يرى الناقد إلى أن الغموض والتعقيد في نصوص الكتاب ليس أكثر من قناع يخفي وراءه إفلاساً فكرياً. ويخلص إلى أنه ما من فكرة أدبية أو فلسفية أو علمية مهما كان حظها من التعقيد والعمق، إلا ويمكن ملامستها ومجاذبتها والتعبير عنها بلغة واضحة ومفهومة، وإيصالها إلى المتلقي.

عندما يُتخذ غموض التعبير مقياساً لعمق الفكر!

عبد القادر ملوك

يتخذ بعض الكتاب من غموض العبارة نهجاً لهم في تدبيج مؤلفاتهم وإيصال معانيهم، ويتعمدون التخفي والمواربة والالتفاف في القول، لا يضيرهم إن كان قراؤهم يفهمون ويستوعبون فحوى ما يصلهم أم لا، وكأن لسان حالهم يقول ما قاله ابن سبعين؛ "(في) غموضي استتاري"، فترى القارئ يقرأ ويعيد القراءة دون أن يظفر بشيء، فيسائل نفسه مرتابا في قدراته: هل ما أقرؤه يفوق قدراتي الإدراكية والمعرفية، أم أن بي علة متأصلة تعوقني عن الفهم؟ هل أعاني ما أعانيه وحدي، أم أن العسر والمكابدة يقتسمهما معي غيري؟ وبعد أخذ ورد يقتنع في دخيلته بأن الغموض دليل عمق فكري، وعلو كعب في الكتابة هيهات أن يبلغه أمثاله، وينطبع في ذهنه، بالمقابل، أن الوضوح سيئة لا جدال فيها تصيب السطحيين وصغار المؤلفين.

لا جدال أن هناك موضوعات غامضة في جوهرها، لا تفصح عن مكنوناتها وخباياها إلا بعد جهد وتعب مضنيين قلما يتوفران في غير من توشحوا بالصبر والجَلد، وامتلكوا من العلم والمعرفة زادا وفيرا، ومن مفاتيح القراءة أجودها وأدقها، لذلك لا يعد الغموض الذي يركبه هؤلاء في إيصال المعاني نقيصة ولا سيئة، لأنهم لم يختاروه طائعين بل مجبرين، فلم يجوزوا لأنفسهم التعبير السهل عن موضوعات غامضة في طبيعتها.

لكن إذا كان هذا حال هؤلاء، فإن غيرهم، ممن اقترفوا مهنة الكتابة، نلفيهم يتلفعون بعباءة الغموض عنوة، وعن عمد وسبق إصرار، مسوغهم في ذلك أن الكلام الواضح هو أقرب ما يكون إلى اللغة التي تلوكها ألسنة العامة في أحاديثهم اليومية دون أن تعبر عن أفكار عميقة ولا عن معاني ثقيلة، وأن "الكلام الفصيح هو الذي يعز فهمه، ويبعد متناوله"(1) لذلك كانوا "إذا رأوا كلاما وحشيا غامض الألفاظ يعجبون به، ويصفونه بالفصاحة، وهو بالضد من ذلك، لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، لا الغموض والخفاء"(2).

لهؤلاء وأولائك نتوجه بالسؤال؛ لمن يكتب الكاتب، ولماذا يكتب ويتكلف مشاق الكتابة بما هي اختمار شائك عسير، وإثمار باطني وئيد، إذا لم يكن بغرض إيصال معارف، وتبليغ معاني، وتمرير رسائل؟! أليست الكتابة تفاعل وتآثر وإفهام وتفاهم؟ ثم ما جدوى الكتابة إذا لم تستهدف التواصل مع قارئ واقعي أو متخيل؟

لا تخلو البحوث التي تناولت فعل الكتابة من تنصيص على الاهتمام بالمتلقي، وتحديد خصوصياته، ورصد طبيعته، ودرجة فهمه واستيعابه، بل وعلى ضرورة استحضاره حتى لو كان غائبا (كصورة متخيلة). وهذا الاهتمام يعود إلى قيمته باعتباره الطرف المتلقي للمكتوب ومن ثم فهو السبب الفعلي الذي استدعى اللزوم إلى فعل الكتابة في الأصل، وهي دعوة تم التنصيص عليها في أكثر من كتاب داخل الثقافة العربية وعلى لسان أكثر من مؤلف؛ فقد نظر (ابن رشيق) إلى المتكلم البليغ باعتباره "من ينظر في أحوال المخاطبين؛ فيقصد محابَّهم، ويميل إلى شهواتهم وإن خالفت شهوته، ويتفقد ما يكرهون سماعه فيجتنب ذكره"(3) واضعا في الحسبان أن "نجاعة الخطاب وفعله في المخاطب رهينان باستحضار المتكلم لطبيعة المستمعين ومواقفهم وظروفهم.. فالقول المقنع لا يكون غفلا بل حاملا لانتظارات المتلقين"(4). وألزم (بشر بن المعتمر)، على لسان (الجاحظ)، المتكلم بأن "يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"(5)، حتى لا يخالف مضمون خطابه هواهم فيقع المحظور الذي هو "سوء الفهم"، ولم يقع إغفال الدعوة إلى مراعاة لغة الخطاب، وذلك بالاجتهاد في اصطفاء الألفاظ المناسبة والعبارات الكفيلة بتحقيق المراد، واشترطوا فيها أن تكون ملائمة للقدرات الاستيعابية للمخاطبين فـ"كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا، وساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا"(6). كما أن "العامي إذا كلفته بكلام العلية سخر منك والخاصي إذا خاطبته بألفاظ سوقية أو بألفاظ غير مناسبة لهويته ومرتبته كان ذلك جفاء قد يقابله المخاطب بجفاء مثله"(7). وإدراكا منه لعسر المسألة وصعوبة تكييف اللغة بحيث تتمكن من أفهام كل السامعة، تحدث (عبد القاهر الجرجاني) عن اللغة الوسطى وهي عنده "أن تكون اللفظة مما يتعارف الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم ولا يكون وحشيا غريبا أو عاميا سخيفا"(8). وإلى ذات الموقف تقريبا ألمح (بِشر بن المعتمر) بقوله: "فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، إلى أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام"(9). وحذا حذوه (ضياء الدين بن الأثير) حين قال: "فإن أحسن الكلام ما عرف الخاصة فضله، وفهم العامة معناه"(10).

وبعد، إن جماع ما يمكن أن نخلص إليه بعد لملمة المواقف سالفة الذكر، أن المخاطب هو حجر الزاوية في تحقيق الخطاب لأهدافه، لذلك لا ينبغي إغفال طبيعته وأحواله وقدراته، كما لا ينبغي النظر إليه باعتباره مجرد طرف سلبي في العملية التواصلية، بل هو بنية متعددة المداخل: سيكولوجية وسوسيولوجية ولغوية وثقافية، بنية حاملة لقيم وحاضنة لخلفيات، وبالتالي لا يتأتى إقناعها بخطاب معين إلا إذا تم تكييف الكتابة بحيث تصل واضحة جلية لا يلقى المتلقي عنتا أو مشقة في فك شفرتها وإدراك معناها، لأنه "إذا صيغ اللفظ بصورة خشنة المسلك، فإن استعماله وفهمه سوف يكونان من نصيب فئة مخصوصة أو قل محظوظة، وليس للجمهور الواسع من سبيل إليها، وكل لفظ لا يستوي في ظاهر استخدامه ولا في أول إدراكه الخاصي والعامي، فهو قمين بأن تتطرق إليه أسباب البعد والإشكال والصعوبة"(11).

وبعد هذا يطلع علينا بعض الأدباء والفلاسفة والمفكرين عموما بكتابات ترى "الجدة والحداثة في تتويه القارئ عن المعنى، وتبعيده عن المقصود وخلطه بغيره، وتحميل الفكرة زوائد وحواشي تسبغ عليها أهمية"(12) وتضفي عليها هالة من الالتباس تجعل القارئ يتفصد من الجهد عرقا ولا يظفر بشيء، من هؤلاء شعراء، ما فتئوا يمجدون الغموض ويعدونه قيمة إيجابية، بل ويرون فيه ضرورة لا غنى للأدب عنها، حتى شط بغيرهم الاعتقاد أن الشعر الذي يفهم ليس بشعر، وقد كان هذا حال أدونيس (علي أحمد سعيد)، حتى لا نذكر غيره، مما دفع بعض النقاد إلى القدح في شعره، واعتباره مجرد "سيول هذيانية جارفة"(13) وأنه "شعر مسعور وصوره متخبطة في المس والرعونة .. شعر طلسمي ملغز لا يفهمونه (أتباع الشاعر)، تراهم يخزون أنفسهم لقلة فهمهم له وعجزهم عنه ويلعنونها، عوض إدراك العيوب والأعطاب في المنبع والمجرى"(14).

صحيح أن الشعر، والأدب عموما، يتوسل في صوغ معانيه بلغة تصويرية مجازية، تقوم على التخييل وتمزج بين التصريح والتلميح، وتكسر قواعد المنطق، ويطغى فيها الذاتي على الموضوعي، وغيرها من الخصائص التي جعلت البعض يحد الأدب بأنه كل قول يقوم على "حفظ الإشارة وصرف العبارة"(15). ويرى في طلب الوضوح في الأدب تقويضا للأدب وهدما لماهيته، إلا أن التاريخ يطلعنا بما لا يدع مجالا للشك على أن فطاحل الأدب وواضعي أركانه تكشف مؤلفاتهم عن زيف هذا الإدعاء وتهافت حججه؛ فقد أخفوا دون أن يبهموا، وستروا دون يغيبوا، وتعمقوا دون يطلسموا.

أما في مجال الفلسفة، فحدث ولا حرج، إذ يستعصي المعنى ويستوحش وكأننا بصاحبه يخاطب أقواما لا يعرفهم إلا هو، أو كأن رأيا تمكن منه مفاده أن الفلسفة ما هي إلا مراوغة للغة على حد تعبير (عبد السلام بنعبد العالي)(16)، وأن جمالية النص ووضوح عباراته يتنافى ودقة الفهم وعمق الفكرة. وقد سلك هذا المسلك من الفلاسفة، الفيلسوف الألماني (مارتن هيدغر) واشتط في غموض الأسلوب وبالغ في تعقيد العبارة حتى غدت لغته الفلسفية أشبه بالطلاسم التي يزيغ معناها عن مبناها، ويتيه المرء في تأولاتها. ولست أقصد ههنا التقليل من شأن هذا الفيلسوف الذي يعد من أساطين الفكر الفلسفي على مر العصور، بل كل المقصود أن صاحب "الكينونة والزمن" لم يختر طريقا مستقيما في تبليغ معاني كتاباته، بل جعله متعرجا شائكا، زادت من صعوبة ارتياده، اشتماله على مفاهيم لم تألفها أذهان القراء ولا أسماعهم، اتسمت بالتكثيف والغموض، ومن كانت تلك فلسفته فهو بحسب (طه عبد الرحمان) واقع في أحد الجهلين: "إما الجهل بالحقيقة الفلسفية أو الجهل بالحقيقة التداولية؛ أما جهله بالحقيقة الفلسفية، فيقوم في جعل المتفلسف لا يفيد إلا نفسه، والمتفلسف الذي لا يفيد الغير قبل أن ينفع الذات، لا عبرة بفلسفته، وأما جهله بالحقيقة التداولية، فيقوم في جعل المتفلسف لا يعرف قومه، والمتفلسف الذي لا يعرف مجاله التداولي قبل أن يعرف المجال التداولي لغيره، لا عبرة بفلسفته"(17) ولا أحسب (هيدغر) إلا واقعا في ما وقع فيه بعض المتفلسفة حين رأوا أن المعرفة الفلسفية إنما جعلت لفئة محظوظة مخصوصة، فكان أن أضحت فلسفته حكرا على خاصة الخاصة من الفلاسفة، واستغلق فهمها على غيرهم من حديثي العهد بالفلسفة، اللهم إلا عبر وساطات قد تطول أحيانا فيضيع المعنى في لجة التأويلات الكثيرة والمتضاربة. ولقد فطن (هيدغر) ذاته إبان حياته إلى تعقيد فلسفته واستعصائها على الأفهام، لذلك بادر إلى تسويغ هذا الغموض قائلا: "أن عملية نحت المفاهيم وصياغتها، في المجال الانطولوجي، [هي التي] تملي "وعورة الأسلوب"(18)". ولسنا ندري لِم جاءت كتابات بعض أسلافه من الفلاسفة، من أمثال ديكارت وأفلاطون واضحة شفافة، وهم أصحاب السبق في نحث المفاهيم وصياغتها!!

صفوة القول، إنه "ليست هناك فكرة أدبية أو فلسفية أو علمية مهما يكن حظها من التعقيد والعمق والدقة، إلا ونستطيع ملامستها ومجاذبتها والتعبير عنها بلغة مفهومة وإيصالها إلى عقل القارئ"(19) وحول هذا قال الفيلسوف النمساوي (لودفيج فتجنشتين): "إن كل ما يمكن التفكير فيه على الإطلاق، يمكن التفكير فيه بوضوح، وكل ما يمكن أن يقال، يمكن قوله بوضوح"(20) إن كان من يكتب يستهدف فعلا إفهام القارئ ومد جسور التواصل معه، لا أن يتقصد الغموض والتعقيد ويجعل منهما غايته، من منطلق يرى في الأفكار الواضحة أفكارا رخيصة لا قيمة لها. وعليه، لا لزوم لأن يختبئ الكاتب وراء شعارات من قبيل "موت المؤلف"، "موت القارئ"، "الإنسان مقياس كل شيء".. إلخ. ليجعل من الغموض والإبهام ستارا يمرر عبره التفاهات ويخفي وراءه إفلاسا فكريا، يسوقه على أنه دلالة عمق فكري لا تقوى أفهام القراء على إدراكه وسبر أغواره.

* * * *

(باحث من المغرب)

الهوامش:

(1) ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، قدمه وعلق عليه أحمد الحوفي وبدوي طبانة، دار نهضة مصر، القاهرة، د.ت، ص185.

(2) نفس المرجع، نفس الصفحة.

(3) الحسن بن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر، وآدابه، ونقده، الجزء الأول، تحقيق وتعليق محمد محي الدين بن عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، ط5، 1981، ص223.

(4) حسن المودن، "دور المخاطب في إنتاج الخطاب الحجاجي"، ضمن الحجاج مفهومه ومجالاته، الجزء الأول، إعداد وتقديم حافظ اسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديث الأردن 2010، ص242.

(5) أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، المجلد الأول، الجزء الأول، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة السابعة، 1998، ص138-139.

(6) نفسه، ص104.

(7) حسن المودن، "دور المخاطب في إنتاج الخطاب الحجاجي"، مرجع مذكور، ص242.

(8) عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، قراءة وتعليق محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، د.ت، ص6.

(9) الجاحظ، البيان والتبيين، مرجع مذكور، ص99.

(10) ضياء الدين بن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، مرجع مذكور، ص178.

(11) طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة 1: الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، 1995، ص340.

(12) فواز حداد، المترجم الخائن، منشورات نجيب الريس، 2008، ص286.

(13) بنسالم حميش، من ذكر وأنثى، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2015، ص16.

(14) نفسه، ص17-18.

(15) طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة 2: القول الفلسفي كتاب المفهوم والتأثيل، 2005، المركز الثقافي العربي، ص62.

(16) عبد السلام بنعبد العالي، الأدب والفلسفة: استراتيجية واحدة، ضمن الموقع الالكتروني:الأوان.

http://alawan.org/article1417.html

(17) طه عبد الرحمان، فقه الفلسفة 1: الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، 1995، ص258.

(18) علي حرب، الممنوع والممتنع نقد الذات المفكرة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2000، ص186.

(19) فواز حداد، المترجم الخائن، مرجع مذكور، ص287.

(20) لودفيج فتجنشتين: بحوث فلسفية، ت: د. عزمي إسلام، الكويت، 1990، ص107، فقرة 111.