مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. وبعد قال: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل رحمه الله: "إن أحق العلوم بالتعلم، وأولاهما بالتحفظ – بعد المعرفة بالله جل ثناؤه – علم البلاغة، ومعرفة الفصاحة، الذي به يعرف إعجاز كتاب الله تعالى. وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة، وأضل بمعرفة الفصاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما خصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع، والاختصار اللطيف، وضمنه من الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها.. إلى غير ذلك"(1) من هنا تظهر أهمية علم البلاغة وضرورته. حيث يذكر العسكري في مقدمة كتابه الصناعتين فضائل علم البلاغة وضرورته لصاحب العربية: "لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد، وآخر رديء، ولفظ حسن، وآخر قبيح، وشعر نادر وآخر بارد، بان جهله، وظهر نقصه"(2). ومن ثم فالبلاغة هي الوسيلة التي تميز بها الكلام (قبيح/ حسن، نادر/ بارد). وقد أفرد بابا: لتمييز الكلام جيده من رديئه ونادره من بارده، إذ يتحدث عن "الشعر الفصيح لفظه الجيد رصفه"(3). فيقول مثلا: "ومما هو فصيح في لفظه جيد في رصفه قول الشنفري:
أطيــل مطـــال الجـوع حتـى أميتـه * * * وأضرب عنه القلب صفحا فيذهل
ولولا اجتناب العار لم يلف مشرب * * * يعـــاش بـــه إلا لـــدي ومـــأكـــل
ولــكن نفســـا مرة مـــا تقيـــمنـــي * * * علــى الضيم إلا ريثمـــا أتحــــول
ب1 المطال: تأخير الحق، ضربه من الجوع صفحا: الإعراض عما يقتضيه من الأكل إعراضا.
ب2 الشرط هنا: اجتناب العار، فهو الذي أرقى همته، وقمع نهمه، ومنع من وجدان المشارب والمآكل التي يعاش بها عنده. أي لو قدر عدم اجتناب الذم والعار بعدم المبالاة به، لم يوجد شيء مما ذكر إلا عنده.
ب3 النفس المرة (الحرة): الكريمة التي تأنف من الدنايا، الريث: القدر، لكن: هنا للاستدراك المحقق لوجود اجتناب الذم من ارتكاب ما تضمنه الجواب الذي امتنع لوجوده.
ومثاله أيضا قول بشار:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * * * ضمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقول النابغة:
ولست بمستبق أخا لا تلمه * * * على شعث،أي الرجال المهذب
وهذا البيت الأخير، علق عليه العسكري بقوله "وليس لهذا البيت نظير في كلام العرب، وقال بعضهم: نظيره قول أوس بن حجر:
ولست بخابئ أبدا طعاما * * * حذار غد، لكل غد طعام
ويُعلق العسكري على هذا البيت بقوله إن كان هذا نظيره في التأليف، فإنه دونه لما تكرر فيه من لفظ "غد".
ويشترط أبو هلال العسكري شروطا موضوعية وأخرى فنية يجب أن تتوفر في الكلام عامة والشعر بصفة خاصة حتى ينال القبول من جميع الجوارح من نفس وسمع وعين وفهم و.. يقول "فإذا كان الكلام جمع العذوبة، والجزالة، والسهولة، والرصانة مع السلاسة والنصاعة، واشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من حيف التأليف وبعد عن سماجة التركيب، وورد على الفهم الثاقب قبله ولم يرده. وعلى السمع المصيب استوعبه ولم يمجه، والنفس تقبل اللطيف، وتنبو عن الغليظ، وتقلق من الجاسي البشع، وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه، وتنفر عما يضاده ويخالفه، والعين تألف الحسن، وتقذى بالقبيح، والأنف يرتاح للطيب وتنفر (تغضب) للمنتن، والفم يلتذ بالحلو ويمج المر، والسمع يتشوق للصواب الرائع وينزوي عن الجهير الهائل، واليد تنعم باللين، وتتأذى بالخشن، والفهم يأنس من الكلام بالمعروف ويسكن إلى المألوف، ويصغى إلى الصواب، ويهرب من المحال، وينقبض عن الوخم، ويتأخر عن الجافي الغليظ، ولا يقبل الكلام المضطرب إلا الفهم المضطرب، والروية الفاسدة"(5)، ثم يقول: وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه، وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود (عوج) النظم والتأليف، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا، ولا يقنع من اللفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوته التي تقدمت"(6).
ويوافق أبو هلال في ذلك قول الجاحظ منكرا على أبي عمرو الشيباني اختياره لشعر استجاده على أساس المعنى، "وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج والتصوير"(7).
مدار البلاغة على تحسين الألفاظ:
- ومن الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ، أن الخطب الرائعة، والأشعار الرائقة، ما عملت لإفهام المعاني فقط، وإنما يدل حسن الكلام، وإحكام صنعته، ورونق ألفاظه، وجودة مطالعه، وحسن مقاطعه، وبديع مباديه، وغريب مبانيه على فضل قائله، وفهم منشئه. وهكذا فأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني.
ويسوق العسكري دليلا آخرا في قوله : إن الكلام إذا كان لفظه حلوا عذبا، وسلسا سهلا، ومعناه وسطا دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائع النادر. مثل:
ولمـا قضينـــا من منى كل حــاجة * * * ومسح بالأركان من هو مـــاسح
وشدت على حدب المطاي رحالنا * * * ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنــا بــأطراف الأحــاديث بيننــا * * * وسالت بأعناق المطي الأباطح
يقول العسكري: ليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى، وهي رائقة معجبة.
ومعنى الأبيات: لما قضينا الحج ومسحنا الأركان، وشدت رحالنا على مهازيل الإبل،
ولم ينتظر بعضنا بعضا، جعلنا نتحدث وتسير بنا الإبل في بطون الأودية.
صواب المعنى وبرودة اللفظ وفتوره:
يرى العسكري أن المعنى إذا كان صوابا واللفظ باردا فاترا، (والفاتر شر من البارد). كان مستهجنا ملفوظا، ومذموما مردودا.
وضرب مثالا للشعر البارد:
قد علمت سلمى وجارتها * * * ما قطر الفارس إلا أنــــــا ( قطر: صرع)
شككت بالرمح سرابيلـه * * * والخيل تعدو زيما حولنا (سرابيل: الدروع، زيما: متفرقة).ويقدم العسكري مجموعة من الأبيات تمثل في نظره (الشعر البارد والبغيض والغريب).
الكلام المطبوع:
يتحدث العسكري عن الكلام المطبوع السهل، فيقول: ومن الكلام المطبوع السهل ما وقع به علي بن عيسى: قد بلغتك أقصى طلبتك، وأنلتك غاية بغيتك، وأنت مع ذلك تستقل كثيري لك، وتستقبح حسني فيك، فأنت كما قال رؤبة:
كالحوت لا يكفيه شيء لا يلهمه * * * يصبح ظمآن وفي البحر فمه
خاتمة. يُعد كتاب الصناعتين خلاصة مجموعة من الكتب السابقة التي سبقته كطبقات الشعراء لابن سلام، البيان والتبيين للجاحظ، البديع لابن المعتز، ونقد الشعر لقدامة الموازنة. ومن محاسنه أنه يأتي بالحكم مع المثال من الشعر(الكلام الفصيح ß أبيات من الشعر)، لكنه يغفل تحليل الأبيات وتعليل الأحكام مع بعض الاستثناءات، ويمكن القول أن معظم أحكامه وأقواله تبقى ذوقية انطباعية كالعذوبة والسهولة والرصانة والنصاعة. ومع هذا المنهج يتحول النقد إلى بلاغة.
فصيح اللفظ
والذي يمكن تلخيصه كالآتي:
منهج يعتمد على التقييم [الكلام الجيد جيد الرصف
حسن اللفظ
البغيض
الكلام الرديء الرديء
الغريب
* * * *
الهوامش
(1) كتاب الصناعتين، تصنيف أبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، ص1.
(2) المرجع السابق، ص2.
(3) المرجع السابق، ص62.
(4) كتاب الصناعتين، ص63.
(5) كتاب الصناعتين، العسكري، ص63.
(6) المرجع السابق، ص63.
(7) مفهوم الشعر والشاعر، د. عبد الرحيم الرحموني، د. أحمد العلوي العبدلاوي، ص10.