يتناول الأكاديمي في دراسته تعامل الحضارة العربية مع مكوناتها المجتمعية غير المسلمة في العصور الوسطى، ويرى أن الرقي المنجز في الماضي، ينبغي أن يكون حافزاً للتغلب على التعثر الراهن، وتجاوز التشرذم والبكاء على الأطلال.

النظــرة إلــى الآخـــر في حضارة العرب في العصور الوسطى

يعـرب نبهان

مفهوم الآخر في الحضارة العربية، يعني مجموعة من المسائل المختلفة مثل مسألة أهل الذمة، ومسألة العلاقة مع الدول على اختلاف توجهاتها. وقد اختلفت نظرة الحضارة العربية إلى هذه المسائل، فكانت نظرة إيجابية جداً بكل ما يتعلق بمسألة أهل الذمة، وكذلك الحال بالنسبة لمسألة العلاقة مع الدول، فلم يعرف تاريخ البشرية حضارة نظرت لمثل هذه المسائل نظرة إيجابية، كما نظرت الحضارة العربية، وهو أمر عظيم تميزت به هذه الحضارة عن غيرها، حتى أصبح من أهم منجزاتها على الصعيد الإنساني والأخلاقي، وهنا فلابد من دراسة كل مسألة منفصلة عن الأخرى. نبدأ بمسألة النظرة إلى أهل الذمة في الحضارة العربية، فأهل الذمة في الحضارة العربية، هم مجموعة من المواطنين العرب فضلوا البقاء على دياناتهم السابقة، ولاسيما المسيحية واليهودية، فقد عومل هؤلاء معاملة طيبة في كل فترات الدولة العربية في الشرق والغرب، مع وجود بعض الاستثناءات البسيطة التي لا يعول عليها في هذا الميدان، ذلك لأنها كانت تظهر على حين غرة نتيجة ضعف الحاكم واستسلامه لإرادة بعض رجال الدين، وبالمقابل كانت تختفي بسرعة وتضمحل وكأنها لم تكن.

إن المعاملة الطيبة لأهل الذمة في الحضارة العربية، لم تأت من فراغ بل استندت إلى أسس تنظيمية وتشريعية، بدأ العرب بتطبيقها منذ إعلان الرسول الكريم r لدولته بالمدينة المنورة، فقد كان مبدأ احترام أهل الذمة من أهم المبادئ التي تشكلت منها الصحيفة (الدستور)، التي هي بمثابة دستور عام وضعه الرسول الكريم r لدولته بالمدينة المنورة، فقد أكد دستور دولة المدينة المنورة على مبدأ حرية الأديان السماوية واعتبار معتنقي هذه الأديان مواطنين لهم حقوق المسلمين كافة، شرط أن يحافظوا على حقوق المواطنة ومتطلباتها، مثل احترام قانون الدولة وعدم الإخلال بالنظام العام(1).

وبتطبيق حرية الأديان والمعتقدات برهن العرب في العصور الوسطى، على أنهم خير من استطاع أن يتمثل روح الإسلام النقية الصافية في ميدان التعامل مع غير المسلمين من أهل الذمة على جميع الصعد، ولاسيما في ميدان القضاء وكانت الدولة العربية في الأندلس رائدة في هذا المجال، فالذي حدث فيها بخصوص معاملة أهل الذمة، لم يحدث له نظير في أي منطقة عربية إسلامية خلال العصور الوسطى، فقد استطاع العرب بالأندلس تطبيق تعاليم الإسلام، التي تؤمن بالتعايش الحضاري والإنساني بين كل شعوب الدنيا بغض النظر عن الأديان ومفرزاتها الخلافية والإشكالية(2).

فقد منحت حكومة الأندلس العربية أهل الذمة حريات واسعة جداً في مجال القضاء، تجسدت على أرض الواقع بالسماح لهم بممارسة القضاء وفق معتقداتهم الدينية. كما أعطتهم بعض الحرية في مجال الإدارة المحلية المستقلة الخاصة بهم(3).

لقد حدث ذلك في عصر الولاة بالأندلس، حينما قرر العرب الأندلسيون منح المسيحيين حرية التقاضي بحسب تعاليم دينهم، وكان قاضيهم يسمى (قاضي النصارى أو قاضي العجم)، كذلك كان لليهود تنظيم قضائي وإداري كما كان للمسيحيين، وكانوا يعينون لهم حكاماً من أبناء جنسهم، عهدوا إليهم بسن الضرائب المطلوبة والإشراف على النظام والأمن في المنطقة، ولم يكونوا يلجاؤون للقاضي المسلم إلا في مسائل القتل، فكانوا يقدمون إليه ويعرضون أدلتهم فإذا قال القاضي: (حَسَن) قُتل المجرم، وكانت المحاكم المسيحية تقبل شهادة المسلم على المسيحي(4).

أما في الحالات التي كان فيها المسيحيون واليهود، يقدمون على شتم الرسول r أو التقليل من قدر الدين الإسلامي، فكانوا يحالون إلى القاضي المسلم، وإذا كان أحد أطراف القضية رجلاً مسلماً وهو المعتدي، فقد كانت القضية تحال إلى قاضي المسلمين للفصل فيها بحسب تعاليم الشريعة الإسلامية، التي لا تفرق بين المتخاصمين إلا بالحق(5).

وفي عصر الخلافة بالأندلس أعطي لأحد أهل الذمة عهداً، بأن يحتفظ بكل ما لديه من مال وبناء، وكانت إحدى إمائه امرأة مسلمة، فشكت أمرها إلى القاضي الذي حاول أن يحكم بما يوجبه الشرع، لكن حاجب الخليفة تدخل لدى القاضي وطلب الحفاظ على عهد الخليفة، وهذا يدل على مدى الاحترام الذي كان يتمتع به أهل الذمة بالأندلس.

وقد عرفت في عصر الخلافة الأموية بالأندلس بعض من أسماء القضاة المسيحيين، الذين كانوا على علاقة طيبة مع بعض خلفاء الأندلس، نذكر منهم القاضي أصبع بن عبد الله بن نبيل قاضي النصارى بقرطبة في عصر الخليفة الحكم المستنصر، وأصبع بن سلمة الذي استعان به المنصور محمد بن أبي عامر حاكم الأندلس سنة 385هــ/ 995م لحل خلاف وقع بين ألفونسو وبعض المتنفذين في جليقية، وقد حل الخلاف من قبل القاضي المذكور(6)، ووليد بن حيزون الذي شغل دور المترجم بين الحكم المستنصر وبعض الوفود الأوروبية، التي جاءت إلى قرطبة للزيارة(7).

وقد تدخل بعض الحكام بالأندلس لدى بعض القضاة للتخفيف من وطأة الأحكام على أهل الذمة، على الرغم من شناعة الجرائم التي كانوا يقترفونها، فقد توسط يوسف بن تاشفين لدى قاضي الجماعة بقرطبة محمد بن علي التغلبي، وأمره بالاكتفاء بتغريم يهود (اليسانة) بشيء يراه مناسباً(8).

هذا وقد شغل أهل الذمة أدواراً هامة في العديد من المجالات، السياسية والإدارية والثقافية في الدولة العربية في العصور الوسطى، وكانت ثقة العرب من حكام ومواطنين فيهم ثقة كبيرة. فقد اعتمد عليهم الأمويون في الإدارة والطب، وكذلك فعل العباسيون وأضافوا، بأنهم اعتمدوهم في الترجمة من لغات معينة إلى العربية، لكن هذا الاعتماد لم يصل إلى المستوى، الذي وصل إليه في العصر الفاطمي وفي عصر الخلافة وعصر الطوائف بالأندلس، فقبل ذلك لم نكن نسمع بأن يهودياً أو مسيحياً شغل وزارة معينة أو قضية هامة أوكلت إليه، ففي الأندلس شغل اليهود والمسيحيون أدواراً رفيعة المستوى في الميدان الإداري والسياسي بشكل خاص، منذ الأيام الأولى لقيام الدولة العربية هناك، وكان عصر الخلافة وعصر الطوائف من أهم العصور، التي اشتهر فيها أهل الذمة في الإدارة والسياسة. ففي عصر الخليفة الناصر لدين الله(9). توصل اليهودي حسداي بن شبروط إلى إدارة أهم وزارة في دولة الخلافة بالأندلس، وهي وزارة الشؤون الخارجية كما تدعى في هذا الزمن، وقد قام بمهمات عديدة نذكر منها على سبيل المثال، أنه حضر إلى جليقية بتكليف من الخليفة الناصر لدين الله لعقد صلح مع رذمير الثاني في سنة 329هــ/ 941م(10)، وإطلاق سراح محمد بن هشام التجيبي، أضف إلى ذلك فقد كان ابن شبروط طبيب الناصر لدين الله الخاص.

وفي عصر الطوائف بالأندلس، برز العنصر اليهودي بشكل لافت، واستطاع هذا العنصر بذكاء وحرفية من الدخول إلى أعماق حكام دول الطوائف، الذين تغافلوا عن كل شيء يتعلق بحقوق الوطن، وراحوا يركضون خلف مصالحهم الشخصية والعائلية والقبلية، فقد توصل أحد اليهود إلى رئاسة الوزارة في دولة بني زيري بغرناطة وهو باديس بن حبوس الصنهاجي(11)، وفي عصر الفاطميين في المغرب الكبير، تمتع اليهود بحرية كبيرة في كل المجالات، ونتيجة ذلك تمكن بعضهم من شغل مناصب إدارية عالية في الدولة الفاطمية، مثل يعقوب بن كلس اليهودي، الذي دخل في خدمة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله منذ سنة 357هـ/ 968م واعتمد عليه في أمور خطيرة جداً، منها أنه أخذ برأيه المشجع للهجوم على مصر(12).

كما تركت للمسيحيين واليهود حقوق اختيار دينهم، ولم يجبروا في يوم من الأيام على اعتناق الدين الإسلامي، وإذا كانت قد حدثت بعض المشاكل في هذا المجال، فكانت حوادث مؤقتة وفردية سببها بعض الفقهاء المتعصبين، الذين تجاوزوا حدود الدين الإسلامي وغلبوا الجهل على العلم. وقد أدت هذه السياسة الناجحة إلى أن كثيرين دخلوا الإسلام طواعية، ولاسيما في الأندلس حيث دخلت مجموعة كبيرة من السكان في الإسلام وعرفوا بالمولدين. وفي المقابل بقيت مجموعة كبيرة من سكان الأندلس من غير العرب على الدين المسيحي، وعرفت هذه المجموعة بالمستعربين، الذين عاشوا تحت راية العروبة والإسلام حياة رافهة لا يعكرها شيء سوى بعض المواقف الآنية، التي نشأت عن تغليب العاطفة والتعصب على العقل والعلم.

ولعل من أهم ما يؤكد على حسن معاملة المسلمين لأهل الذمة بالاعتماد على تعاليم الشريعة الإسلامية، هو أن المسلمين في المشرق العربي ترفعوا عن تسمية الأوربيين، الذين احتلوا عدداً من المناطق العربية في بلاد الشام مثل الرها وإنطاكية والقدس وبعض المناطق المجاورة لها ولفترة طويلة، ترفعوا عن تسميتهم بالصليبين احتراماً وإجلالاً وتقديراً للسيد المسيح من جهة، واحتراماً وتقديراً للمسيحيين العرب في المشرق من جهة ثانية، وهذا الأمر يعد في طليعة ما سلكه الناس في العصور الوسطى، لأنه سلوك إنساني وحضاري فريد في بابه ومقاصده، وهو يسجل للعرب المسلمين في سجل الريادة على المستوى الإنساني العام. ومن يقرأ في الكتب التي ألفت في موضوع الصراع الأوربي العربي في العصور الوسطى، يرى أن المؤلفين العرب استخدموا مصطلح (الفرنجة) للدلالة على الحملات الأوربية التي وصلت المشرق العربي قادمة من فرنسا وإنكلترا وألمانيا والدانمرك وغيرها.

أدت هذه المواقف الإيجابية من قبل العرب إلى نتائج طيبة في صفوف أهل الذمة، ولاسيما منهم المسيحيون، الذين عبروا طول سنين العصور الوسطى على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى من خلال مواقفهم الإيجابية تجاه القضايا العامة للدولة العربية. وكان من أهم مواقفهم في العصور الوسطى، موقفهم من الحملات الفرنجية ضد المشرق العربي على مدى سنين طويلة، فقد وقفوا ضد هذه الحملات، وكانوا على الدوام عيناً رقيبة على الحركات الفرنجية، وخير من رصد هذا الواقع الإيجابي، هو الرحالة الأندلسي ابن جبير، فقد استرعى انتباهه أثناء زيارته لبعض مناطق جبل لبنان المعاملة الرائعة، التي يعامل بها المسيحيون إخوتهم المسلمون هناك، فأشاد من خلالها بأخلاق المسيحيين في جبل لبنان انطلاقاً من موقفهم تجاه المسلمين موقف المعين الرافد، حينما تحدق بهم الملمات وتكون المساعدة ضرورية ملحة يقول: "ومن العجب أن النصارى المجاورين لجبل لبنان، إذا ما رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، يقولون هؤلاء من انقطع إلى الله عز وجل، فيجب مشاركتهم... وإذا كانت هذه معاملة النصارى لضد ملتهم فما ظنك بعضهم مع بعض"(13).

أما في مجال العلاقة مع الدول فقد نظر العرب لها نظرة واقعية، تقوم على المصالح المتبادلة من ناحية وعلى الأسس الإنسانية والدبلوماسية من ناحية أخرى، وقد كانت هذه العلاقة قوية تقوم على الثقة والجرأة والشجاعة، ولاسيما في عصر القوة في الدولة العربية كما كان الحال في العصر الأموي وفي العصر العباسي الأول، فقد برع العباسيون الأوائل في هذا المجال مع الغرباء، وفشلوا مع الأشقاء وخاصة مع أهل الأندلس، حتى وصلت الأمور إلى الصدام المسلح، فعلى سبيل المثال بدأ العباسيون علاقتهم مع الأوروبيين والآسيويين وغيرهم، بعد أن استقرت الدولة العباسية في عصر الرشيد، فبدأت علاقة مع الصين والهند بتأثير التجارة، التي ساعدت رحلاتها النشيطة إلى انتشار سمعة العرب، وقد استهلت العلاقة بين الرشيد وملوك الهند بتقديم هدايا ثمينة للرشيد من الهنود، ورد الرشيد على هذه البادرة الطيبة ببادرة مثلها، كما أشارت المصادر التاريخية الصينية إلى عدد من السفارات العربية إلى الصين في عصر الرشيد(14).

لكن علاقة الرشيد بأوروبا كانت غير واضحة تماماً، لأن المصادر لا تشير إلى وجود علاقة ما بين العباسيين والأوروبيين، لكن المصادر اللاتينية تقول بأن الرشيد أرسل إلى شارلمان وفدين، ورد عليهما شارلمان بوفدين مماثلين أو أكثر، وكانت الوفود من كلا الطرفين تحمل الهدايا والتحف وما إلى ذلك من أشياء. وقد كانت الأسباب التي أدت إلى نشوء هذه العلاقات متنوعة ومختلفة، كان في طليعتها رغبة شارلمان في السيطرة على الأندلس المجاورة، ثم أن شارلمان كان يريد من الرشيد تسهيل عملية حج الأوروبيين إلى الأراضي المقدسة بفلسطين(15).

لكن الأمر الأقرب إلى اليقين في وضع حقيقة هذه العلاقة، أنها لم تحدث لأن الرشيد لم يكن على استعداد، أن يتآمر مع شارلمان ضد إخوة أشقاء في الأندلس مهما كان حاقداً عليهم، هذا في الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين شارلمان والبيزنطيين مشجعة، ويعتقد أن ما حصل بين الطرفين العباسي والأوروبي، لم يكن أكثر من علاقة تجارية في نطاق ما كان يجري من عمليات تجارية واسعة بين الغرب الأوروبي والشرق الأقصى والأدنى، وخاصة ما كان التجار الرودانيون يقومون به في هذا المجال الحيوي بالنسبة لهم لمعرفتهم بالعديد من اللغات الضرورية للتجارة الخارجية(16).

أما بخصوص العلاقة مع الأشقاء فلم يكن للدبلوماسية فيها حظ كبير، فقد كانت هذه العلاقات متوترة على الدوام، تحركها الكراهية والبغضاء والتحاسد والأطماع، وقد بدأت هذه العلاقات بالتوتر منذ عصر أبي جعفر المنصور، الذي كان مهتماً إلى حد ما في إعادة اللحمة إلى أجزاء الوطن العربي الكبير، بعد أن نجح المغرب ومعه الأندلس بالانفصال عن المشرق، وكان انفصال الأندلس أشد تأثيراً وإيلاماً لبعدها عن السلطة المركزية ولنجاحه في حكمه، وكانت عملية فصل الأندلس من أبشع الأعمال الأموية على الإطلاق في المشرق والمغرب على حد سواء، لأن هذا العمل الشنيع هو الذي شجع على عمليات الانفصال في دول مستقلة تحت أسماء مختلفة في المغرب الكبير.

هذا وقد عكست بعض التصرفات العربية العديد من المزايا الحضارية الراقية في مجال معاملة الأسرى والمعتقلين الغرباء، وهذه التصرفات إن دلت على شيء فإنها تدل على مدى أسبقية العرب في تطبيق قانون احترام حقوق الإنسان، فقد كان العرب يعاملون الأسرى معاملة إنسانية لائقة، وقد بدأت هذه الظاهرة الحضارية والإنسانية منذ عصر الرسول(ص)، ففي معركة بدر وقع في أيدي المسلمين عدد كبير من الأسرى القريشيين المتربصين والمعادين للدعوة الإسلامية، فلم يعذبوا ولم يقتلوا وإنما أطلق سراح بعضهم وبقي البعض الآخر لفترة وجيزة، يعلم بعض المسلمين القراءة والكتابة كفداء لإطلاق سراحه، وحينما دخل الرسول الكريم r مكة المكرمة فاتحاً منتصراً لم يلجأ إلى العنف والقوة، بل لجأ إلى إطلاق الحريات والمسامحة والعفو عن كل سقطات الماضي، لقد فعل هذا وهو في أوج قوته وانتصاره، لأنه r كان يعرف تمام المعرفة أن نتائج المعاملة الطيبة تكون أكثر إيجابية من المعاملة القاسية(17)، وحينما بدأت الفتوحات العربية أخذ قادة الفتح على عاتقهم تطبيق مبادئ احترام حقوق الإنسان في كل الميادين، وهذا ما جعل بعض المؤرخين والباحثين يقولون بصدق ووضوح إن تاريخ الإنسانية برمته، لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب، الذين ابتعدوا عن ارتكاب المجازر وأعمال القتل بغير حق، مما لا نجده إلا نادراً في تاريخ الشعوب الأخرى، التي كانت مسيطرة قبل ظهور الإسلام، وكان العرب يريدون من وراء هذا السلوك الإنساني المتفوق، تعريف شعوب المناطق المفتوحة وشعوب العالم برمته، أنهم رسل حضارة وعلم وأخلاق في المقام الأول، وهذا هو سر نجاح الفتوحات العربية في الشرق والغرب، فقد كان الفاتحون الأوائل أعفة وخاصة في وقت النصر وامتلاك القوة والقرار، وهي أخلاق عربية كانت سائدة في الجاهلية، وجاء الإسلام ليضفي عليها لمسة حضارية وإنسانية جديدة، جعلتها سلوكاً إيجابياً ملتصقاً بالعرب أنى وجدوا، ففي عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز، منعت كل التجاوزات وخاصة في المناطق المفتوحة في آسيا الوسطى والأندلس والمغرب الكبير، فقد أبطلت عادة تحصيل الجزية من أبناء هذه المناطق، على الرغم من دخولهم في الإسلام، لأن الولاة كانوا يعتقدون أن إسلامهم مازال في بدايته بمعنى أنه إسلام هش لا يعول عليه(18).

وقد استمرت معاملة الأسرى في الفترات اللاحقة على غرار، ما كان سائداً في عصر الرسول(ص) إلى حد كبير، فقد استطاع العرب أن يأسروا أعداداً كبيرة من الفرنجة في معركة حطين، وحينما انتهت هذه المعركة لصالحهم لم يتمسكوا بالأسرى طويلاً فأطلقوا سراحهم بدون مقابل، وكانت معاملتهم لهم معاملة حسنة للغاية، على الرغم من طبيعة أهدافهم العدوانية، التي جاؤوا من أجلها من مختلف دول أوروبا الغربية، وجرت وقائع مماثلة في الفترة اللاحقة بعد معركة حطين في ما يسمى في الحروب الفرنجية في بلاد الشام ومصر.

لكن هذه المعاملة الطيبة لم تطبق على المعتقلين العرب في السجون العربية، التي كانت منتشرة في كل المدن في المشرق والمغرب والأندلس، وهو أمر يدعو للأسف والأسى، لأنه شكّل ثغرة سلبية في تاريخ السياسة العربية في العصور الوسطى، التي فشلت في سلوك منهج مرن مع المعارضين السياسيين، وبدلاً من سلوك منهج المرونة والإقناع والمجادلة بالتي هي أحسن، أسرفت في تعذيب المعارضين ولاسيما في عصر سيطرة الغرباء على المنطقة العربية، ونأخذ على ذلك مثلاً، ما جرى في عصر المماليك بمصر والشام، الذين استخدموا أنواعاً من العقوبات، لم تشهد لها السجون في تاريخ الإنسانية نظيراً، من حيث قسوتها وفظاعتها، وكان العرب هم أول من شملهم المماليك بهذه العقوبات غير الإنسانية، فقد اشتهر سوق الخيل إلى الشمال من قلعة دمشق ويعرف أيضاً بسوق تحت القلعة، اشتهر هذا السوق، على أنه المكان الرئيسي الذي كان المماليك يحرصون على تنفيذ العقوبات فيه، ولا يعرف سبباً لاختيار هذا السوق سوى أنه كان من الأسواق المزدحمة بدمشق في العصور الوسطى، فأراد المماليك أن يردعوا الناس من خلال تنفيذ العقوبات في سوق قلما تخلو عائلة دمشقية من التواجد فيه عبر بعض أفرادها، أضف إلى ذلك فقد كان المكان الذي بني عليه مجدداً جامع يلبغا بمنطقة المرجة بوسط دمشق، كان من أهم الأمكنة بعد سوق الخيل الذي تنفذ فيه العقوبات المملوكية غير الإنسانية(19).

من هذه العقوبات الشنيعة عقوبة الترسيم ومعناه، أن يفرض على شخص ما أن يقيم في بيته أو في مكان آخر، تعينه الجهة الحكومية التي فرضت العقوبة، وعقوبة التسمير وهي عقوبة قاسية لأن الرجل المعاقب، كان يربط إلى قطعة من الخشب بواسطة مسامير كبيرة عن طريق إدخالها في أعضائه، وعقوبة ضرب الأعناق بالسيوف والبلطات الحادة(20)، وعقوبة التوسيط، التي فرضت بحق السياسيين المعارضين لسلطة الحاكم، وكان المعاقب يقطع من وسطه بضربة سيف أو أكثر، وعقوبة الحرق وعقوبة التجريس(21)، وما إلى ذلك من عقوبات تأباها الشرائع السماوية والأعراف الإنسانية على تنوعها واختلافها.

وكانت هذه العقوبات تفرض بحق المعارضين السياسيين وأصحاب الآراء الدينية والفكرية، التي لا تناسب توجهات وأفكار رجال الدين، الذين كانوا يمين وسند السلطة المملوكية الحاكمة، فقد سخروا أنفسهم لخدمة هذه السلطة رغم معرفتهم بقسوتها وظلمها وتجاوزاتها غير الإنسانية، مقابل مكاسب لا قيمة لها تجاه موقف نبيل تشمل فوائده الأكثرية من المظلومين.

ورغم ما حصل في العصر المملوكي وغيره من العصور من عمليات قمع للأفواه المعارضة، على صعيد السياسة أو على صعيد الفكر، فإن حالات كانت تمر دون إنزال عقوبات الموت والتصفية الجسدية، ولكن هذه الحالات كانت نادرة وكان أصحابها يعاقبون بالضرب أو بالسجن لفترة معينة أو الحرمان من المناصب الحكومية وما إلى ذلك من أمور(22).

من كل ما تقدم على وجازته يمكن القول، إن الحضارة العربية كانت من بين أهم الحضارات الإنسانية، التي تميزت بالشمول والانفتاح والعالمية والابتعاد عن كل مواطن العنصرية والتقوقع والعدوانية، فلم تقتصر منجزات هذه الحضارة على صانعيها فحسب بل، عمت كل أرجاء الدنيا في العصور الوسطى، وكان من أهم هذه المنجزات حسن المعاملة لأهل الذمة بصورة عامة، فقد عاشوا كما رأينا حياة هادئة هانئة رافهة لم يعكرها سوى هبات تعصبية، كانت مؤقتة تمر كمرور السحاب في صيف حار، وهي حتى اليوم مدعاة للاحتقار والاستهجان، لأنها تخالف المبادئ الشرعية والإنسانية التي نادى بها الإسلام منذ البداية، وهي مبادئ كانت ومازالت متقدمة، لأنها أول بادرة من نوعها تقريباً ترى ضرورة احترام حقوق الإنسان في الاعتقاد وحق الحياة والتعبير والاختيار، فالناس إذا اختلفوا في كل المسائل، فإنهم يتفقون حول قاسم مشترك واحد هو انتماؤهم إلى الإنسانية الواحدة.

وإذا كانت قد حصلت بعض التجاوزات غير الإنسانية أو غير الحضارية، فإنها حصلت بسبب تغليب الشخصي على العام أو بالأحرى عدم الالتزام بتطبيق قانونية الشريعة الإسلامية بوضعها الصحيح، هذه القانونية التي تتمثل بما جاء في القرآن الكريم والحديث الصحيح، وبدلاً من أن يعمل في هذه القانونية، توجه الناس بتأثير الفقهاء إلى إتباع ما جرى للأقدمين من المسلمين كالتابعين وغيرهم، الذين فسروا القرآن تفسيراً غير مكتمل مما آثر سلباً على التصرفات العامة حتى يومنا هذا، لأن الناس تعلقوا ومازالوا بما يسمى بالثوابت أو المقدس ومن ذلك التفاسير الكثيرة الناقصة لمضمون ما جاء في القرآن الكريم، مع أن القرآن الكريم يجب أن يستخدم وكأنه نزل الآن، حتى تتواكب مسيرة الأمة أو تطورها مع الذي يجري على أرض الواقع في أنحاء المعمورة.

من ذلك على سبيل المثال ما ورد بشأن الشورى في القرآن الكريم بالقول: "وشاورهم في الأمر"، هذا القول لم يؤخذ به كما يجب، لذلك كانت النتائج ناقصة وهشة ومخيبة، فالشورى ظلت شعاراً يطلق في الهواء في حياة الأمة العربية والإسلامية، وحل محلها نوع من الاستبدادية المطلقة والشمولية، التي جسدت في الماضي ومازال يجسدها حكم حاكم فرد لا قيمة لآراء الآخرين في نظره، وربما يطلع علينا فريق يقول بأن الشورى، طبقت في عصر الخلفاء الراشدين وأن ما طبق منها يجب أن يسود في حياتنا السياسية، لكن الحقيقة كانت غير ذلك، فإن ما طبق من الشورى في العصر الراشدي، لا يتطابق قطعاً مع توجيهات القرآن الكريم في هذا الصدد، وهو أخطر ما ابتليت به الأمة العربية منذ ذلك الحين حتى يوم الناس هذا، فقد كانت شورى الخلفاء الراشدين شورى ناقصة ابتعدت عن مضمون مفهوم الشورى، الذي يقول بمشاركة الجميع في صنع القرار السياسي وغير السياسي من أجل الحفاظ على وحدة الدولة وهيبتها واستمراريتها، فلم يشارك في صنع هذا القرار في العصر الراشدي سوى حزب واحد هو الحزب القرشي، الذي استطاع أن يبقي الخلافة وما تلاها من مناصب مرموقة في أيدي أعضاء الحزب سابق الذكر، وأبعدت نتيجة لذلك كل الأحزاب الأخرى كحزب الأنصار وحزب آل بيت رسول الله r، ومع ذلك الذي جرى على خطورته مازال جزء كبير من الأمة، يوجه للاقتداء بما جرى في العصر الراشدي لتطبيق الشورى مقتل الأمة الحقيقي ومرضها العضال. فالذي يجب أن يحدث هنا هو السعي لصنع جو ديمقراطي جديد، تسود فيه العدالة والمساواة والغيرية على مصالح الأمة، وبالتالي الابتعاد عن الأنانية والطائفية والإقليمية والعصبية والقبلية، من أجل أن يصل إلى قيادة الأمة من يتفق عليه بالأكثرية بغض النظر عن لونه ومعتقده وعائلته وإقليمه، فإذا حدث ذلك تكون الأمة، قد طبقت مفهوم الشورى الكاملة كما جاء في القرآن الكريم، وقس على ذلك بقية الموضوعات الملحة لبناء مجد جديد لأمتنا، التي تعد اليوم من الأمم المنكوبة في كل المقاييس.

بقي علينا أن نجيب بصدق وصراحة عن سؤال أصبح أكثر إلحاحاً في هذه الفترة الرديئة من حياة الأمة العربية وهو، كيف تستطيع هذه الأمة أن تنهض من كبوتها الحضارية الخطيرة، التي جعلتها في مؤخرة الأمم المتحضرة، بعد أن كانت في طليعة الأمم التي قدمت للإنسانية تركة علمية وحضارية عظيمة؟ وللإجابة على هذا السؤال الملح، لابد من استعراض أهم الموضوعات التي تبدو ضرورية وملحة لبناء نهضة جديدة، تنتقل بالأمة من واقعها المهزوم إلى  واقع أكثر إيجابية في الميدان الحضاري والعلمي، يأتي في طليعة هذه الموضوعات تعميم ما يسمى (حق المواطنة) على كل أبناء الأمة، بغض النظر عن معتقدهم الديني أو السياسي أو انتمائهم العرقي بمعنى، أن يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات بحسب موقع كل مواطن ومؤهلاته العامة، وإذا ما طبق ذلك يشعر المواطن بقيمة وطنه وعظمته في استمرار حياته، فيكون على الدوام مستعداً للتضحية من أجل حماية استقلاله وحريته وثرواته، أما إذا كان الأمر قائماً على أساس الانتماء القبلي أو الديني، فستبقى الأوضاع على سلبيتها المطلقة، كما حصل في حياة الأمة في العصور الوسطى الذي ظل قائماً للأسف حتى يومنا هذا في كل الأرض العربية، فمازالت الاعتبارات الإقليمية والطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية، تؤثر على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في معظم الدول العربية، وهو مرض خطير سيظل إذا لم يستبدل بمفهوم المواطنة، سيظل يشكل عقبة كبيرة على طريق وحدة الأمة وحريتها وقوتها وازدهارها(23).

أما الموضوع الثاني الذي يجب أن تهتم به الأمة، فهو تفعيل مفهوم الشورى (الديمقراطية) في صفوف المواطنين عامة، لأن هذا المفهوم يقوم بنقل الأمة نقلة عظيمة باتجاه حياة تسودها مظاهر الاستقرار والحرية والطمأنينة، لأنه يخلص المواطنين من الحكم الفردي الشمولي، ويقودهم إلى الاعتراف بالتعددية واحترام الآخر فيما يطرح وفيما يقول وفيما يتوجه، وهذا بدوره يقود إلى تكوين حالة إيجابية في حياة الأمة، تتجسد بالتمسك بالخلق الكريم والابتعاد عن مواطن الخلل وكل أشكال التخريب والفساد، وكذلك التمسك بكل أشكال العفة وعدم الانزلاق وراء الشهوات، وتفضيل المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح الخاصة.

يأتي بعد ذلك في قائمة تسلسل هذه الموضوعات، موضوع الاهتمام بحقوق الإنسان عامة، ويكون ذلك بنشر العدل بين الناس على أساس أنهم يشتركون في المواطنة الحقة ورفض كل مظاهر الظلم ورفع المظالم عن الناس، لأن غياب العدل في حياة آية أمة يؤدي بها إلى سقوط محتوم مهما كانت إمكاناتها المادية والعلمية، لأن تجسيد العدل في حياة الناس يعطيهم بواعث قوية للعمل والتضحية من أجل المحافظة على ازدهار الأمة وديمومتها.

أما الموضوع الرابع الهام في هذه المسألة فهو تقديس الوطن بدلاً من تقديس الحكام، وهي مسألة مازالت من أخطر المسائل في حياة الأمة، فقد كانت في العصور الوسطى مرتبطة بالدين ارتباطاً وثيقاً لكن هذا الارتباط، لم يكن ينطبق مع حقيقة ما هدف إليه القرآن الكريم ولاسيما في ضرورة إطاعة الحكام وأولي الأمر، لأن تصرفات معظم الحكام في العصور الوسطى، لم تكن متطابقة مع أهداف الأمة ومصلحتها العليا، فقد سار معظم الحكام في العصور الوسطى مسارات انتهت في محطة مصلحتهم الخاصة، ومع ذلك فقد وقف الفقهاء موقف المدافع عن هذا الوضع الشاذ، مستخدمين كل ما أوتوا من قوة الإقناع والحجة، فكانت النتائج سلبية إلى حد الكارثة حينما تحول التقديس من الوطن إلى شخص الحاكم، فتشرذمت الأمة بعد انقضاء العصر الأموي إلى دويلات وكيانات مختلفة متناحرة(24).

أما الموضوع الخامس فهو الذي، يتعلق بقضية ضرورة العمل الجاد للتخلص من النزعة الانفصالية ومبدأ التقسيم والتشرذم، وإعادة الأمة إلى حالة من التعاون والتعاضد للقضاء على بؤر الفقر والجهل والضعف، وللانطلاق إلى آفاق التقدم والازدهار والبحبوحة الاقتصادية، وهذا لا يتحقق إلا بتفعيل مبدأ الغيرة على أساس خدمة المصالح العليا للأمة، وذلك بالتخلي عن القطرية والإقليمية والعصبية والمذهبية والقبلية والعشائرية، فإذا لم يحدث ذلك فإن الأمة العربية بشكل خاص، ستذوب بتأثير ضربات الآخرين الأقوياء، وستزداد مشاكلها الداخلية وتتفاقم في كل الاتجاهات في وقت لا قيمة فيه للضعفاء والمنهزمين والمتفرقين(25).

في آخر هذه الموضوعات يمكن أن ننوه بموضوع لا يقل أهمية عن بقية الموضوعات سابقة الذكر، هو موضوع الالتزام بخطة إستراتيجية دائمة تقوم على تعميم مبدأ الأخذ بأسباب العلم على أساس التجربة والواقع والعقلانية، بعيداً عن كل الملوثات والمثبطات، وهذا لن يتم إلا من خلال الاعتماد على العلماء وأهل المعرفة، لأنهم أساس كل نهضة علمية في كل زمان ومكان بشرط، أن يكرموا وأن تحترم حرياتهم وأن تصان حقوقهم، بحيث يشعرون في نهاية الأمر، أنهم من أمة تستحق أن تستمر في الحياة شأنها شأن كل الأمم المتحضرة.

إذا لم يطبق مضمون هذه الموضوعات، بأن يترجم إلى واقع وسلوك في حياة الأمة، فإن الحلم في إنجاز حضارة عربية متميزة، يبقى سراباً بعيد المنال وسيبقى الضياع عنوان هذه الأمة المنكوبة في كل المقاييس في الوقت الذي نهضت فيه أمم كثيرة لا تمتلك الكثير من المقومات بالقياس على مقومات الأمة العربية.

هذا ويمكن أن نختم بالقول أن الحضارة العربية التي تعددت مظاهرها وتنوعت، لم تكن إلا استمراراً طبيعياً للحضارة العربية التي ازدهرت في العصور القديمة، حتى وصلت إلى مرحلة العالمية وهي الحضارة التي سادت في وادي النيل وبلاد الشام، وبلاد الرافدين وفي المغرب الكبير وفي الجزيرة العربية(26)، وقد تميزت هذه الحضارة بالتنوع والإبداع والالتصاق بكل ما ينفع الإنسان في حياته العامة، والفريق بين الحضارة العربية في العصور القديمة والحضارة العربية في العصور الوسطى، هو أن الحضارة العربية في العصور القديمة، اعتمدت على عناصر محلية في المقام الأول، بينما اعتمدت الحضارة العربية في العصور الوسطى على منجزات الحضارات القديمة العربية منها وغير العربية، واستطاعت أن تستفيد منها في تطوير وإبداع وخلق حضارة جديدة متقدمة، استطاعت أن تفرض نفسها في العصور الوسطى بلا منازع، وكان أثرها في أوروبا خاصة بالغ الإيجابية، فقد وضعها في طريق العلم والتطور والتقدم، لأن الأوروبيين أخذوا من الحضارة العربية كل منجزاتها في العلوم البحتة والفلسفة العقلانية في الوقت، الذي هجر أصحاب هذه الحضارة مواقع البحث العلمي، فصاروا يبحثون عن عوامل إثارة الاختلاف والفتن وتفتيت وحدة الأمة والعودة بها إلى نقطة البداية.

يضاف إلى هذا أن الحضارة العربية، كانت حضارة ذات مقاصد إنسانية في المقام الأول، لأن الإنسان شكل محور نشاطها العام ولا يقصد بذلك الإنسان العربي فحسب، بل كان عاماً شمل كل الناس بغض النظر عن ألوانهم وأجناسهم وعقائدهم.

وبذلك يكون العرب في العصور القديمة والوسيطة، قد حملوا لواء تطوير كل ما يخدم حضارة الإنسان وسعادته.

بقي أن نذكر أن ما أنجز في الماضي البعيد من علوم وحضارة متقدمة، ينبغي أن يكون حافزاً للتغلب على موجة التعثر، التي أصابت الأمة العربية منذ قرون مضت ويكون ذلك بالتعاون الفعال في كافة الميادين من أجل المسير على طريق التطور والتقدم العلمي، الذي أصبح عنوان وسر وجود الأمم والشعوب واستمرارها، وفي الوقت ذاته ينبغي أن ننأى عن كل مواطن الاختلاف والتشرذم، التي تقف حائلاً في سبيل كل جهد إيجابي، لأن المهمة صعبة وشاقة ومؤلمة إلى أبعد الحدود، فالمفاخرة بإنجازات الماضي أصبحت جزءاً من تكريس التعثر، لأنها لا تترافق بشيء من النشاط الفعال في مسيرة العلم المعاصرة التي تتطور بسرعة كبيرة في كل المواقع.

(باحث وأكاديمي)

 

الهوامش

(1) نبيه عاقل، تاريخ الدولة العربية الإسلامية، عصر الرسول والخلفاء الراشدين، ط3، دمشق، 1991، ص83.

(2) انظر عن ذلك كتابنا: القضاء في المغرب والأندلس، طبعة دمشق، 1993، ص 79.

(3) خالد الصوفي، تاريخ العرب في أسبانيا، طبعة مكمتبة دار الشرق، حلب، بدون تاريخ، ص91. آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ج1، ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة، طبعة رابعة، بيروت، دار الكتاب العربي، 1967.

(4) عمر فروخ، العرب والإسلام في الحوض الغربي من البحر المتوسط، ص 184.

(5) النباهي، المصدر السابق، ص 56 وما بعدها.

(6) ابن خلدون، العبر، ج 7، ص 390.

(7) المقري، نفح الطيب، ج 1، ص 390، وما بعدها.

(8) مؤلف مجهول، المصدر السابق، ص 80 وما بعدها.

(9) حكم هذا الخليفة من سنة 300 – 350 هـــ.

(10) ابن عذاري، البيان المغرب، ج 3، ص 77 وما بعدها. ابن الخطيب، تاريخ اسبانيا الإسلامية أو أعمال الإعلام، ص 112.

(11) ابن بسام، الذخيرة، ص 270.

(12) ولتر ج.فيشل، يهود في الحياة الاقتصادية والسياسية الإسلامية في العصور الوسطى، طبعة بيروت، دار الفكر، ص 78 وما بعدها.

(13) ابن جبير، الرحلة ص 259.

(14) ابن عبد ربه،  العقد الفريد، ج 1، ص 261 وما بعدها.

(15) مجيد خدوري، الصلات الدبلوماطيقية بين الرشيد وشارلمان، طبعة بغداد، 1939، ص 23 وما بعدها.

(16) ابن خرداذبة، المسالك والممالك، طبعة ليدن، ص 154.

(17) انظر عن ذلك: كتب السيرة.

(18) انظر كتابنا: العصر الأموي السياسي والحضاري.

(19) انظر أبو شامة، الروضتين، ص 63 وما بعدها. ابن كثير، البداية والنهاية، ج 14، ص 221 وما بعدها.

(20) تعرف هذه العقوبة في المصطلح العربي بعقوبة (القتل صبراً).

(21) انظر ابن طولون، المصدر السابق، ج 1، ص 214 وما بعدها. ابن كثير، المصدر السابق، ج 14، ص 187 وما بعدها. البديري الحلاق، حوادث دمشق اليومية، طبعة القاهرة، ص 17 وما بعدها.

(22) من ذلك ما حصل لأبي حنيفة من قبل الأمويين، وللإمام مالك والشافعي من قبل العباسيين، فقد ضُرب الإمام مالك حتى كسرت يمينه بأمر من أبي جعفر المنصور، واقتيد الشافعي من نجران إلى بغداد في رحلة عذاب ومهانة وكاد الرشيد أن يبطش به بتهمة التحريض ضد الحكم العباسي، وحُرم عبد السلام التنوخي المعروف بسحنون من كل وظائفه وصلاحياته في عصر الأغالبة وغيرهم كثيرون.

(23) لم تعرف الدولة العربية طعم الاستقرار على الصعيد الداخلي، كما عرفته في خلافة عمر بن عبد العزيز، الذي أعلن مبدأ الاعتماد على مفهوم المواطنة الذي بموجبه غابت العصبية القبلية من حياة الدولة، وتقلصت الفروق بين الأقاليم وكذلك بين جميع السكان، حينما عُومل الجميع معاملة واحدة تقوم على المساواة والعدل في الحقوق والواجبات.

(24) بعد سقوط الأمويين، انقسمت الدولة العربية الإسلامية إلى قسمين، شرقي حكمه العباسيون وغربي حكمه الأمويون وبعض الأحزاب الأخرى كالخوارج والأدارسة والفاطميين والمرابطين والموحدين. وفي الفترة الأخيرة من العصور الوسطى، سقطت معظم حواضر العرب بالأندلس وانقسم المغرب الكبير إلى عدد من الدول، وقامت دولة المماليك بمصر والشام، بعد أن سقطت خلافة العباسيين ببغداد.

(25) يمثل العرب في هذه الأيام طليعة المنهزمين في العالم في كل الميادين، إلى درجة أنهم عجزوا عن مساندة بعض من نكبوا من إخوانهم في شرق الوطن العربي وغربه، وهي حالة شاذة قلما نجدها في تاريخ أمة من الأمم الأخرى.

(26) تُـتهم الحضارة العربية بأنها وليدة الحضارة اليونانية، لكن ذلك لم يتوافق مع حقائق ما جرى على أرض الواقع، فالحضارة اليونانية هي وليدة الحضارة العربية القديمة، وما أخذه العرب عن اليونانية، لم يكن أكثر من إطلاع أرادوا من خلاله دفع حركتهم العلمية باتجاه ايجابي.

* * *

فهـرس المصـادر والمراجـع

-           عادل العوا، الإسلام والفلسفة، طبعة جامعة دمشق، 1961.

-           عبد الجبار الهمذاني، المنية والأمل في شرح كتاب الملل والنحل.

-           عبد الرحمن الجيلاني، تاريخ الجزائر العام، 1971.

-           عبد القادر ريحاوي، العمارة العربية الإسلامية، طبعة دمشق، وزارة الثقافة، 1979.

-           عبد المنعم ماجد، تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى.

-           ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، طبعة 1948و1967.

-           العقاد، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، الطبعة الخامسة.

-           عمر الإسكندري وسليم حسن، تاريخ أوروبا الحديثة وآثار حضارتها، القاهرة، مطبعة المعارف، 1917.

-           عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، طبعة بيروت، دار العلم للملايين، 1984.

العرب والإسلام في الحوض الغربي للبحر المتوسط، طبعة ثانية، بيروت، 1981.

-           الفارابي، الثمرة المرضية في بعض الرسائل الفارابية، طبعة ليون، 1890، فلهاوزن، الدولة العربية وسقوطها.

-           فؤاد السيد، معجم الألقاب والأسماء المستعارة في التاريخ الإسلامي، طبعة بيروت، دار العلم للملايين، 1990.

-           القفطي، تاريخ الحكماء، طبعة ليبزيغ، 1930.

-           القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، طبعة مصر، وزارة الثقافة، 1963.

-           ابن قيم الجوزية، الطب النبوي، تحقيق شعيب أرناؤوط، 1955.

-           كاظم الجنابي، تخطيط مدينة الكوفة، طبعة بغداد، 1967.

-           ابن كثير، البداية والنهاية، طبعة بيروت، 1966.

-           كرد علي، خطط الشام، طبعة دمشق، 1926.

-           لانكستر هاردنج، آثار الأردن، تعريب سليمان موسى.

-           ليفي بروفنسال، الإسلام في المغرب والأندلس، ترجمة محمود سالم، طبعة مصر، بدون تا.

-           مجيد خدوري، الصلات الدبلوماطيقية بين الرشيد وشارلمان، طبعة بغداد، 1939.

-           محمد عبد الله عنان، لسان الدين بن الخطيب، طبعة أولى، القاهرة، 1968.

-           محمود علي مكي، مدريد العربية، طبعة مصر، وزارة الثقافة.

-           المسعودي، التنبيه والإشراف، طبعة ليدن، 1893.

-           المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، طبعة دار صادر، بيروت، 1968.

-           المقريزي، الخطط المسماة المواعظ والاعتبار، طبعة دار صادر، بيروت، بدون تا.

-           مونتغمري واط، أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا، ترجمة جابر أبي جابر، طبعة دمشق، 1981.

-           ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي، طبعة مصر، 1956.

-           النباهي، المرقبة العليا، نشر ليفي بروفنسال، دار الكاتب المصري، القاهرة، 1948.

-           نبيه عاقل، تاريخ العرب القديم وعصر الرسول، ط 3، بيروت، دار الفكر، 1975.

تاريخ الدولة العربية الإسلامية، عصر الرسول والخلفاء الراشدين، ط 3، دمشق، 1991.

-           ابن النديم، الفهرست.

-           نشأة حمارنة، تاريخ الطب، طبعة جامعة دمشق، 1979.

-           النعيمي الدمشقي، الدارس في تاريخ المدارس، تحقيق جعفر الحسني، دمشق، مطبعة الترقي، 1948.

-           نور الدين حاطوم ومجموعة، المدخل إلى التاريخ، طبعة جامعة دمشق، 1965.

-           واليس يدح، الديانة الفرعونية، ترجمة نهاد خياطة، طبعة دمشق، دار العربي، 1986.

-           وكيع، أخبار القضاة، طبعة بيروت، عالم الكتب.

-           ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، طبعة القاهرة، 1965.

-           ولتر ج. فيشل، يهود في الحياة الاقتصادية والسياسة الإسلامية في العصور الوسطى، طبعة بيروت، دار الفكر.

-           وهبة الزحيلي، آثار الحروب في الفقه الإسلامي، طبعة دمشق، 1981.

-           اليعقوبي، كتاب البلدان، طبعة ليدن، 1881.

* * *

المراجع الأجنبية

-      F.W.Robin, The Story of Water Supply Oxford University Press, 1946.

-      H.Haskins, Studies in the History Medieval Science.

-      Hiti. History of the Arabs, 5th ed., London, 1951.

-      Walt.Taylor, Arabic Words in English.

-       The New Encyclopedia,15th ed., Vo.14, the University of Chicago, 1973.