يرى الروائي والناقد الأردني المرموق أن الكتاب كُتبت نصوصه الست والثلاثين لتكون كتاباً واحداً ضافراً لـ"حكاية" لا تنتهي تناسلاتها، وسارداً لـ"مراوداته" بلغة هي أقرب إلى التطريز بالإبرة منها إلى التدوين بقلمٍ مُتْعَب مخدوش الرأس. كتابٌ خضعَ لـمنطق الكتابة المستطردة الساعية لأن تُمْسِك بما هو أكثر من المحسوس.

«مراودات» التطريز بالإبرة

إلياس فركوح

من العلامات اللافتة في هذا النصّ المتعدد، اكتفاءُ كلِّ حالةٍ فيه بنفسها تخطيطاً موحياً بما هو أكثر، وتكامل حالاته بوصفها "بانوراما" ملتحمة الحدود، أو قُلْ إنها لوحة فسيفساء، إذا ما انضفرَت التخطيطات معاً. على هذا النحو الذي تجرّأَت عليه كاتبتُه في بنائه الحثيث، صار أن توفَّرَ للقارئنصّاً مشهدياً واحداً ذي طبقات،في كتاب يراودُ حالاتِه بما لا تحتويه ويستنطقها. يستنطقهاتاركاً للقراءات المستقبِلة مساحاتها في التأويل المتحرر من أيّ "فكرة" مسبقة. ولعلّ انطلاق الكتابة في مبتدئها وقد تخففت من فكرة مسبقة، لكنها التزمت بالتداعيات الناتجة عمّا كُتبَ وأُنْجِز، كان أن أصبحَت "المراودات" لُبَّ النصوص متفرقةً ومتجمعة في آن.

غير أنّ المراودات، كأفعالٍ ترغيبية تضطرد في اندفاعاتها وإحجاماتها، لم تطبع البناء الفنيّ الكُلّي لهذا النصّ المتعدد فقط؛ إنما تأتت أصلاً عن تلك الأفعال/ اللاأفعال التي اتسمت بها الشخصية الواحدة المحركة لـ"فتافيت" الأحداث ونمنماتها: أحداث حدثت، وأحداث لم تحدث لكنها كُتبت بطاقة مراودتها الخائفة تارةً، وبرغائبية صاحبتها الملجومة تارةً، وبمنطق صيرورة الحلم الذاهب إلى منتهاه دون إمكانية وضع "النقطة في آخر السطر"!

ولئن أعملنا تأويلاً إجرائياً سريعاً للقبض على نهايات بلا اكتمال، فبوسعنا التوقف أمام النصّ المعنوَّن بـ"قهوة" وإعادة قراءته (بوحي من وعي الكاتبة وقصديتها)؛ إذ نبدأ به كمفتتح وننتهي إليه ككلمة خِتام! غير أنّ لكلّ قراءة مُعطاها الخاصّ، بحكم موقعها المتسلسل، فنبدو (إذا ما قمنا بتحريض ذاكرتنا) نعاينُ دائرةَ "العَوْد الأبديّ "الملتفّة على نفسها!

كأننا حيال الحركة الدؤوبة لبندول ساعة منصوبة تمتحن قدرتنا على التخيُّل. تتحدى خيالنا المُجَرِّب على الاستنتاج والتكملة. بندول يروح ويجيء بلا توقف، لكنه لا يبارح منتصف الدائرة إيّاها، ويا لها من دائرة بنصفٍ تطالبنا، نحن القرّاء، برسم نصفها الآخر وتعبئته بألواننا ونُتَف تجاربنا. أوَليست المراودات في ذاتها تعني نقصاً في وجه الصورة المرئيّ، واحتمالات ملامحه الغائبة في جزئها المتخيّل؟ أليست هي نحن على حقيقة مخاوفنا من رغائبنا فنرتدّ عنها، وتجاسرنا على تلك المخاوف فنُقبل عليها؟

ما يبدو ناقصاً في "أحداث/ لا أحداث" هذا الكتاب المراود بامتياز، يباغتنا بنضوج سرديّ لغويّ باتَ نادراً في نصوص حديثة الصدور، ومنذ وقت، وُسِمَتغالبية كتاباته بالتعَجُّل. ولأنه هكذا؛ أراه نصّاً/ كتاباً/ كتابةً نُدفع لأن نراجع فقراته واحدةً واحدة علّ "خَبيئة ما" بثتها الكاتبة بين كلماتها المُنضّدة باحتراس لا ينقصه الإحساس اليقظ. وهي إنْ فعلَت هذا، فإنّ فعلها جزءٌ صميم في عمليات المراودة البندولية على مستويين: الخُبث الذكي في التعامل مع اللغة المُتقنَة، والخشية الغريزية من إفشاء الرغبات.. حتّى ولو تحققت وحدثت.

*   *   *

"مراودات" كُتبت نصوصه الست والثلاثين ليكون كتاباً واحداً ضافراً لـ"حكاية" لا تنتهي تناسلاتها، وسارداً لـ"مراوداته" بلغة هي أقرب إلى التطريز بالإبرة منها إلى التدوين بقلمٍ مُتْعَب مخدوش الرأس.

"مراودات" كتابٌ خضعَ لـمنطق الكتابة المستطردة الساعية لأن تُمْسِك بما هو أكثر من المحسوس، متخذةً القصةَ شكلاً للتعبير، لكنها ليست مجرد"مجموعة قصصية" مختلفة الموضوعات. وليست كذلك "تجميعاً" لقصصٍ ذات موضوع واحد يُرى من زوايا مختلفة، أيضاً. كما أنه ليس "متوالية قصصيّة" تتتابع تماماً؛ إذ ثمّة ما يخالف التتابع أو التوالي ما دمنا نعاينُ النقصَ دائماً.

ولأنه ليس كلّ ذلك، فإنّ إحالته على جنسٍ كتابيّ معروف، باطمئنان كامل، لعمل مجحف واعتباطيّ. فها هو، حتّى في محاولة إدخاله إطاراً يُعَرِّف به، يراودنا ولا يستكين!

أنقول بأنه في مجمله "سَرْدٌ قصصيّ" فنُخلي مسؤوليتنا، ونُلقي بها على القارئ؟

أنقول أنه "نصوص"، ونكتفي؟

نعم. لِمَ لا؟