ينشد الكاتب فاصلاً يأوي إليه، بعيداً عن شظف المعيش اليومي، وواقع الفساد، وراهن آلة الحرب الطاحنة. ومن مأواه يتابع بطولة العالم لألعاب القوى، ويستبين أن وراء التنظيم والدقة والإعجاز البدني الذي حققه الرياضييون، أوطان تمارس "التعدد ضمن الوحدة"، وتعلم أبناءها أصول الإجادة، وأنه لا جائزة إلا بعرق.

فاصل ونعود

عيد اسطفانوس

حتى ولو كان الفاصل قصيرا دعونا نخرج من هذا النفق المظلم اللعين، هذا الذي يستطيل كل يوم ولا يبدو في الافق أن نهاية له، وربما لا يكون له بداية فهو متاهة أغلقت على هذه الشعوب منذ قرون ولم ولن يستطبع أحد أن يخرج منها الى نور الدنيا.

فلندع هؤلاء السائرون في دائرة طقوسهم السرمدية. مقدمين كل يوم آلاف الذبائح البشرية لارضاء اله الحرب الذي يعبدوه وينالون رضاه بنوافير الدماء المنبثقة على مدار الساعة.

دعونا نخرج لفاصل بعيدا عن تلك السحن المكفهرة والوجوه الكئيبة وغابات اللحى الكثة التي يعشش فيها فطريات من القرن السادس.

دعونا نبتعد قليلا عن هذه المشاهد المؤلمة للجسد والنفس والروح، مشاهد أرواح هائمة ونفوس مذعورة وأجساد ملقاه على الشواطئ تنهشها طيور البحر، وأخرى مهانة مكومة على الأرصفة تبحث عن ملجأ أو مأوى، بينما ملوكهم وزعماؤهم ومفتوهم يرفلون في الابيض الفضفاض قاعدون على الارائك يداعبون ما ملكت أيمانهم.

دعونا نخرج من ظلمة هذه القبور اللعينة ورائحة البارود ورائحة الموت النتنة التي ملأت رئاتنا وأزكمت أنوفنا وأحبطت نفوسنا، نخرج لفاصل لنشتم نسيم الحياه العليل، وتستشف أرواحنا قبس من رائحة النفخة الالهية التي خص بها الخالق الانسان، خصه بها وحده دون سائر المخلوقات، نعم نفخة الحياه والحب والعدل والتسامح والجمال وكل القيم والمقاصد الانسانية الجميلة النبيلة.

دعونا نخرج من دائرة السرقة والارتشاء والكذب والدلاسة والتقية التي حولت الناس في تلك المجتمعات الى أشباه بشر، سحن مشوهة وضمائر متبلدة وأحاسيس متجمدة وعقول مصمته وعيون لا تعرف سوى نظرات الشر والشهوة والشبق.

لكل هذه الاسباب وغيرها كان لزاما أن نستريح ولو قليلا لنذهب الى عوالم يبدو أصحابها وكأنهم سابحون في مدارات أخرى من الكوكب، بشر صنعتهم وحرفتهم هي الحياه وهدفهم هو الانسان كيف يعيش ويستمتع وكيف يتحدى الطبيعة وكيف يستثمر كل الهبات الالهية التي منحه الخالق اياها ليصنع الاعجاز كل يوم بل كل ساعة بل كل ثانية.

نعود الى الفاصل الذي وعدناكم به ونذهب هناك في أقصى الشرق، حيث أفاق الناس مبكرا من هذة الدوائر الجهنمية دوائر الغرق في الماضي واتجهوا الى المستقبل وانطلقوا بقوة وعبروا كل الحواجز، انهم سلالة ذوي العيون الضيقة والافق الواسع حيث نظموا فعاليات بطولة العالم لالعاب القوى، ما هذا النظام وما هذه الدقة وما هذا الالتزام وما هذه الوجوه المبتسمة، ثم ما هذا الاعجاز الذي يحققه، البشر شباب من كل جنس ودين ولون وعرق جاءوا مستعدون لخوض غمار منافسات شريفة قفزا ووثبا وعدوا ورميا، استعدوا لها بالجد والمثابرة والعلم والتدريب، وحصدوا الميداليات ورفعوا رايات بلادهم وعزفت الموسيقى أناشيد أوطانهم، ورأينا كيف يعدو شباب بسرعة السيارة، وكيف تقفز آنسة جميلة بالزانة لعلو طابقين، وكيف وكيف ويستطيل التساؤل وتستطيل الاجابة، إن أوطانهم رعتهم وعلمتهم أصول الإجادة وأنه لا جائزة إلا بعرق، ولا فوز إلا بإصرار وعزيمة، كما تعلموا أن حسم السباق لن يكون إلا في المضمار ونتيجة حاصل جهد اللآعب والمدرب والطبيب وإخصائي العلاج الطبيعي وإخصائي التغذية، لا تواكل ولا اقحام للغيبيات ولا نصر بسبب عقيدة فالنصر والفوز والميدالية والمجد لمن أتقن وثابر وبذل واتبع العلم وهو القانون الالهي الازلي.

وعدا بعض الفتات الساقط من موائد الفائزين بالذهب والفضة خرجت المجتمعات المنكوبة بخفي حنين، وهي النتيجة العادلة لمجتمعات غارقة في الصراعات والدم والكراهية، غارقة في التقاهات والسفاهات، غارقة في بحار التمايز العنصري الديني والعرقي والمذهبي.

نأسف لقصر الفاصل فشرائط الاخبار والصور على الميديا تمطرنا بمشاهد الاذلال لبشر كانوا بالامس القريب أعزة في ديارهم، لكن قدر هذه الامة المنكوبة أن قيض لها هذه العصابات من المرتزقة يتوارثوهم باسم الدين وباسم القبيلة وباسم العرق، ويفر الناس مذعورون علهم ينجون بحياتهم من هذا الجحيم، ويركبون الاهوال فليس أمامهم طريق للنجاه، فالمتعصبون الكارهون للحياه وراؤهم والبحر أمامهم فاختاروا البحر لعله يكون رحيما بهم. وحينا يكون كذلك ويقذف بهم الى المجهول يتوسلون مأوى، وأحيانا يغدر بهم ويبتلعهم في قيعانه.

هذه هي الصورة بعد انتهاء الفاصل، وبالطبع سنواصل الى أن نصل الى المنتهى، الى آخر صورة للعمران والى آخر مظهر من مظاهر الحياه وعود على بدء صحراء جرداء ينعق فيها البوم.