كانت الحناجر تهتف: "يا شمس غيبي من السما.. عالأرض في عنا عريس".. العريس الذي ينافس الشمس في هذه المرة، كان أخي الكبير سليم. كنا جميعا فرحين وهائجين، فهذه الفرحة الأولى في العائلة، والعائلة الكبيرة تجمعت من كل حدب وصوب للاحتفال فرحا به. أخي وعروسه مصمودان وسط المسرح وبجانبهما الفرقة الموسيقية. بدأت الموسيقى تصدح والجميع يرقص مع الجميع على الخشبة المنصوبة على البيدر، المحتفلون يقفزون فرحا، الشاب مع الصبية، والكبير مع الصغير، وزغاريد عماتي وخالاتي تدوي في السماء، ضحكنا وقفزنا ولعبنا، عانقنا الأصدقاء ووزعنا قبلاتنا على الأعزاء، قام الشبان برفع أخي سليم وعروسه المتألقة فوق رؤوس الحضور ونحن ننظر بفخر واعتزاز.
رقصت مع الأصدقاء والأقارب، وكان القفز هو التعبير الحقيقي عن الفرحة، الجميع يرقص ولكن الذي يريد أن يعبر عن فرحه كان يقفز. أختي وديعة التي تصغرني قليلا، كانت تلازمني كظلي، تقفز بجانبي وتراقص من أراقص. كانت تحبني كثيرا، وتعتبرني مثالا لها. وبينما الحفل في أوجه، إذ بولد صغير من العائلة، يطلب مني ومن أختي وديعة الحضور لمقابلة (العريس) أخي سليم ، في المطبخ وعلى الفور. نظرت الى المسرح فكان مقعد أخي فارغا، نظرت إلى حلقة الرقص، فلم أجده على الأكتاف ولا بين الراقصين، فقبل ثواني معدودة رأيته مرفوع ويلوح بيديه، أين اختفى؟! لا بد أن هناك أمرا هاما يحتاجه أخي العريس ويطلب منا مساعدته في ذلك! ذهبت ووديعة بسرعة إلى المطبخ، ونحن مستعدتان لتقديم أية مساعدة، شعرنا بأننا مهمتان بنظر شقيقنا، وأننا بصدد تنفيذ مهمة ملحة حتى ولو على حساب الاندماج في الرقص.
ما كادت أرجلنا تطأ المطبخ، حتى سمعنا صراخه وإذا به يهدد ويزمجر موجها صراخه اليّ: أتريدين فضيحتي ليلة عرسي؟ كيف ترقصين مع سعيد ساعي البريد ويدك بيده؟ ما هذه الحركات الفاضحة في رقصك؟ ألا تخجلين من نفسك؟ مع صديقي وأمام عيني. سعيد ليس ابن عمك وليس من العائلة وليس، وليس. كانت المفاجأة كبيرة علينا أنا وأختي، حاولت أن أستفهم خطورة ما حصل وبهدوء: الجميع يرقص، لماذا أنا بالذات. سعيد صديقك أليس كذلك؟!
أختي وديعة كانت أسرع مني بالفهم والرد بحدة: لماذا دعوته إلى عرسك إذا كنت ستغضب من رقصه معنا؟!
- أنت اخرسي..
فأضفت محتجة: البنات والشباب يرقصن معا. اليوم يوم عرسَكَ، دعنا نتصرف على سجيتنا. عروسك رقصت مع سعيد ومع جميع أصدقاءك ووضعت يدها بيد كريم وسامي وميلاد، وعروسك رفعها أصدقاءك وحملوها بين أيديهم.
لكمني سليم لكمة قوية أوقعتني على الأرض. اقتربت وديعة لمساعدتي وصرخت لتمنعه من ضربي، فلكمها هي الأخرى ودار جدال وصراخا بينا، لم يتسن لأحد سماعه بسب صوت الغناء والموسيقى العالية. صرخت به: اذهب واضرب عروسك البراقة التي تتناولها كل الأيادي واضرب أمي واضرب كل من يرقص ولا يروق لك رقصه. لماذا تتشاطر علينا فقط؟
التفت سليم بسرعة خلفه واستل سكينا كبيرة من بين أواني المطبخ ولوح بها في وجهّينا: إذا رقصت مرة أخرى مع سعيد أو أي شاب ليس من العائلة ستكون نهايتك على يدي، لا أريدك ان تشاركي في الفرح، ابقي أنت وهي في الغرفة.
صرخت في وجهه: اذهب أيها المعتوه ولوح بسكينك في وجوههم وليس في وجهينا. مسكني من فستاني الأحمر وشدني بقوة، فانقطعت عدة أزرار من صدر الفستان وبانت منه ملابسي الداخلية. منظر السكين كان مخيفا ومرعبا حتى لو كان للتهديد فقط، ليس سهلا مواجهة سكين بيد إنسان غاضب. بدأت عيوني تقفز بسرعة بين السكين في الهواء وفستاني الذي قطعت أزراره ونسيت نفسي للحظات وشردت وتهت بين هاتين الصورتين. السكين المشهرة وفستاني الأحمر الممزق.
قبل العرس بأسبوع، أشتريت مترين من القماش الأحمر الحرير وذهبت إلى"روزيت" وهي خياطة مشهورة في المنطقة. طلبت منها أن تصنع لي فستانا بدون بهرجة، فستانا يكون ملفتا للأنظار ببساطته. روزيت، صاحبة الذوق الرفيع، فهمت مطلبي وهكذا أصبح عندي فستان أحمر، بسيط وجميل جدا، أحببته من النظرة الأولى، فأخذت أعد الأيام حتى يحين العرس وألبسه. وأخذت أجهز باقي الأشياء الملائمة للفستان. سافرت إلى مدينة الناصرة مع ابنة عمي وأختي وديعة للبحث عن حذاء يتلاءم ببساطته مع فستاني الأحمر، فاخترت حذاء أبيض بدون أية زخارف. كنت أحب أن أكون مميزة في كل شيء، بالتفكير والروح والتصرف والتعامل مع الآخرين. وعملت على أظهار تميزي عن الغير، بالمواظبة على القراءة والعلاقات الاجتماعية القليلة التي بنيتها مع بعض الأشخاص المثقفين حولي، لم يكن التعليم في الجامعة حلم الفتيات من جيلي، لكني كنت أزور عائلة د. ادوار الذي درس في لندن ويحاضر في جامعة في حيفا ليرشدني على كيفية التحاقي بالجامعة والمواضيع التي يمكن أن اختارها للدراسة.
لم أسع للأمور المكلفة ماديا، فالأحوال المادية كانت صعبة، ولا معيل للعائلة إلا والدي الذي عمل بأجر زهيد لا يكفي لإعالة عائلة كبيرة من ثمانية أنفار. كنا نشتري الملابس مرة أو مرتين في السنة إذا أمكن، وفي المناسبات الخاصة. كان يمكن أن يكون فستاني أغلى بكثير لو تيسرت الماديات، لكني لم ألتفت إلى ذلك، وكان تعلقي شديدا بفستاني الأحمر وحذائي الجديد، ولا أدري ولم أسع لتفسير هذا التعلق، مجرد شيء خاص بي، صنع لأجلي وبالطريقة التي اخترتها، وليس في كل مرة يستطيع الفرد في عائلتنا أن يختار الأشياء الخاصة به، جميع الأشياء مفروضة فرضا، ابتداء من أسمي وحتى نوع الأكل المتكرر في معظم أيام الأسبوع.
خلال سهرة العرس، أثنى الجميع على ذوقي وعلى فستاني الأحمر. مما زاد اعتزازي به، وخلال حفلة الرقص بدأنا نرقص ونقفز مع صبايا وشباب العائلة كما اعتدنا سابقا، فكل واحدة منا تختار رفيق الرقص: ابن عمتي، ابن عمي، ابن خالتي وغيرهم، أما أنا ففي هذه المناسبة كان حظي ورفيقي احد أصدقاء أخي سليم، سعيد ساعي البريد، التقت يدي بيده صدفة، عندما ترك حلقة الرقص احد الراقصين فبقى جانبي. أمسك بيدي أثناء الحلقة وعندما فرطت حلقة الرقص بقيت أرقص معه وكلما افترقنا عدنا من جديد معا، رقصنا دون تخطيط مسبق، كان يمسك سعيد بيدي وأدور من حوله ويقربني إلى صدره، رقصت معه دون أي اعتبار، رقصت كما يجب أن يكون الرقص الحقيقي وكان الأمر عادي، لم أدر ولم انتبه أننا كنا محط أنظار أخي سليم، لم ترق له حركات جسدي ورقصي وضحكاتي مع سعيد وهمساتي بسعادتي لأختي، لم يرق له غناءنا وانبساطنا وتمايلنا. لم يرق له فرحنا الحقيقي ولم اعرف ما الذي استفزه ليفعل ما فعله.
كيف تسنى لأخي سليم وهو مصمود قرب عروسة المتألقة البراقة، أن ينتبه إلي من بين عشرات الراقصين، لماذا استشاط غضبا، لماذا خاف من فرحتي مع سعيد ونحن نرقص. لم أكن أعرف سعيد عن قرب، مجرد معرفة سطحية، لم يلفت نظري ولم الفت نظره من قبل، رقص معي لأنه يريد أن يرقص مع صبية ما، وأنا بالنسبة له أخت صديقه الذي بسببه جاء لهذا الحفل، فكان من الطبيعي أن يختارني ولا يختار صبية أخرى لا يعرفها بتاتا.
بعد أن مزق أخي فستاني، بكت أختي الصغيرة وارتعدت من الخوف وانكمشنا معا وقالت لي: لا جدوى من الحديث معه، فرأسه متحجر.
بكيتُ لا من الألم ، بل من صعوبة اتخاذ القرار. ماذا نفعل؟ غضبتُ غضبا شديدا وحز في قلبي الخوف والخجل من تهديده لنا بالسكين. جلست مع أختي في الغرفة ولم اعرف ماذا أفعل، بينما أخذت تخيط لي الأزرار التي أسقطها أخي عن الفستان. سألت نفسي: هل سنحرم من المشاركة في الفرح ونحن ننتظر هذه المناسبة منذ عام؟ ماذا سيقول أصدقاءنا الذين سيلاحظون غيابنا؟ هل نترك ونربك من جاء من اجلنا؟ هناك العديد من الأصدقاء المقربين لي ولأختي وديعة جاءوا خصيصا من أجلها واجلي؟!
قررنا العودة والمشاركة بالحفل وكأن شيئاً لم يكن، جلست بجانب أختي يلفنا شعور الحزن والاشمئزاز. رمقني سعيد شريك الرقص لهذا المساء بنظرات عتاب، وكأنه يسألني: متى سنرقص! شدني الأقارب للرقص، وفي الحلقة لم أجرؤ على الاقتراب من سعيد الذي كان يبحث عني بعينيه، كنت أحاول أن لا تلتقي نظراتي بنظراته المعاتبة، لئلا أجهش بالبكاء غضبا على ما انتزع مني.
عاد سليم ليجلس بجانب عروسة وكأن شيئاً لم يحصل ورَفعه الشبان فوق رؤوسهم وأكتافهم وهو فاتح كلتا يديه فرحا متضرعا ورفعوا مقابله عروسه، وبينما كنت وأختي ننظر إليه من الأسفل إلى الأعلى ونرى بيده سكينه التي لوح به في وجهينا من وراء الكواليس.
انكمش الفستان الأحمر من على صدري بعد أن شده وقطع أزراره وانكمشت أنا من تحت الفستان، وانكمش صدري تحته وانكمشت فرحتي بالفستان وبكل ما يدور من حولي. كرهت فستاني الأحمر. كرهت حذائي الأبيض. كرهت صدري وكرهت تميزي عن الغير، تمنيت لو أمزق الفستان عن جسدي وارقص عارية أمام الجميع، لأشعر بحريتي وبسلطتي على جسدي وليتبخر الشرف الزائف في الهواء.
حيفا