يرى الكاتب أن مفهوم "الاختلاف الوحشي"، الذي صكه الخطيبي، تمخض عن السجال والتباين الفكري حول التراث والهوية. أما "الاختلاف اللفظي" فله سياق مغاير، فقد ذُكر للكشف عن الانتحال، والتأكيد على أنه لا يجوز اعتبار فضح الانتحال من باب الاختلاف، فهذا الأخير صنو الاجتهاد.

الاختلاف الوحشي والاختلاف اللفظي

أحمد بلخيري

الاختلاف الوحشي مصطلح من وضع عبد الكبير الخطيبي. وقد حدده في كتابه »النقد المزدوج« على النحو التالي: »لنسم »الاختلاف الوحشي« بالانفصال الزائف الذي يقذف بالآخر في خارج مطلق. الاختلاف الوحشي يؤدي بشكل حتمي إلى ضلال الهويات المجنونة: الثقافوية، التاريخوية، القوموية، التزمتية الوطنية، العرقية.. كانت هذه الدعوة الى الاختلاف الوحشي )الوحشي والساذج( السخط الذي لم نتأمله، في مرحلة زوال الاستعمار، ويظل نقدها الغرب أسير العداوة وأسير هيجلية منحطة. وما نزال نتساءل: ما الغرب المعني؟ ما الغرب الذي نعارضه بنا، فينا نحن؟ ومن نحن؟«1.

الواو الموجود في الثقافوية، التاريخوية، القوموية دال لغوي يدل على اختلاف أساسي وجذري. ذلك أن الكلمات التي يوجد فيها هذا الواو، بالإضافة إلى التزمتية الوطنية وكذلك العرقية.. أدرجها الكاتب كلها ضمن الهويات، بصيغة الجمع، التي وصفها بالمجنونة، والتي تقود حتما إلى الضلال حسب رأيه. هو إذن يختلف مع هذه الهويات. ذلك أنه إذا كانت هذه الهويات مقترنة بالتزمت في علاقتها بالغرب، الذي تعتبره عدوا، فإن علاقة الكاتب بالغرب  ليست كذلك. هناك إذن تزمت وانغلاق يقابلهما انفتاح. هذا التقابل والتضاد في النظر إلى الغرب هما اللذان أديا إلى وضع مصطلح »الاختلاف الوحشي« الذي ينطوي في حد ذاته على موقف من تلك الهويات. المصطلح إذن يدل على اختلاف فكري جذري.

في إطار هذا الاختلاف الجذري ميز بين التراثوية والتراث. وهو ينتقد ويختلف مع التراثوية وليس مع التراث. التراثوبة معاصرة لنا، أما التراث فكان في الماضي. لذا فهو ينتقد طريقة نظر التراثوية إلى التراث، وكذلك طريقة نظر السلفية إليه. بسبب هذا الاختلاف في النظر إلى التراث من جهة، والغرب من جهة أخرى، وصف تلك الهوية بالعمياء. إنه العمى الفكري الذي كان سببا فيه التزمت والانغلاق.

هذا الاختلاف الوحشي، عند عبد الكبير الخطيبي، مرتبط بالهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية2. وقد لاحظ عبد الكبير الخطيبي أن هذه الهوية الأصلية »قد تصدعت وتمزقت بفعل الصراعات والتناقضات الداخلية«3. وهي »مرغمة على التكيف مع مقتضيات الحياة العصرية والتفتح على العالم«4. هي إذن مجبرة أو مرغمة على التكيف مع مقتضيات الحياة العصرية من لدن عدوها: الغرب. هذا دليل انهزام فكري.

لكن عبد الكبير الخطيبي لا ينتقد الهوية الأصلية ويختلف معها انتصارا للغرب. دليل ذلك هو مفهوم »النقد المزدوج« الذي »ينصب علينا كما ينصب على الغرب«5. من هنا كانت ازدواجية هذا النقد. وعلى هذا الأساس، ليس العرب مجبرين على اتباع مسيرة الغرب والمراحل التاريخية التي قطعها. فنحن العرب »لسنا ملزمين باتباع مسيرة الغرب ذاتها، بأن نجتاز من جديد المراحل التي اجتازها الغرب«6. هنا يختلف عبد الكبير الخطيبي مع عبد الله العروي وينتقد تاريخانية هذا الأخير.

هذا عن مفهوم الاختلاف الوحشي الذي استُعمل في سياق سجال فكري ايديولوجي مرتبط بسبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. فما المقصود بالاختلاف اللفظي؟

يستفاد مما سبق أن مفهوم الاختلاف الوحشي تمخض عن السجال الفكري وتباين التصورات الفكرية. وكان المقصود به هو التيار الفكري السلفي بشكل عام. أما مفهوم الاختلاف اللفظي فله سياق آخر مغاير تماما. ذُكر »الاختلاف اللفظي« في مقدمة كتاب »الوجه والقناع في المسرح«7 المخصص للكشف عن الانتحال. السبب المباشر الذي أدى إلى ذكر الاختلاف اللفظي هو محاولة تبرير الكشف عن الانتحال بالاختلاف من لدن المنتحل. عندئذ كان هذا التأكيد في مقدمة الكتاب المشار إليه آنفا. إذ »لا يجوز اعتبار فضح الانتحال من باب الاختلاف، فهذا الأخير صنو الاجتهاد«8.

بعد نشر ذلك الكتاب نُشر كتاب آخر عنوانه »نحو تحليل دراماتورجي«9. في الفصل الأول من هذا الكتاب، وهو مكون من فصلين، تم الكشف عن إقدام البعض على نسبة نصوص نقدية إلى غير كتابها الحقيقيين. نُسبت إلى المترجم رغم أن هذا الأخير أشار إلى أنه مترجم. كانت الغاية من هذا الفصل إذن هي التدقيق في النسبة، لأنه لا يجوز في البحث العلمي، عموما، نسبة نصوص إلى غير كُتابها.

بعد هذا الكتاب، أبديت ملحوظات عن عدم التفات أحد الباحثين المغاربة في مجال المسرح، في حوار أجراه معي الشاعر والصحافي عبد الحق ميفراني منشور في كتاب »سيميائيات المسرح«10، إلى شراح أرسطو العرب القدماء، ومنهم ابن رشد، وتركيزه على مصطلحين اثنين فقط وإغفال المصطلحات الأخرى الموجودة في شروحات أولئك الشراح. هذا علما بأنه لا توجد في كتابه المقصود أي إشارة إلى أولئك الشراح وإنما اكتفى بترديد رأي معروف اعتمادا على محمد عزيزة مؤلف كتاب »الإسلام والمسرح«11. في الحوار نفسه كانت الإشادة بكتابي هذا الباحث والإشارة إلى إنصافه للأبحاث »الإثنوغرافية الاستعمارية التي أقر بأنها كانت سباقة إلى دراسة أشكال فرجوية تقليدية مغربية، ومنها »الحلقة« و»مسرح البساط« و»سلطان الطلبة« «12. وقد كنت مضطرا إلى تحديد مفهومي النحل والانتحال. وأضفت إليهما مصطلحا جديدا هو الاستنحال الذي تم تحديده هو أيضا. تحديد هذه المفاهيم الثلاثة كان في الكتاب المشار إليه سابقا »سيميائيات المسرح«.

ثم نُشرت مقالة لي عنوانها »من مترجم إلى دارس«13، التي تم فيها الكشف، اعتمادا على الوثائق، على تحول المترجم إلى دارس فيما يخص الموضوع المقصود.

كل الأسماء التي كان التلميح إليها من خلال كتاباتها هنا تَستعمل في خطابها النظري مفهومي الحداثة والاختلاف. لكن حينما يقوم المحلل بقراءة كتاباتهم النقدية والبحثية قراءة موضوعية، قوامها الحجة النصية وليس سواها، ويتوصل إلى نتائج تخالف الصورة التي يحملونها عن أنفسهم، يتبدد عندهم مفهوما الاختلاف والحداثة ويتلاشيان. فيطل برأسه التفكير التقليدي العتيق رغم الأدلة والحجج النصية! في هذه الحالة تكون الصورة التي تحملها الذات عن نفسها فوق الحداثة وفوق الاختلاف. وبهذا يغدو استعمال هذين المفهومين نظريا من قبيل اللغو والحشو اللغوي، بعد أن أُفرغ المفهومان من مضمونيهما. وبهذا تكون الممارسة قد كشفت حقيقة الادعاء النظري عند هؤلاء. وبسبب هذا التناقض بين استعمال مفهوم الاختلاف على المستوى النظري، وعدم تقبل نتائجه على المستوى العملي، ينوب السلوك الانفعالي عن الرد المقنِع المعتمد على الأدلة النصية. السلوك الانفعالي ليس غير دال، بل هو دال دلالة بليغة لأنه يكشف حالة نفسية أو حالات نفسية. وهو تعويض نفسي يعوض الكتابة أمام العجز عن الرد والتصحيح والتصويب، إن كان هناك ما يدعو إلى التصحيح والتصويب. هكذا يتحول مفهوم الاختلاف الخلاق عند هؤلاء إلى اختلاف لفظي للاستهلاك، وليس مفهوما بانيا للمعرفة ومطورا للعلم.

عند هؤلاء، عوض تأنيب الضمير يصير من كشف عن النحل والانتحال والاستنحال، وأبدى ملحوظات بناء على القراءة واعتمادا على النص وحده، خصما، لا أريد أن أقول عدوا، وجب نبذه، ومحاربته، وعدم تحيته التحية التي ينص عليها الدين ويقرها السلوك المدني المتحضر. فهل هذا» الخصم« هو الذي أوحى إلى هؤلاء بالنحل، والانتحال، والاستنحال، وعدم الإشارة إلى مصطلحات موجودة في شروحات العرب القدماء لكتاب »فن الشعر«، ثم قام بالكشف عن كل ذلك لاحقا؟ في هذه الحالة، يكون هذا»الخصم« عديم المروءة، وإن كانت الأخطاء في العلم يتحمل وزرها صاحبها أي مرتكبها في الكتابة. ومادام الأمر ليس كذلك، كان حريا بهؤلاء أن يلوموا أنفسهم، ويبحثوا عن الخصم في ذواتهم لاخارجها.

فهل-على سبيل المثال-هو من أوحى لأحد النقاد المسرحيين المغاربة بأن عنوان النص الدرامي الذي كتبه عبد الخالق الطريس هو »انتصار الحق على الباطل«، العنوان الخاطئ الموجود في كتاب14 صدر هذه السنة 2015، عوض »انتصار الحق بالباطل« سنة 1933، وهذا هو العنوان الصحيح. تغيير العنوان أدى إلى استنتاج خاطئ أيضا. يوحي هذا الاستنتاج بأن موضوع هذا النص الدرامي يتعلق بمحاربة الاستعمار فكانت مضايقة واضطهاد صاحبه من لدن هذا الأخير بسبب كتابته ذلك النص. والحال أن موضوع هذا الأخير لا يتعلق بمحاربة الاستعمار. إن موضوعه يتعلق بصراع ابن مع والده حول التعليم. يريد الابن متابعة تعليم عصري بمدريد، عاصمة البلد المستعمِر وقتذاك، ويرفض الأب ذلك. لم يكن هذا الرفض بسبب أن اسبانيا بلد مستعمِر، بل لأنه يريد لابنه تعليما تقليديا. وقد أذعن الأب لرغبة ولده بعد استعمال حيلة، تمثيل داخل التمثيل، في النهاية لأن »هذا حكم الله ماشاء فعل«15. ولم يفطن إلى الحيلة أو الوسيلة المستعملة لبلوغ هذه الغاية. كان المنظور الديني والعائلي هو محركَ شخصية الأب وليس المنظور الوطني.

هذا النص الدرامي نشره رضوان احدادو في كتاب له منذ 1988 عنوانه: »مسرح عبد الخالق الطريس«. فهل قرأ صاحب هذا الحكم هذا النص؟ أو على الأقل هل تحرى الدقة أثناء كتابته؟ واضح أن الأمر هنا لا يتعلق باختلاف في التأويل، بل بالصواب والخطأ؛ تماما مثل الكشف عن النحل والانتحال والاستنحال. فإما أن الانتحال موجود أو غير موجود مثلا.

بناء على ماسبق، ألاحظ أن مفهوم الاختلاف الوحشي استُعمل في سياق صراع إيديولوجي بين تصورين فكريين مختلفين اختلافا جذريا تعكسه صفة »الوحشي«. أما الاختلاف اللفظي فاستُعمل في سياق يوحي بوجود دفاع نفسي عن الخطأ وليس عن الاختلاف الحقيقي. وشتان ما بين السياقين والاختلافين. سياق أساسه جدل وصراع التصورات والأفكار، وسياق يتم فيه الرد عن الكشف عن الخطأ بآليات الدفاع النفسي، ومنها السلوك الانفعالي، والاغتياب الذي ليس هو سلاح الأقوياء. وليته كان ردا من جنس الفعل: الكتابة. هذا علما بأنني سأكون شاكرا لكل من دلني على خطأ ارتكبته في الكتابة بشكل موثق، فبالنقد والتصحيح والتصويب وإبداء الملاحظات يتطور العلم.

ورغم ذلك، فإن هذا» الخصم« يقرئ جميع الأسماء التي ترى نفسها مقصودة هنا، تلميحا لا تصريحا، السلام، ويقول لأصحابها: لا تنسوا أن الإمام الشافعي )150-204هج(، وقد عاش في عصر لم يعرف الحداثة كما تعلمون، قال منذ زمان، ومن داخل العقل الديني، إن رأينا صحيح يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب. وهو، أي »الخصم« في منتهى السعادة لأنه قرأ نصوصا وحللها وتقيد بها. ورغم ما وجد فيها من أخطاء، وعلى رأسها الانتحال، فهو، بدون شك، يحترم أصحابها لأنه، منهجيا، يميز بين النص وصاحب النص.

* * * *

الهوامش:

1- عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، دار العودة، بيروت، لبنان، د ذ س ط، ص/14. ترجمة أدونيس )ترجم الكتاب عدة مترجمين.الاستشهاد مأخوذ من الجزء الذي ترجمه أدونيس(.

2-3-4- نفسه، ص/9.

5- نفسه، ص/9.

6- نفسه، ص/19.

7- أحمد بلخيري، الوجه والقناع في المسرح، دار البوكيلي، القنيطرة، المغرب، ط1، ص17.

8- نفسه، ص10.

9- أحمد بلخيري، نحو تحليل دراماتورجي، مطبعة رانو، الدار البيضاء المغرب، ط1، 1994.

10- أحمد بلخيري، سيميائيات المسرح، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، ط1 ، 2010.

11- محمد عزيزة، الإسلام والمسرح، منشورات عيون، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 1988.

12- سيميائيات المسرح، ص137-138-139.

13- نشرت في جريدة »القدس العربي« 13 يونيو 2014؛ ومجلة »الكلمة« الإلكترونية التي يديرها صبري حافظ، عدد 87، يوليوز 2014؛ ومجلة»الفوانيس المسرحية« الإلكترونية التي يشرف عليها عبد الجبار خمران.

14- المسرح المغربي المسار والهوية، إصدارات أمنية، ط1، 2015، ص9. تعمدت عدم ذكر اسم صاحبه حتى أبقى مرتبطا بالنصوص فقط.

15- رضوان احدادو، مسرح عبد الخالق الطريس، دار الشويخ للطباعة، تطوان، المغرب، ط1، 1988، ص166.