ضمن سياق راهن متشظ، يلملم الكاتب الليبي لغة مبطنة بالأسى، كما لو أنه يسرد نعوة "اليسار"، إلا أنه يخلص إلى أن اليساريين كثر، لكنهم يرفضون الكشف عن أنفسهم، خشية أن يُخدعوا مثل سابقيهم، يوم هتفوا للعسكر ظناً منهم أنهم اليسار، وإذا بهم الأصنام.

كان يسارياً على ساحل المتوسط

إبراهيم عثمونة

نحن فقط مَن يبنيها ويصلي لها، ونحن فقط مَن ينفخ فيها حتى تغدوا آلهة كبيرة تنظر وتسمع وتتحرك وتشير بيدها. لم نسمع مرة أن حيواناً جمع أحجاراً وبنى بها صنماً من أخمص قدمه وحتى شعر رأسه، ولم نقرأ في الكتب أن جملاً أو بقرة أو حتى حماراً فعل هذا. كل الحيوانات بجميع انواعها لا تجمع الأحجار ولا تصلي. ولا الطير ولا حتى الحشرات، لكننا نحن فقط مَن يحب الصلاة ويجلب المواد الأولية التي يتكون منها الصنم ثم نحن مَن يُصمم شكل وارتفاع الصنم المراد عبادته ثم نحن العبيد. بل هناك مَن يذهب أبعد ويقول أن الحشرات التي تجري هرباً من أقدامنا ما كانت لتلسعنا وتلدغنا وتعضنا وحتى تتغوط على طعامنا لو لم تشاهدنا عن بُعد نعبد الأصنام.

إذ رغم أن الصرصور حشرة نتقزز منها وندوسها ونصفعها بالحذاء في أي مكان تصادفنا، لكننا لم نصادف مرة صرصوراً يقف في أحد زوايا البيت يتعبد، ولا أثبت العلم ان الصرصور لا يملك غاية في حياته، بل حتى الدودة التي نُعيِّر حياة بعضنا بـ حياة الدودة هي في الواقع تعيش بدوديتها ولدوديتها، ولا مرة سمعنا أن حماراً ترك الحمار الذي يسكنه وذهب يعبد حماراً آخر. مثل هذا العمل لم يقم به سونا نحن البشر الذين كرمنا الله على الدود والصراصير وعلى الحمير، وهذا الشعور بالدونية بين افراد الجنس الواحد لم يظهر بشكل طاغ وجلي إلا عندنا نحن بشر جنوب وشرق المتوسط، وهذه الدونية ما كانت لتتضخم بهذا الشكل وتصنع اصناماً كثيرة عند المتوسط لو لم يمتهن سكان هذه البقعة من الأرض هذه الصنعة لفترة طويلة من الزمن، حتى قيل أن أصنام المتوسط هي أضخم الأصنام في التاريخ، وقيل ايضاً أن ضربة واحدة بيد صنم متوسطي تصرع المئات وترديهم قتلى، وقيل ايضاً أنها تشفع الذنوب بذات اليد التي تضرب بها، لكن هذه الأصنام المتوسطية الضخمة تعلم في قرارة نفسها أنها لو ابتعدت قليلاً عن المتوسط سوف لن تجد لها عُبَّاداً تفيض اعينهم من الدمع، ولو هبطت عن المتوسط جنوباً حيثُ ما نظنه نحن بلاد العبيد فلن تجد عبداً، ذلك أن العبد ليس لوناً كما يظنه الكثيرون بل طعم ومذاق، وما الألوان سوى صبغات لكن المذاق شيء يكمن في التركيبة، خاصة بعد أن أثبت العلم أن مذاق شعوب شرق وجنوب المتوسط هو مذاق العبيد الأصلي والمعتق.

في كل بلدان العالم من الكاريبي إلى الهندي ما عادوا يرفعون صوراً لأحد في الشوارع، ذلك ان الصورة تعتمد على اللون الفاقع واللون فاقع كذب فاقع، ولو جلت العالم من حده إلى حده فلن تجد في الشوارع سوى دعايات مدفوعة الأجر للحليب والجبن والآلات الزراعية والهواتف والسيارات وأشياء أخرى، ولكن ما إن تعود وتدخل المياه الاقليمية لجنوب وشرق المتوسط، إذا استثنيت تونس الرائعة (وحتى اسرائيل غير الرائعة)، فلن تجد سوى صور بلهاء على جاني الشوارع، ولو جلبت حماراً خلفك ووقفت لتصلي للصورة البلهاء عندها لن تجد هذا الحيوان خلفك، وأغلب الظن أنه لم يقطع صلاته من منتصفها بل هو تركك وذهب فور قيامك بتكبيرة الاحرام، ولابد أنه من حين لآخر يقف ويدير وجهه لك، وأحياناً يهز وجهه عليك متأسفاً من الحالة العبودية التي وصلت لها هذه الشعوب، حتى ليخال لزائر منطقتنا كما لو أنه نزل بلاداً محرومة وبعيدة يعود موقعها إلى ألفين أو ثلاثة آلاف عن العالم.

لا أنكر أنني ورثُ كراهية الأصنام من أبي، ولا أنكر أنني أعاني من هذه الكراهية المبالغ فيها إلى الحد الذي بتُ أخشى أن تتقدم بي أكثر وتقودني إلى الإلحاد.

مذ كنتُ طفلاً وجدتُ أبي يبصق على شاشة تلفزيوننا الصغير حين تعرض الصنم، فصرتُ مثل أبي أبصق على الشاشة، ويوم ركلها بقدمه لأن فيها الصنم يمتطي فرساً جئتُ خلفه وركلتها بقدمي الصغيرة، وحين وجدته صامتاً يُحب الفكرة تعلمتُ منه الصمت وحب الفكرة، وساعة عرفتُ انه يسارياً بالفكرة والفطرة تأكدتُ انني سأرث منه اليسار عاجلاً أم آجلاً، ولكن ما إن كبرتُ وتلفتُ على اليمين وعلى الشمال حتى وجدتُ يساراً آخر يحكم المنطقة غير ذلك الذي يُفكر به أبي، بل أن يسار هذه المنطقة هو أكثر الأماكن تفنناً وخبرة في صناعة الأصنام، ففيها يوجد صنم يضحك وآخر مكفهر وثالث لا يضحك ولا هو مكفهر، وفيها يقف أكبرها خَلقاً وارتفاعاً وكذلك فيها أوسعها جسداً وامتلاء، فتراجعتُ خطوات للوراء عن الأصنام، وبقيت عقوداً إلى اليوم الذي هبطت من السماء حوادث وأحداث قيل عنها أنها بواكير الربيع، فقلتُ لمن حولي لابد أن الله تدخل بشكل مباشر ليطيح بالأصنام، ووقفتُ وتطاولتُ من مكاني وفتشتُ في بهرة الأحداث عن يسار المتوسط الذي كان أبي يفكر به، وحزنتُ كثيراً حين لاحت لي واجهة الأحداث كما لو أنها تستعد لبناء أصنام متوسطية جديدة، وعاودتُ وقلتُ لمن حولي قد لا يكون الله تدخل بشكل مباشر، وقد لا يتدخل الله أصلاً بشكل مباشر، ذلك أن جلالته لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم . قلتُ ذلك لمن حولي وأنا أكتب شعاراً كبيراً أنزل به إلى الشارع كما نزل يوماً "عادل الحاسي" إلى شوارع بنغازي، ثم أمشي أجوب وبين يدي دعوة إلى يسار متوسطي غير ذلك الذي جاء من روسيا ومن نواحي اخرى تقع وراء المتوسط . يسار عاش بيننا وبين قامات النخيل لا ذلك القادم من سيبيريا. يسار يصلي للقهار لا ذلك الذي يُصلي للأصنام، وشعرتُ بعد خطوات وأنا أمشي في الشارع كما لو أن أحداً يمشي خلفي، وحين ادرتُ لفتة صغيرة عرفتُ أن هناك من يشاطرني الرأى من بغداد إلى مراكش، وشاهدتُ النساء يبتسمن لنا من النوافذ والشرفات، وخرجن الفتيات من أبواب العمارات ينثرن الورد أمام يسار المتوسط، وخرج أصحاب المحلات يوزعون علينا المشروبات، وأسرع عمال النظافة يمسحون أمامنا، ووقف المصليين عند أبواب المساجد لدقائق عن صلاتهم تحية وتأييداً لنا، وهناك منهم مَن عاد من داخل المسجد وانتعل حذاءه وذهب معنا، ودقتْ يومها نواقيس الكنائس في بيروت وفي الإسكندرية حتى سُمعت أجراسها في كازابلانكا وفي أربيل، وقلتُ في نفسي إن اليسار المتوسطي الذي كان أبي يفكر به قبل وفاته ربما يكون حان أجله، وأن أبي ربما يكون قد وُلد ووُجد في عصر قبل عصره، وأن طفلاً متوسطياً يخرج من أعماق المتوسط لهو جنين المتوسط الرائع، وأن الأشياء إذا حان أجلها لا تستأخر ساعة ولا تستقدم أخرى، وقلتُ أيضاً أن محمداً (عليه السلام) كان متوسطاً في يساريته، وأبي كان يسارياً على ساحل المتوسط، وما أكثر اليساريين على هذا الساحل لكنهم يرفضون الكشف عن أنفسهم، خشية أن يُخدعوا كما خُدعوا آخرون يوم هتفوا للعسكر ظناً منهم أن العسكر هم اليسار في المتوسط وإذا بالعسكر هم الأصنام في المتوسط.

(ليبيا)