يؤكد الناقد المصري أن هذه المجموعة تشدّ القارئ منذ بداية الأحداث وتماوجها في ترابط وغليان. ثم يحلل المشهديات السردية، ويرى أن المعنى ربما يختلط قصداً، فتحتار المتلقي بين الشخصيات والحالة النفسية، إلا أن طلاوة الأسلوب، وقرب المتلقي من القصص التي تسردها الكاتبة في مودة ودأب لا يفارق القارئ.

«جوليا.. أخيراً» .. والبساطة الجاذبة

قراءة في المجموعة القصصية لنور الهدي عبد المنعم

محـسـن صـالح

الكتاب الذي بين أيدينا صغير الحجم يضم خمس عشرة قصة قصيرة تشدك من الوهلة الأولي بدء من القصة الأولى "انتصار" إلى القصة الأخيرة "أحلام"، وبين دفتي الانتصار والأحلام تموج أحداث المجموعة القصصية في ترابط وغليان وأخذ ورد لتطفو على سطح هذا العالم قصص "جوليا..أخيرا" و"دراهم" و"عقد عمل" كنماذج من القصص القصيرة الجاذبة داخل هذه المجموعة. الجميل في هذا الكتيب الصغير هو حيوية القصص القصيرة في أركانه المختلفة عدا بعض نماذج قليلة جدا يختلط فيها المعنى فتحتار بين الشخصيات والأحداث في ربكة، ربما تكون مقصودة فنيا لتجعل القارئ يعاصر لا منطق الأحداث الفعلي بل الحالة النفسية التي تعاصرها الشخصيات وأبطال الحادثة، وهنا لانفتش عن الكلمات والعبارات بل نفتش عما تثيريه فينا وهل عشنا الحالة النفسية والانفعالية والعصبية لأبطال العمل؟ الخطورة هنا هي أن هذا المنحى من الكتابة مثل البهارات في الطعام، والتي إن زادت عن الطبيعي أغرقتك في غموض ومتاهة أسميها "متاهة الغموض" ولكم جنت هذه المتاهة على أعمال أدبية كثيرة، لأنها ببساطة قطعت طريق التواصل المفهوم بين القارئ والعمل الأدبي فانقطع الخيط المطلوب وأصبح الاتصال غير ذات جدوى بل أحيانا ما يلقي القارئ الكتاب بلا رجعة حيث أن ضغوط الحياة تدفعه إلى ذلك.

تواجهنا في هذا العمل الأدبي طلاوة الأسلوب وقربه من نفس القارئ، فتحس كأنك هناك مع الكاتبة تجالسك وتحكي لك قصصها في مودة وحنو ودأب وترى شخصياتها رأي العين، بل لاتتورع أحيانا عن السلام عليهم ومصافحتهم والركون إلى مشكلاتهم التي يعانون منها في رقة وقرب نفسي، لأن الكتاب لمس شغاف القلوب ووجدنا أنفسنا فيه.

في قصة "الانتحار" نجد أن الانتحار ليس كما يوحي العنوان "ترك الحياة"، بل المقصود منه هو الابتعاد عن الانتحار بالدنو من الحبيب، وكأن لسان حال القصة يقول بأن الانتحار لن يكون وتلك لفتة ذكية من الكاتبة تجعلك تتوتر من العنوان ثم لا تلبث أن يزايلك التوتر وتركن مع الكاتبة إلى هدوء النهاية ووداعتها فأهلا بالسلام وبعدا بعدا للانتحار.

نرحل مع الكاتبة المبدعة نور الهدى على جناحي الطائر في سماء مجموعتها وننطلق إلى قصة "برواز مكسور" فنتوتر مع السرد في هذه القصة، ونجد أنفسنا نسقط مع البرواز المكسور حال سقوط الصورة، وتنتابنا الحيرة من يبحث عن من؟ هل هي المرأة الخائنة أم المرأة الأخرى. وهذا في رأيي جمال النص القصصي المحير الذي يجعلك تحتار أمامه، كما تحتار أمام بعض من مواقف الحياة وما أكثرها وربما نجد أن التي سقطت منها الصورة في خاتمة المطاف وانكسر البرواز هي المرأة الأخرى وليست الزوجة الخائنة.. ربما..

"في السماء" القصة الثالثة نجد فيها أن بطلة القصة تعود بالذاكرة إلى الزمان من خلال المكان المتمثل في المطار حيث كان هناك الترحال إلى حبيبها الذي غادرها في ذات المكان، نلقي في هذه الرواية جمال التعبير في هذه العبارة التي تقولها وهي تلوذ بزوجها كالطفل الذي يلوذ من الأخطار بوالديه طلبا للحماية والإحساس بالأمان المفتقد، تواجهنا هذه العبارة الحلوة الجميلة التي تقولها الكاتبة في التعبير عن الحالة التي تنتاب البطلة "تسرع وتلتحم بزوجها الجالس بجانبها وتحتضن يديه"، نجد هنا اليدين وما تعبران عنه من تعبيرات السيطرة والقوة والجبروت والسطة، وسنجد أن اليدين هما في الوقت نفسه أداة التفريق والوداع وكذلك أداة الحماية والمصالحة، كما أنها أداة البطش، المعاني تتكرر وتترادف من جراء إيراد كلمة اليد وكأن الكاتبة تريد أن تملأ ذهن القارئ المتلقي بكل صنوف الراحة التي تحسها البطلة وهي تمر بحالة ذكرى تقلق النفس والعقل وتشتت الإحساسات.

في قصة "جينات" نلقي الزوجة التي تفتش في أوراق زوجها بعد ثلاثين عاما من الرحيل وسنجد أن الكاتبة تغير من ضمير السرد وطريقته في منتصف القصة من المتكلم إلى الراوي أو الغائب، الأمر الذي يوظف كلفتة جاذبة تثير في القارئ الإحساس بمجرى الأحداث وما اكتشفته عن زوجها، حيث أن الزوجة حسب تعبير الكاتبة قد "عرفت أن العشق وفعل الكتابة أيضا في الجينات، وأن القلم صديق مشترك بيننا"ص14.

في قصة "خطاب تعيين"، نجد "أحمد" الذي يعود إلى مدرسته الثانوية مدرسا ومن خلال ذهابه لاستلامه العمل، نجده يعيش حلم المكان الذي تركه طالبا أو تلميذا ولكنه لم يكد يدلف إلى المكان أي المدرسة، حتى يجد أن طبوغرافيا المكان قد تبدلت وكذك الأشخاص ومنهم "مس ضحى" مدرسة اللغة الإنجليزية ونجد أن بطل القصة لا يتحمل هذا التغيير الكبير الذي يراه، فنجده يشير إلى التاكسي الذي أوصله أن يأخذه ثانية وتتركنا الكاتبة دون أن ندري هل المغادرة هذه من جراء الصدمة الأولى حتى يستوعبها ثم لن يلبث أن يعود أم أنه لن يعود مطلقا، لم تخبرنا القصة هذا وتركتنا في جمال سردها معلقين محتارين لايقر لنا قرار ولعل هذا هو الجمال في الأمور التي تذهب فيها النفس كل مذهب، حيث تجد التأويلات تتعدد لتثري النص من قبل المتلقي ولتعمق وتجذر من جمال عملية التلقي ذاتها في منظومة فاعلة وضافية.

نلقي الآن القصة التي تمثل واسطة العقد كما يقولون وهي قصة "جوليا... أخيرا"، والتي تحكي قصة "عبد الصبور" مدرس الزراعة الذي خرج على المعاش، ولكنه يجد هناك الفراغ العاطفي مع تحول زوجته إلى وحش منزلي يغتصب منه راحته ويضغط على أعصابه بالطلبات والمصاريف، ينسحب عبد الصبور إلى العالم الإفتراضي على جهاز الكمبيوتر يخاطبه ويبث له لواعجه مستعيرا صورة ابنه وتتطور العلاقة مع جوليا في إحدى غرف الشات أو الدردشة لتصل إلى لغة الجسد وتضبطه زوجته متلبسا وتفضحه وتذهب إلى محكمة الأسرة، تطلب الطلاق ولم ترحم الكاتبة وهي أنثى الزوجة بل نجدها عكست لنا جبروتها وقسوتها وتسلطها وعدم فهمها للمرحلة النفسية التي يمر بها زوجها، كل ذلك أدى إلى لجوء الزوج لغرفة الدردشة ولحدوث ما حدث، إنها قصة بالغة المعنى، وحقيق لها أن تفوز في إحدى المسابقات لتتخذها المؤلفة درة لمجموعتها القصصية ووقلبا لها بل وتسميها بإسمها.

في قصة "رغبة" و"الأفوكاتو" نجد في هاتين القصتين الإحباط حيث نلقي في الأولى الإحباط في إتمام الزواج وفي الثانية الإحباط في أن تلقي المحامية المحامي الكبير، حتي تلقاه أمامها مرافعا كخصمين. إنها الإحباطات التي تأخذ بأبطال القصتين، فنجد أنفسنا معهم نترقب ونعض على الأصابع بالنواجذ في توجس وقلق.

في قصة "دراهم" نجد أمرا كابوسيا، حيث نجد "دراهم" التي تقع فريسة غيبوبة عي إثر قذيفة سقطت فقتلت كل من كان معها "عم أحمد التمرجي" وسنجد أن أولادها الثلاثة وزوجها ماتوا من قبل في ليلة العدوان الثلاثي وسنجد أن طلبها للمرآه في خاتمة القصة أمر كاشف، أضاء لنا حقيقة بطلة القصة وماآلت إليه وماصار عليه حالها، فنجد الكتبة تعبر عن هذا وتقول " فوجدت شبحا باهتا لاتحمل ملامحه دليلا عيل إرتباطه بالأنثى التي كانتها في يوم من الأيام" ص 36. هنا نجد المعنى العام لأثار الحروب على البشر وتأثيراتها على الأسر في مشهد إنساني معبر.

في قصة "عقد عمل" نرى "هويدا" تلك الشخصية التي نجدها في حياتنا، تلك الشخصية التي تناضل من أجل كسب لقمة العيش وترضى بعمل دون إمكاناتها طلبا للمال وللمصاريف كما يقولون، وتحاول "هويدا" في مجال إدارتها لأعمال المعلم لشققه المفروشة أن تذاكر هذا العالم الغريب، وسنجد عبارة في منتهى الذكاء وسط القصة "كانت صدمتي كبيرة جدا، وبدأت أسأل هل من الممكن أن أعمل في هذا الوسط دون أن أتلوث..) ص 41.

تستمر "هويدا" في العمل حتى تلقي "علي الصاوي" الذي يعرض عليها أن تكون مديرة لأعماله وزوجته حتى تجد الرجل المناسب فيطلقها لتتزوجه. تقول البطلة لهذه القصة القصيرة "صدمني هذا الكلام الذي لم أسمعه من قبل وبدون تفكير أسرعت قائلة: أنا مش للبيع" الغريب في الأمر في هذه القصة في نهايتها هو موقف شقيقها وقولته: " أنتي دائما متسرعة وكلامك ناشف " ص 45، لتنغلق القصة على موقف محير من هذا الأخ الذي ربما يود أن يغترف من هذا العريس اللقطة كما يقولون، موقف محير وغريب ولكنه موجود في الحياة ونلقاه في العديد والعديد من أحداثها التي تروعنا بغرابات أشد من هذه.

في قصة "يقين" أعجبني السرد وأعجبتني الحكاية والحبكة، فالزوج يتزوج في خفية ولاتعلم زوجته شيئا حتي يذهب إبنه من زوجته الأولى لطلب المعافاة من التجنيد، ليجد أن أباه قد تزوج من أخرى غير والدته وله أخ عمره عشرة سنوات لا يعلم عنه شيئا. حكاية فيها نقد أخر لسلوك الزوجة وهي تنضاف إلى قصة "جوليا.. أخيرا" وتصور أن حرص الزوجة على التقليب في أوراق الزوج وأغراضه لايجدي، وكان لابد من أن تفتش الزوجة الأولى عن نفسها هي وتصرفاتها مع الزوج، وتراجع أمورها وتدرك أن السيطرة الناعمة هي بالحب لا بالبوليسية والتحري والتفتيش. إنها رسالة مغلفة من الكاتبة القديرة نور الهدى عبد المنعم والتي لا تنسى أبدا أنها إمرأة، ولها رسالتها لبني جنسها، تقوم وتوجه دون تقرير منفر بل تقديم النموذج الفني والراقي من التعبير والإجادة.

في القصة القصيرة الأخير "أحلام" نجد هناك البطل أو راوي القصة لايزال في ماضيه ولكن تحوطه الأحلام وتراوده "أمل" في الحلم ولايزال تحت سحرها وتحت سيطرتها أو ما يقولون عن بالإنجليزيةObsessed by her ونجد أن القصة تفاجئنا في خاتمة المطاف بالعبارة التالية "إنتهى من إضافة هذه الصفحات في مذكراته، وقرر أن يستكمل ما بقي من عمره مع الأحلام" ص 50، إذن نحن حيال حلم أو ذكرى تواشجت ولازالت لها أثارها. لا نملك في خاتمة هذا العرض إلا أن نزجي التحية للكاتبة المبدعة على هذه المجموعة القصصية التي أثلجت صدورنا ورسمت لنا لقطات من الحياة فوارة دافقة، وأضافت لبنة إلى لبنات الإبداع القصصي المصري، ولا نجد أنفسنا إلا ونحن نرفع لها القبعة عالية جزاء على المتعة الفنية التي حصلنا عليها من الجمال والإجادة.