يتبدى نص الباحثة العراقية المرموقة كمحاولة فلسفية إلى ابتكار وتأويل استعمال مصطلح "المثاقفة الحجاجية"، لإعادة اللحمة بين كل من الفلسفة والمنطق والحجاج البلاغي. وعليه تساجل عددا من المفاهيم وتجادل في الدروس الفلسفية والمنهجية والأدوات الحجاجية في السياق التاريخي.

من شمولية الدرس الفلسفي الى راهنية سؤال الحجاج الثقافي

أنـوار طاهـر

يعد مفهوم المثاقفة acculturation من المفاهيم الشائعة والمتداولة في حقل الدارسات الأدبية المقارنة والنقد المقارن وما شابه، أضف إلى تداخله مع مناهج العلوم الإنسانية المختلفة. غير أننا لا نجد لهذا المفهوم أي مقابل اصطلاحي أو حضور تأويلي في حقول البلاغة والحجاج والدراسات الفلسفية، هذا على الرغم من أن هذه العلوم تستند بصورة شبه كاملة سواء من الناحية المفاهيمية أو المنهجية على طبيعة عملية الاتصال والتواصل مع ثقافة الآخر المختلفة. إلا أن هناك حالة من التسليم والإقرار بما هو سائد من أحكام وتصورات سلبية مسبقة حول مفهوم المثاقفة باعتباره مفهوما يؤسس لحالة من اغتراب الذات واستلاب الهوية. ونتيجة لذلك، جرى تعطيل فاعلية استعمال مفهوم "المثاقفة المزدوجة" مع المفهوم الغربي التي قد تشكل تمهيدا لعملية متكاملة من التحول السوسيو-ثقافي والقيمي والفلسفي من جهة؛ ومع ثقافة الذات التي قد تحقق عملية مراجعة نقدية لمجمل المفاهيم المنطقية والابستمولوجية التي تشكل بنية ممارساتنا العقلانية وتصوراتنا للحياة والوجود والعالم من جهة أخرى.

من هنا تسعى محاولتنا الفلسفية إلى ابتكار وتأويل استعمال مصطلح "المثاقفة الحجاجية" acculturation argumentative لإعادة اللحمة بين كل من الفلسفة والمنطق والحجاج البلاغي التي لطالما كانت هناك حالة من الانفصال بينها أدت إلى سيادة النزعة الثقافوية intellectualisme والنظرية المجردة  théorique سيما لتلك المنحدرة عن نظريات أفلاطون وأرسطو المنطقية والفلسفية والأخلاقية والسياسية والانطولوجية والتي كرست في مجملها لأنموذج أحادي moniste من النسخ الأيديولوجي للنخب الأكاديمية/ الكولونيالية المتعالية. لهذا، يأتي استعمال هذا المصطلح محاولة منا في إعادة مساءلة تاريخ ذلك المنطق الذي حال دون تفعيل العلاقة الجدلية بين الفلسفة والثقافة والبراكسيس التاريخي، وذلك بسبب تمركز الخطاب الفلسفي على المنطق الشكلاني الذي استبعد منطق الحجاج البلاغي. ولذلك، يمكننا القول انه كيفما يستقر شكل العلاقة بين المثاقفة والحجاج يتحدد بالضرورة شكل الممارسة الفلسفية الجديدة التي تحاول الانعتاق من فكرة الاتساق والمألوف الفلسفي banal philosophique المستغرق في ماهو نظري وثقافوي مجرد.

ومن المعروف أن مفهوم الحجاج البلاغي l’argumentation rhétorique من المفاهيم الإشكالية الذي يرتبط فيه كل من: البلاغة والحجاج ارتباطا وثيقا بهدف البحث عن كيفية التأثير وحث المخاطَب على قبول وتأييد l’assentiment et l’adhésion القضايا موضوع النقاش والانفتاح على إمكانيات وقدرات مختلفة في إدراك واستيعاب مجموعة من التمثلات القيّمية الجديدة التي تصاحب عملية الموافقة والتأييد بالضرورة، وذلك لا يمكن تحقيقه بالطبع إلا بواسطة التقنيات الحجاجية techniques discursives التأويلية(1). وعلى الرغم من شيوع مفهوم الحجاج البلاغي بين المختصين والباحثين في الحقول اللغوية واللسانية في خطابنا الأكاديمي العربي، واستناد اغلب دراساتهم وأبحاثهم ومؤلفاتهم على نظريات الحجاج والبلاغة الجديدة la nouvelle rhétorique القائمة على أطروحات الفيلسوف البلجيكي "شاييم بيرلمان" Chaïm Perelman (1912-1984) الذي نجح في إعادة اللحمة بين الفلسفة والحجاج البلاغي، وانشغل بمعالجة العلاقة الإشكالية فيما بينهما بالاشتراك مع زميلته عالمة السوسيولوجيا البلجيكية "لوسي اولبرخت-تيتكا" Lucie Olbrechts-Tyteca (1899-1987) في المؤلف المشهور "مصنف في الحجاج... البلاغة الجديدة" في عام 1958. إلا أننا نلاحظ أن هناك حالة من العزلة بين كل من: الحجاج البلاغي والفلسفة تحديدا قد جرى ممارستها وتطبيقها بشكل واضح وصريح في اغلب تلك الدراسات والأبحاث الأكاديمية، مما ساهم وبصورة كبيرة في تعطيل تقنيات الفلسفة الحجاجية التي بشر بها "بيرلمان" عن أداء وظيفتها بشكل كامل. ونلمح ذلك بوضوح تام سواء في شكل الأسلوبيات اللغوية والمناهج المعتمدة في الكتابة الفلسفية الأكاديمية والتي لا تنفصل عن تقنيات الدرس الفلسفي وعملية التواصل ما بين الأستاذ والتلميذ. كل ذلك أدى في نهاية المطاف إلى تعزيز حالة الانفصال بين الفلسفة والحجاج البلاغي/ التقنيات الحجاجية من جهة؛ وبين الفلسفة وواقع تطوير آليات الدرس الفلسفي ومن ثمة بين الخطاب الفلسفي والمخاطَب والسياقات الثقافية التي تشكل الذات على المستويات الذهنية واللغوية والسلوكية.

من البلاغة الفلسفية الأفلاطونية إلى فلسفة الحجاج السفسطائية
تعود بدايات الدرس الفلسفي ألحجاجي إلى الفلاسفة السفسطائيين بروتوغوراس وغورغياس وهيباس، الذين عملوا على تفعيل هذه الممارسة الثقافية التي تشكل مقدمة تمهيدية لكل تاريخ سوسيو-ثقافي/ وتعليمي/ وسياسي بالضرورة. فمع الخطاب التربوي/ الثقافي الجديد للسفسطائيين، جرى تدشين قطيعة ابستمولوجية مع البرادايم paradigme البلاغي التعليمي/ النخبوي الافلاطوني المسيطر. حيث كانت الحظوة لبلاغة "التعليم العسكرتاري" التي تتأسس على القواعد الأفلاطونية في "ضبط ومراقبة النفس" la maîtrise de soi platonicienne(2) من اجل تحويل الإنسان إلى كائن عقلاني être rationnel خاضع وبصورة قسرية إلى معايير normes وقواعد règles علم النحو الشكلاني الخاص بالطبقة النخبوية، إضافة إلى شروط الالتزام بطرق التلقين والحفظ بل والنطق أيضا وفق معايير محددة، مع ضرورة التشديد على قاعدة اجتناب إعادة قراءة وتحليل وتأويل ونقد النصوص الفلسفية والأدبية. هذه كانت هي أهم خصائص البلاغة الأفلاطونية التي تنطلق فيها من الاعتقاد الجازم ((بأن النصوص textes صامتة ولا تحتاج للشروحات والتعليقات commentaires التي لا تزيد عن كونها ثرثرة ولغو فارغ ))(3).

من هنا، يمكننا القول أن البلاغة الفلسفية rhétorique philosophique الأفلاطونية المشيدة على مفهوم الحقيقة vérité، لم تكن تضع في عين الاعتبار قيمة للمخاطَب/الجمهور/المتلقي l’auditoire العادي الذي استحال داخل أسوار منظومتها العقلانية الصارمة مجرد أداة خاضعة لبنية القوانين الأيديولوجية السائدة. وإنما كانت تركز في المقام الأول على الكيفية التي يجري بواسطتها الحفاظ على ثبات المنظومة اللغوية والقيّمية. لذلك استعانت بمنطق الحجاج ألبرهاني l’argumentation démonstrative وبالطريقة التي يمكن أن يتم فيها إجراء عملية إدغام ظواهر الركود والثبات بواسطة آليات القسر المؤسساتي contrainte institutionnelle اليومي لغرض إجبار الأفراد ومن ثمة الحشود على تحويل الحقائق المطلقة إلى ممارسات يومية يجددون خلالها عهد الولاء وبطريقة لاشعورية لأحكام شرعيتها وضمان صلاحيتها غير القابلة للنفاد على الإطلاق(4).

نتيجة لذلك، ساهم أفلاطون بطريقة ما أو بأخرى في تشكيل إعاقة لسانية blocage linguistique على المستوى الذهني واللغوي والجسدي.  وعمل على إفراغ البلاغة rhétorique من مقوماتها الحجاجية التأويلية الأساسية التي تؤسس لمبادئ ((الحوار والتواصل بين عقول المخاطبين من جانب؛ وبين المؤسسات الاجتماعية والسياسية من جانب آخر))(5). وجرى اختزالها في الوقت ذاته إلى مجرد تقنيات بيداغوجية (تقليدية) وسايكولوجية وأدبية(6) لتشكل فيما بعد الدعامة الأيديولوجية في عملية تثبيت الحقائق النخبوية لأغلبية فئوية محدودة وتهميش المنظومات القيّمية الأخرى والخاصة ببقية الفئات الاجتماعية. لتؤسس بذلك لـ"بلاغة انضباطية" rhétorique restreinte قسرية بامتياز.

لكن، ومع النظام التعليمي/ الثقافي السفسطائي –البايديا Paideia– الجديد حصلت ثورة révolution راديكالية واسعة لم تقتصر على التحول الدلالي  l’évolution sémantiqueلمفهوم البايديا ليشير للمرة الأولى لمفاهيم التربية والثقافة(7)، بل وجرى كذلك تفعيل ابستمولوجيا فلسفة الحجاج الثقافية والانطلاق إلى رحاب اللغة الطبيعية والعالم اليومي والمخاطَب العادي وسياقاته التاريخية والثقافية. وذلك بالاستناد على منطق الحجاج البلاغي الذي يقوم أساسا على أدوات الجدل والحوار والنقاش التي تضع وعلى نفس القدر من الأهمية والاعتبار كل من: المتكلم l’ethos والخطاب logos والمخاطَب/ الجمهور l’auditoire/ الباثوس pathos المعادل للرأي opinion والأهواء والانفعالات passions والمشاعر émotions والخيال imagination والتي تشكل في مجملها القدرات الإدراكية والذهنية والعقلية والجسدية للذات والتي تؤثر بالضرورة على عملية تشكيل الأحكام الأخلاقية والقيّمية/ المفاهيمية لدى المخاطَب. نتيجة لذلك، كان هناك ثمة تلازم وثيق بين تحول مفهوم البايديا السفسطائي؛ وبين عملية إعادة الاعتبار للمخاطَب/ الباثوس وبين امتداد جغرافية الدرس الفلسفي ألحجاجي بفضل السفسطائيين في عموم أرجاء الدولة الديمقراطية اليونانية.  والسبب في ذلك إنما يعود لان منطق الحجاج البلاغي يشتغل على تحليل منطق أحكام القيمة logique des jugements de valeur بهدف ((العمل على تحليل النسق الهرمي للقيّم hiérarchie de valeurs الذي يجري فيه نقش وحفر المبادئ العليا والدنيا والمتداخلة ضمن سلسلة من العلاقات التراتبية في العقل الإنساني. فهذه العلاقات تحيل بالضرورة إلى سلسلة لامتناهية من عمليات التمأسس الهرمي التي تتشكل عبر منطق الاعتقادات والقيم والأحكام المسبقة التي أصبحت في مجملها هي مقياس كل شيء في الواقع الإنساني اليومي))(8). وبهذه الطريقة اتسعت أبعاد فلسفة الحجاج السفسطائية النقدية لتشمل نقد المنظومات المنطقية والدلالية واللسانية واللغوية، ولتمتد إلى الأنظمة الفلسفية والسياسية والتشريعية juridique والاجتماعية والقانونية لا سيما وان الدولة اليونانية كانت تمر بتحولات سياسية كبيرة شملت جميع الأصعدة بدء من عملية تشكيل المؤسسات البرلمانية والمحاكم القضائية وحتى أنظمة المؤسسات التربوية والتعليمية.

ولم تتحقق تلك التطورات في السياق الثقافي اليوناني إلا بعدما تحول نظام التعليم نفسه إلى خطاب سوسيو-سياسيsocio-politique  يعمل على إعادة الاعتبار إلى كل من: المدرسة/ المؤسسة التعليمية بوصفها الوسط الاجتماعي/ السياسي بامتياز(9). حيث يكون فيها الدرس الفلسفي الحجاجي هو القاعدة الأساسية في بناء فعل تواصلي تداولي pragmatique بين الأستاذ والتلميذ، وذلك بواسطة استعمال تقنيات الخطاب الحجاجية التأويلية التي تتطلب الأعداد والتهيئة الكاملة لاكتساب الخبرة المفاهيمية والمعرفية الكافية في استعمال تلك التقنيات مثلما كانت لدى المعلم السفسطائي. وذلك ليكون الأستاذ على استعداد للحوار والنقاش والجدل ألحجاجي المنفتح على إمكانيات التحليل اللغوي والفلسفي والاجتماعي والسياسي والتأويل ألتعددي لمختلف الخطابات الثقافية، من اجل أن تتحقق حالة من التطور الدلالي الذي تلحقه بالضرورة عملية تدريجية من التحول الذهني والإدراكي changement mental et cognitif.

تاريخ الانطولوجيا: من أيديولوجيا الاستدلال الفلسفي إلى فلسفة الحجاج النقدية
لم يكن في الإمكان إعادة اللحمة بين كل من: الفلسفة والحجاج البلاغي، من اجل بناء فلسفة حجاج ثقافية/ وثقافة فلسفية حجاجية والتحرر من النزعة المفاهيمية الدوغمائية لأفلاطون dogmatisme conceptuel de platon دون أن يكون هناك ما يقابلها وبشكل متواز عملية متكاملة تهدف إلى إعادة الاعتبار  لموروث الثقافة الشعبية أي لتاريخ الحس المشترك sens commun/ القيّم الأخلاقية doxa الذي تتأسس عليه فاعلية تقنيات الحجاج البلاغي. فمن المعروف انه لطالما جرى إقصاء تاريخ الحس المشترك واستبعاده لصالح التاريخ النخبوي للفلسفة التقليدية/ تاريخ فلسفة الحقيقة المطلقة الذي لم يكن له ليرسخ منطق مفاهيمه الثنائي الهرمي ويحوله إلى بنية ذهنية ثابتة وملتصقة إلى حد الامتزاج بالخلايا العصبية، ومتناقلة من جيل إلى آخر، لو لم يكن هناك ما يقابله من تاريخ طويل لعملية نبذ وازدراء لمجمل موروث الحس المشترك وما يتضمن عليه من إمكانيات فردية منفتحة على القدرات الذاتية من الخيال والمشاعر والانفعالات والأهواء. هذه القدرات في مجملها تشكل بالنسبة لفيلسوف الحكمة العدو اللدود للحقيقة. فكيف يمكن له البحث عن الحقيقة والوصول إليها دون أن يتحرر بصورة كاملة وعلى الطريقة الديكارتية من جميع هذه الأسباب المؤدية لإنتاج اللبس والغموض والتي تحول بالتالي دون الوصول إلى الحقيقة؟

من الواضح أن هناك تلازما وثيقا بين إقصاء تاريخ الحس المشترك وبين نفي كل قيمة وقدرة للإنسان العامي/ المخاطَب على المساهمة في إنتاج القيّم. فعندما يجري حرمان المخاطب من حقه في الإدلاء برأيه وطرح السؤال والنقاش بخصوص القضايا الإشكالية التي تلامس أدق تفاصيل حياته وهموم واقعه اليومي. فكيف يمكننا أن نؤسس لفلسفة حجاج نقدية -ليست على الطريقة الكانتية-؟ لا سيما وأن حق تحديد وتصنيف أشكال الكلام والتمييز  بين ماهو مقبول وماهو ممنوع، هو امتياز للطبقة النخبوية المسيطرة التي تمسك بزمام السلطة وتتحكم بوسائل التواصل لتسمح بما تشاء وتمنع ما تشاء. من اجل أن تتفرد في تحديد وتصنيف طرق وأشكال الإدراك والقول والتواصل بين الأفراد وفق مقاييسها ومعاييرها الخاصة. فهل يمكن لنا أن نندهش بعد ذلك من الولادات المتكررة للأنظمة الشمولية؟

في أعقاب التحول الديمقراطي اليوناني، سعى الخطاب السفسطائي إلى التحرر من انطولوجيا الجوهر  l’ontologie de l’essence الأحادي -التي تشكلت مع جمهورية أفلاطون وعالم المثل والحقائق المطلقة- حيث يتطابق الوجود مع اللوغوس/ الخطاب/ اللغة/ الكلام logos/ discours/ langage/ parole، ويجري التضييق على ذهن المخاطَب العامي بواسطة قيود علم النحو المعياري وآليات المنطق ألبرهاني الصارم التي لا تسمح للحشود أن يتداولوا سوى الحقائق المطلقة والمفروضة قسريا والذي يشكل بالضرورة عملية تواصلية في الكينونة المتطابقةcommunication de l’être . لذلك عمل الخطاب السفسطائي ((على اقتلاع الكلام من الجذور الراسخة لذلك الوجود المتطابق، ونجح في تحقيق منعرج لساني linguistique turn أصبح معه اللوغوس لا يكشف عن الوجود))(10) وإنما أصبح يمثل مجمل التقنيات الخطابية التي ((هي بالنسبة إلى الروح كالعلاج/ الفارماكون pharmakon بالنسبة للجسد، حيث يمكن لاختلاف بسيط في كمية الجرعة المعطاة أن تكون علاجا للمريض أو أن تكون سما قاتلا له))(11). وعندئذ يمكننا الانتقال إلى انطولوجيا الخطاب ألتعددي l’ontologie de discours pluraliste حيث يمكن للأفراد التواصل داخل منظومات متعددة من الخطابات المختلفة communiquer dans les discours ويحققوا ما يُدعى بـ"تواصل العلاقات الإنسانية"  communication des relations humaines(12).

مع هذا التحول الثقافي الراديكالي، استطعنا الانتقال من تاريخ الفلسفة التقليدي إلى إنتاج الخطاب ألتفلسفي بوصفه واقعة لغوية fait de langage تتطلب من الأستاذ والتلميذ في الدرس ألحجاجي ألتفلسفي معالجة النص الفلسفي/ والثقافي بمناهج التحليل والنقد والقراءة والتأويل- هنا يتشكل مفهوم المثاقفة الحجاجية- التي تقوم في مجملها على منطق الحجاج البلاغي الاقناعي. وهو المنطق الذي يضع في عين الاعتبار المتكلم والخطاب، مع التأكيد على أهمية المخاطَب l’auditeur، ولمجمل الإمكانيات والقدرات المتضمنة في الأهواء والانفعالات والخيال والمشاعر التي تنحدر جميعها عن مفهوم الباثوس pathos. فكما هو معروف أن أفلاطون الذي طبعت فلسفته العقلانية/ الميتافيزيقية المتعالية الفكر الغربي برمته، ((لم يأتِ على هذا المفهوم إلا عندما كان يريد الإشارة إلى الطبيعة المريضة maladive والمعتلة وآثارها الجانبية على الذات الإنسانية والغير القابلة للعلاج لكونها طبيعة باثولوجية pathologique))(13). ولم يتوقف تاريخ الإقصاء والاستبعاد إلى هذا الحد، بل امتدّ ليشمل كل ما من شأنه أن يُقلق مضاجع منطق الحجاج ألبرهاني المستند على القسر والإرغام في التبرير وفرض حقائقه ومبادئه المطلقة، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى الالتباس والغموض في المعاني الخالدة. فكان من المنطقي إذن أن يجري الإعلاء من شأن اللغة الرياضية/ الصنعية على حساب اللغة الطبيعية التي تخرج على صيغ القوانين الرياضية الاستنباطية، فبلاغة العالم اليومي هي فضاء واسع ورحب ومنفتح على عوالم التقنيات الحجاجية التأويلية لا سيما الاستعارة métaphore(14) التي تخرج على مجمل قوانين منطق الحجاج ألبرهاني الصارم.

وبالطبع، من اجل التحرر من منطق "البلاغة الانضباطية" الذي يمأسس مجمل القدرات الذهنية والإدراكية واللغوية للفرد وتحولها إلى ماكينات لاجترار النماذج التنميطية السائدة، ينبغي إعادة اللحمة بين ثقافة الحس المشترك والفلسفة والحجاج البلاغي من اجل التأسيس لفلسفة البلاغة الجديدة التي دشنت لثورة راديكالية اتسعت لتمتد الى مجمل العلوم الاجتماعية والإنسانية واللغوية واللسانية. وهذا بالضبط ما قام به الفيلسوف "بيرلمان" لا سيما وهو قد اتخذ من التقنيات الحجاجية السفسطائية مرتكزا أساسيا في بناء فلسفته في البلاغة الجديدة، مثلما استند عليها من قبله الفيلسوف أرسطو وأسس اغلب كتاباته على الفلسفة السفسطائية كما هو معروف. إلا أن اغلب الدراسات البلاغية واللغوية واللسانية بل والمنطقية أيضا تركز على الدوام وبشكل صريح وواضح للغاية على المنطق الأرسطي دون أن تلتفت وتنبه في الوقت نفسه إلى جينالوجيا المفاهيم والمناهج والتقنيات الحجاجية السفسطائية التي كانت خير معين لأرسطو في بناء فلسفته خصوصا في نظرياته المتعلقة بالمنطق والبلاغة والحجاج وفلسفات القيّم والأخلاق والقانون(15).

ولا نعلم ما هي الظروف التاريخية التي أدت إلى هذا الإقصاء والإهمال والاستبعاد لخطاب الحجاج البلاغي/ الثقافي السفسطائي الذي مارسه الأكاديميون المختصون والباحثون المشتغلون في تلك الحقول؟ ولماذا كان هناك ما يقابله وبشكل متلازم تصعيدا لخطاب الحجاج ألبرهاني/ الشمولي الأرسطي؟ ألا تدعو سياقاتنا التاريخية المأزومة إلى مساءلة حالة العداء للخطاب السفسطائي، ذلك العداء الأفلاطوني/ الأرسطي الأصل والمرسخ بصورة لاشعورية على المستوى الذهني؟ وتكثيف العمل الأكاديمي في الوقت نفسه حول دراسة الخطاب السفسطائي ونظرياته في فلسفة الحجاج الثقافية والنقدية لغرض تقديم تحليل فلسفي واجتماعي لمختلف النصوص الفلسفية خاصة؛ والثقافية عامة، الكتابية والشفاهية منها دون تمييز؟ ألم يلحق المنطق ألحجاجي ألبرهاني الأرسطي آثارا بالغة الخطورة في ثقافتنا/ لغتنا/ الذات على جميع المستويات الذهنية والإدراكية cognitive والجسدية، ومن ثمة، على بنية العلاقات الاجتماعية وعملية التواصل نفسها التي أصبحت هي أيضا من العمليات التي تخضع لمنطق البلاغة الانضباطية المسيطر؟ ولماذا هناك نوع من التلازم المنطقي ألبرهاني بين المقدمات/ المسلمات الأولى المتعلقة بوجود تصاعد ملحوظ في ألازمة القيّمية التي تمأسس مجمل مفاصل الحياة السياسية والتشريعية والقانونية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والروحية، وبين النتيجة الصادقة بالضرورة -وغير المجدية على مستوى الواقع الاجتماعي- والتي تؤكد على أهمية الالتزام بالنسق ألحجاجي ألبرهاني الأرسطي؟ هل هناك توافق/ واتفاق غير قصدي بين جميع المؤسسات الأكاديمية وبين اغلب المختصون والباحثون بالضرورة، على الحفاظ على الهرم الأرسطي/ والأفلاطوني في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى اعتماد أدوات بحث منهجية ومفاهيمية جديدة ومغايرة تماما؟

وإذا كان هناك ثمة تماثل كبير بين البنية الشمولية totalitaire لكل من: الأنظمة الهتلرية والستالينية التي حكمت أوروبا في القرن التاسع عشر وبين الأنظمة الاستبدادية التي تحكم اغلب بلداننا العربية مع الاختلاف الموجود بين السياق العربي والغربي؟ فلماذا انشغلت النخب الأوروبية من فلاسفة ومفكرين ومثقفين ومختصين وباحثين من أمثال الفلاسفة اويغن دوبريل وحنا ارندت وكارل بوبر ورايموند آرون وغيرهم الكثير ممن انهمك في تأسيس ورش عمل مشتركة لغرض نقد وتفكيك منطق الحجاج ألبرهاني الافلاطوني/ الأرسطي ألقسري والذي نجم عنه صعود الأنظمة الشمولية إلى سدة الحكم؟ ناهيك عن تأسيس مدرسة بروكسل البلجيكية ومدرسة فرانكفورت بهدف نقد وتفكيك البنية المنطقية واللغوية والبلاغية الانضباطية/ الأفلاطونية التي شكلت لمفهوم الهوية الجوهرية الثابتة l’identité substantielle، والعمل على تفعيل مفهوم التواصل ألحجاجي البلاغي الذي يشكل مقدمة ضرورية في بناء حالة التوافق والتسوية بين الأطراف والفئات الاجتماعية المتنافسة والمتصارعة؟

أليست الصراعات المتكاثرة بين الهويات والاثنيات المختلفة والمتعددة في سياقنا الثقافي العربي تدعونا إلى استلهام روح الفلسفات السوسيولوجية التعددية التي لم تظهر في أوروبا بعد أزمات الحروب المتكررة إلا لغرض التحرر من طغيان الهوية الأحادية على الهويات الأخرى. وهذا ما حصل في بلجيكا حيث كان للطائفة الكاثوليكية التي تشكل الأغلبية السلطة والقوة المتنفذة على الطوائف/ الفئات الاجتماعية الأخرى، والتي دعت الفيلسوف البلجيكي دوبريل E. Dupréel (1879-1967) إلى كتابة مؤلفه "التعددية السوسيولوجية" Le Pluralisme Sociologique وإصداره بعد يوم واحد فقط من نهاية الحرب العالمية الثانية 1945؟ ألا يدعونا هذا إلى مساءلة حالة التقاعس الواضحة من المثقفين والأكاديميين التي تمنعهم عن أداء دورهم ألتفلسفي ألحجاجي النقدي؟ في الوقت الذي ينشطون فيه لتصعيد خطاب البلاغة الانضباطية القسرية الذي يعتبر الترسانة الأيديولوجية لكل نظام شمولي حاضر ومقبل وممكن في القوة؟

في الوقت الذي نجد فيه أن الفيلسوف بيرلمان وقف بالضد من منطق الحجاج ألبرهاني ألقسري الذي كان من البديهي أن يشكل قاعدة علمية أساسية للتبرير justification لبنية النظام الشمولي الذي يعتبر ((شكلا من أشكال الأحادية monisme الذي يجعل من زعيم الدولة المصدر الوحيد الضامن لشرعية الحقيقة وجميع القيّم valeurs، وتتلازم معه بالضرورة شروط قمع الحريات وازدراء تام لحقوق الإنسان mépris des droits de l’homme، إضافة إلى اضطهاد persécution كل الفئات الاجتماعية التي تسعى نحو تحقيق وجود مستقل عن إرادة الزعيم/ الدولة. حيث ينبغي أن تكون جميع الطموحات والتطلعات الإنسانية سواء كانت قومية أم دينية؛ علمية أم فنية واقتصادية أم رياضية في خدمة إرادة الدولة المركزية pouvoir central وما عداها يستحيل أن يكون موضع ترحيب بل ولا يستحق الدعم أو التشجيع. بعبارة أخرى، ستتحول جميعها إلى أدوات خاضعة لمبدأ قيّمي أحادي جوهري la valeur primordiale يشتغل في خدمة معيار المعايير الأوحد والمطلق critère في تسيير جميع أمور الدولة الشمولية l’État totalitaire. ويجري تحديد وتشريع آلية تطبيق وتنفيذ هذا المعيار من قبل النخبة الحاكمة ووكلائها في السلطة الذين يتفرعون منها. من هنا، يمكن القول أن النزعة الأحادية في تشكيل القيّم تمثل المرتكز الأساسي في عملية دعم وتثبيت الترسانة الأيديولوجية l’arsenal idéologique للسلطة المركزية في الدولة الشمولية))(16).

فلسفة البلاغة الجديدة: جدل آليات القسر ألحجاجي ألبرهاني وتقنيات الحجاج البلاغي
هكذا، سعى خطاب الفلسفة والعلوم الإنسانية إلى التحرر من سيطرة المنطق الافلاطوني المتمركز  حول آليات ضبط ومراقبة النفس/ والحجاج ألبرهاني الأرسطي واللغة الشكلانية التي كان لها أثرا كبيرا في إنتاج/ وإعادة إنتاج تشكيلات جديدة من النزعة الأحادية المثالية المتجذرة في البنية المنطقية واللغوية واللسانية الغربية والتي جرى استغلالها لصالح تشييد منظومات قيّمية وَلاَّدة لأنظمة الحكم الشمولية/التوتاليتارية. فكانت نشأة خطاب مدرسة بروكسل l’école de Bruxelles البلجيكية في نهاية القرن التاسع عشر، رد فعل واضح ضد ذلك الخطاب الأحادي الدوغمائي الصارم، ومحاولة للتحرر من البرادايم الديكارتي المسيطر سيطرة تامة على مفاصل الفكر والعلم والفلسفة والحياة الاجتماعية أيضا، والذي كان تتمة لسلسلة طويلة من مراحل تاريخ العداء للبلاغة والحجاج والقضايا الجدلية السفسطائية التي وعلى الرغم من أن أرسطو قد جاء على ذكرها في كتابه "الطوبيقا" Topiques إلا أن علماء المنطق عمدوا إلى طمسها(17) بطريقة حاولوا فيها تغييب منطق الحجاج البلاغي السفسطائي، والاستمرار في منطق العداء للحجاج البلاغي السفسطائي واجتناب فتح باب الجدل والحوار والنقاش من اجل عدم فسح المجال للإنسان العادي للمساهمة في ابتكار القيّم وتعطيل قدراته الإبداعية. وقد نجحوا في تحقيق أكثر مما كان يحلم به أفلاطون نفسه، عندما استطاعوا تحويل الحقائق البديهية/ الواضحة في ذاتها évidente والمطلقة إلى قواعد règles ضمنية ومتداخلة في منظومة الخطاب وتتحكم في الاستعمالات اللغوية اليومية، حتى أصبحت ممارسات لاشعورية يقوم بها الفرد ويؤيدها حين الضرورة تأييدا أعمى دون وعي أو إدراك منه.

من هنا، ركزت مدرسة بروكسل مجهودها العلمي نحو تأسيس ورش عمل مشتركة تعمل على تحليل مختلف الخطابات الثقافية في الحياة الاجتماعية بالاعتماد على المنهج ألحجاجي البلاغي/ التداولي. وقد اتضحت ملامح عملها الراديكالي في المقام الأول من خلال تحررها من النزعة الأكاديمية المنغلقة داخل أسوار الاختصاص المحدد، وخروجها إلى فضاء تعددية وتداخل الاختصاصات المعرفية transdisciplinaire. وهذا كان من بين أهم الخصائص المميزة لمدرسة بروكسل، حيث كان جيل المؤسسين الأوائل من المختصين في القانون والفلسفة والسوسيولوجيا والعلوم الإنسانية. وكان من أبرزهم الفيلسوف والعالم السوسيولوجي دوبريل وتلميذه الفيلسوف بيرلمان اللذان يعتبران من المجددين للخطاب السفسطائي ومعهما حصل منعرجا حجاجيا tournant argumentatif مهما للغاية. دشنه دوبريل في كتبه التي تعتبر من كلاسيكيات الأدب السفسطائي وفلسفتها La Légende socratique et les sources de Platon  عام 1922؛ والآخر Les Sophistes. Protagoras, Gorgias, Prodicus, Hippias عام 1948. واكتمل مع فلسفة البلاغة الجديدة لتلميذه بيرلمان.

أنطلق الفيلسوف بيرلمان في تشييد فلسفة الحجاج البلاغي من نقد السفسطائية(18) للمنطق ألبرهاني الرياضي/ ونزعة ضبط ومراقبة النفس، وخصوصا النقد الذي وجهه الخطاب السفسطائي لمختلف أشكال الحقائق/ النماذج اللغوية المتضمنة عليها منظومة العقائد dogmes الأرثوذكسية والعادات والتقاليد والعرف أيضا(19). واتجه في مجمل أبحاثه سواء المفردة أو المشتركة مع زميلته تيتكا إلى إعادة اللحمة بين الفلسفة والبلاغة وتفعيل منطق الحجاج البلاغي الاقناعي الذي يستند إلى بلاغة المخاطَب السفسطائية. معلنا في مقدمة كتابهما المعروف "مصنف في الحجاج.. البلاغة الجديدة" أنه مع هذا الكتاب جرى التأسيس لقطيعة مع مفاهيم العقل والحدس والتأمل المنحدر ة جميعها من ديكارت وتعود في أصولها إلى أفلاطون. وقد عمل في اغلب كتاباته على معالجة وتحليل ونقد النصوص الفلسفية بهدف تفكيك "البنية المنطقية التراتبية التصنيفية الأفلاطونية" والذي قام بتشكيلها الفلاسفة بل وتفعيلها أيضا من خلال نظامهم الفلسفي المنطقي وأسلوبياتهم اللغوية ليتحول إلى "عُرف لغوي قبلي" convention présupposée de langage ترسخ في التركيبة الذهنية والإدراكية للذات الإنسانية. وبذلك، تحولت هذه الثنائيات الهرمية الفلسفية إلى معطيات واضحة في ذاتها/ بديهيات غير قابلة للنقاش، والى أدوات تسمح بإكساب الخطاب بنية تبدو وكأنها موضوعية دون أن تكون كذلك بالضرورة(20). لدرجة ما أن «يبدأ فيها الفرد بالكلام، حتى يكون افتراض وجود المعنى حاضر مسبقا وعلى الدوام، فلا يتصور الفرد نفسه قادرا على الكلام دون حضور ذلك الافتراض»(21).

نتيجة لذلك، سعى بيرلمان إلى مساءلة وتحليل تلك البنية المنطقية/ الفلسفية المسيطرة على إنتاج السياقات الثقافية برمتها. بعبارة أخرى، حاول تفكيك بنية العُرف اللغوي القبلي الذي عمل على عزل الفرد وسجنه بين قضبان "الضرورات المنطقية" من اتساق consistance المفاهيم ووحدة المعنى univocité بمعزل عن الوقائع الحقيقية الحاصلة في سياق contexte الاستعمالات اللغوية اليومية. وذلك يعود في احد أهم أسبابه، إلى أن اللغة الشكلانية formelle هي لغة فقيرة ولا يتوجه خطابها إلى مخاطب مادي ملموس بقدر ما يزعم أنه خطاب إلى الجميع وينطبق على الجميع سواء كان ذلك بحجة المبادئ الديكارتية الواضحة في ذاتها أو أسبقية وجود الحقائق الأفلاطونية المطلقة والتي تؤكد في مجملها أن المعنى المنطقي في اللغة يحمل صدقه في ذاته وصلاحيته validité التي تقع خارج منطق السؤال أو النقاش(22).

وفقا للمعطيات السابقة الذكر، كيف يمكن أن نؤسس لمجتمع تاريخي/ تعددي يقوم على أساس التوافق بين الفئات الاجتماعية المختلفة groupes sociaux وعقد اتفاق تشريعي عام تضمن فيه حقوق الأفراد وعدم قمع الحريات للتحرر وبشكل تام من جمهورية الشموليات الأفلاطونية؟ وكيف يمكننا إعادة الاعتبار إلى المخاطب/ الإنسان العامي في ظل هيمنة الخطابات الشكلانية التي لا تعترف بالآخر ولا تمنح أي أهمية للمتلقي بل ولا تعترف بقدرته الإبداعية على ابتكار القيّم والمساهمة في إنتاجها بوصفه عضوا من أعضاء المجتمع؟ وكيف يمكننا أن نحدث تحولا على مستوى الخطابات الثقافية يقابله وبشكل متواز تحولا واسعا في المنظومة القيّمية يشمل مختلف الممارسات الأخلاقية usages éthiques والاجتماعية ليلحقه تطور دلالي وذهني في الذات الإنسانية. دون أن يعقب ذلك بالضرورة تحليلا حجاجيا بلاغيا لبنية المنطق الافلاطو-أرسطي ألبرهاني والذي نجم عنه آثارا وخيمة على المستوى الذهني والإدراكي والجسدي؟ بل وكيف يمكن للأنظمة الديمقراطية أن تتأسس على أنقاض منطق الحجاج ألبرهاني الشمولي الذي يقصي المخاطب ويستعمل أداة القسر بل والعنف في أحيان كثيرة؟ وكيف يمكن الحديث عن وجود مؤسسات تربوية وتعليمية وأكاديمية وتشريعية وقانونية مستقلة في ظل هيمنة منطق ضبط ومراقبة النفس الافلاطوني؟ وكيف يمكن أن نؤسس لدرس حجاجي يشكل مقدمة لأجيال من الشباب المتفلسف ولانتلجنسيا تحمل مشروعا تنويريا حقيقيا وتشكل رادعا لكل هيمنة نخبوية أيديولوجية مقبلة؟

كل هذه الأسئلة الإشكالية وغيرها، شغلت بيرلمان وجعلته يكرس حياته بأكملها نحو البحث والدراسة والتنقيب في حقل البلاغة والفلسفة. وتدشينه بعد ذلك لفلسفة حجاجية ثقافية نقدية وضع أسسها ومبادئها في كتابه "مصنف في الحجاج". مؤكدا على أهمية ((نظرية الحجاج بوصفها خطاب فلسفة البلاغة الجديدة (أو الجدل الجديد) التي تشمل كل حقل من حقول الخطاب الذي يسعى إلى التثبت العقلاني والمنطقي convaincre أو الإقناع persuader، اياً كان نوع الجمهور/ المتلقي l’auditoire الموجه إليه الخطاب، واياً كان محتوى أو موضوع ذلك الخطاب. وكذلك على ضرورة أن تكتمل الدراسة العامة للحجاج بعلوم مناهج méthodologies مخصصة لكل شكل من أشكال الجمهور/ المتلقي/ المخاطَب ولكل فرع من فروع المعرفة. بهذه الطريقة فقط، يمكننا استحداث منطق تشريعي juridique جديد أو منطق فلسفي جديد أيضا، والتي من شأنها أن تؤسس لتطبيقات استثنائية وفريدة من نوعها لنظرية البلاغة الجديدة في كل من: علم القانون والفلسفة))(23). وحينما انهمك بيرلمان في التشريع لـ "فلسفة حجاجية ثقافية نقدية" تقوم على التعددية المنهجية أي تفيد من جميع مناهج العلوم الإنسانية والقانون والفلسفة من اجل تحليل جميع أشكال الخطابات السياسية والإعلامية والقانونية والفلسفية والأدبية أيضا. إنما كان يريد بذلك إعادة الاعتبار وعلى حد سواء للمخاطَب وللثقافة الشعبية التي لطالما جرى ممارسة عملية إقصاء لمجمل ما تنطوي عليه من تواريخ الاعتقادات والرأي العام والعادات والتقاليد الموروثة التي تمثل في مجملها تاريخ الحس المشترك الذي يشكل قدرات الفرد الذهنية والإدراكية والسلوكية ورؤيته للعالم بأكمله. لذلك، ينبغي علينا أن نعترف بضرورة اختبار وفحص الاعتقادات ذات الأصول الفلسفية الراسخة تلك التي تشكل لدينا معها حالة من المألوفية والتآلف banalité إلى الحد الذي أصبحت تقع فيه مجمل تلك الاعتقادات والتصورات خارج منطق المساءلة والفحص والاختبار.

وهذا ما جعل بيرلمان يبدأ من النظام التربوي والتعليمي ويؤكد على ضرورة تفعيل دور البلاغة والحجاج في المؤسسات التعليمية وتحويلهما إلى ممارسة ثقافية تؤسس لكل تحول قيّمي يشمل جميع الأصعدة في الواقع الاجتماعي(24). مشيرا في الوقت نفسه إلى انه رغم أهمية دور المختصين في علوم الفلسفة والمنطق واللغة والعلوم الإنسانية أيضا في تلك العملية، غير انه من الملاحظ وجود حالة من العزوف بين أولئك المختصون لا سيما الفلسفة والمنطق عن الاقتراب إلى حقل "البلاغة" والنظر إليها في كثير من الأحيان بعين الازدراء لكونها لا يمكن أن تمثل علما يحمل امتيازا بما يكفي ليجعله مركز اهتمام الفلاسفة وعلماء المنطق «فهي مجرد لغو فارغ لا جدوى منه، وحتى طرق تدريس البلاغة التقليدية في مؤسساتنا التعليمية والمعتمدة فيها لعدة قرون، جرى إهمالها إلى الحد الذي لم يبقَ منها غير العنوان الشكلي"للبلاغة" حيث يتم تدريس نصوص علماء البلاغة وكيفية كتابة مقال وصفي عنها»(25).

والغريب في الأمر أن هذا الوصف الذي قدمه بيرلمان لحال تدريس البلاغة في الستينات من القرن الماضي، لا زال ينطبق تماما على مؤسساتنا التعليمية ومناهجها في البلاغة. وهنا، ألا ينبغي علينا أن نتساءل حول ظاهرة ركود فلسفة البلاغة وتعطيل التقنيات الحجاجية الثقافية إلى وقتنا الحالي؟ ولماذا نجد أن هناك ثمة حالة من الانفصال بين علوم الفلسفة والبلاغة وبقية العلوم الإنسانية وهذا ما يبدو واضحا في إشكالية الدرس الفلسفي عندنا؟ إلى الدرجة التي لا يمكننا أن نعثر وإلى يومنا هذا، على منهج مخصص لتدريس فلسفة البلاغة الجديدة والحجاج السفسطائي واعتماده مع الدرس المنطقي في أقسام الفلسفة عامة؟

لم يجد بيرلمان سببا كافيا يمكن له أن يبرر حالة الإهمال والازدراء الذي تتعرض له البلاغة سواء في المؤسسات التربوية والتعليمية أو من قبل المختصين في الفلسفة والعلوم الإنسانية. بل رأى أنها ((حالة تعبر عن الجهلl’ignorance  وعدم الفهمl’incompréhension . رغم أن التقليد الكلاسيكي المنحدر عن الفيلسوف أرسطو كان واضحا في تعريف البلاغة بكونها فن التحدث بطريقة اقناعية persuasive مستندة على التقنيات الخطابية التي تكشف عن العلاقات الضمنية الموجودة بين القضايا المطروحة للنقاش والتأييد l’adhésion الذي من الممكن أن تثيره أو تضعفه لدى المخاطَب حالما تتغير  الطريقة والكيفية التي يعتمدها المتكلم في طرح تلك القضايا))(26). وهذا هو المرتكز الأساسي الذي يعزز من أهمية وضرورة تفعيل المنطق ألحجاجي البلاغي الذي يقوم على مساءلة المألوف اليومي banalité quotidienne وماهو متوافق عليه من العادات والتقاليد والأحكام jugements الأخلاقية المسبقة أي كل ما يتعلق بثقافة الحس المشترك ونبش ما دُفن فيها من حقائق فلسفية نائمة ومتناثرة هنا وهناك بين طيات الذاكرة الإنسانية، يمكن لأي منها أن تُبعث من جديد في أي عبارة أو قول أو حتى في كلمة جميعها تمثل في آخر المطاف لأحكام قيّمية قبلية. لذلك، يدعونا منطق الحجاج البلاغي إلى عدم الانغلاق داخل صفحات تاريخ الفلسفة التقليدي/ تاريخ البحث عن الحقيقة الأفلاطونية المطلقة. والى عدم الاكتفاء بتكرار تاريخ التيارات الفلسفية ومذاهبها ومدارسها، إضافة إلى التعداد الدوري لأسماء الفلاسفة والمفكرين وتصنيفهم وفق اتجاهات فلسفية بعينها إلى الحد الذي يثير فيه الضجر والملل في كثير من الأحيان.

وإنما ينبغي في المقام الأول العمل على تحويل الدرس الفلسفي التقليدي إلى درس حجاجي تفلسفي يتأسس على ممارسة تواصلية ثقافية تقوم على تقنيات الجدل والحوار والنقاش الحجاجية الاقناعية المتبادلة الأدوار بين المتكلم والمخاطَب دون أن تكون هناك ثمة تراتبية هرمية من أي نوع كان قد تحول دون تبادل هذا الأدوار بين الأستاذ والتلميذ، فالجميع متساو في حضرة التعلم والمعرفة والنقد والتحليل، وذلك من اجل أن تؤسس لبناء فرد قادر على نقد critiquer الخطاب discours الذي يسمح بالضرورة بتشكيل سلسلة من التمثلات representations الذهنية والإدراكية الجديدة لدى كل من الأستاذ والتلميذ تلحقها وبصورة متوازية عملية إنتاج مجموعة من الأحكام القيّمية الجديدة التي تؤثر وبشكل مباشر على صيرورة السلوك الفردي processue de la conduite humaine. وهذه هي احدّ أهم وظائف الدرس ألحجاجي البلاغي ألتفلسفي الراديكالي والمستندة على الاختبار والفحص الحر libre examin. هذا الشكل من أشكال التواصل هو ما نحج في تأسيسه بيرلمان وتفعيله في جامعة بروكسل الحرة ULB، واعتبره احد  أهم الأسس الضرورية في بناء مجتمع «منظم تنظيما مؤسساتيا بالشكل الذي يتلاءم ومطالب الأفراد والتحولات الحاصلة في الواقع الاجتماعي. حيث يصبح هدف هذه المؤسسات المدنية سواء كانت السياسية منها أو التشريعية أو التعليمية هو التعزيز من ذلك الشكل التواصلي ألحجاجي الاقناعي بين الأفراد والذي يمهد بالضرورة لكل تحول ثقافي يشمل جميع الأصعدة في المجتمع الواحد»(27).

لكن مثل هكذا تحول ثقافي من غير الممكن له التحقق في ظل سيطرة منطق الحجاج ألبرهاني الشكلاني الأرسطي على الخطاب الفلسفي/ والثقافي، لكونه منطق يعمل على تعزيز/ وترسيخ بنية البلاغة الانضباطية الأفلاطونية التي لا تعترف بوجود/ وقيمة المخاطَب من الأصل. بعبارة أخرى، سوف لن ينظر أستاذ الفلسفة إلى قاعة الدرس بوصفها وسط اجتماعي يلتقي فيه عدد من الطلاب/ أي مجموعة من القيّم المشتركة valeurs communes بوصفها بنية من العلاقات المفاهيمية relations conceptuelles التي تمأسس مجمل السياقات التاريخية والثقافية عامة. وعليه تحتاج من أستاذ الفلسفة إلى تحليل هذه العلاقات ونقد بنيتها المنطقية واللغوية. بل على العكس من ذلك، ستكون الرؤية الأحادية moniste مسيطرة تماما على أستاذ الفلسفة، ولا تفسح له مجالا للنظر إلى ماهو ابعد عن حدود المسلمات القبلية الصادقة وغير النافدة الصلاحية والتي تتأسس عليها جميع الأنظمة الفلسفية الكلية/ الشمولية. ومن ثمة، سيكون الدرس الفلسفي تقليدي ومحكوم بآليات المنطق التراتبي الهرمي التي تتحكم أيضا في طريقة انتقاء مناهج فلسفية تقليدية؛ وفي الأسلوب اللغوي المستعمل في طرق تدريس وكتابة ونشر النص الفلسفي أيضا.

والنتيجة الطبيعية لمثل هكذا درس فلسفي تقليدي، بقاء الطالب في حالة من الاستسلام وعدم الفاعلية passif والاتكال parasite المطلق لمجمل المعلومات التلقينية التي يمليها عليه أستاذ الفلسفة وأهمها أن يسعى الطالب على الدوام إلى التحرر من الخيال والمشاعر والأهواء التي يشوبها اللبس والغموض والالتباس التي تحول بينه وبين الوصول إلى مقام الصفاء purification والتجريد abstraction المطلق الذي يستطيع من خلاله فقط من استيعاب المفهوم الفلسفي المحض pure. علينا أن لا نستغرب بعد ذلك إذن من عدم وجود حوار فلسفي قائم على منطق الحجاج البلاغي المنفتح على تعددية القراءات/ وتعددية القيّم(28)، ومن اتساع الفجوة بين كل من: أستاذ الفلسفة والمعلومة الفلسفية؛ وبين الأستاذ والطالب والسياق الثقافي العام؛ وبين قاعة الدرس الفلسفي التقليدي والواقع الاجتماعي اليومي. لان أستاذ الفلسفة نفسه تحول إلى مجرد "تمثل" représentatif  للنظام الاجتماعي وقيّم الأخلاق l’ordre social et moral  النخبوي الإيديولوجي المسيطر والمتحكم بجميع مفاصل الحياة الإنسانية. فهو لسان هذا النظام وأذنه التي ترفض الإصغاء والحوار والنقاش في قضايا جرى/ ويجري التسليم قبليا بصدقها الأبدي والسعي الحثيث على دفع الطالب/ المخاطَب نحو التصديق على شرعية صلاحيتها يوميا عبر مختلف الممارسات الاجتماعية السائدة(29).

إشكالية الدرس الفلسفي ألحجاجي في الخطاب الفلسفي العراقي
يعد المفكر العراقي الأستاذ الدكتور عبد الستار الراوي احدّ أهم راود الخطاب الفلسفي العراقي الذين دعوا إلى التأسيس إلى فلسفة عقلانية تنويرية تهدف إلى إعادة الاعتبار إلى خطاب الفلسفة النقدية والتحرر من سيطرة الفلسفات المثالية الميتافيزيقية التي حالت دون تطور خطابنا الفلسفي والثقافي أيضا. بل وانشغل أ. الراوي على مدار مؤلفاته الفلسفية والأدبية النقدية كذلك، بهذا الهم الإشكالي وسعى إلى تشخيص الأعراض المرضية التي فتكت بجسد الفلسفة العراقية. وربما يعد مؤلفه "قطر الندى... أيام الفلسفة في الوزيرية 1963-1967" من بين أكثر مؤلفاته التي تناولت إشكالية الدرس الفلسفي التقليدي في سنوات الستينيات من القرن الماضي. هذه السنوات التي شهد فيها العراق وبقية البلدان العربية حالة من الغليان السياسي والتحولات الأيديولوجية وما تبعها من تغييرات كبيرة على جميع الأصعدة في الحياة الاجتماعية.

من هنا، جاءت "الكلمة الأولى" التي افتتح بها أ. الراوي هذه البيوغرافيا، على وصف بليغ حاول أن يستحضر جميع الصراعات بين التيارات والاتجاهات الثقافية خلال مرحلة دراسته للفلسفة في كلية الآداب- جامعة بغداد في الستينيات: ((تبدو الحياة اليومية في السنوات الجامعية الأربع ، كما لو كانت لحظة هاربة من أفق الزمن ، لم يبق منها إلا الظلال والصدى .. وذكرى التمرد الشقيّ الذي كان يتجه مرة للأمام وأخرى للوراء ... وهي اللحظة ذاتها التي خرج منها أو عليها نصّ (قطر الندى)، بوصفه مغامرة مفتوحة على دنيا مكتظة بالأحلام والأماني، بالسكون والحركة، وبصراعات لا حصر لها من الأفكار والرؤى والمغامرات تحتمها ثنائية : التصور والتصديق؛ الوجود والعدم؛ الريبة واليقين. يلتئم أو يشتبك فيها الحضور والغياب؛ الأنا والـ (نحن)؛ الأخيلة والتاريخ. تلتقي أو تفترق، تجعل من عالم السنوات الأكاديمية الأربع قلقاً متأججاً، يولج الليل بالنهار، والصخب بالتأملات. جنون عاقل أو عقل الجنون. يستوي في جدلياته النازلة الصيف والشتاء قد يرى الحياة فرحاً مستديماً، أو تبدو له حزناً مقيماً ... وأن الوجود الرائع ببهائه الفريد، وهيبته الكونية المدهشة، ليس إلا عبثاً موجعاً، منغمراً بالسأم والضجر واللامعنى ... ينتهي بحفرة سقيمة باردة عند فاصلة الختام، فلا يعد بوسع الجملة الخبرية إلا أن تتعثر وتفقد معانيها بالرقاد الأبدي. فيكّف الكون البشري عن الحركة، وينتهي تاريخ اللحظات البهية عند قارعة السفر الأخير. عندئذ لن يبقى إلا عالما فارغا وموحشا، نبكي ذكراه في الليالي الباردة. هكذا تتقطع أوصال العقل بين التبرير المريح لمعنى اللحظة البارقة وبين التعليل الضنين للنهاية والمصير))(30).

يبدو واضحا في النص أعلاه، سيادة لجدل الثنائيات الفلسفية الأفلاطونية بنفس الطريقة التي سيطرت بها أيضا على الفكر الغربي برمته. وتمثل مفاهيم الريبة/ الشك واليقين احد ابرز تلك الثنائيات التي تختزل تاريخ الصراع الحاصل بين انموذج منطق الحجاج ألبرهاني اليقيني السائد في الخطاب الفلسفي وبين انموذج ثقافي نسبي ومغاير حاول الخروج عن ذلك المنطق وتحرير الفلسفة من سلطته المتنفذة، وإعادة اللحمة بين الفلسفة والثقافة وتفعيل درس حجاجي فلسفي من حيث الممارسة. غير أن سيطرة برادايم منطق الحجاج ألبرهاني في الفترة الأولى من تأسيس قسم الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة بغداد عام 1949 كانت من القوة والصلابة لدرجة أننا لم نلمح بين المختصين في الفلسفة والعلوم الإنسانية أيضا أي حركة فلسفية وثقافية تتجه نحو تكثيف الجهود العلمية المتبادلة والمتفاعلة لغرض تشكيل ورش عمل منهجية تعددية/ بحثية ابستمولوجية تعمل على تحليل ونقد البنية المنطقية واللغوية والسياسية لغرض إعادة الاعتبار للمخاطَب/ الإنسان العامي في الخطابات العلمية الأكاديمية المعيارية التي لم تحاول هي الأخرى مواكبة ما حصل في الخمسينيات والستينيات من ثورات هائلة في نظريات البلاغة الجديدة والحجاج والتي استطاعت أن تحدث قطيعة ابستمولوجية مع المنطق التأملي الديكارتي وسلسلة النظريات الأرسطية التي لطالما كانت هي المسيطرة على الخطاب الثقافي الغربي. واستطاع فيها الفيلسوف بيرلمان مع نظريته في البلاغة الجديدة أن يعيد الاعتبار إلى المخاطَب ولغته الطبيعية/ اليومية المهدورة أمام سلطة المنطق ألحجاجي ألبرهاني والبلاغة الانضباطية الأفلاطونية. بل على العكس من ذلك، اندفع جيل الستينيات نحو تبني ذلك المنطق القائم على بنية خطابية متضمنة على مجموعة من الحقائق والمبادئ المثالية والشعارات الأيديولوجية اليوتوبية المتعالية على السياق الثقافي العام وعلى مصائب الإنسان العربي اليومية: «حاول جيل الستينيات (جيل اللاادرية؛ القلق والعدم) حيال صلابة الواقع الموضوعي أن يتخطى نفق الذات صوب غابة المرايا، ليشم عبير الحرية، والصداقة والود العريق. وجرب الطواف بمنازل الهوى الأولى، باحثا عن الأسماء والرسوم وأساطير الأولين، يتنقل بثبات فوق رقعة نار الحطمة، ماض بإقدام بين الطرقات الخاوية، وأنين الأبواب وبكائيات الحمام، وبين حكايات الذي غمره الحب فمات غراما، وهو الجيل نفسه الذي حاول التقاط جمرة (الغد)، وهو يقاوم الصمت والصدأ والقنوط، الذي سعى بمغامراته الشجاعة أن يشق فضاءً حميماً إلى (حاضرة الأمل)؟! حاضرة الوطن الكبير ... الذي تمتد شمسه الحانية إلى آفاق الكوْن الإنساني كله، وعندما حث خطاه كان على مقربة منها أو قاب قوسين أو أدنى من أبوابها قبل أنْ يكتشف بأن الوصول إلى المدينة العربية الواحدة التي يبحث عنها ويتوق إلى مسراتها المستديمة، تبدأ وتنتهي بدرب الآلام، وإنها لم تعد إلا (خرائب) مهجورة وغابة ممتلئة بالقتلى ووصايا الشهداء الذين قضّوا على أسوارها الواهنة، في صيف 1967»(31).

يضعنا نص أ. الرواي أعلاه، أمام إشكالية جدل الصراع بين اليوتوبي والعلمي والأكاديمي، والذي كان واضحا من خلال الصراع بين البرادايم الشكلاني المتمثل في منطق الحجاج ألبرهاني المسيطر على الخطاب الفلسفي العراقي آنذاك، وبين البرادايم الثقافي المتمثل في منطق الحجاج البلاغي. وهذا ما يمكن لنا أن نلمحه في النص أعلاه من خلال الوصف اليوتوبي الحالم والطامح إلى بناء أمل فلسفي جديد يعيد بناء الإنسان الممزق والمشتت جراء تراكم وتكرار الخراب السياسي ألعدمي. لكن المشكلة أن هذا الخطاب التزم بالمنطق الشكلاني المتعالي فكان من الصعب أن يجري تحويله  إلى خطاب تاريخي يشمل كافة المؤسسات الثقافية والتعليمية والأكاديمية. وربما هذا ما يفسر لنا كيف أن هذا الطابع اليوتوبي تحول إلى خاصية ثابتة ومترسخة في مناهج الفلسفة والعلوم الإنسانية لا سيما وان المنطق الذي ظل يحكمها تراوح بين سلطة النزعة الأفلاطونية المثالية وإيديولوجيا المنطق الاستدلالي الأرسطية وهي الأرض الخصبة لتكرار ولادة اليوتوبيات في الفلسفة والسياسة والحياة اليومية. وربما كان هذا احد الأسباب التي أدت إلى وأد أي إمكانية تبشر بولادة فلسفة البلاغة ومناهجها الحجاجية التي تعيد منطق التقارب والتفاعل بين الخطابات العلمية والأكاديمية وبين الواقع الاجتماعي لتشمل علوم الفلسفة والقانون والسوسيولوجيا والسايكولوجيا كما هو حاصل في الفكر الغربي. ومن ثمة، تساعدنا على تفعيل الدرس ألفلسفي ألحجاجي في أقسام الفلسفة عامة.

من الواضح أن عملية استبعاد البلاغة وفرض العزل الانفرادي لها عن جميع العلوم الإنسانية كافة وفي مقدمتها الفلسفة، لم تكن منفصلة عن إقصاء الخطاب ألحجاجي السفسطائي نفسه عن عملية تدريس الفلسفة بشكل كامل. فقد كانت حقائق المنطق الشكلاني الأرسطي هي المسيطرة سيطرة كاملة على مجمل مفاصل العملية الفلسفية مخافة الدخول في دهاليز الخطاب القيّمي ألتعددي النسبي والخروج من الحاضنة الأولى لفردوس الحقائق الخالدة. إلى الدرجة التي لا يمكننا أن نلمح فيها حضورا لمنهج في فلسفة البلاغة الجديدة يتخصص في تدريس تقنيات الحجاج السفسطائية وطرق التحليل الفلسفي للبنية المنطقية واللغوية للنصوص الفلسفية. وهذا ما يمكننا أن نستوضحه منذ المحاضرة الأولى التي ألقاها أستاذ الفلسفة اليونانية أ. د. حازم مشتاق طالب، واستبعاده للفكر السفسطائي مع التأكيد في الوقت نفسه على أن: ((بلوغ الفلسفة اليونانية مرحلة النضوج الفكري قد جرى على يد سقراط وأفلاطون وأرسطو . وان هدف هؤلاء هو الكشف عن الحقيقة بواسطة النظر العقلي الخالص بدافع متعة البحث النظري وحده، وليس لإشباع متطلبات الحياة اليومية))(32).

ليس من الغريب أن تكون "الحقيقة الأحادية" vérité moniste و"الفلسفة الخالدة" هي الغاية الجوهرية في الخطاب الفلسفي العراقي، خاصة إذا علمنا أن المنطق ألبرهاني الأرسطي هو البرادايم السائد والمسيطر على عملية تدريس الفلسفة برمتها(33) وليس هناك ثمة إمكانية لوجود منطق الحجاج البلاغي السفسطائي. وهذا ما تصفه بيوغرافيا تاريخ الدرس الفلسفي للأستاذ الراوي: ((استغرقت محاضرة الأستاذ الدكتور ياسين خليل (1934-1986) في مادة (المنطق الصوري) ساعتين بالتمام والكمال، تحدث خلالهما دونما توقف، إلا في الدقائق العشر الأخيرة التي خصصت للأسئلة. تحدث عن أهمية المنطق في ( الاستنباط) عن طريق تحصين العقل ضد عوامل الوقوع في خطأ التفكير وتوضيح الطريقة المناسبة التي يتعين على العقل إتباعها للوصول إلى الأحكام والنتائج الصحيحة. وإذا كان المنطق يساعدنا على التمييز بين كل من: الأسباب والنتائج؛ الوجدان والعقل؛ العلم والإيمان؛ الموضوعي والذاتي؛ اليقيني والاحتمالي... إن المنطق يدرب العقل على النظرة "الكلية الشاملة"، مثلما يساعده على تنظيم وصياغة الأفكار بصورة "واضحة ومتسقة"))(34).

وحتى عندما عرض أ. خليل لقوانين المنطق الأرسطي لا سيما حول قانون الهوية (الذاتية)، لم يحاول أن يقدم رؤية تشمل القراءات النقدية الحديثة منها والمعاصرة  لمنطق أرسطو. واقتصر على تأكيد: ((أن الشيء المهم هنا، هو أن مخالفة قانون الذاتية يوقعنا في التناقض ويؤدي إلى فساد الاستدلال، وأن هذا القانون حسب أرسطو يجب استخدامه في كل حياتنا اليومية فلكي نفهم بعضنا يجب أن نتحدث بلغة واحدة لا يحتمل أي لفظ من ألفاظها أكثر من معنى))(35). وهذا يشير وبطريقة صريحة عن وجود حالة من التوافق بين أستاذ المنطق نفسه مع البنية الحجاجية البرهانية الأرسطية. وكما هو معروف أن أ. خليل من رواد علم المنطق الأرسطي ومن أكثر المدافعين عنه والمؤيدين لفكرة تطبيقه على الواقع الاجتماعي الإنساني في سبيل تحريره من جميع مظاهر الغموض والالتباس التي تخلفها الاستعمالات اليومية للغة الطبيعية. ليجري بعد ذلك إنشاء لغة صنعية رياضية برهانية تقوم على مسلمات بديهية صادقة لتنتهي لا محالة إلى نتائج صادقة أيضا. وبذلك نصل إلى وضع حل أحادي لجميع مشاكل الإنسانية وهمومها ونقضي على التعددية التي لا تجلب سوى النقاش والحوار في قضايا فائضة ولا جدوى من الجدال فيها. لأننا -حسب رأي أ. خليل- بواسطة منطق الحجاج ألبرهاني الأرسطي نستطيع «توليد عدد لا حصر له من الأحكام الجيدة والباهرة من عدد صغير من الأحكام عن طريق تطبيق عدد محدد من القواعد الاستنباطية»(36).

وهنا علينا أن نتساءل كيف يمكننا أن نجمع بين الاقيسة المنطقية الصارمة وبين منطق الصيرورة والتحول في الحياة اليومية –خاصة في السياق الثقافي المأزوم والذي يقع خارج منطق الاتساق والانضباط في تشكيل أحداثه التاريخية المتبدلة تبدلا سريعا- من جهة؟ وبين منطق البرهان الاستدلالي الرياضي الذي ينطلق من مقدمات صادقة قسريا وينتهي إلى نتائج صادقة قسريا أيضا، وبين لغة الحياة اليومية/ لغة الحوار والنقاش والإقناع من جهة أخرى؟ وكيف يمكننا أن نبني لعملية تواصلية حجاجية لا تقصي وتستبعد المخاطَب وعالم اللغة الطبيعية/ اليومية، في الوقت الذي يجري فيه الإعلاء من الحقيقة اليقينية الرياضية المتسقة والواضحة على حساب كل ماهو احتمالي probable وكل ما يبدو صحيحا vraisemblable، هذين المفهومين اللذان يمثلان الأصول الإشكالية الأولى لبداية الصراع الأزلي بين المنطق ألبرهاني اليقيني الافلاطوني/ الأرسطي وبين المنطق ألحجاجي الاحتمالي السفسطائي؟ وكيف يمكننا التحرر من منطق الخطأ والصواب الاستنباطي والتأسيس لمنطق الحجاج البلاغي الذي يبحث عن تحقيق ماهو معقول  raisonnable ومتوافق مع التحولات والتغيرات في السياقات الثقافية؟ وكيف يمكن أن تكون هناك إمكانية لانفتاح الخطاب الفلسفي العراقي على بلاغة المخاطَب السفسطائية وتفعيل المنطق ألحجاجي الاقناعي الذي يسعى إلى إقناع المخاطب والتأثير=التفعيل لإمكانياته الذهنية والعقلية على السؤال والحوار  واحترام الرأي الآخر المختلف، إذا كان الخطاب الفلسفي العراقي لم ينتقل بعد إلى مرحلة الاعتراف reconnaître بوجود ذلك المخاطَب حسب تعبير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور؟

وقد نجح أ. الراوي من خلال استعراضه لجينالوجيا الدرس الفلسفي، في تقديم صورة متكاملة للبنية المنطقية البرهانية/ الأرسطية المسيطرة والتي أدت بالضرورة إلى إنتاج وإعادة إنتاج حالة من العزلة بين الأستاذ والتلميذ، ومن ثمة، لعدم وجود ثمة إمكانية لبناء درس فلسفي حجاجي نقدي. وهذا ما سعى إلى توضيحه أ. الراوي من خلال وصفه لمحاضرة المنطق الرمزي الأرسطي التي لم تكن "جافة" فقط، بل والتي انعدمت فيها أيضا أي إمكانية لبناء علاقة تواصلية حجاجية بين الأستاذ وطلابه. فبعد انتهاء المحاضرة تقدم احد الطلاب بسؤال إلى أ. خليل: «لا أشك أن بإمكانك يا أستاذنا أن تمنح هذه المادة الجافة بعض ( الطراوة ) التي تجعل منها موضوعاً قابلاً لفهم وتمثل (رمزيته) و(إشارته) - فأجابه الأستاذ خليل: (إنا لله وإنا إليه راجعون.. ولا حول ولا قوة إلا بالله).. وصفق الباب وراءه ومضى!»(37).

وهنا، تساءل أ. الراوي عن أسباب غياب دور الأستاذ في ترقية القدرات التفلسفية عند التلميذ، في عبارته: «ترى من ذا الذي يأخذ بيدنا، ويرفع عن عقولنا الحجاب ؟! ... ومتى وفي أي مرحلة ترتقي معارفنا إلى الحد المعقول الذي يليق بتلميذ يتلقى دروسا في الفلسفة ؟!»(38). في الوقت الذي لا يزال فيه أستاذ الفلسفة ينأى بنفسه عن تفعيل أدوات الحوار والنقاش وفتح باب السؤال النقدي وشحذ القدرة النقدية لدى تلميذه. وهذا هو بالضبط احد أهم الأعراض المرضية التي شخصتها فيلسوفة النظرية السياسية حنا ارندت ولاحظت كيف تحولت إلى وباء استوطن في جسد عملية تدريس الفلسفة في الجامعات الألمانية، وذلك عقب عودتها إلى بلدها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولذلك، حذرت من تنامي الهوة بين الأستاذ والتلميذ، وموت روح الأستاذ الحجاجية النقدية وتحوله لمجرد وسيط ناقل للحقيقة الأحادية عبر مدارج قاعات الفلسفة.

وما يدعو إلى الغرابة والاستغراب في آن واحد، هو وجود حالة من التلازم الوثيق بين استبعاد بلاغة المخاطَب السفسطائية من الدرس المنطقي الفلسفي العراقي وبين الإقصاء التام للخطاب ألحجاجي السفسطائي في درس الفلسفة اليونانية أيضا. فلم تشكل محاضرات الأستاذ الدكتور جعفر آل ياسين في الفلسفة اليونانية تحولا في مسار العملية التدريسية منهجا وتعليما. حيث استمر نفس خطاب التهميش والازدراء "للمغالطات المنطقية السفسطائية". ولم يتغير الأسلوب التدريسي النمطي المتعارف عليه لدى اغلب أساتذة الفلسفة العراقية وولائهم "للطريقة الإملائية التقليدية" على حد تعبير أ. الراوي. ورفضهم بالضرورة لفتح باب الحوار والنقاش ولغة الجدل ألحجاجي البناء. وهذا ما بدا واضحا بعدما حاول احد الطلاب في قاعة الدرس أن يطرح سؤالا على أ. آل ياسين، ليتحول الأمر إلى سجال وبصوت عالٍ أيضا. لان هذا الطالب: «كان يعتقد بأن الفلسفة لا تنحصر في تعريف محدد أو توصيف مسبق، وأنها لا تعرض بمثل هذه الطريقة المدرسية، لان (الفلسفة تضيق بالقوالب الجاهزة)، والأوْلى بنا أن نستبدل عبارة (التعريف) بـ(المفاهيم والمصطلحات) بوصفهما مفاتيح ضرورية وأساسية لتحقيق مستوى معقول للفهم. وكل هذه الأسئلة والملاحظات تسببت في إثارة حفيظة الأستاذ آل ياسين مما جعله يضع (ملزمة) المحاضرات في حقيبته الجلدية، وهو يردد عبارة: من المفيد أن تتفلسفوا ولكن ليس بهذا الأسلوب، وأوصد الباب ومضى»(39).

ولم يختلف الحال كثيرا مع محاضرات الفلسفة الإسلامية، حتى حدا بالأستاذ الراوي إلى القول: «أكاد أضيق ذرعاً بمحاضرات الفلسفة الإسلامية أي بالطريقة الملائية التي تقوم على (الحفظ والتلقين). إذا وجدت أن لا معنى لكل هذه الشروح المستفيضة، والتعليقات المطولة. هل يعقل أن ابن سينا تناول مباحثه بهذا الأسلوب الجاف وبمثل هذه المتون والذيول؟! حاولت إلقاء هذا السؤال على الأستاذ جعفر آل ياسين، الذي غالباً ما يسترسل في محاضراته (قارئاً) النص من (دفتر) أو (ملزمة)، وهو يفيض في شروحاته وهوامشه عن حياة الفلاسفة المسلمين وقد يمضي فوقنا الزمن ونحن غائبون في وادٍ سحيق، سارحون إلى حد الغياب بعضنا تأخذه سنة من نوم، والآخر يتثاءب ولا نسمع إلا تفاصيل مملة عن السيرة الذاتية لهذا الفيلسوف أو ذاك. دون أن نقترب من بنائهم الفكري أو نتعرف على مواقفهم الفلسفية»(40).

وعلى الرغم من إشارة أ. الراوي من قريب أو من بعيد إلى ذلك الأنموذج الفلسفي/ الثقافي والمختلف تماما عن البرادايم ألبرهاني الأرسطي السائد. هذا الأنموذج المتمثل برواد الفلسفة العراقية أمثال الفيلسوف الراحل أ. كامل مصطفى ألشيبي (1927-2006) والفيلسوف الراحل حسام محي الدين الآلوسي (1936-2013) والفيلسوف الراحل أ. مدني صالح (1932-2007) إضافة إلى الأستاذ الدكتور صالح الشماع، والذين كانوا يتميزون بـ"روح الانفتاح الفكري وقبول رأي الآخر والتفاعل الاجتماعي" حسب وصف أ. الراوي. وكانوا أيضا من العقول المتفلسفة المبدعة والتي تسعى إلى شحذ عقول تلاميذها نحو التفلسف والتحليل النقدي. إلا أن برادايم البلاغة الانضباطية الحازم وسيطرة روح المنطق ألبرهاني الصارم على الخطاب الفلسفي بأكمله حالت دون اتساع وازدهار واستمرار ذلك الأنموذج ألتفلسفي النقدي إلى يومنا هذا. ومن ثمة شكلت عائقا ابستمولوجيا أمام إمكانية التأسيس لفلسفة حجاجية اقناعية ثقافية/ ولثقافة فلسفية حجاجية اقناعية. وكأن هناك حالة من "الاتفاق" consensus شبه العام بين المختصين في الفلسفة على رفض لغة الحوار وفتح قنوات التواصل بين خطابهم الفلسفي من جهة؛ وبينهم وبين الطالب والنص الفلسفي أيضا من جهة أخرى؛ واعتماد طريقة الإملاء الفوري؛ والالتزام بالمناهج المقررة القديمة وعدم الحياد عنها قيد أنملة وإن حصل فينبغي الحفاظ على الروح المطلق القديم للمناهج المعتمدة أصلا. كانت هذه بعض من الثوابت المنطقية الراسخة في بنية خطابنا الفلسفي منذ الستينيات مع أ. الراوي وحتى سنوات التسعينيات مع كاتبة هذه السطور عندما كانت تدرس الفلسفة في جامعة بغداد. فرغم الحضور اللافت لأخلاقيات التواصل ألحجاجي الاقناعي التي تبناها كل من أ. حسام محي الدين الآلوسي و أ. مدني صالح والتي سعوا من خلالها إلى شحذ روح السؤال والحوار والنقاش فينا عبر قاعات درسهم الفلسفي. ناهيك عن محاضرة أستاذ الفلسفة الإسلامية وتاريخها الدكتور حسن مجيد ألعبيدي والتي كانت هي الأخرى تمثل بالنسبة إلينا درسا "فلسفيا حجاجيا نقديا"من الطراز الأول. إلا أن بنية "الخطاب الفلسفي التقليدي" كانت من القوة والصلابة البرهانية الرياضية ما منع/ ولا زال يمنع -إلى يومنا هذا- من حصول أي تحول في بنية "الدرس الفلسفي التقليدي". حتى صار من المألوف الفلسفي أن يردد على أسماعنا عبارة كان يقولها أستاذ الفلسفة المعاصرة وتاريخها الدكتور قيس هادي احمد بلغته التهكمية المعروفة: تخيلوا أن أستاذ الفلسفة عندنا لا يستطيع إلقاء محاضرة دون الرجوع إلى هذه الأوراق [مشيرا إلى الملزمة الخاصة بالمنهج المقرر]!!

من هنا، يمكننا القول أن لا مكان للفصل في الدرس ألحجاجي ألتفلسفي الجديد بين البنية المنطقية للخطاب الفلسفي عامة؛ وبين طريقة نقل المعلومة الفلسفية وعملية التواصل بين الأستاذ وتلميذه على الإطلاق. بمعنى آخر، أن ركود وتأخر الخطاب الفلسفي مرتبط ارتباطا وثيقا بأدق التفاصيل المتعلقة بالعملية التربوية والتعليمية الجارية في القاعات الدراسية التي انتهى الزمن الذي يجري فيه اعتبارها مجرد مكان لتلقي العلم. بل اتخذت وظيفة ثقافية تقع في غاية الأهمية، حيث «أصبح يجري داخل هذه القاعات مساءلة مجموعة القيّم والقوانين والمعايير التي تستند عليها الانظمة الفلسفية ordres philosophiques؛ ووضعها تحت مشرحة النقد والتحليل؛ والكشف عن ما ينتج عنها من علاقات منطقية ولغوية يمكن لها أن تكرس لشكل محدد من أشكال السلطة السياسية ولنظام فلسفي ومؤسساتي معين»(41). ومن المؤكد أن هذه العملية النقدية لا يمكن لها أن تتحقق مع الدرس الفلسفي التقليدي القائم على الجدلية الهيغيلية التقليدية للطالب/ العبد esclave والأستاذ/ السيد maître التي يستحيل معها إعادة اللحمة بين الفلسفة والثقافة والحجاج. لتبقى الفلسفة رهينة المثل العليا لجمهورية أفلاطون وبلاغته الانضباطية؛ رافضة لغة الحوار والنقاش؛ ومنعزلة عن قضايا وهموم الإنسان في واقع حياته اليومية. وليجري إدغام وتغييب العلاقة الخطيرة بين الفاعلية الفلسفية وعلاقتها الوثيقة بتاريخ الحصانة الأيديولوجية للأنظمة السياسية والبوليسية والأخلاقية والدينية التي لطالما عمل بيرلمان على نقدها وتحليلها في جلّ كتاباته من اجل تحقيق قطيعة متكاملة مع برادايم "أستاذ الفلسفة/ الموظف" fonctionnaire وتفعيل دور الأستاذ المتفلسف ألحجاجي وتدشين فلسفة حجاجية/ وثقافية نقدية.

* * *

(باحثة ومترجمة من العراق، مختصة في حقل الدراسات الفلسفية والحجاجية. حاصلة على درجة البكالوريوس (مع مرتبة الشرف) في الفلسفة كلية الآداب/ جامعة بغداد عام 1999. حاصلة على درجة الماجستير في الفلسفة/ كلية الآداب/ جامعة بغداد عام 2002، عن الأطروحة الموسومة: (بلاغة العشق الوجودي عند الفلاسفة: كيركغارد؛ نيتشه وسارتر أنموذجا). حائزة على جائزة العلوم في الفلسفة عام 1999. حائزة على جائزة (شبعاد) للدراسات النسوية عن مؤسسة الزمان للصحافة والنشر عام 2003. نشرت مقالات ودراسات وأبحاث مترجمة في صحف ومجلات وكتب جماعية عربية محكمة)

 

الهوامش:

(1) للتوسع حول مفهوم الحجاج البلاغي والتقنيات الحجاجية وفلسفة البلاغة الجديدة، يُنظر:

Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca: Traité de l’argumentation…La nouvelle rhétorique, tome 1-2, P.U.F., Paris, 1958.

(2) للتوسع حول جينالوجيا مفهوم ضبط النفس الافلاطوني وتتبع آثاره على تشكل الذات الغربية، يُنظر:

Charles Taylor: Les Sources Du Moi… La formation de l’identité moderne, Traduit De L’Anglais Par Charlotte Melançon, Éditions du Seuil, Paris, 1998.

(3) Henri Joly: Platon entre le maître d’École et le Fabriquant de mot… Remarques sur les Grammata, in Cahiers de Philosophie Ancienne N. 5/Cahiers du Groupe de Recherches sur la Philosophie et le Langage N. 6 et 7, sur (Philosophie Du Langage Et Grammaire Dans L’Antiquité), Éditions Ousia Bruxelles/Université des sciences sociales de grenoble, 3-6 septembre 1985, p. 115.

(4) يُنظر، شاييم بيرلمان: نحو نظرية فلسفية في الحجاج (مقال ضمن كتابه "حقل الحجاج" 1970)، ترجمة: أنوار طاهر، مجلة الكلمة اللندنية، العدد 101 سبتمبر، 2015.

(5) Ch. Perelman : L’Empire Rhétorique… Rhétorique Et Argumentation, Librairie Philosophique J. Vrin, Paris, 1977, p. 25.

(6) يُنظر، شاييم بيرلمان: نحو نظرية فلسفية في الحجاج.

(7) للتوسع حول جينالوجيا مفهوم "البايديا" Paideia وتحولاته الدلالية مع الخطاب السفسطائي، يُنظر:

Werner Jaeger: Paideia… La Formation de L’Homme Grec, tome 1 - La Grèce Archaïque- Le Génie D’Athènes,  Tr. Fr. André Et Simonne Devyver, Éditions Gallimard, 1964, p.p. 333-381.

(8)  Michel Meyer: Logique, langage et argumentation, Hachette, Paris, 1982, p. 115.

(9) للتوسع وبشكل تفصيلي حول موضوع تطور بنية النظام التربوي والتعليمي والبلاغي قبل الخطاب السفسطائي وبعده، يُنظر:

Henri-Irénée Marrou: Histoire de l’éducation dans l’Antiquité, tome 1- Le monde grec, Éditions du Seuil, Paris 1981.

(10) Barbara Cassin: La Sophistique, un article parue dans Sciences de L’information et de la Communication (sous la direction de Daniel Bougnoux), Larousse, 1993, p. 29.

(11) Ibid., p. 29.

(12) للتوسع حول مفاهيم الانطولوجيا والوجود واللغة والبلاغة في كل من الخطاب الأفلاطوني والخطاب السفسطائي، يُنظر:

Pierre Aubenque: Le Problème de l’être chez Aristote, PUF, 4e éd., 1977, Chapitre II (Être Et Langage)- Chapitre III (Dialectique et Ontologie ou Le Besoin De La Philosophie).

(13) BARBARA CASSIN (sous la direction de), Vocabulaire Européen Des Philosophies, éditions du Seuil/ Dictionnaires Le Robert, France, 2004, p. 902.

(14) للتوسع حول قراءة وتأويل الفيلسوف بيرلمان لمفهوم الاستعارة، يُنظر:

Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca: Traité de l’argumentation…La nouvelle rhétorique, tome 2, P.U.F., Paris, 1958, p.p. 534-549.

(15) لغرض الاطلاع على جينالوجيا مفاهيم ومناهج الفلسفة السفسطائية وآثرها الكبير على تشكيل فلسفة أرسطو، يُنظر:

Pierre Aubenque: Le Problème de l’être chez Aristote, PUF, 4e éd., 1977.

(16) شاييم بيرلمان: فلسفة الحجاج التعددية وإشكالية البلاغة الجديدة، ترجمة: أنوار طاهر، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 20 من أكتوبر 2015، ص 10.[للتنويه: تعرض هذا النص للحجب من قبل المؤسسة وبطريقة فجائية ودون سابق انذار. وعليه تتحمل المؤسسة المسؤولية القانونية لغياب النص ألقسري طالما انه استوفى الفترة القانونية المحددة والمقررة له من قبل المؤسسة. والى ذلك نسترعي الانتباه]

(17) يُنظر، شاييم بيرلمان: الفلسفة والحجاج البلاغي بين المنطق والجدل (الفصل الأول من كتابه "إلامبراطورية البلاغية... البلاغة والحجاج" 1977)،  ترجمة: أنوار طاهر، مجلة "علامات" المغربية، العدد 44، 2015.

(18) للتوسع حول مفهوم البلاغة السفسطائية وأثرها على مدرسة بروكسل لا سيما عند كل من دوبريل وبيرلمان، يُنظر:

 Barbara Cassin: Bonnes et Mauvaises Rhétoriques… de Platon à Perelman, un article parue dans (Figures et Conflits Rhétoriques), Édité par Michel Meyer et Alain Lempereur, Éditions de L’université de Bruxelles, 1990, pp. 17-35.

(19) للتوسع حول عصر الأنوار في الحضارة اليونانية الذي دُشن مع البلاغة السفسطائية وحول مجمل التحولات الثقافية الحاصلة في تلك الحقبة التاريخية، يُنظر:

Arnold Hauser: Histoire Sociale de L’Art et de la Littérature, tome 1 (La Préhistoire et le Moyen-âge), Le Sycomore – Arguments critiques, Paris, 1982, pp. 101-128.

(20) للتوسع بشكل تفصيلي حول تحليل بيرلمان لمنطق الثنائيات/ الأزواج الفلسفية وتأثيره على البنية المنطقية واللغوية، يُنظر:

Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca: Traité de l’argumentation…La nouvelle rhétorique, tome 2, pp. 556-609.

 (21) Gilles Deleuze : Logique Du Sens, Les Éditions De Minuit, Paris, 1969, p. 41.

(22) يُنظر:

Michel Meyer: Logique, langage et argumentation, p. 113-114.

(23) شاييم بيرلمان: الفلسفة والحجاج البلاغي بين المنطق والجدل.

(24) يُنظر، شاييم بيرلمان: فلسفة الحجاج القانوني بين شمولية السلطة وعنف الايدولوجيا (مقال ضمن كتابه "حقل الحجاج" 1970)، ترجمة: أنوار طاهر،  مجلة (فكر الثقافية) السعودية، العدد 12 أغسطس-أكتوبر، 2015،ص-ص 64-67.

(25) Ch. Perelman : Éducation et Rhétorique, dans son livre (Justice Et Raison), Presses Universitaires de Bruxelles, 1963, p. 104.

(26) Ibid., p. 104.

(27) Ibid., p. 107.

(28) للتوسع حول مفهوم الحوار الفلسفي ومنطق الحجاج البلاغي وأهمية دور المخاطَب في كل منهما، يُنظر:

Ch. Perelman: La Méthode Dialectique et le Rôle de L’interlocuteur dans le Dialogue, dans son livre (Rhétoriques), Éditions de L’université de Bruxelles, 1989, 53-60.

(29) يُنظر:

Ch. Perelman: Éducation et Rhétorique, dans son livre (Justice Et Raison), pp. 106-108.

(30) أ. د. عبد الستار الراوي: قطر الندى... أيام الفلسفة في الوزيرية 1963-1967، مصر،ط1، 2007،  ط2، 2008 ، ص 7. [الوزيرية هي حي يقع في الجانب الشرقي من مدينة بغداد وفيه العديد من المؤسسات الأكاديمية وأهمها جامعة بغداد/كلية الآداب/كلية التربية وغيرها]

(31) المصدر نفسه، ص ص 7-8.

(32) المصدر نفسه، ص 20.

(33) للمزيد حول جينالوجيا بلاغة الحجاج ألبرهاني والمنطق الشكلاني في الخطاب الفلسفي العراقي، يُنظر:

حيدر علي سلامة: جدل المنطق التقليدي وفلسفته بين سيطرة بلاغة البرهان ونسيان الحجاج، صحيفة العالم العراقية، 21 مايو 2015.

(34) أ. د. عبد الستار الراوي: المصدر السابق، ص 16.

(35) المصدر نفسه، ص 23.

(36) المصدر نفسه، ص 45.

(37) المصدر نفسه، ص 45.

(38) المصدر نفسه، ص 40.

(39) المصدر نفسه، ص 31.

(40) المصدر نفسه، ص 43.

(41) Groupe de Recherches sur L’enseignement philosophique: Qui A Peur De La Philosophie?, Flammarion, Paris, 1977, p. 9.