يرى الناقد أن الإبداع في رواية عبد المجيد يقوم على سردية تفاصيل المعيش اليومي، إلى الحد الذي تتبدى كما الحياة بشحمها ولحمها، الأمر الذي يجعل المتلقي يتماهى مع المسرود، أو يعايش شخصياته يعايشها. كما يستبين الكيفية التي تنتهي الرواية إليها، لينتهي التجوال مع الشخصيات وتعقيداتها.

«النوم مع الغرباء» والزخم الإبداعي

في رواية بهاء عبد المجيد

محـسـن صـالح

في رواية "النوم مع الغرباء" يتجدد الزخم الإبداعي للدكتور المبدع بهاء عبد المجيد، فنجد ظواهر عدة تتلبد في سماء هذه الرواية الجميلة الجاذبة، ظواهر تدفعك عزيزي القارئ إلى الغوص في عالم هذا الروائي النجم الذي حلق في سماء التجديد في الكتابة واللفتة الذكية المحنكة كما سيترآى لنا في تضاعيف هذا المقال. إن كاتبنا بحق يقد من طينة الواقع المصري المعاصر تماثيلا ونماذجا إبداعية تجعلك تحلق في سماء الخلق والفكر واللغة الموحية والتنوع في الأسلوب داخل مفاصل هذا العمل الجاذب. إنك هنا بالقرب من النار المقدسة تكاد تغترف منها قبسا من الجمال والروعة.

أقول بأن هناك ظواهرا تدفعك إلى الغوص في عالم هذا المبدع الخلاق دكتور بهاء عبد المجيد، بل وتتلمس طريقا داخل هذه التحفة الفنية "النوم مع الغرباء"، هناك مستويات السرد ورواية الأحداث والتي أرى أنها عمدة التجديد داخل هذا العمل الروائي التحفة أو ما يطلقون علية بالإنجليزية Masterpiece، وهناك التعدد في الشخصيات النسائية والتنوع فيهن من بلدان مختلفة وبأشكال مختلفة، وكأننا إزاء حواء التي تبعث الروح في رجال هذا العمل الأدبي الفخم، ففي واقع الإنترنت والوسائط والمعلوماتية والويب، لا يمكن إلا أن يكون ذلك التعدد في الشخصيات والزخم على كل المستويات الاجتماعية والأصعدة المحلية والدولية. هذا وجاءت عملية تضافر هذه الشخصيات في تواشج جميل لا تحس حياله بنبو في الذوق أو ثقل في التعبير أو تراكم في الوصف، بل الانتقالات السهلة الممتنعة كما يقولون، إنها بولوفونية –كما يقول الموسيقيون- تنوعت عناصرها واتحدت فكانت نورا وقبسا يتجدد. إن "النوم مع الغرباء" تحتاج إلى قراءة تلو القراءة وفي كل قراءة تخرج بالجديد والجميل والجليل، إنها بحق إبداع يعطيك المزيد.

مع بطلي الرواية "نادر" الراوي و"باسم" الفاعل والبطل الإيجابي البرجماتي، شخصيتان كجناحي الطائر تحلق بهما الرواية في سماء وعالم الفن، بهما يكتمل المعمار الروائي وبحكاياتهما تتنشر الأحداث وتتفاعل ذراتها ولا نجد أنفسنا إلا في مركب الأحداث والحكي تارة مع "نادر" وأخرى مع "باسم" وتارة معهما معا لنصل في كل مرحلة ولقطة إلى رسم الصورة الكاملة عن هذا العالم الشيق الذي خطته يد الكاتب والمتخصص في الأدب الإنجليزي. لقطات محكمات تتكامل لتخرج لنا "النوم مع الغرباء" في عالم تراه وتعيد قراءته وتختلف حوله ولكنك لا تفارقه.

يتمثل المرتكز الأول في هذه الرواية في إشكالية القص أو الحكي، فنجد في مفتتح الرواية "بوسطن في منتصف التسعينات" أنفسنا حيال عهد قريب، حيث الراوي هنا "نادر" المتكلم وهو يحكي عن ذهابه إلى"باسم" في الولايات المتحدة عائدا من فرمونت بعد عام كامل من الدراسة، يحكي "نادر" عن أحوال النساء، ونجد هناك التنوع في مستويات الحكي حيث هناك المتكلم الذي ينقلب فجأة إلى مشارك في الأحداث وتلك هي جدة هذه الرواية الرائعة التي توترت فيها الأحداث فتوتر القالب، إنك حقا لرائع دكتور بهاء وكأني أسمع كلام أحد النقاد وهو يدلل على أن مضامين العمل الأدبي تملي عليه شكله وقالبه، يقول "نادر" نازلا إلى معترك الأحداث "انتهت إجازتي واصطحبني باسم في السيارة.."(ص15).

-1-

أضيف أن التنوع في أسلوب الحكي واللعب على مستوياته المختلفة من معلق على الأحداث إلى راوي معايش لها، إلى متكلم يخاطب راوي الرواية، "نادر" نفسه في كثير من المواقف، كل هذا يجعلنا نرى الأحداث كأنها شريط سينمائي أمامنا ويجعلنا نقلق كقلق "نادر" و"باسم" ونفرح لفرحهما ونحزن لحزنهما.

في مفتتح الرواية نلمح تأثير العنصر النسائي على "باسم" ونجد في هذا المفتتح العديد من النساء "شوكي" اليابانية، ثم "أولجا" الروسية. الغريب في الأمر هو أننا نجد أن النوم مع الغرباء ينبثق من هذه البداية حيث نجد "نادر" ينام هو و"باسم" إلى جوار "شوكي" ثم بعد ذلك إلى جوار "أولجا"، نوما عاديا. وسنجد هذا في مفتتح الرواية، وسنجد الغرباء يأتي ذكرهم في خاتمة الرواية ودورهم في(ص103). وأن تتعرف على الغرباء، لأنهم قادرون على مساعدتك على فعل ذلك، لأنهم يدهشونك بسذاجة حكايتهم وغرابتهم ومحبتهم الشديدة للحياة، وأن الدنيا هي الجنة التي خلقوا من أجلها ويعملون جاهدين على خلقها، لذلك ترى حبهم للحياة، ورغبتهم الشديدة في الاستمتاع بكل لحظة وأن اليوم هو التاريخ، وأن المستقبل وديعة لفرحة اللحظة المعاشة تلك هي فلسفة "باسم" في الحياة يلخصها لـ"نادر" في كلمة هي رسالة الرواية الحقة ومحور تردداتها وأصدائها.

ولا غرابة بأننا سنجد ذلك في عرض الجزء الأخير من الرواية حيث الزخم في الأحداث وكأننا حيال سيمفونية تتعالى فيها الآلآت الموسيقية فجأة وبكثافة صارخة وعالية ومدوية ومتحاورة حتى نصل بذلك إلى قمة الارتقاء قبل سقوط ستارة الخاتمة على أحداث الرواية.

"باسم" يعود إلى القاهرة بعد أن زجت به زوجته "جاكي" في السجن في هيلز كونتي، لن نعرف تفاصيل هذه المرحلة إلا في الفصل التالي، حيث مذكرات "باسم" التي يعطيها لـ"نادر"، ويتم دفع الكفالة لخروج "باسم" من السجن وترحيله إلى مصر. يكشف لنا الكاتب في مشهد رائع مرور السيارة التي تقل "باسم" و"نادر" من ميدان العتبة ونجد في الوصف التالي نفسية "باسم" ولكن بشكل غير مباشر، تلكم بحق لفتة رائعة من الكاتب حيث يقول "كان ميدان العتبة مضاء بأنوار باهتة، ومبنى المطافئ قد أعيد طلاؤه بطريقة لا تمت لفن الترميم بصلة، وكان قسم البوليس غاية في السوء، والآلآف من الشباب يسرحون ببضائعهم في ميدان العتبة"(الرواية ص22).

لا يريد الكاتب لنا أن نهنأ فالمذكرات التي تركها "باسم" لـ"نادر" يتساقط بعضها على الماء بأرض الحجرة، الماء الذي سكبته الخادمة بأمر من الزوجة، هنا تشتعل مرارة نفسية داخل "نادر" حيال زوجته ولا يقولها الكاتب بل نشمها كما يقول المثل الإنجليزي يجد "نادر" أن بعض الأوراق "طهرها الماء ومحاها"، "فحاولت أن تكمل –الراوي هنا يخاطب باسم- ما نقص من الحقيقة ببعض الخيال، وهذا ما قصه "باسم" في هذه الصفحات المهترئة"(ص24). تلكم كانت خاتمة لحظة ما قبل سرد مذكرات "باسم" والتي سنعايشها في حلوها ومرها، بخفيفها وثقيلها حتى نلقى أنفسنا وقد ملئت حتى الثمالة بما حدث لـ"باسم".

في الجزء الثالث، أو لنقل الترنيمة الثالثة من هذه الرائعة "النوم مع الغرباء"، وتحت عنوان "نيوهمبشير 1998"، نجد سرد للمذكرات التي كتبها "باسم" عن حياته في السجن ولابد أن يستوقفنا هنا التقسيم (تقدمة ص25-29، والشتاء ص30-38، والربيع ص39-40). هنا نجد أن الشتاء طال وحق له أن يطول فالحياة في السجن والربيع قصير.

-2-

لقد أجاد كاتبنا في هذه الحلقات الثلاثة التي عكست لنا نكبة "باسم" في الولايات المتجدة الأمريكية وسجنه والإفراج عنه بكفالة وعودته إلى مصر ترحيلا. في بداية المذكرات نجد الكلام عن التهم الموجهه إلى "باسم" ومنها إيواء جاسوسة وهي "أولجا"، ومن هذه النقطة تعرج الرواية على دور والد "باسم" في المفاوضات مع إسرائيل وموضوع القدس وغير ذلك من الأسرار. "أولجا" وضعت يديها على هذه المستندات وتركت رسالة لـ"باسم" الذي كان غارقا في جسدها تقول له فيه "إن الوثائق مهمة جدا، لأنها ستساعد روسيا على التعرف على الخطط السرية لإسرائيل وأمريكا في الشرق الأوسط، وبالتالي سيتسني لروسيا أن تشارك في فهم الخريطة المستقبلية ليس للشرق الأوسط بل للعالم"(ص29). هنا تأخذ الرواية لمسة سياسية واقعية تجعلنا نلتفت إلى حميا الصراع في العالم وألعاب المخابرات وخططهم.

ثم يأتي الشتاء والويل لمن يدركه الشتاء وحاله كحال "باسم "في زنزانة باردة مع زنجي مخبول "مادوا" يدعي أن المسيح كان زنجيا. وحاول باسم الانتحار "محاولة انتحاري بأحد الأكياس بوضعها فوق رأسي ووجهي خلاصا من الحياة"(ص32). يتأقلم بعدها مع حياة السجن لدرجة أن مباراة الشطرنج التي كان يلعبها بثت من السجن للدلالة على الرواية متسامحة مع السجناء والغرباء. لاحظ هنا كلمة "الغرباء" المتناثرة في أرجاء الرواية كأنها قطع من التبر تضيء النص وتجعله يشع بالمعني المقصود دون تصريح مباشر.

على هامش حياة الزنزانة نرى طبيب الزنزانة والذي تقهره زوجته الأمريكية ولا تريد له العودة إلى فلسطين إلى دياره، نصحه الطبيب حتى يخرج من علته أن يكتب إلى أمه". فأهل مصر كلهم شهامة وجدعان والعمود الفقري للامة العربية"(ص36).

الجميل في فصل الشتاء هذا هي نهايته والتي نرى فيها أن التدين أصيل في المصريين وأنه مهما ارتكب الشخص فنجد لديه هذا الإحساس بالتدين والخوف من العقاب". والحقيقة التي يجب أن أذكرها أن كل امرأة مارست معها الحب كانت زوجتي فقد كنت أعترف قبل معاشرتي لها أنها زوجتي وأن هذا بعيد جدا عن الزنا، وكنت أصر على أن أكتب عقدا عرفيا أعترف فيه أمام الله بزواجي بها وقبولها لي زوجا، لا تعتقد أني من الزناة، ولكنني رجل يمكن أن تقول شهواني، وضع الله في حب النساء، تماما مثلما يحب "نادر" الكتب والعلم والسفر والحديث مع الناس، لكل منا شهوات متطرفة"(ص38).

وتنتهي المذكرات بالربيع والذي نرى فيه قصر الفصل، وكأن الكاتب يقول لنا أن اللحظات الجميلة قصيرة ونجد الكاتب يخرج من الزنزانة مع "تسليم مقتنيات.. ضعف شديد.. شريط كاسيت، دفتر يوميات، حبوب مهدئة.. شراب للكحة، تغيير ملابس، رجال أمن.. طائرة، طنين فظيع، طائرة كأنها ستهبط في المحيط، ليل ونهار، ضعف شديد في الإبصار.. حرارة شديدة –زحام شديد"(ص40).

عاد "باسم" إلى مصر وبدأت مرحلة أخرى من المراحل مع النساء المصريات والغرباء.

-3-

انتهت مذكرات "باسم" وحانت عودته إلى القاهرة، وحيث أنه لا يشفى من النساء ولا يتركهن، وتواجهنا في بداية "القاهرة2000" عبارة أخرى عن الغرباء هذا نصها: "وستراه يرتدي ملابس تشبه ملابس الأجانب في موضتها وبساطتها، وسترى وجهه مليحا مثل الغرباء، أيضا ويمشي مشيتهم بقوة وغرور ودهشة، ويبتسم ابتسامة الثقة والخبرة"(ص41). إن الغرباء هنا عند الكاتب المأوى والحماية وقد يكون لهذا تفسير في النظرة السائدة إلى الغرب بأنه هو الأعلى والأقوى، طالما أنه آخذ بدفة مركب الحضارة والرقي الآن. لعلها هذه هي النظرة ولعل هذا هو اتجاه أصيل في "باسم" الذي ذهب إلى أمريكا مأخوذا بهذه الحضارة وعاد مأخوذا بها رغم أنها طردته.

في "القاهرة 2000" سنجد باسم يقابل "جودي" اليهودية الكندية وسنجد إيراد لأثارها عليه في قراءته لروايات من الأدب الإنجليزي لستيفن كنج وجون جريشم وتشارلز ديكنز وجان أستن ثم لعلا ءالأسواني وقد نلمح هنا تأثير الكاتب ودراسته للأدب الإنجليزي على تشكيلة الروايات الأدبية سابقة الذكر، تأتي "جودي" وينبض المكان بالحياة، ثم ينطلقان "جودي" و"باسم" للعمل في إحدى الفنادق بالفيوم. تمر الأمور بسلام حتى تأتي أمها لتأخذها، هنا نجد "باسم" يصرخ حيث كان يرى في "جودي" السند"، فتذهب إليه فتجده منهارا يمسك بحد الموس ليقع شريانه فتهدأ من روعه وتمسح دموعه، وتحاول أن تجعله ينهض من الفراش وتسمع حكايته من بدايتها. ويقول لك أنها الوحيدة التي جعلت لحياته معني، وأنها كانت حنونة وطيبة وأن الحياة خاوية من كل معنى منذ الدقائق التي غادرت فيها هذا المكان"(ص47). الكلام هنا من الراوي لـ"نادر" الذي يشرح لـ"باسم" بأن ما حدث كان متوقعا وأنها كانت تخطط أي جودي لهذا الأمر منذ شراء تذكرة الطائرة وتركها على الطاولة.

تركت "جودي" "باسم" بناء على طلب العائلة التي رأت أنها صغيرة ولابد أن تتركه، ولخصت في عبارة موجزة علاقتها بباسم حين قالت "لقد شبع الجسد وآن للروح أن تشبع فكان لابد من الرحيل"(ص50).

تمر الأيام وتحل محلها أخريات وسنجد هناك المصرية "نادية" ومحاولتها توريط "باسم" في قصة حملها. تنتهي الحكاية رغم ما نجد غيها من محاولة إغواء والد "باسم" لـ"نادية". ثم نجد هذا الجزء ينتهي في هذه النقطة إلى "وترى باسم دائما يمشي مجددا مع أحد الغرباء وتتمنى أن ترى نادية فلا يحالفك الحظ أبدا"(ص57)، ويكتمل هذا الفصل في آخر ثلاث صفحات فيه بالحديث عن "طلعت" والخراتية وعن شذوذه وسنجد هذا الجزء الضخم من الرواية ينتهي بهذه العبارة عن "طلعت" الذي نرى أشباهه في المجتمع المصري في كل مكان، من الأشخاص اللزجين "سيراك -هنا كلام الراوي لـ"نادر" الذي صادقه الراوي منذ البداية– طلعت تمشي مع أصدقائك من الجامعة الأمريكية فلا يتحدث إليك ولايضايقك، ولن يتحرش بالإجانب الذين يمشون معك في ميدان طلعت حرب، وسيعرف تماما قدرتك، ولا يضايقك كما يفعل الهواة، وستستغرب لضخامته، وتتعجب كيف يحمل رأسه المتضخم فوق عنقه القصير، ولكن ستحب خفته وحركته"(ص59).

-4-

في نصف الرواية الثاني "سيرة ذاتية" سنجد أن ظاهرها الحديث عن "باسم" ولكننا سنفاجئ أن "نادر" يتكلم عن أزمته وهنا سنجد تأثيرات الأزمات العالمية مثال 11 سبتمبر وغيرها. نرى هنا "نادر" أكثر من "باسم" في هذا الجزء الذي يمتد على صفحات من 60 إلى 104 أي تقريبا نصف العمل الروائي وسنجد أن محطات التحرك داخل هذا النصف الثاني هي النساء والفتيات اللائي يأخذن بأيدي القارئ من هنا إلى هناك حتى زوجة "نادر" هي الأخرى لها نصيب.

في بداية الجزء المسمى "سيرة ذاتية"، وفي الصفحة الثانية نرى لماذا شب "باسم" كما هو عليه الآن، إنها البذور الأولى التي شكلته ونرى فيها "كان نداء جسده وشهوته أقوى من أية معان مثالية أو بريئة لصبي في مثل سنه، حتى أدمن مشاهدة الأفلام الداعرة ومضاجعة الفتيات اللاتي تحررن من أغلال وقيود الدين والمجتمع"(ص61) هنا نجد بداية تعرفه إلى "جاكي" الأمريكية والتي سيسافر معها ويحدث في أمريكا معها مايحدث.

نجد لفتة ذكية من المؤلف في الصفحة 62 وتحديدا النصف السفلي منها حيث يؤثر "أسامة" ابن عمة "باسم" عليه ويجعله يعود من إحدى رحلات الأسكندرية ملتحيا ومقصرا لجلبابه، مما يجعل والد باسم يقسم بالطلاق على أم "باسم" ألا يدخل"أسامة" منزلهم مطلقا.

لا ننفك نجد في "باسم" الإنسان الذي يرق قلبه لفراق والدته "ويبكي بجوار قبرها غير مكترث بأصوات المعذبين تحت الثري، وأرواح الأطفال التي تحوم حول المقابر تجمع الهدايا، ولا بالجن الذي يبحث عن جسد ليسكنه ويقترن به"(ص64) كلمات قصيرات مرعبات ومزلزلات.

"باسم" يقول لـ"نادر" "إنه غير قادر على العيش بدون امرأة، وإن من دخل متاهة المرأة لا يستطيع الخروج منها فهي الروح، وأن النساء المصريات لم يعدن يصلحن له، فهن أكثر مادية من المرأة الغربية، فهي تريد بيتا وأولادا وسلطة، والحب والرجل هما وسيلتان للحصول على ما تريد، وأنه أصبح لا يفهم العقلية المصرية المستغلة"(ص65).

حادث واحد ألا وهو انفجار البرجيين العالميين بنيويورك، "باسم" يقول عنه "العناية الإلهية قد أخذت له بالثأر من الذين أهانوه وقهروه بدون ذنب، وهو الذي ذهب إليهم يحمل المحبة البريئة، والافتتان المبهور لشعب سيطر على العالم، وصعد القمر"(ص65)، أما "نادر" "لا يفعل شيئا سوى مشاهدة التليفزيون، ونشرات الأخبار ويشعر بصداع شديد، وثقل في عيناه عندما يستيقظ من النوم، وسيفقد رغبته في الحياة، وستقل مرات ضحكه حتى تتلاشى"(ص67).

يلتقي "باسم" بـ"نهى"، طالبة بمعهد السينما تدرس كتابة السيناريو. "نهى" هذه تأخذه إلى عالمها وعالم والدها وكتبه "رأس المال" لماركس، "والبيان الشيوعي" لماركس وأنجلز وبعض كتابات جارودي ومذكرات محمد الجندي الخاصة "بحدتو"، سيتعلم باسم ابن الأكابر "أن مفهوم العدالة الاجتماعية وإزالة الفروق بين الطبقات وحقوق العمال والموضوعات الاقتصادية مثل العلاقة بين القيمة الحقيقية للشيء وفائض القيمة هي أفكار بعيدة تماما عن الرجل العادي المقهور في عالم تحكمه حركة العولمة الغائب عنها المضمون"(ص72).

-5-

تحكي "نهى" عن أمها وجبروت أمها وتفكر في نفسها أحيانا ".لماذا ارتبط والدها البسيط بهذه المرأة القاسية التي لا يهمها إن كانت ابنتها سعيدة في الحياة أم لا؟"(ص73)، وتستمر الأمور مع "نهى" حتى تكون النهاية كما هي عادة كل من يقابلهن "باسم"، وكيف أن "نهى" اعتدت على "أوفليا"، الشابة النمساوية التي استضافها لمدة شهر ولطخت لوحاتها التشكيلية". وعندما فعلت ذلك طرد "باسم" "نهى" من حياته إلى الأبد، ولم تكتب ولم تخرج فيلما حتى اليوم"(ص80).

يتكلم الراوي لـ"نادر" عن زواجه ودعوته لـ"باسم" لحضور زواجه. يمسك "نادر" بـ"باسم" وهو يجالس ابنة أخيه "زهرة" ويطرد "نادر" "باسم" "فتندم أنك كنت بهذه القسوة، وتريد أن تناديه وتطلب منه الصعود"(ص82).

بعد هذا نجد الإشارة إلى حالة "نادر" وكيف أن حياته مع زوجته تتدهور وتقترب من الهاوية "ويصاب بالتوتر وربما بالعصاب، وسيتشاجر كثيرا مع زوجته وسيفكر كثيرا في الانفصال عنها، لأنها تعيش، ولا تدرك كم هو يعاني وسيشعر بأنها لا يشغلها غير إحساسها بذاتها واحتياجاتها من حب واحتواء غير مدركة لروح نادر الحساسة"(ص83).

يخرج "نادر" إلى الشارع ويكلم من يراه. يكلم "ماجد" "نادر" أخوه ويلخص مشكلته في عبارة خاطفة: "لا تلم باسم، على الأقل هو عارف بيعمل إيه، ثم قال: أنت فاشل في كل شيء وخاصة مع النساء"(ص85). لقد لخص "ماجد" مشكلة "نادر" في عبارة موجزة."نادر" يحاول أن يخرج من شرنقته بعلاقته بـ"نادية" ولكن لا تسير الأمور على مايرام". اعترف إذن أنك تخاف من الشهوة، اعترف بأن نموذجك هو التبتل والعفة، أو ربما أشياء كثيرة لا تستطيع أن تكتشفها في ذاتك، عشت دائما والمسيح نصب عينيك ويوسف هو مثلك الأعلى في التطهر ولكن غاب عنك أنهما أنبياء وليسوا شرا تماما وأنهما نورانيان"(ص89).

"نادر" تتعقد حالته حتى يصل إلى الطبيب النفسي يكلم الراوي "نادر" ويقول له "تريد أن تفهم جسدك وروحك، تريد أن تعرف معنى أن تكون إنسانا، ومعنى أن تكون رجلا مقبولا من الآخرين، رجل يستطيع أن يدخل عالم المرأة، ويحتويها، ويجعلها ممتنة لوجودها معه في رحلة ربما تدوم لنهاية العمر"(ص91).

تتأزم نهايات الرواية بـ"نادر" الذي اكتوى من اختلاطه بـ"باسم" وغاص في حالة من التردي النفسي ولعلنا نقول هل السبب هو محاولة خروج "نادر" من طريقته في الحياة والاقتراب من عالم "باسم" المليء بالنساء لعله يجد هناك حلا لمشكلاته وأزماته لقد صارت زوجة "نادر" أزمة له وصار صديقه "باسم" أزمة أيضا وتأخذنا الرواية في تقلباتها لنعيش مع "نادر" حتى نجد قبل اللقطة الأخيرة: "سينصحك –أي باسم سينصح نادر– بأن على الكاتب أن يتحرر من الحياة الرتيبة، ويعيش حتى يستطيع أن يطلق خياله وأن تتعرف على الغرباء، لأنهم قادرون على مساعدتك على فعل ذلك، لأنهم يدهشونك بسذاجة حكايتهم وغرابتهم ومحبتهم الشديدة للحياة"(ص103).

-6-

ثم تختتم الرواية بمشهد في منتهى الروعة يأخذ من الأشياء الصغيرة خيوطا للدعم النفسي، فنجد "باسم" يدخل أحد محلات الملابس، ويقول لنفسه بأنه سيشتري معطفا لهذا الشتاء وربما قبعة، وقال: "لن أهتم بما يقوله الناس عني بأنني أحاول تقليد الرجل الغربي، ثم همس لنفسه وهو يقيس المعطف، سأعيش بمفردي، وسأستأجر شقة، ويجب أن تطل على شارع رئيسي وفضاء واسع، وسأشتري أريكة جديدة مريحة أمريكية الطراز، ومكتبا ومقعدا، وأسطوانات لبيتهوفن، وألبوم (أحمر شفايف) لمحمد منير، وسأحاول ألا أشعر بالذنب تجاه ما اتخذته من قرار بخصوص تطليق زوجتي، وسأحاول أن أبدأ من جديد، فما أجمل البدايات في كل شيء، ربما أحقق لي السعادة ربما"(ص104).

تنتهي الرواية، وننتهي معها من التجوال مع شخصيات وتركيبات نفسية شديدة الخصوصية وشديدة التعقيد، الأمر الذي يجعلنا ننظر إلى هذه الشخصيات فنلقى فيها أنفسنا في لحظة من لحظات حياتنا، أو نلقى فيها من يعايشوننا. وكما أقول عن إبداعات الرائع دكتور بهاء عبد المجيد، إنه إبداع اللحظة المعاشة بتعقيداتها والتي تراها فلا تملك إلا أن تقول هذه هي الحياة بشحمها ولحمها بجمالها وعيوبها بخفتها وثقلها.

دكتور بهاء تحية لك مبدعا مجددا على الدوام وكاتبا تبهرنا بحق وستبهر الأجيال القادمة بكتاباتك الجميلة الجاذبة والمفعمة بكل سامق من الحكي والسرد.