منذ تدفق المهاجرين بالآلاف إلى بلدان الاتحاد الأوروبي وتداول صورة الطفل السوري الذي جرفته المياه على الشواطئ التركية، لاتزال تحفل الصحافة الاِلمانية بالعديد من المقالات والتحليلات، حول الهجرة واسبابها والأوضاع الكارثية في الشرق الأوسط. وبالرغم من الترحيب والوعد الصادق من الحكومة الائتلافية وقطاعات عديدة من الشعب الألماني لمساعدة اللاجئين، الا أن الخوف والاضطراب بدءا يتسربان وسط الجماهير وخاصة بعد التقارير الصحفية وبعض الجهات الرسمية التي تشير بأن عدد اللاجئين سيصل الي مليون في نهاية هذا العام. بجانب نشاط اليمين الألماني المتطرف، ليس باستخدام الشعارات العنصرية فحسب، بل بالتعدي الجسدي ومهاجمة مراكز تجمع اللاجئين. وبث الذعر وسط المواطنين، بإثارة أزمة السكن وارتفاع الايجارات والعطالة. فالوضع يتطلب حساسية من الجانبين، الدولة المضيفة واللاجئين. فعلى اللاجئين استثمار الترحيب، وعدم الجري وراء مطالب لا يمكن تحقيقها منذ البداية، كما حاول بعضهم ذلك، حتى لا ينقلب المزاج السياسي العام ضدهم، بمعنى تحقيق التوازن بين الوسائل والغايات وبين العقل والقلب. سوف اعمل على متابعة ورصد بعض المقالات التي تتعرض لقضية اللاجئين من زوايا عديدة ومن موقع وسياقات مختلفة.
واستعرض اليوم وبصورة مكثفة مقال الكاتب والصحفي الالماني راينا هيرمان Rainer Hermann
بتاريخ الأول من سبتمبر 2015، بذات العنوان أعلاه والذي نشر في صحيفة فرانكفورتر الجماينا Frankfurter Allgemeine يكتب هيرمان بأن قائمة الدمار، التي ارتُكبت من قبل تنظيم "الدولة الاسلامية" المعروف اعلاميا باسم "داعش" تطول باضطراد: إذ تبدأ في العراق بمتحف وسور المدينة في الموصل وتتواصل في نمرود والحضر، وتُذيل القائمة موقتا تدمر السورية. فقام برابرة القرن الواحد والعشرين، بجانب المواقع الأثرية قبل الاِسلام ايضا المساجد والمقابر الأثرية والكنائس والأديرة، تسويتها بالأرض. يريد تنظيم "الدولة الاِسلامية" بهذه الثقافة الهمجية والعربدة، إثارتنا وكشف حيرتنا وعجزنا أمام أعيننا واظهار من الذي يقود بحد السيف بلاد الشرق الأوسط.
ويواصل هيرمان، فالإرهاب لديه، بجانب النظرة الثنائية البدائية الدنيوية لتنظيم "الدولة الاسلامية"، ايضا بعداً لاهوتياً (المقصود الثنائية بين العالم والاِله). فالأيديولوجيون في تنظيم الدولة الاسلامية يعظمون الاسلام المبكر المثالي وبذلك ينكرون تاريخ 1400 عام من تراثهم الديني بتجلياته المختلفة: الاسلام الصوفي وكذلك الشيعي والتدين الشعبي، فضلا عن ذلك تنوع المدارس الفقهية (اللاهوتية). فتنظيم الدولة الاسلامية يمحي مظاهر الاسلام التاريخي ويصفي اولئك الذين يمارسون هذه الشعائر.
ان ضحايا ارهاب تنظيم الدولة الاسلامية، هم اولئك، الذين لا يؤسسون نظرتهم الدنيوية على الإسلام (فقط). إذ أن تنظيم الدولة الاِسلامية لا يعرف الا عالمين: عالم الاسلام المبكر المثالي وعالم يسمونه "عالم الجهل". فالمسلمون يصفون عادة، الزمن ما قبل الاسلامي بـ"عصر الجاهلية" ولكن هذه النظرة لتاريخ ما قبل الاسلام قد تغيرت لاحقا. فجاء الشعر العربي قبل الاِسلام بتقديس الفضائل مثل الشرف والشجاعة والتسامح مع الأعداء مما ادى الى ظهور الكبرياء القومي العربي العلماني مما لا يتفق مع ذهنية تنظيم الدولة الاِسلامية.
يرفض ايضا تنظيم الدولة الاِسلامية بشكل قاطع الهُويات الوطنية والثقافات التي وجدت ما قبل الاسلام لدول الشرق الأوسط القليلة، وبحدودها المستقرة:
فمصر الحديثة تنتسب هويتها إلى الثقافة الفرعونية، وتونس الحديثة إلى قرطاج، ولبنان إلى الفينيقيين وايران إلى اللخميين في برسبوليس. لقد تطور في هذه الدول وعي وطني، لا يتطلب الاسلام. ان تمجيد التاريخ السابق على الاسلام، هي سِمة للقومية الموجهة علمانيا.
ان مدينة تدمر لوحدها ساهمت في تشكيل كبرياء وطني عربي بمعزل عن الاديان. وهكذا تحدت زنوبيا حاكمة تدمر الاسطورية روما وجعلت العرب أن يصيروا أقوياء مؤقتا. وفي عهدها، أي القرن الثالث بعد الميلاد كان القيصر في روما عربيا، وصارت تدمر مدينة تجارية هامة. فسقوط تدمر أولا، أدى الى صعود مكة ونشوء الاِسلام.
الإسلامويون يرفضون قطعيا المرجعيات القومية والاِثنية ولا يقبلون الا هُوية الجماعة الاِسلامية فقط. وتعمل السعوديون عند تصدير اسلامهم المتزمت على هدم المساجد القديمة بحجة تحديثها وبذلك يقوضون التقاليد المحلية وينشرون من داخلها اسلامهم المتطرف. لقد قبل الإسلامويون في مناطقهم منذ فترة طويلة التواصل التاريخي، الذي يعود الى زمن ما قبل الاسلام.
فلا يشك أحد من المصريين في الأهرامات، او في قرطاج التونسية أو في تراث برسبوليس العالمي بعد أن تمكن السكان في بداية الثورة الايرانية عام 1979، من منع تحطيم اللوحات والصور الأثرية من متحف مدينتهم. ويواصل، في البلدان التي تستند شرعيتها على الاِسلام، يجد علم الآثار نفسه دائما في موقف صعب. فهو يظهر لهم بأن العالم لم يبدأ بالإسلام. يقول هيرمان، في التراث الاِسلامي قلما يوجد مِثال يتطابق مع النظرة الثنائية المتطرفة لتنظيم الدولة الاِسلامية؛ انها نتاج الحداثة. فقط المفكر المصري سيد قطب أحيا من جديد، الفصل الجذري بين الاسلام و"الجاهلية" وأكسبه شيوعا وشعبية، وهو الذي أعلن إقامة الحرب "فرض إسلامي" على جميع الذين بقوا على جاهليتهم، مثل حكام مصر. وقطب يعتبر عودة "الجاهلية" -بجانب القومية العلمانية- أكبر مشكلة تواجه الاِسلام المعاصر. ولذلك يوجد حل واحد فقط حسب قطب: وهو فرض سلطة الاسلام على العالم أجمع، حتى ولو بالقوة.
فالإسلاميون المتعصبون يرفضون حتى المواقع الاثرية الاِسلامية. وكذلك رفض عبدالعزيز بن باز المفتي العام والوزير في عهد الملك السعودي فهد، ترميم المواقع الأثرية في مكة والمدينة بحجة، بأنها تدفع المسلمين بتمجيد هذه المواقع مما تعني عبادة الاوثان وتلهي عن الخضوع وعبادة الواحد الأحد. كان بن باز يدعو في خطبه ووعظه لمحاربة الجهل و"الجاهلية"، ويقول بأن الشمس تدور حول الأرض. فاذا كان لتنظيم الدولة الاسلامية من تراث يتكئ عليه، فإذن على هذا.
بعد هذا العرض أود ان أتعرض لبعض النقاط والآراء التي طرحها الكاتب. يكتب هيرمان عن ايدلوجية تنظيم "داعش" وممارسته الاجرامية اللاإنسانية ويشير الى ارتباط هذا الفكر المتطرف بالفكر السلفي الوهابي المتزمت في السعودية، مع الاختلاف على الأقل في الممارسة والتطبيق. الكاتب لا يتعرض الى الاسباب التي أدت الى ظهور داعش بهذه الكثافة والقوة والتي جعلتهم كما يقول في حيرة وعجز. هل هم فعلا في الغرب في حيرة وعجز أمام داعش؟ فهم يتحاشون الحديث عن التدخلات الاجنبية خاصة الغزو الامريكي للعراق عام 2003 وصمت الادارة الامريكية عن السياسة الاجرامية لنوري المالكي، بإثارة النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية وانفلات الأمن والقتال الطائفي وبروز داعش، ليحقق هدفهم المضمر وهو ليس تقسيم العراق فحسب، بل كل المنطقة بعد تمدد داعش في سوريا واليمن. والكاتب عندما يتحدث عن الفكر السلفي السعودي يتحاشى الحديث عن الحلف المقدس منذ سنوات عديدة بين امريكا والسعودية ويصمت عن وطنه –المانيا– التي تصدر السلاح الى هذا النظام السلفي المتزمت حسب قوله، دون أن نغفل دور الحكومات العربية العميلة والفاسدة والمستبدة والمتآمرة على شعوبها وبعدم تبني اصلاحات حقيقية في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي، مما ادى الى تدهور الوضع المعيشي وارتفاع نسبة الفقر والعطالة والجهل، فليس مستغربا بعد ذلك توجُه الشباب العربي –الذي فقد الأمل في حياة كريمة ومستقبل واعد ويعيش إحباطاً شاملاً– نحو العنف والانضمام الى المنظمات الارهابية مثل داعش وغيرها.
لا أدري ما الهدف من إثارة قضية الجاهلية في هذا الظرف الملتهب في الشرق الأوسط. وهي قضية وبؤرة ادانة ايدلوجية ودينية للعصر قبل نزول الاسلام. وقد تم ادانتها وتفنيدها من كثير من العلماء والباحثين. ولعلنا في هذا السياق نستعيد طه حسين وهو القائل في كتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926: "لم يكونوا على غير دين ولم يكونوا جهالا ولا غلاظا ولم يكونوا ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس الى الأمم الأخرى.. واذا كانوا أصحاب علم ودين، وأصحاب ثروة وقوة وبأس، وأصحاب سياسة متصلة بالسياسة العامة متأثرة بها مؤثرة فيها، فما أخلقهم أن يكونوا أمة متحضرة راقية لا أمة جاهلة همجية".
لا أريد أن أعلق على خطل الرأي الذي أثاره الكاتب بقوله، بأن علم الآثار يجابه صعوبة في بلاد المسلمين، فهو يظهر لهم بأن العالم لم يبدأ بالإسلام. وهو مماثل لخطل نظرية "المركزية الأوروبية" القائلة بأن التاريخ الانساني الفكري والحضاري عموماً على أنه تاريخ للفكر الأوروبي بدءاً بالعهد اليوناني القديم، ومروراً بعصر النهضة والتنوير، ومنتهياً بالعصر الحديث والمعاصر.
وعنما يذكرنا هيرمان بتاريخ منطقتنا، وأن مصر الحديثة تنتسب هويتها إلى الثقافة الفرعونية، دون ان يذكر بأن المجتمع المصري الثابت والذي وجد منذ الآلاف السنين "بقومية خاصة" حافظ عليها عبر الحضارات التي تتالت على مصر، وهى الفرعونية والقبطية والاسلامية العربية.
لا خلاف حول تنظيم داعش الارهابي المتطرف والعمل على سحقه ولا خلاف حول النظام السعودي ونهجه السلفي المتزمت والمرفوض، ولكن عندما يُنشر مثل مقال هيرمان كافتتاحية وفي الصفحة الأولى لصحيفة واسعة الانتشار وبهذا العنوان المثير وفي هذه الظروف الدقيقة والحرجة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط ونزوح الأف المهاجرين الى أوروبا، كان يتوجب على الكاتب مناقشة القضية من كل جوانبها وعرض الحقائق كاملة لا حجب بعضها كما فعل.
(Der Kulturvandalismus der Islamisten, Rainer Herman. FAZ. 1. September 2015)
* * * *
(كاتب سوداني يقيم في برلين)