هذه قراءة مغايرة لاحداث سبتمبر وتداعياتها تقدم دليلا ساطعا علي كفاءة الامبرياليات في استخدام الاحداث ونثر النظريات المضللة بما يوافق هوي المتلقي ويضمن الإبقاء على الهيمنة والاستغلال.

وهم الانقلاب التاريخي في صيرورة الإمبريالية

قراءة مختلفة لأحداث 11 سبتمبر

هشام البستاني

في أواخر ايلول (سبتمبر) من عام 1995 اجتمع ـ في فندق فيرمونت في سان فرانسيكو ـ خمسمئة من قادة العالم في مجالات السياسة والمال والاقتصاد بدعوة من المعهد الذي يترأسه ميخائيل غورباتشوف، والذي تبرع بتكاليفه بعض الاثرياء الامريكيين (ربما عرفاناً لخدماته في الاتحاد السوفييتي السابق). كان المطلوب من هذا الجمع ان يبين معالم الطريق الي القرن الحادي والعشرين، هذه الطريق التي ستفضي الي حضارة جديدة  ومغايرة. وفي هذا المؤتمر الذي لم يكن للتسامح مع ضياع الوقت فيه اي مكان  (5  دقائق للمتحدث، ودقيقتان للمداخل)، كانت النتيجة التي اختزل اليها هؤلاء البراغماتيون المستقبل كالتالي: العددان 20 و80، ومصطلح Tiytainment.. بالنسبة للعددين، فهما يمثلان حالة العمل والبطالة في المجتمع المستقبلي، حيث يعتقد المجتمعون ان %20 من السكان العاملين ستكفي في القرن القادم للحفاظ علي نشاط الاقتصاد الدولي، اما باقي الـ%80 فإنهم سيواجهون مشاكل عظيمة . ستكون المسألة علي حد تعبير احد مدراء شركة صن Sun  هي ( إما ان تأكل او ان تؤكل To Have Lunch Or To be Lunch ).

اما بالنسبة للـ Tiytainment، فهو مصطلح طرحه زبجنيو برجنسكي الاشهر من ان يعرف، وهو منحوت من كلمتي Entertainment اي تسلية، وtits  أي اثداء (اشارة الي حليب المرضع). والـTiytainment هذه هي الخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية التي بامكانها تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين. وبامكان المهتم  والذي يريد المزيد من التفاصيل الدالة مراجعة تفاصيل هذا المؤتمر الرهيب وابعاده في الكتاب الهام (فخ العولمة: الاعتداء علي الديمقراطية والرفاهية) تأليف هانس بيتر ـ مارتن وهارالد شومان، ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 238. ولكن ما علاقة كل ذلك بموضوعنا عن 11 سبتمبر؟ أبادر بالقول بان له كل العلاقة. فأول الاخطاء التي يمكن ان يقع فيها الكاتب او المحلل هو اعتبار 11 سبتمبر (أيلول) فاصلاً بين عهدين، أو علامة تاريخية فارقة احدثت انقلاباً كلياً ما بعدها. والمقارن ما بين ايلول (سبتمبر) 1995 (مؤتمر فندق فيرمونت)  وايلول (سبتمبر) 2001 (هجمات نيويورك وواشنطن) وما تلاها، قد لا يجد اختلافاً بيناً في نوعية السياسة الامريكية والرأسمالية الغربية عموماً، المسألة هي مسألة كمية وتوقيت وحسب.

إن امريكا بصيغتها الحالية: الامبراطورية ذات القوة الغاشمة والايديولوجيا النيولبرالية، كانت لا شك قادمة مع او من دون 11 ايلول (سبتمبر). ولو لم تحدث هجمات 11 ايلول (سبتمبر)، فاغلب الظن اننا كنا سنعيش الحقبة التي تلتها، ولكن متأخرين قليلاً. ان ما قد يرقي إلى مستوي التحول التاريخي هو النقطة التي انتصرت عندها المنظومة الرأسمالية علي الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية. وليس الانتصار بحد ذاته هو العلامة الفارقة، بل هي التحول المطرد والمتسارع نحو التخلص من دولة الرفاه الاجتماعي وتكلفتها العالية. ان رأس المال ـ الباحث دائماً عن شروط تعظيم ارباحه ـ كان يجد عائداً استثمارياً وقائيا من دولة الرفاه ذات الضمان الاجتماعي الممتاز والتأمين الصحي الشامل. والانفاق العام كان بالنسبة له في المرحلة السابقة ـ مرحلة الصراع بين النظامين ـ  شراً لا بد منه للحفاظ علي الاستقرار الداخلي، ومنع انتقال اي عدوي من الشرق تتحدث عن عدالة اجتماعية ومساواة ومحو فوارق طبقية وتأمين احتياجات اساسية دون مقابل (مأكل، ملبس، مسكن، تعليم، صحة). 

دولة الرفاه والكلفة الباهظة
في ظل غياب قطب آخر، وانحسار النشاط الاجتماعي/السياسي لليسار الراديكالي في العالم، وغياب بديل ايديولوجي ثوري ذي حضور، اصبحت دولة الرفاه الاجتماعي كلفة باهظة لا مبرر لها (علي الصعيد الداخلي)، واصبح العالم ملعباً مفتوحاً بلا منافسين (علي الصعيد الخارجي). هكذا كان علي الامبريالية ان تخلع قناعها الديمقراطي و المتمدن، وترمي بأسطورة العالم الحر بعيداً، وتتمدد داخلياً وخارجياً، وتملأ الفراغات التي تركها القطب السابق. وكان علي الامبريالية في هذه المرحلة ان تفكر فيما ستفعله اثناء سيرها في هذه الطريق التي ستفضي الي حضارة جديدة، وهو ما فعلته في مؤتمر فيرمونت الذي اجاب عن اسئلة التحول الجديد (اي نبذ دولة الرفاه الاجتماعي لانعدام جدواها وارتفاع كلفها الاقتصادية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي). ان هذه الحضارة الجديدة ليست جديدة بأي مقياس، بل هي استحضار لآليات ما قبل رأسمالية، انها القوة الغاشمة دون رادع سوي الارباح، وهذا لا يتناقض مع التطور التاريخي للرأسمالية في مرحلتها النيولبرالية، فالامبرياليات لا تجد غضاضة في استعمال آليات لا ترقي الي مستوي تطورها التاريخي ما دام ذلك يخدمها في السياق العام، ويلاحظ هادي العلوي ان انماط الانتاج الاكثر تقدماً كانت قادرة دوماً علي توظيف انماط انتاج منحلة لتنمية نفسها، ولكن هذا لا يشكل اعادة لنمط الانتاج المذكور، وانما يتم بتأثير هذه المنظومة الاستغلالية الجامعة (شخصيات غير قلقة في الاسلام، ص 222).

ان مجتمع الـ 80/20 المذكور سابقاً، هو مجتمع سيُسَير بخليط من القوة الغاشمة والـ Tiytainment، واستعراض الحرب الحديثة بتقنياتها المذهلة وجنودها العصريين ذوي التجهيزات الفضائية، وصور الاقمار الصناعية، وتسجيلات القنابل الذكية وهي تصيب بدقة الاهداف المعادية، كل هذا لا يخدم كأدوات ردع فعلية ونفسية لشعوب الارض من المضطهدين المنضوين في نسبة الـ %80 الآنفة الذكر فحسب، وانما تُحول الحرب بهذه التقنيات من مأساة انسانية صارخة، الي مشاهدة ممتعة ، او فيلم هوليوودي، او لعبة مسلية من العاب الفيديو. فالقتل والتسلية المخدرة هو السيف ذو الحدين: القتل والتسلية المخدرة، ولكنهما حدان يقطعان الضحية ذاتها.

فاستعراض القوة والتخدير هذان لم يبدآ قطعاً في 11 ايلول (سبتمبر)، ورجال مكافحة السموم بملابسهم الفضائية الذين طيرت صورهم المحطات الامريكية الي ارجاء الارض الاربعة في سياق البحث عن جمرةٍ خبيثة، جاؤوا بعد صور الاصابات الدقيقة للمنشآت العراقية اثناء حرب الخليج الثانية عام 1991. وقد لا يعلم الكثيرون في الوطن العربي ان شركة العلاقات العامة المعروفة عالمياً المسماة هيل آند نولتون، كانت هي العقل المدبر لحملة تسويق حرب الخليج الثانية في الولايات المتحدة (من تقرير: قوة البروباغاندا العالمية، لشارون بيدير وريتشارد غوسدن، (مجلة PR Watch ) 2 / 8 /  2001، وهذه الشركة هي جزء من تجمع دبليو بي بي WPP العملاق للعلاقات العامة والدعاية والاعلان، وهو تجمع يترأسه مارتن سوريل، وشغل حوالي 55 الف شخص في 92 بلدا، وله 1300 مكتب، وحقق عوائد بلغت 5,2 مليار دولار عام 1999.

ان التقرير المذكور سابقاً يقول عن شركة WPP انها مستودع كامن للقوة، آلة بروباغاندا عملاقة، وتملك من المهارات المنسقة في مجال التلاعب بالناس ما يسمح لها بالسيطرة علي عقول وقلوب كل سكان العالم.

وهي، اضافة الي منافستها اومنيكوم Omnicom، تسيطران علي سوق الاعلان والدعاية والعلاقات العامة في العالم لصالح الشركات العملاقة، والحكومات في بعض الاحيان. ومنذ اوائل الثمانينات، صرح احد مدراء شركة جي والتر ثومبسون (J.Walter Thompson) وهي شركة اعلانات اشترتها WPP عام 1987 بما يلي: ان في ايدينا اعظم اداة شاملة للتعليم الجماعي والاقناع شهدها العالم، انها قنوات الاتصال الاعلانية، نحن نملك القوة، فلم لا نستعملها؟ ان نبوءة هذا الشخص تجد صداها في الآلية التي اقترحها بريجنسكي في مؤتمر فيرمونت، وتطبيقها في الحقبة المتوحشة للامبريالية الامريكية بعد انقلاب نهاية دولة الرفاه، اواخر ثمانينات القرن الماضي.

هذا احد جوانب المسألة، الجانب الآخر هو ان صقور الحرب في الادارة الامريكية ذوي النزعات اليمينية المتطرفة لم يولدوا في الفراغ، ولم يهبطوا بمركبات فضائية قادمين من مستودع للراديكاليين الامريكيين علي المريخ مخصص لحالات الطواريء. لقد كانوا في صلب المؤسسات الامريكية منذ امد طويل، وخصوصاً تلك المعنية باحداث تغييرات خارجية، مثل مؤسسة بيت الحرية Freedom House، التي تعرف نفسها بانها منظمة غير حكومية، تأسست عام 1941علي يد إلينور روزفلت (زوجة الرئيس الامريكي المعروف) وويندل ويلكي (منافس زوجها الخاسر في الانتخابات)، وتعني بخلق التغيرات الديمقراطية في العالم عبر انشاء شبكات مرتبطة بها في المناطق المستهدفة، وهي كذلك تعمل من اجل سياسة امريكية خارجية متدخلة (Engaged)، ومن اجل ادخال اصلاحات السوق الحر!.

اذا فككنا شيفرة الجمل المذكورة اعلاه والمستقاة من النشرات التعريفية بـ Freedom House، نكتشف ان المسألة برمتها هي مسألة تدخل من اجل المصلحة الامبريالية. وربما لن نستغرب كثيراً اذا علمنا انها استهدفت بشكل رئيسي منطقة وسط وشرق اوروبا، وكان لها دور كبير في احداث الزلزال هناك، حيث مولت وما تزال عشرات المنظمات غير الحكومية في تلك البقعة من العالم. ان هذه المؤسسة الهامة ذات النزعة الديمقراطية (المفترضة طبعاً)، تحوي في هيئة امنائها اشخاصاً غير ديمقراطيين تماماً: دونالد رمسفيلد، بول ولفوويتز، ومنظرهم الاول صامويل هنتنغتون! لقد كان هؤلاء، اضافة الي ما يمكن ان نصنفه الآن من المعتدلين كبرجنسكي، طرفاً فاعلاً في البنية الاستراتيجية الامريكية قبل ان يكونوا في صف صنع القرار الاول، وصعدوا الي مواقع القيادة والتأثير عندما اصبح الظرف الموضوعي يستدعي وجودهم، والظرف الموضوعي هذا هو 11 ايلول (سبتمبر). بهذه الصورة، تمهد الامبراطورية لنفسها علي المدي الاستراتيجي.

وان كان انفراد قوة عظمي بالعالم يشكل مشكلة حقيقية، فان هذه المشكلة تتحول الي كابوس مرعب اذا كانت هذه القوة امبريالية بايديولوجيا نيولبيرالية، ولا تلتفت الي شيء سوي الارباح والاسواق والنفط، ويصنع قرارها مدراء الشركات العملاقة بعد ان تحولوا سياسيين.

تلاحم رأس المال العملاق والسياسة
وتثبت لنا الحقائق والأرقام تنامي حجم تمثيل مدراء الشركات الكبري في الادارة الامريكية الحالية. بعضهم ترك موقعه، فالباحث عن تاريخ اعضاء الادارة الامريكية في موسوعة ويكيبيديا علي الانترنت يجد التالي: الرئيس دبليو بوش هو المدير السابق لشركة هاركين للنفط؛ نائب الرئيس ديك تشيني هو الرئيس السابق لشركة هاليبيرتون للنفط؛ وزير الدفاع السابق دونالد رمسفيلد هو المدير السابق لشركتي جنرال انسترومنتس الصناعية وسيرل الصيدلانية؛ وزير الدفاع الحالي روبرت غيتس كان عضو مجلس امناء شركة فيديلتي للاستثمارات، وعضو مجالس ادارات الشركات التالية : NACCO الصناعية، شركة برنكر الدولية، شركة باركر للتنقيبات، شركة التطبيقات العلمية الدولية؛ وزير الخزينة السابق بول اونيل هو المدير السابق لشركة الكوا؛ وزير الخزينة الذي تلاه جون سنو هو رئيس سابق لشركة CSX؛ وزير التجارة السابق دون ايفانز هو المدير السابق لشركة توم براون للنفط؛ وزير الخزينة الحالي هنري بالسون هو رئيس سابق لـ غولدمان ساكس، رئيس موظفي البيت الابيض السابق اندرو كارد هو الرئيس السابق لجمعية مصنعي المركبات الامريكيين؛ وزير الجيش السابق توماس وايت هو مدير سابق في شركة انرون للطاقة؛ وزير الجيش الذي تلاه فرانسيس هارفي هو رئيس سابق لمجموعة IT المتخصصة بالتعهدات الدفاعية؛ وزير القوات الجوية السابق جايمس روش هو مدير سابق في شركة نورثروب غرومان؛ غوردون انغلند وزير البحرية السابق ونائب وزير الدفاع الحالي هو رئيس سابق لشركتي جنرال داينامكس ولوكهيد، اما وزير البحرية الحالي دونالد ونتر فهو مدير كبير سابق في شركة نورثروب غرومان"!!!

كل هؤلاء من اقطاب الشركات، ومنهم عدد لا بأس به من المدراء السابقين لشركات النفط والطاقة، وذوي علاقة عضوية بالمجمع الصناعي ـ الحربي الامريكي، الي الدرجة التي دعت شركة شيفرون للنفط لاطلاق اسم كوندوليزا رايس علي احدي ناقلاتها النفطية! ولتأكيد ما ذهبنا اليه فيما سبق، سأستدعي اجزاء من مقال لجيمس بتراس، استاذ علم الاجتماع السابق في جامعة بنجهامبتون في نيويورك، نشر بتاريخ 4/11/2001 تحت اسم: 11 سبتمبر، ما وراء المأساة الانسانية.(1)  ويكشف بتراس في هذا المقال حقائق فظيعة يخلص منها الي فرضيات لا تقل عنها فظاعة، وهي في واقع الامر نتائج مبنية علي ادلة ملموسة، فمثلاً، يقول بتراس: ان انفجار مشاعر الحرب في واشنطن (يقصد الادارة الامريكية) ربما كان له علاقة بنوعية الضحايا ومقدار تأثيرهم علي الاسواق المالية العالمية، لا بعدد هؤلاء الضحايا، حيث ان الكثير منهم كانوا من المحللين وراسمي السياسات المالية والمضاربين!

ويعتمد بتراس الرقم الذي اورده الصليب الاحمر الامريكي لعدد الضحايا (وهو 2563 شخص)، مشيرا الي ان %40 منهم من جنسيات اجنبية، اي ان عدد الضحايا الامريكيين الفعلي هو حوالي 500، ويعزو بتراس الرقم المبالغ فيه الذي روجه مسؤولو مدينة نيويورك (4964 ضحية) لرغبتهم في الحصول علي المزيد من المعونات الفدرالية لاعادة بناء القطاع التجاري في نيويورك وليس لجهود الاغاثة. مذكراً باضراب رجال الاطفاء بعد شهرين من الهجوم نتيجة لخفض الميزانيات المخصصة لهم للانقاذ. ويري بتراس ان الادارة والاعلام الامريكيين تلاعبا بالمأساة الانسانية التي تعرض لها مواطنو نيويورك لازاحة التركيز عن البعد الاقتصادي والعسكري للصراع. وعندما اصبح الضحايا غير مجديين كبروباغاندا لصالح الحرب، تم التخلص منهم ليتحولوا الي طوابير خارج مكاتب البطالة. فخلال شهر تشرين الاول (اكتوبر) 2001، فقد اربعمئة وخمسون الف عامل وظائفهم في الولايات المتحدة، وهو اعلي رقم لفصل موظفين في شهر واحد في التاريخ الحديث.

كما يذكر المقال، نقلاً عن الغارديان البريطانية (عدد 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2001) ان مركز التجارة العالمي كان يحوي في طوابقه السفلية علي مقر للـ CIA واجهزة سرية اخري، اي ان الـ CIA استغلت الغطاء المدني الذي يوفره مركز التجارة لاخفاء مركز تنفيذي ولوجستي تحت الارض، مما عرض حياة المدنيين الذين يعملون في الطوابق العلوية للخطر دون ادني حس بالمسؤولية. ويشير المقال الي الحالات العديدة للاحتيال والاستغلال التجاري (مثل) مطالبات التأمين المبالغ فيها، بيع التذكارات، واختفاء ملايين الدولارات من المساعدات المالية التي كان من المفترض ان تذهب لعائلات الضحايا. اذاً، الارباح، الحسابات، المضاربات، كلها حاضرة، وهذا ليس بغريب علي رأسمالية بحجم الولايات المتحدة، اما ان تكون حاضرة في وسط المأساة التي تخص مواطني المركز الامبريالي نفسه، فهذا هو التطور النوعي في الآليات الهمجية التي ستنعكس بصورة اشد خارجياً. ولا شك اننا سنتذكر، عندما نعيد قراءة الرقم الهائل لاعداد الموظفين الذين فقدوا اعمالهم، عبارة جون غيج (John Gage) احد كبار مدراء شركة الكمبيوتر الامريكية صن مايكرو سيستمز التي اجاب بها علي سؤال في مؤتمر فيرمونت: لدي من العاملين 16 الفاً، واذا ما استثنينا قلة ضئيلة منهم، فان جل هؤلاء احتياطي يمكن الاستغناء عنه عند اعادة التنظيم. 

حانت ساعة إعادة التنظيم
وفي يوم 11 سبتمبر (أيلول)، حانت ساعة اعادة التنظيم الكبيرة علي المستويين الداخلي والخارجي. داخلياً: فصل العمال من وظائفهم، ودخلت قوانين واجراءات قمعية جديدة حيز التنفيذ، ودخل الاقتصاد المنهار دورة جديدة لصالح شركات النفط والسلاح. اما خارجياً: فقد رأت امريكا ان الوضع بات مناسباً لحسم سيادتها علي العالم نهائياً، وخصوصاً في وجه مراكز امبريالية صاعدة ومنافسة كاليابان واوروبا، هذا الحسم لن يأتي الا بالسيطرة علي النفط سيطرة تامة بدأت بحرب الخليج الثانية، وتستمر الآن بزخم متسارع جداً منذ 11 ايلول (سبتمبر) بالسيطرة علي نفط حوض قزوين، والاحتلال الذي يزكم الانف برائحة النفط في العراق، والجاثم الي جوار احتياطات اخري كبيرة في الكويت والسعودية وايران. كما اكملت امريكا حلقتها النارية الضاربة حول العالم، فهي، اضافة الي اساطيلها البحرية المتنقلة، تملك قواعد في اوروبا، الجزيرة العربية، وسط آسيا، كوريا، واليابان، معطية لنفسها قوة النار والمرونة الكافيتين لضرب اي دولة مارقة او تنظيم ارهابي.

حتي منظرو الحقبة الامريكية الحالية، صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما، رغم اختلافهما المنهجي، الا انهما يتفقان مع ما عرضناه سابقاً من ان 11 ايلول (سبتمبر) هو حدث في التاريخ لا انقلاب فيه. فهنتنغتون ـ مستبطناً صراع الحضارات الخاص به طبعاً ـ يري ان ما يمكن ان يشار اليه كعلامة تاريخية هو عصر الحروب الاسلامية التي بدأت عندما كانت الحرب الباردة تنتهي في الثمانينات من القرن الماضي (راجع مقالة: عصر الحروب الاسلامية في مجلة نيوزويك، عدد دافوس الخاص، كانون الاول/ ديسمبر 2001 ـ شباط/ فبراير 2002). اما فوكوياما فيتساءل عن 11 ايلول (سبتمبر): ماالذي يحصل هنا؟ هل سنشهد بداية لعقود طويلة من صدام الحضارات واضعة الغرب في مواجهة الاسلام؟ منذ ما يزيد عن عشر سنوات، قلت اننا وصلنا نهاية التاريخ. هذه النظرية تظل صحيحة، ان هجمات 11 ايلول (سبتمبر) تمثل (فقط) حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث. (انظر مقالته: هدفهم: العالم الحديث في عدد نيوزويك السابق الذكر).

هكذا اذاً، يتفق المنظران الرئيسيان لحقبة النيولبرالية المتوحشة: ان نقطة الارتكاز التاريخية هي نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، اما 11 ايلول (سبتمبر) فهي حركة ارتجاعية يائسة كما يراها فوكويوما، او، برأي هنتنغتون، فان الحرب الجديدة، كما يسمي مسؤولو الادارة العنف الذي بدأ في 11 ايلول (سبتمبر)، هو ليس جديداً علي الاطلاق. انه استكمال وتصعيد لانماط سابقة من العنف تورط فيها المسلمون ، اي الامريكيون، اذا فككنا شيفرة هنتنغتون السحرية. وهكذا، لنحلل بصورة اكثر صواباً، ولنضع 11 ايلول (سبتمبر) في سياق صحيح، نعيد قراءة جمل فوكوياما وهنتنغتون الاخيرة كما يلي: ان هجمات 11 ايلول (سبتمبر) تمثل حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد الهيمنة الامبريالية المتوحشة المتمثلة بالولايات المتحدة.

والحرب الجديدة او الحرب ضد الارهاب ، ليست جديدة علي الاطلاق، بل هي استكمال وتصعيد لانماط سابقة من العنف تورط فيها الامريكيون في سياق الهيمنة الامبريالية علي العالم، وخدمت احداث 11 ايلول (سبتمبر) كذريعة لها.

الحرب ضد الارهاب هي حرب نفط وارباح وهيمنة بامتياز، لا حرب ديانات ولا صراع حضارات، وهي حرب بدأت فعليا منذ بدايات انهيار الاتحاد السوفييتي وصعود الرأسمالية النيولبرالية اوائل الثمانينات، حين تراجع المفهوم الكينزي في الاقتصاد لصالح اطلاق الحرية الكاملة للسوق كما نظر لها فريدرش فون هايك وطبقها رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت ثاتشر في بريطانيا. اما 11 ايلول (سبتمبر)  2001 فهو الدليل الساطع علي كفاءة الامبرياليات في استخدام الاحداث، والخداع، ونثر النظريات المضللة لاسس الصراع بما يوافق هوي المتلقي، فتتحول مقاومة الامبريالية من فعل تراكمي ايجابي الي دوران في المكان بقصد البقاء لا اكثر، وهو امر ينجح في ابقائنا احياء، ولكنه غير قادر علي تحريكنا للامام علي طريق النصر علي الهيمنة والاستغلال. 


hbustani2@yahoo.com

ـــــــــــــــــــــــــــ
1- www.nodo50.org/csca/english/petras_8-11-01_eng.html