقد والباحث المصري أن غياب الوعي الثقافي، وضعف الضمير المعرفي، يكمن وراء فشل التنوير الثقافي في مجتمع يعيش بمنأى عن تاريخه، لذلك فكثير من المصريين لا يعرفون تاريخ مدينتهم. لينتقل بعد ذلك إلى الذاكرة التاريخية، فيسرد حكايا من حوليات المدينة وأخبار دروبها.

التَّارِيْخُ الإسْلامِيُّ.. فِي انْتِظَارِ كُونشِرتُو غَائِبٍ

بليغ حمدي إسماعيل

في حوار إذاعي مع الإذاعي المتميز الأستاذ حازم عمر بالإذاعة التعليمية تجولنا معا في أسباب فشل التنوير بالمجتمع العربي على عمومه والمجتمع المصري على وجه الاختصاص، وطفقنا سويا نرصد معالم هذا الفشل حتى انتهينا معا إلى أن غياب الوعي الثقافي وضعف الضمير المعرفي والمهني هما أبرز أسباب فشل إحداث التنوير الثقافي في واقع راهن أصبح مزدحما بالإحداثيات التي تؤدي حتما إلى الفوضى والإرهاب. والمأساة التي تعاني منها تلك المجتمعات أنها بمنأى عن تاريخها وعلى علاقة مضطربة وربما تبدو عدائية بحكايا التاريخ التي في أمم أخرى تعد مكونا أصيلاً من كنه المواطن.

ولطالما أكد غيري على ضرورة إعادة قراءة التاريخ من أجل استبصار الواقع الراهن واستشراف المستقبل الآتي من خلال تأويل الحدث وإدراك تفاصيله والوعي بمشهد سالف لتخطي عقبات الحاضر المشهود، لكن للأسف هناك توجه مقصود من الشباب شارك في صنعه نظام مبارك التعليمي والثقافي لاسيما في مصر حينما سعي بقصد أو بغير إدراك إلى تجريف العقول مما جعل طلابنا وأبناؤنا في حالة عزوف مستدام عن القراءة والمعرفة والنتيجة الحتمية لهذا السير عكس الاتجاه ستكون قاسية ساعة ما نجد أنفسنا بأيدي شباب لا يدركون ماذا كان بالأمس البعيد ولا يفطنون إلى واقعهم ومن ثم فالمستقبل بالنسبة لهم مثل جائزة الصدفة تتحقق بغير جهد أو كلل أو تخطيط.

واستناداً إلى المقدمة المنصرمة فإننا نجد الكثير من ساكني مصر المحروسة يتجولون بالمنطقة الجغرافية المعروفة شعبيا بمصر القديمة تحديدا بشارع المعز دونما أدنى معرفة بالشخص وتاريخه سوى أنه فاتح مصر وتحويلها إلى دولة خلافة فاطمية، وهذا أمر تستحق عليه وزارتا التربية والتعليم والثقافة الحساب العسير والشديد ومن ثم العقاب الرادع بغير رحمة لأنهما أغفلتا حقائق بسيطة عن شخص استطاع بحكامه وولاته على مصر أن يغيروا من سمتها وطبائعها وأحوالها ونظم معيشتها، لكننا بحق نعيش أزمة في التعليم والثقافة والحقيقة أننا لا نواجهها بالقدر الذي نواجه به الإرهاب رغم أن الإرهاب نتيجة منطقية لفقر التعليم وترهله، وغياب الثقافة وترديها.

وسطور كثيرة يمكن خطها عن الخليفة المعز وهو الدور الذي ينبغي على وزارتي التربية والتعليم والثقافة القيام به من أجل التنوير وتفعل الثقافة وتثويرها أيضا، لكن الحضور الثقافي يفي بمشهد غير مرض عن الدور الثقافي التنويري الذي أصبح واجبا وفرض عين على التربية والتعليم في ظل واقع هيمنت عليه أخبار لاعبي الكرة الذين لن يصلوا إلى نهائيات كأس العالم نتيجة لخيبة رياضية محلية، أو أسعار حفلات المطربين الذين صار بعضهم وبعضهن نماذج صارخة للإسفاف والانحطاط القيمي والتردي الأخلاقي سواء على مستوى الكلمة والتأليف الموسيقى إن أدرك بعضهم هذا المصطلح وأخيرا الصوت الذي تم التعويض عنه إما بالعري والتعرية والملابس الساخنة والرقصات المتشنجة.

والمعز هو الخليفة الفاطمي الرابع كان اسمه الكامل ولقبه الإمام أبا تميم معد المعز لدين الله، وهو خليفة من طراز فريد كما سيأتي الحديث عن الحاكم بأمر الله أحد الخلفاء أصحاب الطراز الفريد الأكثر غرابة، والأول لا يمكن الاختلاف على براعته ويراعته السياسية في الإدارة والحكم وتسيير أحوال البلاد والعباد، وكما يصفه أحد أساطين التأريخ لمصر المحروسة المستشرق (ستانلي لين بول) في كتابه الماتع (تاريخ مصر في العصور الوسطى) بأنه قادر على الإلمام بشروط النجاح وعلى استغلال كل نقطة لصالحه.

والمعز لدين الله الفاطمي اختلف عن كل الذين قاموا بفتح مصر منذ الصحابي الجليل عمرو بن العاص (رضي الله عنه وغفر له) وحتى الفتح العثماني على يد سليم الأول بأنه كان يعرف قدر مصر التاريخي والجغرافي والأيديولوجي أيضا؛ لأنه ذو ثقافة رفيعة عالية، امتهر الثقافة والمعرفة، ولقد أتقن اللغة اليونانية والبربرية وجميع اللهجات السودانية المنتشرة آنذاك، ويروى عنه أنه أتقن أيضا اللغة السلافية ليتحدث بها مع عبيده بغير وسطاء، وتذكر كتب التاريخ الإسلامي التي رصدت فترة حكمه من مثل كتاب سيرة المؤيد للشيرازي وكتاب دولة المماليك الأولى في مصر والشام لأحمد العبادي أن المعز كان يبكي سامعيه بفصاحته وهو نموذج للعدل والنبل.

وعود على ذكر المعز لدين الله الذي كان فتح مصر يمثل حلما استثنائيا له قد تحقق على يد قائده المخلص جوهر الصقلي الروماني وهو العبد المملوك من الامبراطورية البيزنطية. والشاهد يؤكد أن امتلاك المغرب لم يكن هدفا لدى المعز بل إن طموحاته توافقت مع مصر وقدرها ومكانتها، ولأن التاريخ دوما ينبئ بخفايا الماضي فمدينة القاهرة التي تم تأسيسها وتدشينها في عهد المعز جاءت تسميتها بعلة وحجة، فلقد كان كوكب القاهر في الطالع فسميت القاهرة بهذا الاسم، وقيل إن المريخ كان في الطالع وهو قاهر الفلك فسميت القاهرة وهو ما جاء في كتاب النجوم الزاهرة، وكتاب المقريزي (اتعاظ الحنفا). وسرعان ما فكر المعز في تحويل شقاء حياة المصريين إلى حياة كريمة فأرسل سفن القمح لإنقاذهم من محنة المجاعة وسعى إلى حكم البلاد بالعدل والحكمة لضمان السلام والنظام.

هو المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله، الشخصية الفريدة والعجيبة في تاريخ مصر وهو الابن الوحيد لأب حكيم وحاكم أمهر، أمه نصرانية تولى حكم مصر وهو ابن أحد عشر عاما حينما سقط العزيز والده ميتا في حمامه بمدينة بلبيس، وحينئذ أحضره الأمير (برجوان) وكان خصيا صقليا نشأ في بلاط العزيز واستبد بالسلطة منذ تولي الحاكم بأمر الله حتى قتل، من أعلى شجرة جميز أثناء لعبه ولهوه. وهذا البرجوان الذي تحمل اسمه حارة شهيرة بالقاهرة الفاطمية كان غارقا في الملذات الحسية وأسقطته السلطة واللذة والمجون وربما الثراء المفاجئ، وكانت نهايته على يد الحاكم الخليفة الصغير الذي بدأ عهده الفعلي لممارسة السلطة باغتياله.

وإذا أردنا أن نلقي ظلالا قصيرة على حكاية الحاكم بأمر الله العجيبة فإننا نقف طوعا مرة وكرها مرات كثيرة على ملامح رئيسة أبان فترة عهده العجيب أيضا، فهذا الرجل كما يسرد قصته ستانلي لين في كتابه كانت له طريقة مروعة في التسلل بين رعاياه الأمر الذي جعل معلمه يطلق عليه لقب (سحلية)، وكان على موعد من الغرام مع الليل والظلمة، الشأن الذي أمر مجلسه الرسمي أن ينعقد في المساء وبأمره تحول الليل إلى نهار فكانت الصنائع والحرف وكافة الوظائف تسير بالليل فقط دونما النهار ولربما تفسيرنا البسيط يشير إلى أنه رجل يخاف سطوة النهار بوضوحه وسطوعه.

والحاكم بأمر الله الفاطمي يمتلك عقدة خفية صوب النساء، هذه العقدة تمثلت في نهي المرأة عن الخروج إلى الشارع مطلقا وفرض قوانين وقيودا رادعة على النساء في عصره فقد عمد إلى حظر ظهور النساء في النوافذ، ومنعهن من ارتياد أسطح منازلهن أيضا، وبلغ به حد الحظر إلى منع الأساكفة (صناع الأحذية) من صناعة أحذية النساء.

وبرغم هذه الكراهية غير المبررة صوب النساء لجأ الحاكم بأمر الله الفاطمي إلى إعداد وتجهيز شرطة نسائية مشتملة على جملة من الجاسوسيات داخل تجمعات الحريم لجلب الأخبار والنوادر والحكايات. ومن الحكايا الطريفة في عهد الحاكم أن المصريين وضعوا مجسما ورقيا لامرأة بشكل ساخر في الطريق، الأمر الذي قابله الحاكم بنوع من القوة والتصرف الغاضب فقام بتمزيق المجسم.

وحشية الحاكم بأمر الله وبطشه المستدام وعدم رأفته بالصغير والكبير، واضطراب معاملته وتسامحه مع اليهود والنصارى تجاوزت إلى مساحات أخرى في حياته يمكن توصيفها بالاضطراب النفسي والعقد الكامنة، هذا الاضطراب رغم معاناة اللفظة كان مدعاة للسخرية والتندر حتى وقتنا الراهن، فالحاكم أولا منع الجعة وصادر الخمور وأتلف أشجار الكروم وهي أمور أسعدت المصريين المتدينين، لكنه في الوقت نفسه أحدث أمورا أخرى عجيبة ومدهشة. فلم يسمح بأكل الملوخية التي كان اسمها في الأصل (ملوكية) أي طعام لا يأكله إلا الملوك، وحظر لعب الشطرنج نهائيا وبالتالي تم إحراق كل رقعة أعدت للشطرنج، وأمر بقتل الكلاب أينما وجدت، وبلغ العجب بتصرفاته المضطربة أنه لم يسمح بذبح الماشية السالمة من العيب إللا في مناسبة واحدة فقط، عيد الأضحى.

* * *

(أكاديمي مصري، كلية التربية، جامعة المنيا)