يتناول النص بعداً منسياً من أبعاد الشتات العراقي في خضم الحروب والقمع في زمن الدكتاتورية، ألا وهي حياة العراقيين الذين اشتركوا بانتفاضة مارس 1991 في الجنوب العراقي واضطروا، بعد هجوم الحرس الجمهوري وسيطرته على المدن، إلى الهروب نحو حدود السعودية ليجدوا أنفسهم محجوزين في مخيمين صحراويين.

سيّد القوارير (رواية)

حسن الفرطـوسي

«إلى : شركائي في رحلة التيه.. حسن ناصر،  نوري أبو رغيف، حسين الزورائي، علاء هادي، و... روح أخي نصر»

 

"إن المحنة الخفيّة التي لا يدركها من دخل تجربة مخيم رفحاء، هي أنهم أبناء وطن استلهم روحه وأخلاقه ومقدساته من الماء وعلى حين غرّة باغتتهم الصحراء،  ليقطنوها لزمن انعدمت فيه ملامح الأرقام، فصاروا فريسة التنافض بين أخلاق الماء وأخلاق الصحراء.. أما المحنة المعلنة والتي يعلمها الجميع، هي أنهم مطرودون من ذلك الوطن.. مطرودون وحسب.. ولكن هل كانوا يستحقون هذا الطرد والإبعاد؟ إنها قضية سيشكل التاريخ  ملامحها.. التاريخ، بتعرجاته وتفاعلاته مع الحياة، لكن الشيء المهم في كل ذلك، إنهم شهود المرحلة وشهداؤها"   

الفصل الأول: غواية مراكب السيّد لوكا
الروائح الغريبة القادمة من تلك الخيمة التي نصبت ذات ظلام، زادته شعوراً بالوحدة والضياع.. لقد أمضى ساعات الصباح والظهيرة بقلق قاتل وهو يترقب ذلك الشئ الغامض الذي هبط بشكل مفاجئ.. كل الذي يعلمه، انه استيقظ على رائحة البخور المنبعثة من ذلك الكيان العجيب الذي لم يكن له وجود لغاية الليلة الماضية.. خيمة غريبة، منصوبة في وسط باحة المخيم وتنبعث منها روائح بخور لم يألفها من قبل. وسرّ الغرابة يكمن في أن تلك الباحة لم تكن مخصصة لبناء الخيام، فهي خيمة نصبت في مكان شاذ وتوقيت مريب، على نحو لا يخلو من الإشارة لحدوث شيء ما، وغموض من هذا النوع أكبر من أن يحتمله علي موات "المسكين".

 يا له من غموض مرهق ويا له من صباح "رفحاوي" ثقيل ويا لك من مسكين يا علي موّات؟ إنه مسكين حقاً، لقد رافقته هذه الكلمة طويلاً، قبل أن تستدرجه غواية الصحراء وتحمله على هجران موطنه بحثاً عن حلم لم تتضح ملامحه في رأسه بعد، إنه مسكين، هذا كلّ ما ترسّب في داخله ولم يجد في هذه الكلمة ما يضيره، بل لطالما منحته شعوراً بالطمأنينة، لأن الجميع لا يرى فيه إلا كائن مسكين. وأكثر ما رسّخ لذة الشعور بالاستكانة لديه، هي تلك الكلمات التي قالها له ذات مرّة شاعر معروف في مدينته وهو يتأمل وجهه "أنت من الكائنات المسكينة والمستكينة لهذه الدنيا اللعوب يا علاوي" وكان أكثر ما يثير اهتمام ذلك الشاعر، هي تلك التقاسيم التي ترتسم على وجه علي موّات، حينما يخاف شيئاً، أو يتوجس من غموض شيء ما، أو حينما تنتابه نوبة الرعب من كل ما هو متعلّق بسوء الطالع، أو أي بلاء غيبي قد يحلّ على المتنمردين والمتمردين على نمطية الحياة وتعاليم جارته العجوز "أم ماهود" صاحبة الدكان الصغير المحاذي لبيته؟! هو لا يشكّ أبداً بقدرتها على معرفة كل ما يدور في عالم الخفاء الذي حدثته عنه مراراً وفي كلّ مرّة تتحدّث إليه، يزداد رعبه وخوفه من تلك العوالم.

انه مسكين وحسب، هذا هو كل ما يطمح إليه ويتمنى أن يكونه في نظر الآخرين ويسعى الى عدم زعزعة قناعتهم في تلك الحقيقة التي تبعث في نفسه الطمأنينة وتجعله في معزل عن أيّ غضب إلهي قد يحلّ في أي لحظة.

كان لعلي موّات أصدقاء كثيرون في تلك المدينة التي مازال قلبه يعتصر ندماً على فراقها، إنهم مشاكسون أحياناً، لكنه ما كان ليجد من مرافقتهم بدّ، فهم يعرفونه جيداً ويعرفون مقدار مخاوفه من المساس بما هو مقدّس لديه. ورغم حبهم له إلا أنهم لا يجدون فيما يقوله شاعر المدينة وهو يصف شخصية علي موات، غير فرصة عظيمة للإمعان في المشاكسة.

ما زالت ذاكرته تحتفظ بما قاله شاعر المدينة عنه ذات مساء في مقهى عبيد وهي من أشهر مقاهي المدينة "انه كتلة من الهواجس المبهمة وتسكن روحه مجموعة لا حصر لها من المقدسات غير الواضحة وكل ذلك جعل منه مخلوقاً يسير بخوف بين خطوط حمراء بالغة الكثافة والسمك" وقد أسعده سماع تلك الكلمات التي لم يفقه منها شيئاً، سوى إنها خرجت من فم شاعر المدينة الذي يحترمه الجميع ويستمعون لقوله، كذلك لأن تلك الكلمات كانت توحي له بانه "مسكين" الكلمة التي  طالما راوده الشكّ في قناعة الآخرين بها كحقيقة تجلب له الطمأنينة.

في ذلك اليوم الموحش الذي اكتسحه غموض الخيمة الغريبة تذكّر علي موّات مساءات مدينته المسترخية على شواطئ نهر الغرّاف والغارقة في تأملات شعر الدارمي والمواويل والأبوذيّة وأدعية الأولين ومناجاتهم، تذكّر كل شيء فيها بذائقة مختلفة لم تراوده من قبل، تذكّر قهقهات أصدقائه المشاكسين وتذكّر بما لا يخلو من الخجل تلك الشفقة التي ارتسمت في عيني شاعره وهو يكرر ذات القول "مسكين انت يا علاوي" وكانت الحالة التي مرّ بها علي موات في ذلك الحين تستدعي الشفقة فعلاً، حين ابتعد مرتبكاً عن أصدقائه ليلقي التحية على "سيّد رزوقي" وهو أحد القيمين على ضريح صغير لوليّ مجهول يقع في أحد أطراف المدينة. وقد بالغ في أداء التحية، إذ قبّل يده مراراً وقبّل كتفه ورأسه بعدد لا يحصى من قبلات التبجيل دون أن ترتفع عيناه الى وجه السيّد. وكان أكثر ما يربك علي موّات هو المزاح الثقيل الذي يمارسه بعض أصدقائه الذين كانوا يتوقون دائماً الى انفعالاته حينما يبدأ أحدهم بالسخرية من سيّد رزوقي والحديث عن تكديسه لأموال النذور التي تغدق بها أمهات الجنود المحاصرين في خنادق الحروب، كان يتذمر كثيراً من ذلك الحديث، بينما تنتابهم نوبة من الضحك الهستيري وهو يحاول إنهاء الموضوع بأي شكل وبأي طريقة، إنه يخشى من إشارات العقاب.. العقاب الجماعي الذي ربما سيحدث في أي لحظة إذا ما تجرّأ أحدهم وتناول السادة بسوء.. كان يقول لهم متلعثماً "لا يجوز ذلك، لا يجوز ذلك أبداً، لأنهم من نسل نبي أحبه الله دون بقية مخلوقاته" كان يؤمن إيماناً مطلقاً بأن ما حدث لجواد بن كاظم آل نزّال من حادث  شلّ نصف جسده، هو بفعل سخريته من السادة أثناء حديثه، لذا فهو ينأى ما استطاع عن كل ما من شأنه أن يخدش تلك القدسية وذلك التحالف والمحبّة بين الله وبين تلك السلالة.. كان يؤمن بيقين لا يتزعزع بأن ذلك التحالف هو الذي أقعد فاضل فرج وجعله عبرة للمتشككين، بعد أن تعهّد للسيّد بأنه سوف يقلع عن تناول الكحول ولم يف بعهده، ففقد ساقه في حادث مروري.

في ذلك اليوم الموحش، يوم الخيمة الغريبة، تذكّر كل شيء في مدينته..

 الشيء الوحيد الذي لم يعد يتذكّره بوضوح، هو ذلك الزمن الشاحب الذي قاده الى المجهول وتلك اللحظات المنسية التي جعلت قدميه تطاوعانه على العبور الى الجهة الأخرى خارج الحدود؟؟ خارج حدود وطنه وخارج حدود مدينته وخارج حدود تصوراته وإيمانه ويقينه.  

الإنسان لا يدرك معنى الوطن إلا حين تطأ قدمه حدوده، مغادراً أو عائداً، عندها فقط يبدأ المرء بتأمل ذلك المفهوم المبهم والمعنى المشوّش لذلك العشق الخفي الذي ليس بوسع أي إنسان أن يجد تبريراً له أو تفسيراً مقنعاً لنيرانه المعتملة في قيعان روحه.. الحدود وحدها من يعيد كل تلك التأملات وكل تلك المعاني التي ليس لها ماهيّة محددة وشكل مألوف.

كل الذي يتذكّره هو أنه قد عبر الى الضفة الأخرى وانقضى الأمر، عبر الى الفضاء الفسيح، الى نقطة بعيدة ما كان لخياله أن يرسمها يوماً، الى صحراء شرق المملكة العربية السعودية، حيث الأفق الواسع الذي شكل لقاءً عجيباً بين الأرض والسماء، ذلك الأفق الذي هو أوسع بكثير من دكان جارتهم العجوز- أم ماهود – التي كانت تبيعه السجائر بشكل سرّي.

لقد قادته قدماه هذه المرّة الى المجهول، دون أن تترك له خيار العودة.. خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الأمام أيضاً، ليس هناك خطوة إلى الخلف.. الخلف لا يعني له سوى المرارة والوجع، الخلف يعني له جراحاً دبقة تنهش في أجساد أصحابها القابعين بزنازين رطبة وباردة.. الخلف لا يحمل إلا خراباً ورائحة بارود.. كان يزداد استسلاما وطاعة لقدميه كلّما تذكّر وجوه الجنود الغرباء الذين انتشروا في شوارع مدينته، وهيأتهم المرعبة التي كادت أن تفقده وعيه، خصوصا بعد أن سمعهم يتحدّثون بلهجتهم البدويّة وهم يتفحصون بطاقته الشخصيّة، لعلّه يكون ضمن قائمة المطلوبين لإلقاء القبض عليهم.. انطلق غربا، بعيداً عن أنظارهم المفترسة، دون أن يلتفت إلى الوراء.. لم يكن مستوعباً ومصدّقاً بأنهم قد أذنوا له بالانصراف،  حتّى أضحى خارج مرمى الرصاص وخارج حدود النار.. هناك استراح، اعتلت وجهه ابتسامة خفيّة، كانت تقاسيم وجهه توحي بالتوسّل للحصول على شيء، عبثت أصابعه بجيب قميصه ليخرج لفافة مما تبقّى عنده من لفافات أم ماهود، دخّن لفافته بلذة، بنوع من الطمأنينة هذه المرّة.. كانت هذه اللفافة هي الحدّ الفاصل بين ماضيه الدامي ومستقبله المبهم.

- الله، ما أروع هذه السيجارة..

قالها وكأن بوسعه أن يحلّق في الفضاء، كأنه ولد توا، بلا ماض، بلا أعباء، بلا خوف.. بضع سويعات وستصل ناقلات الأمم المتّحدة، لـتأخذهم وتطير به بعيداً، باتجاه الغرب مخلفة وراءها سحبا طويلة من الغبار.. فمهما يكن القادم مبهماً، لا يمكن أن يكون أكثر سوءً من الذي تركه خلف ظهره. كان ذلك هاجسه الوحيد...

ماذا حدث؟؟ تساءل بعد أن انتهى من إعداد الخيمة واستلقى على الفراش الإسفنجي.. كيف حدث ذلك؟؟ ليس بوسعه أن يتذكّر كل التفاصيل، إذ أنها كانت أقرب إلى الحلم منه الى الحقيقة.. أيام مرّت بشكل سريع وغير مترابط.. قصف كثيف من طائرات حربية شاهقة الارتفاع.. طائرات مختلفة الأشكال والأحجام.. بنايات خربة كانت ذات يوم تبعث البهجة بالنفوس.. كتابات على  بقايا الحيطان التي خلّفتها الحرب/ يسقط.. يعيش.. لا شرقيّة ولا غربية/ جموع من البشر يركضون باتجاهات مختلفة/ مجاميع هاربة وأخرى تلاحقها/ أحدهم كان ينادي من نافذة السيارة وهو يجوب شوارع المدينة، اقتلوا أزلام النظام، اقتلوا المرتزقة الخونة، اقتلوا حسين عليوي الكلب/ كانت النداءات مستمرّة طوال الوقت، دون انقطاع من المساجد، من الأسواق، من أسطح البيوت/ إلى كافة المجاهدين، إن هناك مجموعة من أزلام النظام يجتمعون في بيت العلويّة.. فجّروا بيت العلويّة.. / إلى كافة المجاهدين الأبطال، إن مجلس العزاء الحسيني سيكون في تمام الساعة التاسعة مساءً/ نداءات كثيرة ومتنوعة من هذا القبيل... كان قد همس بأذن صاحبه ذات مرّة :

-      ما كنت أعرف أن الثورة ستكون بهذه الصورة الصاخبة والمرعبة... هذا جحيم، إنّي أموت في كل لحظة، إنّي أتعفّن، لابدّ أن نجد سبيلا للهرب.. لأن كل الذي حلمنا به قد ابتلعه الفشل!

*   *   *

علي موّات... يا علي موّات، أيقظه صوت المنادي لاستلام بطاقة اللجوء.. دسّ عقب سيجارته في الرمل وهمّ باستلام البطاقة التي تأملها طويلا بعد عودته الى الخيمة.. إنها الخطوة الأولى باتجاه الخلاص، فقد أخذ مكانه بين آلاّف اللاجئين، منتظراً دوره في الحصول على فرصة للهجرة الى بلدان الشمال.. أخيراً فتح باب الأمل، إن هذه الخطوة ستؤدي حتماً إلى الخلاص والعيش في بلاد جديدة ليس فيها حروب ولا سجون، ليس فيها من يتّهمك بالتآمر أو عدم الولاء للحزب القائد، إنها الخطوة الأولى من خطوات اللجوء إلى أي بلاد أخرى، أو أي أرض لا يكون الناس فيها متّهمون في التآمر دوماً وعليهم أثبات برائتهم من تلك التهمة...

كان لون الخيمة بلون الرمل، أو ليس هنالك لون آخر غير لون الرمل في المخيّم كلّه، حتى وجوه اللاجئين بدأت تصطبغ بلون الرمل، بل خيّل اليه بأن أحشائهم كذلك اتخذت اللون ذاته.. 

في الأيام الأولى، كان يحاول وبلا جدوى تركيب الأحداث بالشكل الصحيح، لأن الأشياء كانت خالية من الملامح.. متى حمل البندقيّة؟ متى وكيف اشترك في العصيان؟ كم مرّة ذهب لمقاتلة القوات الحكومية؟ متى أدرك بأن تلك الانتفاضة فاشلة بلا ريب؟ من الذي أخبره بإمكانية الهروب خارج الوطن؟؟ حزمة هائلة من الأسئلة داهمته دفعة واحدة، أسئلة من ذلك النوع القاتل الذي يفتقد الى الأجوبة. 

اقتنع أخيراً، بلا جدوى البحث في هذه التساؤلات، لأن التفكير بالأمل القادم أكثر أهميّة ووجوبا من كل ذلك الهراء..

المرّة الأولى التي رأى فيها مندوب الصليب الاحمر - السيّد لوكا -  كان قد بعث في نفسه الأمل بجديّة ألأمر.. كان يتأمل وجهه الأبيض المستدير وعينيه الزرقاوين وتمنّى أن يرتمي على صدره ويبكي طويلا ويقول له: أخرجني من هنا أرجوك.. أنا أكثرهم استحقاقا في العيش خارج هذا السور، إلا أن الحياء من عيون الآخرين شكم رغبته.. لكنه استمرّ في مراقبة حديث السيّد لوكا، الذي لم يفهم منه شيئاً، كان حديثه طويلا وبجمل طويلة وكان المترجم لا يجيد سوى ترجمة الكلمات الأخيرة من كل جملة.. لكنّه أصرّ على أن يفهم ما يجري من خلال الإبحار في عيني السيّد لوكا.. أبحر عميقا في تينك العينين.....

ستخرجني من حزني يا لوكا.. أليس كذلك؟؟ أنت جئت من أجلي.. أنت تبحث عنّي وأنا قريب منك!! لي رغبة بالإعتاق.. الرغبة ثقيلة على كاهلي.. غمّة عظيمة لم يشأ الإله رفعها..  زمن طويل ونحن مهملون في الدرك السفلى من شؤون الإله، منذ أن بدأ التحالف بينه وبين سيد رزوقي.. سوف لن تتخلى عنّي، أليس كذلك يا لوكا ؟؟ لقد أسرّتني عيناك بذلك.. ليس لي سواك يا لوكا!!

"عشر سنوات" زعق المترجم بصوت أعاد علي موّات من إبحاره السرمدي إلى كتلة الوجوه المتجهّمة الخائفة.

- عشر سنوات..... ماذا؟؟ 

- يقول لكم السيّد لوكا، إن تواجدكم في هذا المخيّم ربما سيستمر إلى أمد طويل وقد يبقى الى أكثر من عشر سنين..

- عشر سنوات؟! يا ويحي! كيف لنا أن نتحمل جحيم الصحراء كل هذا الزمن؟

خارت قواهم، أطبق الصمت والهدوء على كل شيء.. ازدادت الصحراء استقراراً، تضامنا مع هذا الصمت المقيت، ليس بمقدور أحدهم أن يقول شيئاً، أو يسأل شيئاً، أو أن يجيب على شيء، ليس فيهم من كان يتوقع أن يستطيل الزمن إلى هذا الحد، كانوا جميعا يتوقعون بأن وجودهم في المخيم سوف لا يتعدّى الأسابيع، أو ربما بضعة أشهر ويتم ترحيلهم بعدها الى دول المهجر البعيدة التي سمعوا عنها وعن الحياة والحرية التي سيتمتعون بها، حكايات كثيرة نقلت لهم من قبل وصور مبهجة رسمت لهم عن تلك الحياة التي أغوتهم الى الهروب من بلدهم والتوجه الى مخيم مدفون في نقطة ضائعة في وسط الصحراء.. في تلك اللحظة التي انطلقت فيها كلمات السيد لوكا، ساد الصمت على كل شيء وأصبحوا كتلة واحدة متجهمة، صامتة، كادت تتحد مع تموّجات الرمل، لولا انفلات بعض الكلمات المتقطعة من بين شفتيّ علي موّات.

-      قبيح أنت يا سيّد لوكا.. ملامحك لا تعني شيئاً.. عيناك غبيتان، أغبى من بندقية الحارس البدوي وأغبى من اصبعي الرئيس وهو يلوح بأشارة النصر.

كان المخيم قد أعدّ سلفا، قبل جلب اللاجئين إليه ويقال أنه أعدّ قبل أن تبدأ الحرب حتى.. وواضح أنهم قد أولوا اهتماماً كبيراً بتحصين المخيّم، المخبأ بعيداً، في عمق الصحراء، أبراج مراقبة عالية تنتشر حول المخيم، وأسوار عالية مزدوجة  تمتد على أطرافها العليا حلزونات من الأسلاك الشائكة.  

"الصحراء مارد لا نواميس لديه" كلمات خطّتها أصابعه المعروقة على قميصه، بعد أول عاصفة شرسة شنتها الصحراء لتزيد من عريّهم أمام عيون الله ونجومه المتلألئة في حلكة السماء.. من ذا الذي تتطاول يده لنيل الصلح مع الصحراء؟! وأي صلح يتم مع الرمل؟ فالرمل بلا ذاكرة تحتفظ بالعهود.

استسلم علي موّات لهيمنة الصحراء وأدرك انه أضعف من تقلباتها، اختبأ خلف صمته ليبني لغة لا يفهمها الآخرون، ويبني جسوراً لا مرئيّة، تتحرك بأتجاهات مختلفة، متوازية أحياناً ومتقاطعة أحياناً أخرى، بين ما يراه من بوابة خيمته وما قاله السيّد لوكا..

كثيراً ما حاول أن يبحر من جديد في عيني السيّد لوكا، ليستقرئ ما أسرّته تلك العينان، إلا أن الصورة تزداد قتامة في كل مرّة. 

ازداد إصراره على الصمت بعد أن وجد نفسه محشوراً بين أربعة آخرين في خيمة واحدة محشورة هي الأخرى بين عشرات الخيام التي لم تجد في هذا التيه متّسعا للابتعاد عن بعضها.

في البدء لم يكن إعداد الخيام منتظماً، فتشابكت الحبال بين الخيمة والأخرى، كبيت عنكبوت عملاق، مما أعاق حركة الكثيرين أثناء ذهابهم وإيابهم للتزوّد بالماء، أو أثناء تنقلهم بين الخيام ولكنهم ومع مرور الأيام اكتشف كل منهم الطريق الأقل وعورة وبدأت المسالك تتلوّى وتتفرّع لترسم على الأرض آثار أقدامهم العارية، رغم سعي الرمل الحثيث الى طمرها وتغييبها. كان علي موّات يتأمل تلك التموجات الرملية الزاحفة بلا ملل وهي تجتاح المسالك والطرقات وكل الأماكن والزوايا، فكّر ملياً في ذلك الاصرار العجيب على تغييب الأثر، خيّل اليه أن الرمل يسعى الى الحفاظ على عذريّة الصحراء، في الوهلة الأولى أضحكه تفسيره الخيالي لعلاقة الرمل بالأثر، إلا أنه ومن خلال تلك الجدلية بدأت مخيلته تحاور بصمت كل الأشياء التي تقع عليها حواسه.

لقد دارت حوارات طويلة بينه وبين تموجات الرمل التي كانت تتراكم حتى تصل أحياناً الى حافة وسادته، تخيّل أن الرمل يروم الاستحواذ على أحلامه، أو أن يقتبسها من رأسه ليلاً ويسلمها الى الريح لتطير بها نحو المجهول، ربما لتعزيز العلاقة الخفية بين الريح وبين الرمل. بدأ يعيد تشكل علاقة الأشياء ببعضها على نحو تزدحم فيه الأسرار وتنطلق فيه المخيلة الى أبعد حدودها، كان قد استعاد علاقة العشق الشهيرة بين كوكب الزهرة والقمر واستوحى منها حكايات لا حصر لها، أشرك فيها عدداً كبيراً من نجوم لياليه التي أمضاها في عراء الصحراء.. هناك نجم اسمه "إيما" كان هذا النجم يغار من القمر ويحاول في كل دورة له أن يقترب من كوكب الزهرة قليلاً، إلا أنه ما إن يصل إلى مقربة منها حتى تبتعد هي في مدارها منجذبة نحو القمر حيث تزداد تألقاً ولمعاناً بينما يخفت "إيما" وينطوي ويذبل شعاعه ويتذكر بأنه لا يمتلك ذكورة كاملة كالقمر ولا يمتلك جاذبيته، فحقيقة "إيما" هي أن نصفه ذكر ونصفه الآخر أنثى، فلم يتمكن بتلك المواصفات استمالة الزهرة اليه..

أما النجمة التي أطلق عليها اسم "هيلة" فهي مصدر إثارة الفزع والمؤامرات لتخريب ذلك العشق الأزلي، فقد ربطت دورانها الشهري مع دوران كوكب الزهرة فهي تدور طوال الشهر مختبئة خلف الزهرة وتقوم بالتهام النيازك التي تصادفها أثناء دورانها ثم ما أن يصل مدارهما الى أقرب نقطة من مدار القمر تقوم بقذف النيازك من أحشائها لكي تفزع القمر وتشغله عن مغازلة الزهرة. أما أكثر الحكايات إثارة هي حكاية النجمة العمياء التي أطلق عليها اسم "صائدة العتمة" والتي كانت تتزعم سرباً هائلاً من النجوم السائرة في نفس مدارها، فالنجمة العمياء تأخذ سربها وتغيب في عمق السماء لعدة أسابيع في رحلات لاصطياد العتمة، ثم تعود مع سربها فينطلق الظلام في كل اتجاهات الفضاء، فتزداد ليالي مجيئها عتمة ويغيب القمر حتى موعد رحلة الصيد الجديدة، وهذا هو سرّ الظلمة الحالكة التي تكسو بعض ليالي الشهر، هكذا فسرها علي موات.. وهكذا بدا له كل شيء يمثل سيلاً لا ينقطع من الأسرار التي ما عادت أسرار الماضي أمامها تمثل شيئاً ذا قيمة تذكر، حتى تلك الأسرار التي كانت أمه تبوح بها إليه لم تعد سوى ذكريات هرمة اكتسحها ضباب الزمن ولم يعد يتذكر منها إلا نتف ذكريات، ربما لأنها تتعلّق بجارته العجوز أم ماهود التي ما زال يحتفظ ببعض من لفافاتها.. لقد أسرّتْه أمه ذات يوم بأن هذه العجوز ستكون في مقدمة الذاهبين الى نار جهنّم، لأنها تقوم بأسقاط الأجنّة غير الشرعيّة من الفتيات الخاطئات ومن ثم تقوم بترقيع غشاء البكارة بالإبرة والخيط.. كذلك، أخبرته أمه بهمس، بأنها لا تصدّق ما أشيع عن أم ماهود، بأن الإمام الغائب قد زارها في المنام وأبلغها، بأن الصبيّة، بنت الشيخ مبروك، قد حبلت دون أن يمسّها ذكر.. كانت الحكاية، كما سردتها له أمه - وهي توصيه بين جملة وأخرى بكتمان السرّ - وقد شبكت ذراعيها وأدارت وجهها نحو مقام ( سيّد رحمة ) وحلفت له، بأنها سمعت وشاهدت، من فتحة الباب، كل الذي دار بين أم ماهود وأم الصبية، حينما جاءت بابنتها إلى الدكان الصغير وهي تبكي وتترجى أم ماهود، بأن تجد حلاً، لأبنتها التي أوشك انتفاخ بطنها أن يفضح أمر خطيئتها "إنها وحيدتي.. وستفقد حياتها، حتما، ثمنا لتلك الخطيئة" قالتها الأم في لحظة انفلات نشيجها المكتوم.. كانت تتوسل بطريقة لا تنسجم مع تلقائية أم ماهود وهي تستقبل الموضوع.. طمأنتها ببرود، بأن كل شئ سيجري على ما يرام ـ سنسقط الجنين ونخيط البكارة، دون ان يعلم أحد، لكن الأم قد أفصحت عن رغبة جريئة، أذهلت أم ماهود بذاتها وأطفأت برودها، إذ أنها كانت تريد الاحتفاظ بالجنين أيضاً!! وهذا ما لا يقوى عليه أحد.. كانت تعلم جيدا حدود أم ماهود للمساعدة ولكنها تخطت كل الأبواب الموصدة وطلبت شيئا، أشبه بالمستحيل.. ألقت ما عندها من ذهب وفضة في حضن أم ماهود التي بدى عليها شرود لبرهة، قبل أن تدفع إليها بكيس صغير يحتوي على شئ لم تتمكن أمه من معرفته، ثم قالت لها:

ــ أطمري هذا الكيس تحت شجرة التوت الكبيرة التي تتوسط بيتكم وسأتكفل أنا بتدبير الأمر.

قررت أم ماهود أن تحلم.. ليس في الصحو ما ينقذ الفتاة والجنين معا.. الحلم ولا شيء سواه، من شأنه أن يلهم أم ماهود بإخضاع الرجال وثنيهم عما سيفعلونه في حال اكتشافهم تلك الفضيحة.. في الصباح، سرت شائعات بأن الإمام الغائب قد زار أم ماهود في منامها وأبلغها بأن ابنة الشيخ مبروك، ستحبل وهي باكر، بقدرة رب العالمين.. قدم الشيوخ وأشراف المدينة الى دكانها، للوقوف على حقيقة تلك الشائعات.. أدركت، أو هكذا خمنت، بحكم خبرتها، بأن الجنين أنثى.. قالت لهم وهي ترتجف تحت عباءتها، خوفا من استذكار الحلم : 

-      لقد زارني في المنام.. قال لي بأن ابنتكم ستحبل دون مسّ من أحد.. وجنينها أنثى وستكون هذه الأنثى زوجة للإمام الغائب حينما تكبر.. وقال لي كذلك، أن دليلك تحت شجرة التوت الكبيرة.. اذهبوا وابحثوا وستجدونه إنشاء الله.

 غادرها الرجال، بعد أن وضعوا أكفهم على رؤوسهم.. وبقي الجنين في بطن أمه التي أحيطت بعناية لا تحصل عليها بقية النساء الحوامل، حتى انقضت فترة الحمل فكان المولود أنثى، كما خمّنت أم ماهود، فصارت الطفلة وأمها مزاران متنقلان يتبرّك الناس بهما ويطلبون منهما المراد...

 بدأ علي موّات ومنذ معرفته بتفاصيل تلك الحكاية، يشمّ رائحة غريبة في دكّان أم ماهود، رائحة تثير فيه رغبة عارمة في الاستمناء، إذ أنه واصل شراء لفافات التبغ منها، مثلما واصلت هي كتمان سرّه وسرّ الآخرين.. بدأ يستنشق اللفافة بلذّة وشبق لأنها صنعت بذات الأنامل التي تداعب لحوما طريّة لأناث خائفات.. الدخان يتصاعد من منخريه  ليشكّل عوالم من سيقان وأجساد  تكشف عن بياض لا يدركه سواه...

كانت نهارات المخيم بصيفها اللاهب تمضي بتكاسل شديد، لا يملأها سوى بعض النشاطات التي تفرضها الحاجة كملئ قوارير الماء البلاستيكية التي وزعتها عليهم إدارة المخيم، أو الانشغال بازاحة وابعاد تلال الرمل الصغيرة الزاحفة الى أفرشتهم وأغطيتهم، أما علي موّات فقد وجد في النوم أثناء النهار سبيلا مثالياً للهروب من تلك الساعات الخاوية المقرفة، ليبقى طوال الليل مستيقظا لمتابعة نجومه وأسرارها وحكاياتها التي لا تنتهي دون أن ينسى إن عليه أن يشترك مع رفاق الخيمة الأربعة في مقاومة حياة الصحراء وبعض النشاطات اليومية، فكان عليه أن يخرج من صمته ومن نومه أحياناً دون أن تكون له رغبته في ذلك، فلم يعد ثمة ما يشدّه لحديث الآخرين.

_- الرمل والماء عدوّان لدودان.

تمتم صاحبه "ظاهر" وهما يتناوبان على حمل قارورة الماء الكبيرة، متّجهين نحو الخيمة التي أسدلت حبالها في الزاوية اليمنى من المخيّم، تاركين ورائهم هدير محرّك الصهريج المترنح أمام البوّابة، نافثاً رائحة أشبه برائحة البراز.

- لماذا الرمل عدو الماء؟؟  تساءل علي موّات بشرود. 

- لأن الماء عدو الرمل!! أجابه صاحبه ظاهر بسرعة ودون أن يفكّر بالسؤال. 

- ولكن الرمل يعيش بأمان قرب البحر، فأين هو العداء؟

-  رمال البحر تختلف عن رمال الصحراء، رمل البحر جبان، يعيش تحت أقدام العاريات، متماسك لسطوة الماء عليه ولهيبة البحر فقط.

ارتكن الجميع بنوع من الارتياح إلى مخادعهم، بعد ساعات من العمل لإزاحة الرمل من أغطيتهم ووسائدهم وأفرشتهم الممدودة على أرضية الخيمة والمرصوفة لصق بعضها.. يتجاذبون أطراف الحديث بملل، دون أن يكون هناك طعم للكلمات.. الكلمات تخرج كأنها مقذوفة من صناديق صدئة، تطوف في فضاء الخيمة وليس بوسعها ان تستقر في مكان. 

خمد الرمل تماما واعتاد زفير الإنسان واستجاب إلى النداءات الدؤوبة للحصول على سيقان خضراء قد تمنح وريقاتها العجاف بعض الحياة على المكان.. استقر كل شيء وازدادت الأوتاد المعدنية رسوخا في الأرض، فيما انسدلت حبال الخيام مسترخية آمنة، مؤمنة بأن عواصف الصحراء سوف لن تصمد أمامها تلك الخيام المشدودة بقوة، ومهما ازداد عناق الحبال بالأوتاد المعدنية، فإن العاصفة سوف تقتلع الجميع، ولا بدّ من إعداد المخيّم بالكامل من جديد..

بتوالي الأيام بدأت الحياة تتضح في تلك البقعة الصحراوية.

المسجد.. أولى ملامح الحياة في المخيم، امتدّ منفرجا بهيبة بمساحة ستة خيام عاديّة، أزهرت حوله شجيرات السيسبان وسحب معه الباحة الأمامية، نظيفة على الدوام، تنبعث منها رائحة التراب المبتل، مؤطرة بقوس من الأفرشة الصوفية ذات الألوان الزاهية.. المكان الأهم في حياة المخيم والمكان المشترك الوحيد للجميع - بعد المراحيض طبعا - يشكلان أهم أعمدة الحياة.. المسجد امتدّ طويلا، مثل دهليز ضيّق، انتشرت على جانبه الرفوف المحمّلة بالمصاحف المقدّسة وبعض كتب الأدعية والمناجاة، مكان يبعث الطمأنينة في النفوس، يبعث على الاسترخاء والشعور المطلق بأن الله يمهل ولا يهمل، مكان تهدأ فيه النفس وتتنازل عن مطالبها الكثيرة والقبول بما هو موجود، والدعاء:

الفرج.. الفرج.. الفرج....... الساعة.. الساعة.. الساعة....... العجل.. العجل.. العجل. 

رموز وطلاسم وأدعية استخرجوها بعناء من بطون الكتب القديمة وتحصّنوا بها.. الخشوع يكتسح كل شيء ويملأ كل الفراغات في الأجواء، كائنات متجهّمة، باكية، حزينة، متوسّلة لرضا الإله.. تتزايد رائحة البخّور المنبعثة من عيدان غرست في الأعمدة التي تحمل سقف المسجد، يتصاعد الدعاء مثلما يتصاعد لهيب الشمس في خارج المسجد.

الرمل يتنمرد أحيانا ويستجيب لمغازلة حرارة الشمس في أن يثور بوجه القاطنين الجدد ويحاول دائماً العبث بأشيائهم وأجوائهم السرمديّة بين الحروف الكبيرة التي خطّت بالنسخ لآيات من الذكر الحكيم على جدران المسجد. إلا أنّهم يصيرون أكثر جدّية في إصلاح ما تخربه العواصف، خصوصا إذا ما تضرر المسجد، فسرعان ما تتشابك الأيدي في بنائه من جديد دونما أي اعتراض، لأن ريح الإله هدمت بيت الإله، ليسوا مسؤولين عن ذلك يوم الحساب، شأنهم فقط هو إعادة ترقيع الخيام ببعضها لبناء المسجد من جديد.

يا خافي الألطاف، نجّنا مما نحذر ونخاف

بجاه محمد سيّد الأشراف

الهي نجّنا من نارك.. وأبعدنا عن غضبك

واغفر لنا ذنوبنا وقلل من سيئاتنا وأكثر من حسناتنا...

جاء هذا الدعاء من صوب المسجد، مخترقاً سكون الليل الصحراوي لينسكب في اذنيّ علي موّات الذي ما زال يقظاً، لكنه مغمض العينين، ارتجف قلبه، حاصرته رغبة بالبكاء، تجمّد جسده من حمّى الخسارة، يحزنه هذا التوسل لغفران خطايا لم يرتكبها بعد!!

تحرّك زميله "سلمان" النائم بجانبه، ثم اعتدل في جلسته بعد ان استيقظ مبتسماً، فهمس بخجل بأذن علي موّات:

- لقد احتلمت، كنت في حلم لذيذ.... عليّ أن أغتسل قبل صلاة الصبح.

 غمزه بنظرة حسد ولم يرد بكلمة، رغم إن الحديث يحتوي على هواجس جنسية يفتقر لها المكان.

استلّ لفافة من لفافات أم ماهود، أشعلها، فتصاعد الدخان صانعاً له عوالم لا تخلو من الحاجة الى الاغتسال.. لمح ذات مرّة نهدين نافرين لجارتهم وهي تنحني لتنظيف الباحة الأمامية لبيتها، علق شكل النهدين بذاكرته وتجسدت الصورة بكل تفاصيلها، حلمتان منتصبتان حول كل منهما صف من حبيبات ناعمة بلون العسل، كان بمقدوره أن يسترجع الصورة ذاتها في كل مرّة دون أن تفقد بريقها..  خبأها بين جفنيه ونام.

*    *    *

كلما خمد رمل الصحراء، ازداد الإنسان تمسكاً بالحياة.

رفاق الخيمة الأربعة الاّخرون، كل انشغل بعالمه واهتماماته، بينما بقي علي موّات يراقب الأشياء عن بعد ويتأملها بصمت علّه يعثر على أسرار جديدة وتفسيرات جديدة لما يدور من حوله.. انشغل فاضل، أحد رفاق الخيمة، بتمرين حنجرته على تلاوة القرآن، اتخذ من باحة المسجد الأمامية مستقراً له لسهر الليالي في حفظ القرآن وتلاوته.. كان دؤوباً في حفظ أكثر عدد ممكن من الآيات.. كانت بدايته من داخل الخيمة وبعد أن تمكّن من حفظ عدد لا بأس به من آيات سورة البقرة، بدأ يتلوها عن ظهر قلب على مسامع رفاق الخيمة.. في اليوم التالي طالبهم بالجلوس في باحة الخيمة الأمامية، ليطلق لحنجرته العنان بترتيل ما جادت به ذاكرته من آيات، سمع همهمات استحسان وباركته أصوات أخرى من الخيام المجاورة.. وبخطوة سريعة وواثقة تمكّن فاضل من الوصول إلى المسجد ليكون إماماً له.. هناك استراح وهدأت روحه، بدأ يتربع بزهو في مكانه المخصص أمام المحراب، تصطف قبالته وجوه صامتة متشابهة، تستمع إلى ما يطلقه لسانه من مواعظ ووصف للجنّة والنار.. قال لهم في أول خطبة له، محذراً إياهم من سوء عاقبة المتعاطين والمستمعين إلى الغناء والموسيقى: إياكم والاستماع إلى الغناء، فإنه مفسدة للروح  وسوف يصبّون الرصاص بأذن الذي يستمع الى الغناء الموسيقى في يوم القيامة.. وانتهى بشرح مبطلات الوضوء، لينفضّ الجمع بعد ذلك، كل لهمومه، مسرورين، راضين عن ذواتهم، لكن أحدهم تجرّأ وسأله بعد انتهاء خطبته : 

-      كيف يصبّون الرصاص في آذاننا ونحن في النار أصلاً؟؟ وقد احمرّ وجهه حياءً بعد أن ازدحمت عليه نظرات الحاضرين، انتابه الشك بأن سؤاله أبله وبليد.

ابتسم الشيخ فاضل بوجهه، تأمله، صمت برهة، أعانته الملائكة بإعداد إجابة مناسبة: 

-      سوف يخرجونكم من النار ويعيدونكم مثلما أنتم الآن، ثم يقومون بصبّ الرصاص بآذانكم عدّة مرّات، ثم يعيدونكم الى النار مرّة أخرى.

بعد كل صلاة جمعة، يعتكف الشيخ فاضل في خيمته مع مذياعه الصغير، وتبدأ أصابعه تبحث من خلال مؤشر موجات المذياع، حتى تستقرّ على إذاعة متخصصة بالمحاضرات الدينية، يدوّن سريعاً ما يستطيع تدوينه على شكل هوامش ثم يبني عليها مادة فقهية تنسجم مع ما يجعل مريديه أكثر تمسكاً به واستماعاً اليه لتكون  موضوع محاضرة الجمعة المقبلة..

بعد فترة وجيزة اقتطع له جزءً من زاوية المسجد ليكون مخدعاً له، يرافقه "ظاهر" ليكون مهتمّا بشؤون واحتياجات المسجد، فهو نشط، يتمتّع بحيويّة الصبا، وجهه لا يخلو من الوسامة، كفوء بتلبية احتياجات الإمام والمسجد معا، كان دائما يؤمّن الماء الكافي للمسجد، يملأ كل القوارير الفارغة منذ طلوع الفجر، ينظف باحة المسجد ومحيطه، يقوم بإعداد أباريق الشاي والقهوة للمجالس الدينية التي يقيمها الشيخ في كل ليلة.

سيّد القوارير، هذا هو لقب "ظاهر" الجديد الذي أطلقه عليه مرتادو المسجد، عرفاناً له على خدماته الكبيرة لمجالسهم وللمسجد وللشيخ، بدت على محيّاه علامات السرور حينما أطلقوا عليه هذا اللقب وكانت الغبطة تملأه كلما سمع أحداً يناديه بهذا اللقب، أو حينما يعبرون بكلمات الإعجاب بجهوده، أو الإشادة بأهميته:

- سوف لن  نضطر الى التيمم في هذه الصحراء، بوجود سيّد القوارير.

سيد القوارير، لقب بعث فيه شعوراً بالسيادة على شئ ما، الشعور الذي كان يفتقده طوال حياته.. تغير كيانه على عجل، أضحى يهتم كثيراً بنظافة ردائه ويعطي عناية خاصّة  لتشذيب لحيته التي لم تكتمل بعد، بضع شعيرات فقط، أشبه بالزغب الذي ينبت على ظهر صغار الطيور، تنبت على خدّيه.. كم تمنّى أن تكون لحيته كثيفة ومتّصلة بشاربيه، مثلما لحية الشيخ فاضل، إمام المسجد!!.

لم يبق في الخيمة إلا علي موّات واثنين آخرين، مما أتاح له أن يضع صندوقاً فارغاً من الورق المقوّى، كخزانة تحتفظ بأشيائه بعيداً عن هجومات الرمل المتكررة، بين فراشه وفراش رفيقه "سلمان" المغتسل دائما قبل صلاة الفجر.

كان سلمان في تلك الليلة قد أباح بأسرار لم تخطر على بال علي موّات، قال له بأنه لا يستطيع البقاء في الخيمة بعد رحيل سيّد القوارير "ظاهر".. لا يستطيع مواجهة أيام الصحراء بدونه.. عبثت أصابع علي موّات بالخيوط المنفلتة من حافة فراشه، مطأطئاً عينيه بعيداً عن عيني سلمان التي التمعت فيها الدموع.. الكشّافات الضوئية المنصوبة على أعمدة عالية انتشرت حول المخيّم، تبعث حزمة من الضوء تخترق الزاوية اليسرى من فتحة الخيمة، لينعكس على وجه سلمان الذي امتزجت عليه حبيبات العرق النازلة من جبهته مع دموعه التي تنزف ساخنة وهو يهذي بوصف شفتي سيّد القوارير.. ازداد علي موّات صمتاً تحت وطأة اكتشاف مثل هذه الأسرار التي تماسك أمامها دون أن يغمى عليه.. وفسحة الصمت هذه، شجّعت سلمان كثيراً للبوح بكل ما بداخله من شجن وعشق لا ترتضيه نواميس الماء ولا نواميس الصحراء، لم يكتف بوصف شفتي سيّد القوارير بورقتي وردة الجوري فحسب، إنما تطاول في وصف كل تفاصيل جسده، لينهي شكواه مستدركا: إنّي أحبّه في الله؟!.

التفّ علي موّات بشرشفه، مادّا طرفه أمام عينيه ليتحاشى ضوء الكشّاف الساطع وهو يراقب من خلال وسادته، عمليّة تغيير جنود الحراسات المتناوبين على برج المراقبة العالي، هذا موعدهم، تحديدا بهذا الوقت من كل ليلة، تطوف حافلة محمّلة بالجنود حول الأبراج ليتناوبون على الحراسات الليلية.. بعد قليل سيبدأ الجنود بالتسكّع حول البرج، متململين من ساعات نوبتهم الطويلة...

"محمد زيادة" رفيق الخيمة الرابع، الذي فقد يده اليمنى في الحرب، مما اضطرّه إلى أن يضع كمّ قميصه الفارغة في جيب بنطاله الأيمن، لكي لا تكشف الريح آثار أسنان الحرب التي نبتت على بقايا ذراعه.. اعتاد أن يشارك علي موّات بمراقبة صباحات قبيل الفجر، كانا يجلسان كل صباح على الدكّة الكونكريتية المجاورة لبوابة المخيم، يرقبان ولادة قرص الشمس من سرّة الأرض، يراقبانه منخرطاً الى الأعلى رويداً رويداً، متوهجاً، متّقداً، مثل وجه غجريّة تتبضّع بغنج في سوق البزّازين.. 

في تلك الصباحات كانت تنتشر حشرات بريّة، ذات صدف سميكة تغطّي أجنحتها الرقيقة، في الساحة الصغيرة التي تتوسط المخيّم، بعد أن أتعبها التحليق حول الكشّافات الضوئية  طوال الليل، لتتكسّر صباحاً تحت أقدام سكّان المخيم.. ابتعد محمد زيادة قليلاً عن الدكّة الكونكريتية التي استقّر عليها علي موّات، ليعود بعد قليل بحشرتين سوداوين، لامعتين، تتحركان بعبث بين أصابعه، وضعهما على سطح الدكّة الأملس، ليدسّ طرفي عود الثقاب في مؤخرتي الحشرتين، ليجرّا بعضهما باتجاهين متعاكسين، تماماً كما يحدث في لعبة جر ّ الحبل.

الساحة تبدو كبيرة عند الصباح، تتقافز فيها الحشرات، تطير بضعة أمتار وتهوي متدحرجة على الأرض، كم تبدو مرتبكة تلك الحشرات؟؟ خصوصا حينما تكون غير قادرة على اخفاء أجنحتها الرقيقة تحت أصدافها السميكة الملساء.. أو أن تكون إحدى الأصداف مكسورة ولكنها تبقى متعلّقة بالمرفق، فتنهدل الصدفة حاكّة الأرض لتعيق حركتها وتبقى تدور في محيط صغير حول نفسها.. الدوران - طبعا - على جهة الصدفة المكسورة، كما المجداف حينما يصد الماء من جهة واحدة ليستدير الزورق.. هكذا تدور حول نفسها فترة قبل أن تعاجلها قدم إنسان لينتهي كل شيء، بقعة صغيرة سوداء تنقش وجه الأرض، سرعان ما تغيبها الرمال.. هناك تعليقات كثيرة عند محمد زيادة على هذه الحشرات، قال ذات مرّة :

-      هذه الحشرات أضاعت طريق العودة الى جحورها الآمنة قبل بزوغ النهار، فهذا جزاء من  أضاع  الطريق الى الجحر الآمن!!

تنهّد علي موّات بندم وقال :

    -  صحيح، هذا هو جزاء من يضل طريقه الى الجحر الآمن.

ضحك محمد زيادة وهو يشير الى حشرة أتعبتها صدفتها المكسورة :

-      انظر الى هذه الحشرة، غطاء محرّكها مخلوع، ربما تعرضت الى حادث دهس من قبل حذاء عابر..

 لا بأس في أن تمضي صباحاتك مع محمد زيادة ورحلاته السعيدة مع الخنافس البريّة، قد يقسو عليها أحياناً ولكنه رفيق جيد، علّته الوحيدة هي إنه لا يتواطأ في استلام حصته التموينية كاملة.. بل كان ينتظر حتى نهاية توزيع الأرزاق، لعلّ هناك زيادة متبقية من المؤن في حوزة المتطوعين بأعمال التوزيع، ليطالب بتقسيمها على الموجودين، يطالبهم بوجه متجهّم، تختلط فيه تقاسيم الغضب مع  تقاسيم التهديد بفضح الأمر، مع تقاسيم التحدّي والاستزلام، إذا تطلّعت بوجهه، لحظة مطالبته لهم، لا يمكن أن تصدّق أن هذا الوجه قد ذاق طعم الابتسامة من قبل،  كانوا يشركونه معهم  ويعطونه حصّته من الزيادة، رغم أنه بيد واحدة، لكنه يبدو صاحب كلمة مسموعة بينهم، وأن كانوا يشركونه، فهم غير سعداء بشراكته غير المنصفة معهم، لذلك ثأروا منه ولصقوا له هذا اللقب "زيادة".

في البداية حاول كثيراً التخلّص من هذا اللقب، تشاجر كثيراً واغتاظ كثيراً وترجّى كثيراً، دعى ربّه بصوت مسموع، أن يرحم أموات كل من يكفّ عن مناداته بهذا اللقب، دون جدوى!! التصق به مثلما تلتصق القرادة في مؤخرة الحصان، كانوا يتغامزون بتشفٍ وهو ينزعج من تكرار مناداته بهذا اللقب، غير أنه تطبّع في النهاية على ذلك واستسلم مقتنعاً بأن هذا هو ثمن حصوله على حقوقه كاملة..

 كان قد تحدّث الى علي موّات بشيء من الجديّة، بخصوص إصراره على الحصول على حقوقه كاملة:

-      أنا لا أندم على حقوقي الضائعة التي لا أستطيع الوصول إليها، لأنها خارج مقدرتي، لكني أموت غيضا إذا ما فرّطت بحق يمكنني الحصول عليه.

 تحدّث بإسراف، استرسل طويلاً في تعظيم شرف حصول الإنسان على حقوقه، كان قد ختم حديثه وعيناه غائرتين في الفراغ:

-      للخسارة طعم مر، أشبه بطعم جلد الضفدع.

 صمت علي موّات لفترة، حداداً على طعم خسارة رفيقه، إذ إنه رأى على وجهه آثار صفعات كمّ قميصه الفارغة! صمتا سويّة، إلا أنه لم يحتمل الصمت طويلا، فشرع بوصف الطعم المرّ والخدر والتنمّل الذي يخلّفه جلد الضفدع على الأسنان واللسان والشفتين.. وكيف كانوا يدربونهم على أكل الضفادع وهي حيّة، عندما كان جندياً في فترة كانت الحرب لم تنته بعد.

*     *     *

الفصل الثاني: علبة الثقاب
انتابته نوبة من الذهول طوال الفترة الصباحية، اجتاز محمد زيادة تشابكات الحبال بين خيمته والخيمة المجاورة، تنقّل كثيراً بين الخيام لعلّ أحدا ما سيهمس له سرّا، بعد أن أدرك لامبالاة علي موّات.. انتهت ساعات الصباح، دون أن يتبيّن له شيء عن حقيقة الخيمة الغريبة التي نصبت ليلا، ليكتشفها سكّان المخيم في الصباح، جاثمة كخفّاش عجوز في الساحة الصغيرة التي يمارس فيها البعض لعبة كرة القدم، رغم صغرها، وكذلك يقوم فيها البعض الآخر بممارسة المشي، فراداً وجماعات، يجوبون الساحة ذهاباً وإياباً، وأحيانا تقام عليها بعض المراسيم الدينيّة.

لم يكن محمد زيادة مسروراً من لامبالاة علي موات بما حدث، حين التقاه صباحا.

-      ما هذه الخيمة؟؟ ومن ذا الذي نصبها؟

اكتفى علي موات بمدّ شفته السفلى الى الأمام، دلالة اللامبالاة من الموضوع، حيث انشغلت أصابعه بمداعبة علبة الثقاب.

حاول مرّة اخرى أن يعيد السؤال بلهجة مغايرة، لهجة صاحب حق مفقود :

-  ليس لأحد الحق بأن ينصب خيمة في هذه الساحة.. إنها ملك الجميع.. أليس كذلك؟

- صحيح!! قالها بحسرة. 

انداحت علبة الثقاب عالياً، ثم هبطت برشاقة على السطح الأملس، بشكل عامودي.. التقطتها أصابعه لتقذفها ثانية، لتنداح في الهواء وتهوي شاخصة بذات الرشاقة، بينما ابتعد محمد زيادة، هازّا يده الوحيدة دلالة الامتعاض من لاجدوى تساؤلاته، ابتعد حتى غيّبته الخيام ليبحث عن وجوه تحمل نفس الريبة والتساؤل...

أحدهم أخبره بأنه شاهد إمام المسجد يتفقد الخيمة بين وقت وآخر وقد أحكم إغلاقها تماما في المرّة الأخيرة.

ها هو ذا يقترب من أول خيط من خيوط السرّ، لقد انتقلت اليه العدوى من علي موّات في تتبع أسرار الأشياء، إلا أن أسرار محمد زيادة التي هو منشغل في متابعتها لا تتعدى حدود الخيمة الغريبة، أما تلك التي يتابعها علي موات فهي أبعد من ذلك بكثير.

تابع تجواله بين الخيام المجاورة للخيمة الغريبة، حاول مراراً أن يسترق النظر عمّا في داخل الخيمة، دون جدوى، كأن ظلام الكون كله قد ازدحم في داخلها.. ازداد اللغط الدائر حول سرّ الخيمة ولم تجد المخيلة حرجاً من نسج التكهنات، حيث أن أحدهم توقّع أن تكون هذه الخيمة قد نصبت بقدرة الهيّة، كي لا ينشغل البعض عن ذكر الله، في ممارسة لعبة كرة القدم..

وسمع آخر يقول، بعد ان عدّل من وضع يشماغه حول رقبته: 

-      أتوقّع أن تكون هذه الخيمة قد نصبت لغرض "التعزير".

صمت للحظة وقد تطلّع بوجوه مَن هم من حوله ثم تابع: 

-      لمَ لا؟؟ ربما فعلاً قد نصبت هذه الخيمة بقدرة إلهيّة، لتكون مكاناً لجلد المخطئين، لكي نتمم بذلك حكم الله؟؟. ألسنا بحاجة الى مثل هذا المكان، لنغسل فيه خطايانا؟؟.

 بينما اكتفى آخرون بالإشارة إلى أنها نصبت لتكون مكانا لحفظ الأطعمة لا أكثر.

هذا كل ما استطاع أن يحمله محمد زيادة من أسرار ليلقيها على سطح الدكّة الأملس، لتزاحم تدحرج علبة الثقاب التي انقذفت للتوّ من بين أصابع علي موّات..

كانت ساعات الصباح قد انتهت.. وما زالت كل الأشياء تبدو معتمة، ليس سوى صوت ريح  تداعب بعنف ذوائب الخيام..

إنه يوم لا يشبه الأيام، قد تسمع أدعية مخنوقة من هنا وهناك، أو قد تلمح من

يتحرّك بين الخيام، لكنه يوم لا يشبه الأيام، اذ خلت المساحات المتبقية، من الساحة، من حشرات الصباح.. معظم الخيام قد أغلقت أبوابها، حتى أن عدد الذين ذهبوا الى المسجد كان قليلاً، حينما تعالى صوت المؤذن لأعلان موعد صلاة الظهر.

اعتاد علي موّات على أن يكون في داخل خيمته في أوقات الصلاة، لكي يتحاشى نظراتهم التي ترميه بإجهار الفسوق، لأنه لا يشاركهم في صلاة ولا يشاركهم بأي من حلقات إقامة الدعاء والتقرّب الجماعي الى الإله.

لقد تولدّت لديه قناعات لم يبح بها لأحد، تلك القناعات ترسّبت بداخله شيئاً فشيئاً منذ أن بدأت روحه تقترب من أسرار النجوم البعيدة وحكاياتها، منذ أن بدأ يحاكي تموجات الرمل ويتأمل تقلبات الريح ويتابع بصمت أسراب النمل ودبيبه المنتظم.. إحدى قناعاته التي تسللت الى عقله هي أن الصلاة فعل فرداني مجرّد، الغاية منه أو الحاجة إليه هو بسبب توق الإنسان إلى العثور على تلك المرحلة الكامنة في باطن الروح والتي اسمها الله وهي عملية أشبه ما تكون بحالة التعرّي الروحي ولا ينبغي أن تتم تلك الحالة الحساسة جداً تحت أنظار الآخرين، إنها حالة اباحية مطلقة، أكثر اباحية من حالة التعري الجسدي..   

ابتعدت الشمس قليلا عن منتصف السماء، لكنها ما زالت تسكب حزماً من أشعتها الحارقة على الأشياء، حتى إن ليس بوسع أحد أن يلامس الأرض بقدم حافية، حيث انزوى الجميع في خيامهم، يتطلعون بين الفينة والفينة الى الخيمة الغريبة التي توسطت الساحة لتقاوم وحيدة أشعة شمس الظهيرة وصمتها الذي كان يطبق على كل شيء.

عاد علي موّات إلى دكّته بعد أن سكنت سموم  الصحراء قليلاً وانقضت ساعات القيظ اللاهبة.. الرائع في الأمر هو أن الدكّة لا تصلها أشعة الشمس أبداً، فهي باردة على الدوام، لأنها تقع تحت سقيفة مفتوحة الجوانب، صنعت من شرائح معدنية مبطنة بألياف عازلة، كانت قد اعدّت لتكون مطبخا جماعياً للمخيّم ثم أهملتْ الفكرة، فتحوّلت الى باحة صغيرة يتفيأ فيها البعض.. والدكّة الكونكريتية التي توسطت السقيفة، على ما يبدو، كانت معدّة لتكون مائدة لإعداد الطعام... استلقى على سطحها الرخامي الناعم.. تسرّبتْ البرودة الى خلايا جسده، تسلّقًتْ الى جوفه، تنامى في جسمه خدر لذيذ، استسلم على أثره الى نوم عميق...

عاوده الكابوس نفسه.. كان يؤلمه تكرار هذا الرعب بين فترة وأخرى.. يكون فيه عالقاً في مكان شاهق الارتفاع ولا يوجد سلّم للنزول الى الأرض.. لقد رافقه هذا الكابوس لسنوات طويلة، حتى إنه في فترة من فترات حياته قد كره النوم، لكي لا يواجه جحيم البحث عن سبيل للخلاص من هذا الارتفاع المخيف..

"اللهم صل على محمد وال محمد"

 تكرر هذا النداء بصوت موحد من الحشد.. تلك لحظات تختبيء بين النوم وبين اليقظة، خيّل اليه في لحظة بأنهم يدعون الله لخلاصه وهو يتلمّس بحذر حافـّات منفاه البعيد، علّه يعثر على ما يوصله الى الأرض.. 

تجمّع الحشد بسرعة حول الخيمة الغريبة، شكّلوا حلقة صغيرة حولها، سرعان ما اتسعت لتستوعب أعداد القادمين الذين تقاطروا من المخيمات المجاورة لمشاهدة ما سيحدث، بعد أن تعالت أصوات تكبير ونداءات مختلفة من الصلوات.. تسمّر علي موّات على دكّته بعد أن استيقظ من كابوسه الذي الهب ريقه من الجفاف.. ومن تلك الدكّة كان قد رأى!...

الرجال الغرباء الذين قدموا من المجهول، ما زالوا في داخل الخيمة.. لقد اتجهوا اليها مباشرة حال دخولهم إلى المخيم، وكأنهم يعرفون الطريق مسبقاً، كما وصفهم له محمد زيادة قبل أن يغادره ليلتحق مع من تجمهروا هناك.. كانت عيونهم شاخصة على الخيمة ومن فيها.. ليس لأحد أن يعرف ما يدور داخلها..  وأكثر ما أثار ريبة الناس وفزعهم هو ذلك الشاب الذي قدم مع الثلاثة الغرباء، ذوي اليشاميغ الحمر التي تلتف على ذقون غير مشذبة، بينما هو يسير بينهم متعثراً بإزاره الصوفي الأزرق.

  كان هزيلاً، نال المرض منه بما يكفي لجعله مثير للشفقة، كان أحد الغرباء يبالغ كثيراً في مساعدته على المشي، ثم أدخلوه معهم وأحكموا إغلاق الخيمة... 

لم يدم المكوث طويلاً.. دقائق.. أو زمن مسفوح فقد توازنه تماماً في تلك اللحظات.. الدقائق تنتفخ وتتورّم ورقاص الساعة يركض ببطء شديد، كمن يحاول ان يركض وهو في كابوس مزعج.. تلك الدقائق كانت تختنق، تتنفس بصعوبة بالغة بين لهفة الجميع لمعرفة ما يدور بداخل الخيمة وبين الشائعات التي ملأت المكان عن حكاية الشاب الذي قدم مع الرجال الثلاثة..  لكن أكثر الشائعات تداولاً هي، أنه تعرّض إلى ضربة على الرأس بعامود خيمة في إحدى الشجارات الجماعية التي حدثت منذ أسابيع في مخيّم مجاور، مما أفقده البصر نهائيا.. وهذا ما أكّده أحد الثلاثة حين فتح باب الخيمة في لحظة أجفلت قلوب الحاضرين جميعاً وساد المكان صمت مهيب..

تمتم الرجل بكلمات لم يسمعها سوى الذين كانوا في مقربة منه وهو يشق طريقه بين الحشد، على عجلة من أمره، باتجاه المسجد.. عاد الهمس يتعالى مرّة أخرى لتنتقل تلك الكلمات إلى الذين حالت مسافات بعدهم دون سماعها منه مباشرة "سيبرأ إنشاء الله".

 دارت هذه الكلمات بين الأفواه بسرعة البرق وسرعان ما تورّمتْ وانتفخت، مثل أزمانها القصيرة، لتصير حكاية صغيرة تتقافز بمهارة بين الألسن.. كلمات ثلاث "سيبرأ إنشاء الله" تكوّرت ونمتْ وتدحرجت بشكل خاطف على المحيط البشري الملتف حول الخيمة، ذلك المحيط الذي كان يشبه شكل حلبة لصراع الديكة.

عاد الرجل سريعاً من المسجد، يحمل بيده كتاباً ملفوفاً بقطعة أنيقة من القماش الأخضر.. انفرج الجمع وانفتح باب جديد لمحيط الحلبة.. واصل سيره عائداً الى الخيمة، السرّ، دون أن يلتفت إلى الذين وسّعوا له الطريق.. كان يخطو بثقة عظيمة لم يثلمها النداء المفاجيء من أحد المحتشدين:

"أفلح من صلى على محمد وآّل محمد"

كان صوت المنادي قد تسلل الى المخيمات المجاورة.

"اللهمّ صل على محمد وآل محمد" تنادى الحشد بصوت واحد.

عادت علبة الثقاب الى الاندياح مرّة أخرى.. انتفضت لتأخذ طريقها المألوف في الفضاء وما أن سكنت شاخصة على أرض الدكّة حتى عاجلتها أصابع علي موّات دون أن ينظر إليها.. كانت نظراته قد تجمّدت على ساحة الحدث.

وجوه اكتسحها الشحوب من شدّة الصمت ومرارة الترقّب.. مخلوقات أعيتها الأبواب الموصدة وأذهلهم الامعان في النظر، عن بعد، بتلك الفتحات المظلمة التي توزعت دون انتظام على جانبي العامود الذي يتوسط باب الخيمة، صغيرة كانت تلك الفتحات ولا تعطي متسعاً الى الضوء ليكشف ما كتمته أروقة الخيمة، كانوا يتعذبون جميعاً بنار الرغبة لمعرفة ما يدور خلف هذا السواد المنسكب بكثافة من تلك الفتحات.. ليس فيهم من أدرك سرّ امتناعه من الاقتراب أكثر لمشاهدة ما يدور في الداخل، رغم أن محمد زيادة قد استجمع كل ما لديه من جرأة ومدّ جذعه متخذا خطوة الى الأمام، علّه يرى ما لا يراه الآخرون، لكنه ما أن انتبه الى أنه يتوسط الحشد، حتى تضاءل في الباحة المضيئة الخالية من الظلال، شاهدها تمتد طويلا، نحو الأفق.. بدت الباحة منبطحة تعكس ما تبقّى من أشعة الشمس بنقاء مفجع، تلاشى فيها كحبّة قمح انبجست بين ثنايا خوص متشابك في قعر زنبيل.. أرعبه عدم وجود الظلال في هذا التيه!..

 وأي تيه هذا؟!

 تيه يحدّه المعذبون بصمتهم؟! كيف أرعبته الساحة ذاتها التي طالما شاغب فيها حشرات الصباح؟

هوى على الأرض مثل حبّة تمر نديّة.. أعانه ما تبقى لديه من طاقة ليعود زاحفاً إلى مكانه بين الحشد.. بقى مضطجعاً، متكئاً على يده الوحيدة، حاول أن يعيد اتزانه بين تموجات الحشد التي كانت تدفعه يميناً ويساراً وبين حبيبات العرق التي نزلت من جبينه لتستقر على حاجبيه وما لبثت حتى قفزت لتلتصق على حافتي رمشيه، تسرب ملحها من خلل جفنيه المغمضتين، ليلهب تجاويف عينيه،  حاول أن يحرك هذا النتوء المخبأ داخل كم قميصه الأيسر وهو كل ما بقي له من يده ولا يكاد يصل الى موطن الألم.. حاول جاهداً أن يميل برأسه، علّه يتمكن من ملامسة النتوء الذي ظل منتصباً، تتدلّى منه بقايا كمّه الفارغة.. لم يتمكن من فعل شيء!..

ما أن فتح باب الخيمة حتى اهتز الحشد وتمايل، ليجد نفسه متخذاً مكانه وقوفاً دون أن يتذكر تحديداً من الذي التقطه بخفة ليرزمه ثانية بالحشد..

فتح باب الخيمة وأطلّ الوجه الصامت ذاته، بعينين متطلعتين لفضاء فارغ.. ودونما كلام شق طريقه ثانية بمفرده، بذات الاتجاه، حيث اصطفّ الحشد فاسحاً له الطريق بتلقائية شديدة كخرطوم عرف طريقه بسهولة إلى موضع السرّ، إلى باب المسجد..

*    *    *

نأت الشمس بعيداً.. غاصت متربعة في أحضان الأفق الواسع.. ضاع نصفها السفلي في الضفة الاخرى، بينما أصرّ جزؤها العلوي أن يمنح المشهد لوناً برتقاليا، قبل أن يلتحق بجزئه الغائب، علّه يخفت شيئاً من جحيم ذهولهم..

عاد الرجل من المسجد برفقة سيّد القوارير هذه المرّة.. سارا سوية نحو الخيمة.. كان التكلّف والتصنّع واضحين على سيّد القوارير وهو ينقل خطواته بنعومة كي لا ترتبك حافات ثوبه الناصع البياض وقد منحه هذا البياض شيئاً من هيبة القديسين..

هدأ احتقان الحشد قليلاً وتسللت بعض الطمأنينة لتكبح جماح حمّى التساؤلات عن سبب وجوده.. سيّد القوارير الذي عرفوه طويلاً وأحبّوا عشقه المهول للماء وأمتنّوا لصبره الجليل وهو ينفق نهاراته يحمل الماء الى شجيرات السيسبان، هو ذاته الآن الذي يقف أمامهم ليكون أول خيط يمكن الإمساك به من خيوط الحكاية.

ما أن توقفا قليلاً قبالة الخيمة حتى اختفى سيّد القوارير في ظلام الداخل، بينما تخشّب الرجل لبرهة عند باب الخيمة، قبل أن يعدّل من لفّ يشماغه حول ذقنه غير المشذبة، كأنه يبحث عن مدخل للحوار مع الحشد.

لم يلحظ ارتباكه أحد، رغم أنه بدأ حديثه دون أن يلقي التحية عليهم، حيث بدأ حديثه بصوت خافت موجها إياه نحو جهة من الحشد كانت قريبة منه، حيث يقف إمام المسجد بين بعض من أتباعه، يمضغ طرف مسواكه بشرود، ثم سرعان ما ارتفع صوته مخاطباً الجمع:

-      مثلما تعلمون إن هذا الشاب الذي في داخل الخيمة قد فقد بصره إثر ضربة على الرأس في شجار حدث منذ أسابيع.. وجزى الله سيّد القوارير خير الجزاء، إذ أبلغنا بأنه شاهد في المنام إمام العصر والزمان، صاحب الحجّة، عجّل الله فرجه....

 لم يمنحوه فرصة أن يكمل كلامه، حيث انطلق الحشد بصوت واحد:

-      اللهمّ صل على محمد وآل محمد..

-      ثانياً، رحم الله والديكم "انفرد صوت أجش يدعوهم لتكرار النداء".

-      اللهمّ صل على محمد وآل محمد.

-      ثالثاً على حب الحسن والحسين وفاطمة الزهراء بأعلى أصواتكم "صاح آخر من الجهة المقابلة".

-      اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد.

مساحة من الصمت والسكون  تخللتها نسمات باردة تجوّلتْ على وجوه متعرّقة غارقة بأشعة الشمس البرتقالية.. استأنف الرجل حديثه بعد أن اجتذب شهيقا ملأ رئتيه بالهواء: 

-      وقد أمر الإمام بإقامة هذه الخيمة وفي هذا المكان بالتحديد، لتكون مكاناً للصلاة قربة الى الله، وسيقوم سيد القوارير بالصلاة لأجل أن يحضر الإمام  ليشفي هذا المسكين من العمى.

انفجر الحشد بصراخات تداخلت فيها كلمات وهذيانات لتشكّل شيئاً كنواح مفجع أضاع سبيله في متاهات نهار لم يبق من شمسه سوى اللون الأرجواني الذي انتشر على حافات الأفق الحزين.

خرّ بعضهم ساجدين.. استسلم آخرون لتكرار نداءات التضرع، رافعين أياديهم ووجوههم للسماء.. أجساد قزّمها اليأس من مقارعة عملاق الصحراء، غادرتهم أرواحهم بعيداً وانبجست في ثنايا لون الأفق الحزين.

أجساد تنادي الإله الذي أوشك على الحضور.. نداءات طويلة تلاحق أرواحاً تفرقت على جنان واسعة من نور.

 توحّد النداء متناغماً مع تكراره:

العجل، العجل، العجل.. الساعة، الساعة، الساعة.. الطاعة، الطاعة، الطاعة.

هناك من أمعن في دسّ مقدمة رأسه في الرمل ساجداً بينما راحت أضافره تفتح أنهاراً في الرمل لتنتهي بقبضة منه تتناثر على رأسه.

الرمل فقد بعضاً من سخونته وتراخت ذراته باردة تحت قدمي سيّد القوارير..

أذهلهم وجوده المفاجئ في نقطة تتوسط الساحة، مسبلاً يديه، مطأطئاً عينيه نحو المساحة الرملية التي انحصرت بين قدميه.. أعياه البحث كثيراً في ظلام الخيمة عن خرقة ليطويها على رأسه، علّها تمتصّ قليلا من رهبة مواجهة الحشد.. لم يكن أمامه سوى أن ينتزع قماش بطانة الخيمة الأصفر، اعدّها على عجل قبل أن يخرج من الخيمة بلحظات.. عمامته الصفراء تبدو كبيرة على رأسه.. أعانه أحد الرجلين الذين اختفيا في داخل الخيمة دون أن يشاهدا ما يدور خارج الخيمة، على انتزاع قطعة القماش الصفراء التي كانت تكوّن بطانة الخيمة من الداخل، اهتزت على إثر ذلك جوانب الخيمة بعنف، فارتجفت مع ذلك الإهتزاز قلوب الواقفين على فوهة الجحيم.

*   *   *

هوت علبة الثقاب واقفة.. خشخشة ارتطامها بسطح الدكّة فضح انشغال علي موّات بلعبته، بينما الصمت يقتحم كل فضاءات سيّد القوارير، يحبس كل حروف الهجاء فوق حنجرته.. أحسّ بوجع الكلمات وهي تنقذف من فمه.. قال شيئاً وعاد مسرعاً، دون أن يسمع هو نفسه شيئاً مما قاله، غير دويّ داعب أذنيه..

 ذاب في جوف الخيمة ولم يتأكد مما إذا كانت كلماته قد وصلت الى الحشد أم لا؟؟

"لا إله إلا هو الحي القيوم.. سأصلي خلف إمامي وشفيعي عجّل الله فرجه وهناك رب كبير سيبرىء الأعمى"

من ثنايا الحشد تهادى صوت رخيم.. صوت شجي لم تعبث به الرمال.. طار الصوت بجناحين بلون اللازورد، أدهش الجميع بسحره:

"السلام عليك عجّل الله لك ما وعدك من النصر وظهور الأمر.

السلام عليك يا مولاي أتقرّب إلى الله تعالى بك وبآل بيتك وأنتظر ظهورك وظهور الحق على يديك.. وأسأل الله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يجعلني من المنتظرين لك والتابعين والناصرين لك على أعدائك والمستشهدين بين يديك في جملة أوليائك يا مولاي يا صاحب الزمان..."

بدا الحشد هادئ ووديع، صوت الدعاء منحهم مساحة من الوجد، تملكهم حتى بعد أن انزاح باب الخيمة وخرج منها سيّد القوارير مرّة أخرى.. أومأ برأسه آمراً صاحب الدعاء بالتوقف..

 كان جلبابه الطويل يغطي قدميه الحافيتين وعمامته تبدو أكثر أناقة من ذي قبل.. أبهر الجميع بهاء وجهه وتمكنه من الصمود متزناً بمواجهة الحشد.

بدأ حديثه بوقار وبكلمات مقتضبة:

-      لقد حظر الإمام. "صمت لبرهة"

-      هو موجود في الخيمة الآن... "لم ينفلت الحشد من صمته وهذا ما لم يكن بالحسبان ولكنه استمرّ متماسكاً ولم يقع أسير حيرة المفاجأة".

-      سأصلي خلف شفيعي ومنقذي يوم الدين وسنبتهل الى الله ليبرئه وينير بصره وبصيرته، إنه نعم المولى...

 جالت عيناه على الحشد قبل أن يستأنف كلامه.

-        أرجو من الأخوة الذين يشكّون بطهارة أجسادهم مغادرة المكان حالاً.

تسرّب نفر من بين الحشد، مبتعدين خارج المحيط المقدس، ليراقبوا المشهد عن بعد. 

-      إذا كان هناك المزيد ممن يشكّون بطهارة أجسادهم، عليهم مغادرة المكان، خيراً لهم ؟؟ وإلا فسوف أخرجهم بنفسي. "قال ذلك بلهجة تهديد حازمة"

لم يتحرك من الحشد سوى محمد زيادة، غادره مسرعاً نحو دكّة علي موات.. شيء خفي دفعه خارجاً، مع إنه لا يشكّ بطهارة بدنه.. قذفته الوحشة خارج صمتهم المبهم، لبّى نداءً ليس هو المقصود به.

عاد سيد القوارير الى الخيمة، دون أن ينسى الانحناء عند مدخلها وهو يؤدي التحية:

" السلام عليك يا أميري وشفيعي"

اصطفّ حشد آخر، بمحاذات السور، من أولئك الذين لفظتهم قدسيّة المكان بسبب الشكّ بطهارتهم.. قدرهم أن يكونوا شهوداً خارج مشهد الفجيعة.

هوت علبة الثقاب بغواية، على السطح الأملس للدكّة التي تناصفها علي موات ومحمد زيادة، تاركين لعلبة الثقاب مساحة تكفي لأندياحها الخرافي، الذي بلغ ذروته في النيل من كل خيوط التفكير بشيء آخر، سوى أن تمتد الأصابع ذاتها، لتلتقطها مرة أخرى وينتهي بذلك حوار لم يدم طويلا بينها وبين سطح الدكّة.

عاد طائر اللازورد يحلّق حول المكان من جديد:

"صَلَواتُ اللّهِ عَلَيْكَ وعَلى آلِ بَيْتِكَ

هذا يُومُ الْجُمُعَةِ وهُوَ يَومُكَ الْمُتُوَقَّعُ فيهِ ظُهُورُكَ

والْفَرَجُ فيهِ لِلْمُؤمِنينَ عَلى يَدَيْكَ

وقَتْلُ الْكافِرينَ بِسَيْفِكَ

واَنَا يا مَولاىَ فيهِ ضَيْفُكَ

وجارُكَ وأَنْتَ يا مَولاي كَريمٌ مِنْ اَولادِ الْكِرامِ

ومَأمُورٌ بِالضِّيافَةِ والإجارة

فأضفني وأجِرْني صَلَواتُ اللّهِ عَلَيْكَ

وعلى أهْلِ بَيْتِكَ الطّاهِرين"

اهتزّت الخيمة بعنف، ارتجفت معها فرائص الصف الآخر الذي نأى بعيداً، ناحية السور، أما الحشد فمازال غارقاً، سكراناً في دهشة طائر اللازورد..

توهجت كشافات الضوء وغمرت بنورها المحيط المقدس، قبل أن يزاح باب الخيمة، ليطل منها سيّد القوارير وهو يمسك بيد الشاب الأعمى الذي بدت بشارات الفرح تتقافز على محياه.. وقفا بوجل وخشوع تحت نور الكشافات، اقتربت الحشود البعيدة أكثر.. غصّ المكان بهم وتصارعت المناكب لإيجاد متسع ما، يكفي للعينين لنهل هذا البوح العظيم، لكنهم لم يتملكوا الجرأة على الوصول الى خط التماس مع الحشد المقدس.. جال الشاب الأعمى ببصره على محيط الحشد، كأنه يستقبل أشكالهم بعد غياب طويل.. تحدّث بصوت يحمل بداخله نحيبا جمّا. 

-      الحمد لله ، لقد عاد لي بصري.. والفضل في ذلك لله ولسيّد القوارير.. وأنا أقول لكم، إن هذا السيّد، هو أحسن سيد رأيته في حياتي......

 أفاق الحشد من غيبته تحت ظل جناح طائر اللازورد وبدأت الحركة تدب بهم من جديد لتعيدهم ثانية الى حقيقة ما يجري.. عاجلهم سيّد القوارير الحديث بزهو وامتلاء:

-      هذه هي علامة سيدنا ومولانا، عجل الله فرجه، لكي يهتدي الذين في قلوبهم مرض.. الإمام يهديكم السلام ويوصيكم بتقوى الله وكذلك يأمركم بالصلاة خلفي، فأنا إمام المسجد منذ هذه اللحظة.

سقط المسواك من بين أسنان إمام المسجد!! الذي وجد نفسه، بلحظة، خارج ما عكف على بنائه زمناً طويلاً.. انفرط عقد الحشد وأختلط نشيج البعض ونداءات التكبير مع الضوضاء التي خلفها ازدحامهم على الرجلين.. انقسم الحشد الى قسمين، القسم الأكبر تجمّع على سيد القوارير الذي رفع كفّه بوجوه مقبّليها والقسم الآخر تهالك على الشاب الذي هبط من أجله الإمام الغائب، ليتمسّحوا بردائه من أجل التبرّك.

أحد الرجال الثلاثة انشغل بتنظيم طابور تشكّل سريعاً حتى طالت نهاياته الخيام البعيدة الملقاة على حدود السور الخلفي.. الرجلان الآخران همّا برشّ ماء الورد على المتجمهرين في أرجاء الساحة.. أحد الرجلين سارع بجلب المزيد من قوارير الماء المعطر من داخل الخيمة.. البعض سكب ما حصل عليه من ماء معطر على رأسه ودلقه البعض الآخر بسرعة في جوفه، بينما اكتفى آخرون بتمرير الماء على وجوههم وثيابهم..

حكايات كثيرة زحفت على ألسن الواقفين في الطابور حول تاريخ عائلة إمام مسجدهم الجديد:

"يقال أن جده هو ذاته السيّد (أبو كنتور) وحكايته الشهيرة مع المرأة التي نذرت له خزانتها الخشبية، إذا ما شفي وحيدها من مرض الحصبة.. إلا أنها تأخرت كثيراً بإرسال الخزانة إلى بناية ضريح السيّد، بعد شفاء ولدها، حتى فوجئت ذات نهار بأختفاء الخزانة من بيتها.. ولما ذهبت الى الضريح مرّة أخرى لكي تعتذر عن عدم وفائها بالنذر، وجدت خزانتها مركونة في إحدى زوايا الضريح".

أما الحكاية التي أخذت الجانب الشرقي من الحشد فهي:

"إن الناس كانت تستعير رداء جدّه، يأخذونه ويغطّون به النساء اللواتي يواجهن عسر الولادة ليبرّد قليلا من أوجاع الطلق، لذلك أطلقوا عليه اسم صاحب رداء المعسرات، في زمن من الأزمان".

لم يعقب الشيخ فاضل، إمام المسجد السابق بشىء على تلك الحكايات، سوى تمتم مع نفسه بصوت مسموع " اللهمّ لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه". 

*    *   *

الفصل الثالث: مزامير العتمة
"               كلما اتسعت الرؤيا.. ضاقت العبارة"

النفّري

ابتعد الشيخ فاضل وابتلع حجراً كبيراً، حُبس في صدره.. نأى بخيمته صوب أبعد زوايا السور، انداف بصمته وفتح باباً على الصحراء..

تعلّم لغة الرمل ومناجاة السراب الذي يتلألأ أمامه كل نهار، غاب بين ثنايا خيمته التي رفعت أروقتها لتتكئ بكسل على أعمدة السور.. أختفى برفقة مذياعه الصغير في نفق عزلته وعانق سرّه وانزوى صامتاً.. فهو لم يعد سوى إمام مسجد مخلوع.

ارتفعت علبة الثقاب عالياً، بنجماتها الثلاث المنداحة في الهواء من جديد..

 تكسّرت صوراً كثيرة لجموع الساجدين خلف سيّد القوارير وقد امتد جمعهم إلى خارج المسجد.. 

تشكلت ملامح جديدة للمخيم وازدادت باحة المسجد الأمامية اتساعاً، أما أروقته فقد ازدحمت عليها صور شوّشتها ماكنات الاستنساخ، صور لرجال دين بعضهم معروف والآخر مجهول، قدماء وحديثون.. تغيرت الحروف الممدودة بخط النسخ، الى أخرى استقرت راسخة  بالخط الكوفي على قطع القماش السود..

 هبطت علبة الثقاب سريعا، لتستأنف اندياحاً مجدداً، يكشف عن اطلالة جديدة على العاملين الذين اتخذوا من ظلال شجيرات السيسبان مكاناً لهم.

أكداس من الأعمدة التي قطّعت بقياسات مختلفة، دأبوا على ربطها بأحكام بحبال الكتان المبرومة بصلابة.

اكتمل بناء هيكل الكرسي العالي ذو الطبقات الست وأخذ مكانه على الجانب الأيمن من المحراب وقد ازداد بهاءً بعد أن البسوه كسوته السوداء، التي عكف  سلمان على العمل بها على مدى عشرة أيام على التوالي، طرزها، نزلت نقوشه التي رسمتها أصابعه المرتجفة من أعلى المنبر الى أدناه.. كانت الإبرة تغرس بدفء في القماش الأسود، ساحبة معها خيوطاً بلون الذهب، تماسكت وتلوّت بأنحناءات، لتكوّن زخارف، خبأ الكثير من البوح فيها. وبهذا حقق سلمان حلمه في مرافقة سيّد القوارير.

 ازداد المسجد هيبة بعد ان تبرّع أحدهم بجهاز تسجيل حديث ذو مكبرات صوت ضخمة ومزود بلاقطة حساسة للصوت ثبتت على ساند من الألمونيوم اللامع انتصب أمام المنبر..  

انسدل لحاف أخضر على مدخل خيمة سيّد القوارير، التي اعدّت بعناية من قبل رجلين تطوعا لخدمته وقد بنيا خيمة صغيرة ملاصقة لخيمته، ليقطنا بها.

حوطت الباحة المقابلة للمسجد بضمنها الخيمتين الصغيرتين، بسياج واسع من

 أشجار السيسبان.. توارى سيّد القوارير خلف حجب عدّة، آخرها خيمته التي نامت في حضن المسجد.

 لم يعد يخرج من خيمته إلا بأوقات الصلاة ولم يعد يرى منه سوى ثيابه التي انتشرت على حبل الغسيل الممتد بين الخيمتين، حيث حرص الخادمان على غسلها وشطفها بالماء الساخن.

الخادمان ابتدعا وسيلة جديدة للتبرّك، لم تكن مألوفة عند الجميع، لكنها صارت سنّة بين الكثيرين فيما بعد، إذ أخذا يحتفظان بالماء الذي يغسلان به ثياب سيّد القوارير، ثم يهبانه لمن يريد الاستحمام به للتبرّك بما تركته ثياب السيّد بالماء.

تلك البدعة كان قد أمسك بها الشيخ فاضل لكي يتهجم بشكل خفي على سيد القوارير أمام ما تبقى لديه من أتباع واصلوا زيارته خفية في خيمته البعيدة.

بدأت هذه البدعة دون قصد، حيث كان أحد الخادمين قد سأل سيد القوارير ذات مرّة عن جواز سقي شجيرات السيسبان بالماء المتبقي من غسيل الثياب ( ؟ ) فكان جوابه:

"نعم يجوز، هذا الماء طاهر.. ثيابي لا تتنجس"

توقف الخادم من صبّ الماء العكر، على سيقان السيسبان.

عبأه بقارورة وخبأها بين تلافيف فراشه، انفرد يتفحصها ليلا، فتحها وصبّ شيئاً منها في باطن كفه، انسكب الماء من بين أصابعه تاركاً أخاديداً من ذرات رمل ترسبت في خطوط كفه، مرر لسانه عليها، أنعشه مذاق الماء الأسمر، شعر بأن

روحه تتطهر. دلق جرعة صغيرة في جوفه ثم سكب ما تبقى على رأسه، نام بعدها وحلم بحمامات بيض لها أجنحة طويلة تلفحه بطيب من روائح الجنّة.

سرعان ما انتشر خبر الماء المبارك..

 لم يستطع كتمان سرّه..

*     *      *

ماذا لو لم تكن هذه الدكّة موجودة هنا؟

أين تراه سيمضي أوقاته؟

يعتريه شيء من الخوف حين تراوده هكذا تساؤلات.

أما التساؤل الأكثر رعباً لعلي موات، هو حينما يتذكر ان ليس هناك منافس له على دكّته، ماذا لو خطر في بال أحد ما أن ينافسه على هذا المكان؟

لا يريد أن يطيل التأمل بهذه الفكرة، فهو لا يمتلك أدنى استعداد للدفاع عن شيء.

نهر نفسه وأمرها في الكف عن التفكير بما لا طائل منه سوى القلق الاضافي وغير المبرر.

من تلك الدكّة ومن تلك اللعبة "علبة الثقاب" شهد عوالم لم يكن يجرؤ على الاقتراب منها.

تلك خطوطه الحمراء..

الآن، هو في جوف تلك العوالم.. عليه أن يألفها، عليه ان يهادنها، لكنه تجرأ بعد أن طفح الكيل به وأعلن موقفه من شئ ما.

فقد خطّ على أحد جوانب الدكّة جملة تقول "يسقط السيد لوكا" ورسم بعض الرسومات المضحكة على السيد لوكا، في أحد رسوماته صوّره وقد وضع له ذيلاً طويلاً وأذنين طويلتين أشبه بأذني الحمار، نكاية به، لانه أيقن، أو هكذا أوحت له تخميناته، أن كل الذي شاهده في المخيّم من عوالم خرافية ومشاهد مفجعة كانت مخزونة مسبقاً في عقل السيد لوكا. 

لم يعد علي موات ليبارح دكته، فهي نافذته لكل شيء.. فضاء فسيح يكفي لاندياح علبة الثقاب.. وبعض لفافات تبغ حبلى بسيقان وأجساد نساء عاريات.

هكذا بدا جاثماً على دكّته كتمثال..

من تلك الدكّة، تلألأ بعينيه ضوء الفانوس القادم من الخيمة النائية الكئيبة، خيمة الشيخ فاضل، التي عاودها شيء من الحياة مرة أخرى، بعد قطيعة لم تدم طويلاً، لكنها كانت قطيعة مرّة، بائسة، كان لأيامها طعم التمر المتعفن..

عاوده مريدوه بشيء من الحذر في بداية الأمر، لكنهم سرعان ما شرعوا يدافعون عنه علانية أمام أنصار سيد القوارير.. خيمة الشيخ فاضل أصبحت مثل مسجد صغير، أصبح لها باحة أمامية مشابهة لباحة مسجد سيّد القوارير، انتشر في مقدمتها بضع أباريق ملأى وأصطفت على جوانبها الأفرشة الاسفنجية.. لم يعد الشيخ فاضل وحيداً بصحرائه مثل أيام الأزمة التي ألمّت به منذ انقلاب سيّد القوارير عليه وانتزاع إمامة المسجد منه.

 من تلك الدكّة كان علي موات يشاهد تجمعاتهم لأداء صلوات الفجر، كذلك لم يكن عصياً عليه ملاحظة اجتماعاتهم الليلية في خيمة الشيخ فاضل.

جاءه محمد زيادة مهرولا، ليخبره بما تناقلته الألسن، بأن الشيخ فاضل وأتباعه قد أعلنوا الإضراب عن الطعام، مطالبين بأيجاد سبيل لخلاصهم من هذا المكان.

-      إضراب عن الطعام؟ خلاص؟ الشيخ فاضل؟

-      نعم، إنهم يعدون العدّة لبدء الإضراب.

-      ومنذ متى كان الشيخ فاضل مطالباً بالخلاص من هذا المكان؟

-      اقسم لك بأني سمعتهم يتحدثون بذلك، بل إني رأيتهم يتوافدون على خيمة الشيخ فاضل.

-      ولكنه كان يقول لأتباعه في المسجد بأن الهجرة لدول الغرب حرام لأنها دول كافرة ولا يجوز العيش مع الكفار!.

-      الآن يقول لهم أن الهجرة حلال بشرط أن تكون بهدف هدايتهم الى الإسلام.

-      لا بأس، فالاضراب من أجل الخلاص عمل جيد ومشروع، رغم إني أجزم بأن الشيخ فاضل أقدم على هذه الخطوة لا لشيء سوى نكاية بسيّد القوارير.

-      وما دخل سّيد القوارير في هذا الموضوع؟

-      هل نسيت بأن سيد القوارير يدعو الناس الى البقاء في المخيم وحرّم عليهم محاولة الهجرة الى دول الغرب؟

-      لا، لم أنس ذلك.. عليّ أن أذهب لأرى آخر تطورات الموضوع.

تقاطر المضربون عن الطعام، باتجاه بوابة المخيم، حاملين معهم بعض مؤنهم ليتم تكديسها أمامهم، أكياس من الخبز انتفخت متعرقة تحت لهيب الشمس.. فاكهة وخضار عبثت بها الرمال وأمتصت عصيرها.. لحوم بيضاء وحمراء سرعان ما تفسخت وتشابهت ألوانها.. تل صغير من العفن، هذا ما استطاعوا افتتاح اضرابهم به، من أجل إعلام إدارة المخيم، بأنهم معتصمون هنا....

كانت لائحة مطاليبهم قد اعدّت بشيء من العقلانية والحكمة وهي من مطلبين فقط:

الأول هو تحديد سقف زمني وبرنامج واضح لتحديد مصير اللاجئين.

أما المطلب الثاني هو، إنشاء مكتب لخدمات البريد، ليتسنى لهم الاتصال بالعالم الخارجي.. المطلبان نتاج اجتماعات طويلة عقدت في خيمة الشيخ فاضل وقد شاركهم في تلك الاجتماعات بعض الذين هم خارج اطار أتباع الشيخ.. أحدهم كان "حسين أبو الجريدة" هكذا يناديه الجميع، وهو صاحب أول  فكرة، لإنشاء صحيفة، أصدرها بكاملها بخط يدوي ولصق صفحاتها على لوح خشبي في وسط المخيم، كان مزهوّا بصدور العدد الأول، حيث ازدحم عدد من اللاجئيين أمام اللوح الخشبي لقراءة ما سطّرته أقلام البعض من سكان المخيم. وبعد صدور العدد الثاني تعرض للضرب من قبل أتباع سيد القوارير وقاموا بتمزيق الصحيفة وتكسير اللوح الخشبي وتم طرده، هو وزملائه، الى ناحية السور الخلفي، تنفيذاً لفتوى أطلقها سيد القوارير بأن هذه الصحيفة تبث أفكاراً مسمومة وتعبث بعقول المؤمنين..

كان الرجل صاحب فكرة الصحيفة، هو ذاته صاحب فكرة الحاق فقرة المطالبة بخدمات للبريد ضمن مطالب المضربين عن الطعام، كذلك هو نفسه صاحب مقترح رفع لافتة يكتب عليها "إضرابنا موجه إلى المنظمات الإنسانية.. وليس ضد حكومة المملكة" كشعار للإضراب، وكانت هذه هي مشورة السيّد لوكا له، حين التقاه قبل الإضراب بيوم واحد في خيمته.. 

حينها تحدث السيد لوكا بشكل سريع:

-      إذا كان لابدّ من خوض تجربة الإضراب، فلابد أن يكون الإضراب موجهاً إلى المنظمات الإنسانية، لأنكم تعيشون هنا في مملكة تحرّم الإضراب شرعاً وقانوناً، أنا أحرص على حياتكم.

ثم دفع له ورقة مكتوب عليها "شعار الإضراب" وغادر الخيمة دون أن يكمل تناول قهوته..

تناثرت مجاميع المضربين عند مدخل المخيم، يتفيأون بفوط صغيرة يمسكون بأطرافها بينما تبقى أطرافها الأخرى سائبة على الرأس.. حرارة الشمس تلهب حبات الرمل بشراسة، بينما أخذت أعدادهم تتزايد بشكل جعلهم يتمسكون بمواصلة الإضراب حتى تحقيق مطالبهم.

أقدم بعض المضربين على إخاطة أفواههم بالإبرة والخيط ليتم الصاق الشفتين من أربع مواقع أشبه بالغرز الطبية..

على السور القريب منهم علقت رسومات على ورق، تمثل اعلاناً عن أوجاعهم، سارع  رسامون على تنفيذها.

قريب جداً من دكّة علي موات، تحولت ساحة الإضراب الى مهرجان لتقاسم الجوع والسقم.. أعداد ليست قليلة منهم من أصرّ على عدم تناول شيء غير الماء، بينما واضب القسم الأكبر على تناول الكميات القليلة المخصصة لكل منهم من جريش الخبز اليابس الممزوج ببعض السكّر، هذه الوجبة كان الهدف منها،  ديمومة الإضراب لأطول فترة زمنية ممكنة.

بدأت قواهم تخور الواحد بعد الآخر تحت ضراوة الجوع خلال اليومين الأولين من أيام الاضراب، نقل بعضهم الى مستوصف المخيم، بعد أن تدخّل السيد لوكا بجلب سيارات الإسعاف.

في اليوم الثالث للإضراب، انسحب بعض المضربين وعادوا الى خيامهم متخلين عمّا أقدموا عليه  بسبب فتوى أطلقها سيّد القوارير بتحريم الإضراب.

انداحت علبة الثقاب عالياً.. ثم هوت واقفة على سطحها البارد بألفة وطمأنينة وما ان استقرت حتى ارتطمت بها أصابعه في لحظة سهو وقذفتها خارج حواف الدكّة.. انغمست في رمل القاع بعيداً عن عيني علي موات المتسمّرتين على صليب نصب في وسط ساحة الإضراب وعلّقت عليه دمية من القماش صنعها أحدهم.

رأس الدمية يتدلّى بصمت من فوق الصليب، بينما انفرجت اليدان بأرتخاء يوحي بالفجيعة. صلبان كبيرة وأخرى صغيرة تكاثرت وصلبت عليها دمى بالغ الرسامون بأضفاء ملامح الحزن عليها، سكبوا على وجوهها كل ما يحملونه من وجع وحيرة.

لم يعد لعلبة الثقاب فسحة للإندياح ولم تعد لعبة مسلية بعد أن ازدحم المكان بالصلبان والحزن والدمى، ولم تعد الدكّة له وحده.. فقد تهالك حولها جائعون أعياهم الدم المتخثر على خيوط تيبست هي الأخرى على حافات شفاههم المتورمة.

نجح أحدهم في غرس ماسورة بلاستيكية بين شفتيه الملتصقتين، يمصّ من خلالها بعض الحساء، فاتخذ منها الآخرون وسيلة للبقاء على قيد الحياة..

اقترب علي موات من الدمى المصلوبة.. أذهله استسلامها المطلق للريح، أذهلته ألوانها التي امتصتها أشعة شمس الصحراء.

سمع صوت حسين أبو الجريدة بقربه وهو يهمس له:

-      هل هي مخلوقات غادرتها الحياة؟ أم هي مصلوبة في برزخ ما قبل الدنيا؟؟

-      وهل هناك برزخ قبل هذه الدنيا؟؟ سأله علي موات بشيء من الجزع.

-      لا تبتئس، إنه برزخ ميت، لا علاقة لنا به.

-      والبرزخ الآخر؟

-      إنه آخر.. لا علاقة لنا به أيضاً.

-      وما بينهما؟

-      ما بينهما، هو برزخنا الحقيقي، هذا الذي نعيشه الآن.

-      والدمى المصلوبة؟

-      لقاء عابر بين برزخين في صحراء.

-      وكيف للقاء هزيل بين أموات أن يقاوم أمام ضراوة الجوع وخشونة الصحراء؟

 بهذا التساؤل ختم علي موات هذا الحوار البوهيمي العابر، قبل أن يدير ظهره الى حسين أبو الجريدة، ليريه ما مكتوبا على قميصه..

"الصحراء مارد لا نواميس لديه"

 ضاقت به الكلمة.. انحنى حسين أبو الجريدة على الدكة وراح يبكي بنحيب.

*    *    *

أفاق سيّد القوارير من قيلولته، على جلبة خارج المسجد.. لم يكن يتوقع أن ما قاله في الليلة البارحة سيغدو بهذه الجديّة.. ارتدى ثيابه على عجل وهو يستذكر كلماته التي القاها عقب صلاة العشاء:

 ــ هذا الإضراب باطل وحرام، إنه إيذاء للنفس.

لقد أدرك خطورة عبارته بعد أن أطلقها مباشرة.. لقد رآها تتبرعم وتتجلى على وجوه مستمعيه الذين سارعوا في الإفصاح عن غضبهم على المضربين وعلى استخدامهم للصلبان والدمى.

تيبست شفتاه وجف ريقه، خفق قلبه وارتعدت مفاصله وهو يواجه تجمع أتباعه في الباحة الأمامية للمسجد.. فشل في رسم ابتسامة على وجهه، ليحييهم بها.. إنهم غاضبون، يرتجفون من الغيظ، يتشحون السواد كمن تهيأوا لخوض معركة.. طالبوه بأن يأذن لهم بالقضاء على الإضراب بالقوة.

-      إنهم يتشبهون بالنصارى، يرفعون الصلبان والأصنام. "صاح أحدهم"

-      إنها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. "صاح آخر"

-      نريد تحطيم الأصنام.. نريد تحطيم الأصنام. "صاح الحشد بأكمله"

لم يكن يتوقع أنهم سيطالبونه بهذه الشراسة يوماً.. استجمع كل ما لديه من تماسك وأقنعهم بأنه سيذهب بنفسه الى ساحة الإضراب لإقناعهم بالعدول عما هم فيه.

أوحشه وجوده وحيداً في خيمته، وجد نفسه معزولاً، بلا وحي يدلّه على باب يخرج منه.. هاله منظرهم وهم يرفعون رايات تلتهب بحمى الموت.. أطرق

 ساهباً، تعتصره غيبوبة الندم على كلمات ولدت لتحيا طويلاً وما أراد لها ذلك!! أرهقه البحث في زوايا خيمته بلا طائل عن إله يستجيب لدعواه.. الكل هنئ بإلهه سواه.

من سريره المدفون في عتمة خيمته غنى سيد القوارير أغنية مكتومة لم يسمعها أحد ولم تكن كلماتها مثل تلك الكلمات التي تعيش طويلا ً..

سار حشد كبير من المريدين، خلف سيّد القوارير، بأتجاه ساحة الإضراب، بينما تهيأ المضربون على نحو لا يخلو من الحذر، لاستقبالهم.

الشيخ فاضل تسلّح بكل ما لديه من حجج وبراهين ليفنّد بها الفتوى التي صدرت ضد الإضراب، إلا أن الحوار المرتقب لم يحدث، إذ أنها ليست سوى بضع كلمات القاها سيد القوارير ومضى دون أن يتطلع بوجوه مستقبليه: 

- هذا الإضراب باطل وحرام.. اللهم إني بلغت، اللهم فأشهد.

 مضى الحشد خلفه دون أن يتفوهوا بكلمة واحدة لتلك الوجوه التي كساها الجوع شحوبا.

*    *    *

الفصل الرابع: رايات الجنون
اقترب حسين أبو الجريدة من الشيخ فاضل الذي افترش الأرض تواضعاً. ناوله أوراقاً بيضاء، لم يكتب عليها شيئاً.. استلقى بقربه في عراء ساحة الإضراب وقد وضع ساعده على جبهته ليحجب شعاع الشمس عن عينيه.

خرجت كلماته بجزع  قبل ان يغفو.

-      ليس عندنا ما نكتبه!! لا مواثيق تكتب ولا سلام يلوح بالأفق.

كان المضربون قد تمتعوا بشيء من الاسترخاء في الأيام التي سبقت الفتوى، حيث أن السيد لوكا جلب لهم ما يكفي من المظلات، لتقيهم حرارة الشمس، مظلات بالوان زاهية وأحجام مختلفة.. أصبحت الساحة مليئة بقباب منقوش عليها ورد عباد الشمس، كل قبة يتوسطها عامود حديدي ذو مفصل في المنتصف لتحريك المظلة باتجاهات مختلفة.

كانت المظلات ملاذهم الوحيد أثناء ساعات الظهيرة.. استهوتهم لعبة تحريك المظلات حسب اتجاه الشمس.. كل شيء يتحرّك طوال ساعات النهار، إلا الدمى المعلقة على الصلبان..

قباب بألوان زاهية تتحرك بمرح أمام دكّة علي موات الصامتة..

رسوخ الدكّة فقد هيبته سريعاً أمام الألوان التي اقتحمت أجواء الصحراء.. أوراق عباد الشمس العريضة، خلبت روح علي موات وطارت به صوب السواحل الملأى بأجساد نساء، يخيل إليه دائماً أن هذه الأجساد خلقت أصلا لهذه السواحل.

الدكّة لم تكن بعيدة عن ساحة الإضراب، كانت تشرف بشكل مباشر على المشهد باكمله.. من عليها كان يحصي أوراق عباد الشمس في كل وردة، ثم يحصي الورود في كل مظلّة، فيعود بأحصاء المظلات جميعها قبل أن يعود لإحصائها مرة أخرى.

ثمة مظلات مليئة بورود مختلفة وألوان مختلفة، إحدى المظلات منقوش عليها وردة واحدة كبيرة على وسع مساحة المظلة وأخرى منقوش عليها ثلاث وردات موزعة بانتظام على حوافها.

المظلة التي أبهرته.. وأخطأ مراراً بأحصاء ورداتها، كانت تضج بألوان مختلفة من الورود.. كان قد أحصاها في المرّة الأولى ووجدها ثلاث عشرة وردة ومرة أخرى اثنتي عشرة وردة وأخرى إحدى عشرة.. هاله انه يحصيها أحيانا ثلاث أو اربع وردات فقط، أرعبته فكرة تغيّر العدد  في نفس المظلة..

كم هي سرّ عظيم هذه المظلة؟؟

أدهشه عددها المتغير حد الجنون دون أن يبارح دكته للاقتراب منها.. راقبها

 مذهولا، شاهد اللون الأحمر ينتقل ببطء من وردة حمراء الى وردة بيضاء..

أمعن النظر في لحظات عبور اللون، أزمانها ممتدة مثل أزمان الله..

الوردة البيضاء، التهبت باللون الأحمر الذي ازدحم بكثافة على حافاتها قبل أن يتلاشى في عمق بياضها.

فاض اللون الأحمر على مساحات أوراقها البيضاء، أغرقها بتدرج لوني هائل، لا يمكن لرسام مدينته الأخرس أن يرسم مثله.

من تلك الدكّة كان كل شيء يتحرك أمامه وأن بعدت قليلاً عن تجمع أتباع سيد القوارير، لكنه لم يزل يراها بوضوح تلك الرايات المجنونة التي كانت تطوف بين جمع محاربين في طور النمو.. رايات سود وخضر وبيض وزرق وحمر، يحملها رجال بهمة عالية.

استعدادات الحرب أوشكت أن تكتمل وكانت آخر مراحلها هي تحطيم المنبر للاستفادة من أعمدته كهراوات يتسلح بها المحاربون.. مجاميع من الرجال مرتدين عدّة الحرب وكل مجموعة يتوسطهم خطيب يشحذ هممهم ويذكرهم بعدالة حربهم.

كانت وجوههم تزداد خشونة وبأساً، كلما بالغ الخطباء بوصف قدسية حربهم وكان أخطرها وصف أحدهم بانها:

"حرب القضاء على الوثنية"

الدكّة ذاتها، شهدت كل ذلك.. مثلما شهدت تناسل الوان الورد، وشهدت علي موات الذي جرفته دهشة عبور اللون الى متاهات البحث عن تناسل ربما سيحدث بين الرايات..

حاول جاهداً تمييز ألوان الرايات التي تتحرك بدأب لا تبدو له حدود.. أطلق العنان لصبره في انتظار لحظة عبور اللون بين الرايات، انتظر أن يشهد تلك اللحظات.

لم يستطع حسين ابو الجريدة الوصول الى طرف محاور وكانت جميع حواراته قد تمّت مع أناس ليس لهم تأثير يذكر بين كبار مريدي سيد القوارير.

عاد يلوك مرارة الفشل مرّة أخرى..

شابك مرفقيه على الدكّة وأتكأ عليها، برودة الدكّة تدغدغ ابطيه وتزيد من استسلامه في معانقتها.. وضع خدّه على مرفقيه وراحت الكلمات تخرج من طرف فمه المحشور بين المرفق والساعد:

- كارثة!  

ـ متى ستحل؟ "سؤال مجنون انطلق من شفتي علي موات ليأخذ مكان الجواب الغائب"

ـ إنها موجودة أصلا.. نعيشها كل لحظة ولا نراها، لاننا نحيا بداخلها.

ـ لكني لم أشهد عبور اللون بعد؟

ـ أي لون؟ 

ـ لون الرايات.. لحظة انعتاق اللون من نسيجه لينسحب بهدوء الى الضفة الأخرى، كما يحدث هناك.

ـ أين؟ 

ـ  سأريك شيئاً لم تره من قبل. "وأشار بأصبعه نحو المظلة التي تتشكل على سطحها الوان تتغير بشكل مستمر"

ثم أردف علي موات:

ـ هناك.. على تلك المظلة سترى السرّ.. فقط اصبر قليلاً على تأملها.

شاركه دهشة تبادل الألوان على سطح المظلة وانهدلت شفته السفلى مسهبا:

ـ يا الهي! ما هذا السحر؟ أيعقل أن أعثر على كل هذا السحر، دون أن أعثر على مَن أتحاور معه لكبح جماح الكارثة؟

كان الإضراب عن الطعام قد انتهى تدريجيا في حومة استعداداتهم للتصدي لهجوم مرتقب ولم يبق من ملامح الإضراب سوى الدمى المعلقة على الصلبان.. الأفواه التي تمت خياطتها من قبل، تقطعت غرزاتها واندملت ثقوبها السوداء.. عادوا إلى تناول الطعام بذات النهم السابق، بل دأبوا على تخزينه، كانت تلك هي النهاية غير المعلنة للإضراب، لكنهم تمسّكوا بشكل الاعتصام.. كانوا فعلاً بحاجة إلى إنهاء إضرابهم، رغم أن بعضهم قد اعترض في بادئ الأمر ولكنهم اقتنعوا بكلام حسين أبو الجريدة حين خاطبهم قائلا:

ـ الإضراب لم ينته بعد.. إننا معتصمون هنا.. ولابدّ من إنهاء حالة الجوع.. علينا أن نقطع الخيوط التي أخطنا بها أفواهنا، لكي لا نموت صامتين.. نحن نعتصم من أجل الحياة وليس من أجل الموت جوعاً.

كان كلامه مقتضباً، لكنه أثر على الجميع، مما دعاهم للاتفاق على صيغة الاعتصام.. أحدهم أطلق زفرة جزع على شكل تسائل مخنوق:

ـ أي اعتصام هذا الذي يتم في هذه البقعة من الصحراء؟! نعتصم بماذا؟؟ بهشاشة الرمل أم بضحالة ذاكرة السراب؟؟

أحجم الجميع عن الكلام وأنشغلوا بتحصين أماكنهم ضد أي هجوم مباغت.. في الحقيقة، هم انشغلوا فعلا ولكن ليس بتحصين مواقعهم، لأنهم بلا مواقع أصلاً، فاقتصرت استعداداتهم لصد الهجوم في تناولهم لوجبات مشبعة من الطعام..

أشيع بأن أتباع سيد القوارير سيهجمون هذه الليلة ولكن لا أحد يعلم في أي وقت بالتحديد سيبدأ الهجوم.

كانت ليلة تخلو من القمر.. ليال كتلك قلما يحياها إنسان، عتمة ليس فيها أفق، أسرارها لا متناهية، انتظارها ليس ككل انتظار، إنه انتظار لحظة الخلاص، لحظة العبور الى الضفة الأخرى، لحظة أن تفقد الإحساس بكل ما يجري في الحياة الدنيا..

كم مرعب ان تنتظر لحظة الموت؟!

الكل في وجوم متشابه، ملامحهم تكشف عن توجس جديّ من شئ ما، يصعب على الأحياء إدراكه.. كل ما يحدث في تلك اللحظات لا ينتمي الى عالمنا هذا، أحدهم كتب وصيته على ورقة وأطلقها للريح، بعد أن اكتشف ان ليس ثمة من هو مرشح للبقاء سيحتفظ بالوصايا..

الخوف هو كينونة كاملة تجثم على جسد الزمن ولا أهمية للشيء الذي نخاف منه، لأننا عادة نخاف من الموت والموت بحد ذاته ليس شيئاً مخيفاً ولكن أن تحيا لحظات انتظاره، فذلك الجحيم بعينه! كم كانوا قميؤن في صحراء ليس لعتمتها نهاية؟!

وكم كانت أوجاعهم عظيمة؟!

كانوا يدركون قوة وعنف أتباع سيد القوارير، لقد شاهدوهم ذات مرّة وهم يلاحقون رجلاً اتهموه بأنه قد شتم سيّد القوارير، كان يركض أمامهم هارباً ومن شدّة خوفه، التجأ الى أقرب خيمة علّ فيها من ينقذه منهم، لسوء حظه كانت الخيمة فارغة، ليس فيها من سمع كلماته الأخيرة! حينها قاموا بتقطيع حبال الخيمة، فهوت عليه أروقتها الثقيلة، ثم انهالوا عليه ضرباً بالهراوات حد الموت، لقد شاهدوا ارتجافات الجسد أثناء عملية القتل، كان جسده يتلوى تحت الغطاء الكتاني الثقيل وعندما استقر كل شيء وهمدت الحركة تماماً، تركوه ومضوا لشؤونهم.

 كانوا يتخيلون نفس المشهد، لما سيحدث..

يعيشون ذات اللحظات.. كائنات تستلم ايعازات الخوف بشكل موحد.. تلك الليلة كانت مسكونة بنحيب يتلاشى سريعاً في ضياع العتمة، فضاءاتها مشحونة بروائح غريبة، أشبه بالروائح التي يبعثها صدأ الحديد أو الروائح التي بعثتها الخيمة الغريبة ذات الأسرار، التي غرّبت كل شيء، لتترسخ رائحتها طويلا.

تجمع المعتصمون على شكل مجاميع..

أمضوا ليلتهم يتحدثون عن كل شيء، إلا أنهم وبشكل لم يتفقوا عليه مسبقاً، تحاشوا الحديث عما هم مجتمعون من أجله وما هم بانتظاره.

ليس فيهم من أعلن عن خطته للتصدي للهجوم المرتقب، هذا السؤال الذي ليس له إجابة، قد دخل الى دائرة الأسئلة المحرمة.. أزمان كتلك، تكثر فيها الأسئلة المحرمة في الغالب، أزمان بقياسات مختلفة تماماً، يتداخل فيها الترتيب الزمني وينهار على عتباتها الشكل المنطقي للأشياء...

أرعبتهم رايات الجنون لحظة تقدمها..

كانت الرايات تقترب مسرعة، تنعكس عليها أضواء نيران المشاعل التي يحملها محاربون بلا ملامح.. تسلّحوا بسيوف وهراوات وسكاكين، اعدّت على مهل.. كانوا يضربون الأرض بهراواتهم، يتعجلون الانقضاض على الخصم..

لم يكن الوقت طويلا ليصلوا!!

كان علي موّات، يراقب تقدم المشاعل والرايات.. تسمّر على دكته ليشهد شكل لحظة التماس.. لم يكن في العتمة أمامه سوى المشاعل والرايات التي شقت طريقها الى وسط ساحة الإضراب.. العتمة التي اختبأ فيها المعتصمون، هي ذاتها التي خبأت بشاعة ما حدث.. بدأت لحظة وصولهم بصراخ وعويل وأستغاثات متقطعة ضاعت في الجلبة التي أحدثها المهاجمون..

أصوات مختلفة تنبعث في آن واحد.. أصوات تختلط فيها نداءات الاستغاثة بنداءات المحاربين.. نداءاتهم، كانت تخترق الظلام بوضوح:

ـ هناك.. هناك.. إنه هناك.. اقتله، هذا الكلب.

ـ الله اكبر.. الله اكبر.. تعالوا بسرعة.. إنهم يختبئون هنا.

ـ لا تدعوهم يهربون.. أقتلوهم جميعا.. الزنادقة الكفار.

لم يكن أمام المعتصمين سوى الهرب من مكان معتم الى عتمة بلا مكان.. هرب من استطاع الهرب وسقط من لم يستطع، سقطوا في فوهة الوجع.. كثيرون هم الذين سقطوا في تلك الفوهة وأطلقوا منها أصواتهم الأخيرة!   

اكتشفوا أن أزمان الحسم كانت كل طرقها تؤدي الى الهروب!!.. الهروب هو اللغة الوحيدة التي تجيب على كل الأسئلة المحرمة..

تفرقوا هاربين بأتجاهات اختارتها لهم لحظة الفزع، كل الاتجاهات تؤدي الى ذات العتمة.. غابوا في جوفها، فراداً وجماعات، غايتهم القصوى هي الابتعاد أكثر من مكان الموت.. فرّوا بعيداً تلاحقهم شتائم أتباع سيد القوارير.

ـ أسرع يا علي موّات؟! لنهرب بعيداً عن المكان.. الكارثة قد حلّت!!

ـ إلى أي اتجاه سنهرب؟

ـ لا يهم.. المهم أن نهرب وفقط.. لا يهم الاتجاه.

انطلقا سوية، علي موات وحسين أبو الجريدة باتجاه واحد.. كانا مسرعين في بداية انطلاقهما وعندما ابتعدا عن ساحة الحدث أخذا يركضان ببطء، حتى بات ركضهما أشبه بالرقص الناعم على أنغام العتمة.. أصوات أنفاسهما مع إيقاع  هرولتهما الرتيبة بعثت في علي موات شعوراً بأنهما ميتان يجريان في الحد الفاصل  بين الحياة والموت.

خشي كثيراً أن يكون هذا هو شكل الموت!! حاول أن يقول شيئاً، أو أن يفعل شيئاً لكي يثبت لنفسه، إنه حي..

حاول أن يملأ متاهات العتمة بالكلام، لكي يكسر رتابة الإيقاع الذي يسحبه حتماً إلى متاهات أكثر ضياعاً من عتمته.

ـ هل حصل تبادل الألوان بين الرايات؟؟ "سأل علي موات وهو يهرول لاهثاً"

ـ حصل إنهم ضربوا محمد زيادة حتى الموت.

ـ ألم تلحظ أي عبور للّون بينها؟

ـ سمعت شخيره وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.

ـ لكن ألوان الورود استمرت بالتناسل حتى النهاية.

ـ مسكين.. لم يستطع الهرب بيد واحدة.. كان يركض بقربي، لكن قواه قد خذلته حين تعثرت قدماه على الرمل، عندها، انهالت عليه هراواتهم كالجحيم.

ـ لابد وأن يكون هناك عبور في اللون بين الرايات، لكننا لم نره!! ربما كانت قد مرّت سريعاً تلك اللحظات دون أن نلحظها؟

ـ نعم.. ربما حدث فعلاً.. وربما يكون محمد زيادة هو وحده من شهد لحظاتها دون سواه!

الهاربون، قد اجتازوا أعماقاً سحيقة من جوف الظلام..

أدركوا غريزياً، أنهم قد ابتعدوا عن حافات الموت.. بدأوا يتحسسون العتمة بشيء من النقاء.. التعري صدق غير مطلق.. إنهم عراة يسبحون في آفاق الظلام اللامتناهي.. سر العتمة جردهم من البحث عن اتجاه، كل الاتجاهات تؤدي الى غربتهم..

لأول مرّة شعروا فيها بأنهم يتعاطون الصدق بهذه الطريقة.. مطرودون من الدنيا حيث لا اتجاه.. كانوا يسبحون فيها سعداء ويغنون:

 نحن أبناء الريح

نحن ذاكرة  الماء

نحن أحفاد النخيل

وشهود الدنيا والظلام

نحن ورثة الحلم

وصناع الفضاء الفسيح

في تلك الليلة، كانت طرق العتمة متشابكة، تتلوى، تستقيم، تلتقي، تفترق، تتخللها دور استراحة للهاربين.. كانوا يسمعون أنفاس بعضهم، فيألفونها.. يشمّون روائح بعضهم فيتجمعون عندها.. صارت لهم أمكنة جديدة هناك، يقبعون فيها، بانتظار انقشاع العتمة.

من مكان ما من تلك العتمة، قدمت أنفاس لا تحمل ذات الألفة، ولا تحمل نفس روائحهم وإن كان فيها لفحة خوف.. لقد شمّها علي موات وشمّ فيها رائحة الخوف، كذلك سمعها حسين أبو الجريدة وعرف إنها أنفاس غريبة ولكنها تحمل الخوف في طياتها.

اقترب اللهاث منهما..

اقترب جداً..

اختلطت أنفاسهم بذات الوعاء البرزخي الهائل.. لم تكن دهشتهما عظيمة حين عرفا بأنهما في مواجهة سيد القوارير بنفسه وأنفاسه!

هو بذاته.. وحيداً، يشاركهم الهروب.. اجتمعوا سويّة، كل يحمل انتظاره.. مزامير تجمعها رائحة الخوف وتذيب العتمة ملامح حيائها.

علي موّات وحسين أبو الجريدة ينتظران انقشاع العتمة، ليختارا زاوية للرحيل.

أن تختار جهة في العتمة مقامرة كبيرة، أشبه بلعبة الروليت الروسي.. سيّد القوارير، قرر أن يستأنف رحلته في العتمة، إنه يعرف المكان الذي يريد الهروب اليه ولكنه لا يعرف الطريق.. وجوده معهم استراحة هارب لا أكثر.. كان لابدّ أن تختلط أنفاسهم في مكان ما ويختلط خفقان قلوبهم وتختلط روائحهم..

أمضوا زمنا لا يدركون مساحاته، دونما كلام..

كانت رائحة الخوف التي تجمعهم لا تكفي لبناء جسور تربط بينه وبينهما وحتى العتمة التي احتوتهم جميعا، لم تكن قادرة على اكتساح الفضاءات الصغيرة، المنحشرة بين كتل أجسادهم.

ـ انك لا تعرف ما حدث لألوان الورد. "خاطبه علي موات"

ـ أريد أن أعرف الطريق، بأي اتجاه؟ "أجاب سيّد القوارير"

ـ إنك لم تشهد لحظة عبور اللون بين أوراق الورد.. لذا فأنك سوف لن تعرف الطريق.

ـ دعك من كل هذا؟ وأخبرني عن الطريق التي تؤدي الى السيّد لوكا؟

ـ لحظة التناسل اللوني مبهرة.. ليتك عرفت طريقها يا سيّد القوارير؟!

ـ قل لي، فقط، بأي اتجاه هو مكان السيّد لوكا؟

ـ لقد شهدنا لحظة عبور اللون بين أوراق الورود ولم نشهدها في رايات جنونكم بعد.

ـ فقط أشر لي بأصبعك على الاتجاه، أرجوك يا علي موّات؟

ـ سوف لن تصل.. لأنك لم تجتز مرحلة عبور اللون.

ـ دلّني على الاتجاه فقط؟! دلّني.. وتأكد بأنني سوف أعرف طريقي في العتمة، الى مكان السيّد لوكا.. أشر لي فقط بأي اتجاه أرجوك يا علي موات؟! 

ـ نحن لا نعرف طرق العتمة يا سيّد القوارير، وان عشنا بها طويلا، لكننا لم نحيها..

ـ دلّاني على الاتجاه قبل انقشاع العتمة أرجوكما؟! دلّاني على الطريق؟!

 ـ يا لك من بائس!! أحلامك تصنع عتمة وأنت تضيع بين دروبها وتبحث عن الخلاص.

ـ لم أكن سبباً وحيداً لما حدث.. لقد شعرت بخطورة فتواي بعد انطلاقها وبعد أن قدّر لها أن تحيا طويلاً.. لم يكن بوسعي أن أوقف ما حدث.. ما حدث كان أكبر بكثير مما قد نويت الحصول عليه.. أنا سبقتكم في الهروب، لقد هربت قبل حدوث الكارثة لأنّي رأيتها قبلكم، كما سبقتموني أنتم إلى لحظة تبادل الألوان.. وكما خسرتم أنتم حضور شكل الكارثة قبل وقوعها، خسرت أنا لحظة تبادل الألوان.. كنت عاجز تماماً من فعل شيء بوقف الكارثة.

ـ ارحل وحدك.. ليس لنا علم بمتاهات العتمة. "أجاباه سوية، علي موات وحسين أبو الجريدة"

ـ أشيرا لي فقط بأي اتجاه؟؟ أرجوكما، أي اتجاه، حتى لوكان خاطئا؟!

ـ دع الحكمة التي علمتك خلق العتمة أن تدلّك على الخلاص من ضياعها. 

ـ حكمتي لم تدلّني على طرق الهروب من الخراب.. أنا هارب منها معكما.

ـ اختر زاوية هروبك لوحدك.

ـ سأختار جهة لهروبي اذاً.. وسأهرب وحيداً كما كنت.

غاب سيّد القوارير في دروب العتمة من جديد، يبحث عن مكان السيّد لوكا، بينما بقي الاثنان الآخران في انتظار نهايتها..

غاب دون أن يعلم، أن الحكمة ليس أن يتحول قولك الى فعل.. بل أن تكون عندك القدرة على استعادة الفعل إلى قول مرة أخرى.

في الصباح كان كل شيء يتجلّى بوضوح تام..

مظلات وصلبان مهشمّة.. دمى تناثرت أحشاءها القطنية على مساحات الموت.. بقايا موتى، جفت دمائهم على تكوينات الرمل.. جثث تنتشر بطريقتها الفوضوية المعتادة – ليس ثمّة جثث تنتشر بطريقة منتظمة قبل وصول الأحياء لها – كانوا، من أعلى التل، يحدقون بشرود بما فعلته ليلتهم المعتمة.. غالبهم شعور بالرضا، شعور بالصلح مع الكارثة، طالما إنها انتهت دون أن تلتهمهم جميعاً.

من أعلى التل، كانوا يمعنون النظر بساحة الإضراب التي ملأها الموت.. يمعنون النظر بالخراب الذي اكتسح كل شيء.

في الصباح.. كان السيّد لوكا أول القادمين الى ساحة الفجيعة التي خلفتها الكارثة.. قدم بسيارته الرانج روفر ذات السقف المكشوف..

أخذ يدوّن كل صغيرة وكبيرة في كراسة بلون أزرق، قلّب جميع الجثث وصورها، بآلة تصوير فوري.. كان يلتقط صورتين لكل جثة، واحدة أمامية والأخرى جانبية.. جمع بيانات ومعلومات عن كل جثة وجعل لكل منها ملفاً خاصاً مرفق بصورتين فوريتين.. كان السيّد لوكا يتوقف عن العمل أحيانا لينتظر ظهور الألوان على بعض الصور، لكي يتأكد من وضوح ملامح الجثث عليها..

الصور، كانت تكشف أسراراً مهولة، لم يهتم بها السيّد لوكا، إحدى الصور التي كان يهزها بيده، تعجيلا لأنتشار الألوان فيها، قد أظهرت جثة سلمان وقد ضاعت نقوش الوشم المنتشرة على جسده في زحام البقع الزرقاء والحمراء التي

خلفتها الكدمات..

كيف مات سلمان وهو من أهم أتباع سيد القوارير، في معركة ليس فيها طرف مدافع؟؟

كيف مات المهاجم، دون مدافع؟؟ 

لم يتساءل السيّد لوكا بذلك.. ربما كانت العتمة هي سبب القتل غير المتعمد، أو ربما كانت حتمية وجود الخسائر بالمعارك، هي السبب بموته المتعمد.

السيّد لوكا، أتمّ عمله على أدقّ وجه، كانت عدته متكاملة جداً ولا ينقصها شيء أبداً، كأنه استعد سلفاً لذلك، آلات تصوير، عدد كاف من أفلام للتصوير الفوري، شرائط مرقمة لقياس المسافات بين الجثث، قفازات متنوعة يستبدلها حسب طبيعة العمل، أكياس بأحجام مختلفة يضع فيها مقتنيات كل جثة على حدة، كان يمتلك ما يكفي من عدد تسهّل عليه عمله..

بينما هو منشغل بكل ذلك، كان المتفرجون من أعلى التل قد انشغلوا بمراقبة سيارته، لمعرفة الشخص الآخر الذي كان برفقته، دون أن ينزل معه إلى مكان الحدث.. أحدهم أشاع بأنه سيّد القوارير برفقة السيّد لوكا بسيارته.. بدأوا بالنزول من أعلى التل، حاولوا الاقتراب قدر الامكان من السيارة للتأكد ممن فيها..

كان هو بعينه، سيّد القوارير، كلهم أيقنوا ذلك..

كان يرتدي بنطالا من الكتان وقميصاً صيفياً بألوان زاهية.. أحدهم نادى عليه، أراد أن يكلمه، لكن السيد لوكا كان قد أنهى كل أعماله وعاد مسرعاً الى سيارته، ليأخذها ويطير بعيداً برفقة سيّد القوارير..

اختفت السيارة في عمق الصحراء، تاركة خلفها سحابة كثيفة من الغبار..

كان جيب علي موات مازال فيه بعضاً من لفافات أم ماهود.. استلّ واحدة ودخنها بلذة شديدة.

انتهت

 

كانون الأول 2004