تقدم الباحثة قراءة في كتاب "نظرية لشعرية موسعة: اللغة، الموسيقى، الحركة". وتشير إلى أن الكاتب محمد مفتاح اعتمد على تصورات ونظريات مستقاة من تضافر العلوم المعرفية المختلفة، كعلم الأعصاب وعلم النفس، واللسانيات، وفلسفة الذهن ودرس أثرها في الكون الشعري.

الشعر موسيقى لغوية

حـورية الخـمليـشي

محمد مفتاح من علماء الشعر الذين توغلوا في دراسة الإيقاع الشعري ودراسة الأشكال والقوالب الشعرية الجديدة، بعد أن اقترح لها إطاراً أعمّ وأشمل فلسفياً ونظرياً ومنهاجياً، في كتابه "نظرية لشعرية موسعة: اللغة، الموسيقى، الحركة". وتحقيقاً لهذا الهدف لقّبها بالمبادئ المعرفية، والمبادئ الحركية، والمبادئ التوليفية، والمبادئ التنظيمية. يقول: "اعتمدنا على تصورات ونظريات ومناهج مستقاة من العلوم المعرفية، بما تحتوي عليه من علم الأعصاب، وعلم تحصيل المعرفة، وتدبيرها، وعلم النفس، واللسانيات، وفلسفة الذهن؛ وَرُؤَى العلوم المعرفية هي التظافر بينها لتحليل ظاهرة مَّا، وإعمالاً لهذه الرُّؤَى، فإننا أقمنا التوسيع على ثالوث؛ هو اللغة، والموسيقى، والحركة، باعتباره جذراً تتفرع عنه جذوع، وأغصان، وأفْنان؛ لذلك خَصَّتْه الأبحاث المعاصرة بعناية فائقة"(ص.14).

وجاء هذا الإنجاز في ثلاثة أجزاء. أوَّلها "مبادئ ومسارات"، وينقسم إلى قسمين. اهتم في القسم الأول بما أسماه بـ"المبادئ"، وفي القسم الثاني إلى ما دعاه بـ"المسارات". تناول في القسم الأول المبادئ المعرفية، والمبادئ الحركية، والمبادئ التوليفية، والمبادئ التنظيمية. وهي مبادئ إنسانية أهمها ما في الدماغ البشري من مَلَكات معرفية إدراكية وإحساسية موجودة عند الناس جميعاً لكن المحيط يُكيِّفها فيكبُتها أو يُبدعها. وهذا الاختلاف يجعل التجليات الإبداعية متنوعة في أشكالها الثقافية. إلا أن واقع الاختلاف لن يمنعنا من الاعتقاد في المشتركات الإنسانية التي تجعل الناس يرتاحون جميعاً لها، كاستمتاعهم بالشعر والموسيقى حتى ولو كان بغير لغتهم وموسيقاهم. أما القسم الثاني فيتعرّض فيه المؤلِّف إلى تجلياتها في تنظيرات إغريقية رومانية "سِحْر الأعْدَادِ والأشكال" وفي منجزات عربية "تَوْليف الأنغام، وبلاغة الألحان، وتناغم الأكوان"، من خلال كتاب الموسيقى لأرستيدكا نتليانوس، وعروض الخليل، ومنهاج حازم القرطاجني، وروضة التعريف لابن الخطيب. في "سحر الأعداد والأشكال" يتعرّض إلى مكانة الأعداد والأشكال وعلاقتها بالموسيقى وعلاقة الكلّ بالأكوان والإنسان ومدى شُيوع هذا التصور في الثقافة العربية الإسلامية (ص.144). وفي "توليف الأنغام" يرى أن الخليل بن أحمد الفراهيدي قد كشف عن البنيات الموسيقية المضمرة في الشعر العربي، فكان أهم من اهتمّ بقوانين توليف الأنغام، لذلك بيّن أُسُس عروض الخليل الرياضية والفطرية والميتافيزيقية والعَدَدِيَّة والموسيقية ما يدل على أن الخليل لم يكن بمعزل عن هذا الثراء العلمي الثقافي المتنوّع والمتعدد المصادر.

وقد عمد المؤلِّف إلى التركيز على الموسيقى الفطرية وكيفية تجلياتها في الشعر العربي. (ص.182). وفي "بلاغة الألحان" يعمد إلى الاهتمام بجانب مُهمّ من كتاب منهاج البلغاء لحازم القرطاجني والمتعلق بتداخل الموسيقى مع الشعر. فعِلْم الموسيقى الذي تتداخل فيه عدة علوم كالرياضيات والمنطق والفلك والطب أدّى بحازم إلى اقتراح قواعد الوزْن وطرق بناء القول الشعري. ونجد في "تناغم الأكوان" أن ابن الخطيب كان يؤمن بأن "الإنسان نسخة الأكوان" كل ما في الوجود ومنه الموسيقى، فاستخلص المؤلِّف مطابقة مهمة بين ما في الأكوان وبين أجزاء الإلحان، وبينها وبين أعضاء وسجايا الإنسان، فأبرز امتزاج الموسيقى الشعر العبادة لتهذيب النفوس وتربيتها وتقريبها من الله لاستمداد العون. ويخلص المؤلِّف إلى أن هذه المبادئ المقررة ذات طبيعة مزدوجة لذلك سيضع هذه الازدواجية على محك الاختبار بطرح وإيجاد أجوبة لأسئلة معرفية من قبيل هل نسخت التطورات الشعرية – الموسيقية في القرن الثامن عشر ما كان موجوداً من أشعار وموسيقى أو جعلت معه قطيعة؟ هل انتهى مذهب العلاقة بين الطبائع والطبوع؟ ما مصير الزمن الدوري في الشعر وفي الموسيقى؟ هل استُغْنِيَ عن التراتبيّة فيهما؟ هل صارت نظرية انتظام الكون من أساطير الأولين؟ (ص.280).

وجاء الجزء الثاني من هذا الكتاب بعنوان "نظريات وأنساق". عنون القسم الأول "بالنظريات" والقسم الثاني بـ"الأنساق". وهذا الجزء تعميق البحث في إشكال العلاقة بين اللغة والموسيقى بالاعتماد على "منهاجية سيميائية مركبة من مجهودات باحثي القارة العتيقة وأمريكا وفضاءات أخرى، وأهم سمات هذا التركيب التفكير بالمتصل، وبالتقابل، بحيث إن هناك اتصالاً وتطوراً وتدرجاً بين طرفين قد يكونان في غاية القرب، أو في غاية البُعد..". يعرض في الشطر الأول النظريات الكبرى التي اهتمت بعلمي الموسيقى واللغة في آن واحد مثل: النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية حيث تبرز العلاقة الوثيقة بين البنية الشعرية وبين البنية الموسيقية، إذ وجد المؤلِّف مشابهة بين الشكل السوناتي وبين قصائد المجيدين من الشعراء، ويرُد هذا إلى المشتركات البشرية الذهنية. وهو علم له خصوصياته، وانبثاق العلوم المعرفية في القرن العشرين جعل الباحثين في مجال اللسانيات والسيميائيات وهندسة الدماغ والعلوم العصبية يهتمون بهذا المجال. وقد حلل محمد مفتاح كتاب النظرية التوليدية للموسيقى التوافقية مع توضيح مستنداته النظرية والمنهجية واقتراح تعديلات لها مع استثمار بعض مفاهيمها كنظرية التعبير الإيقاعي ويرى المؤلِّف أن هذه النظرية قدمت أدوات لتحليل الموسيقى يمكن توظيفها في تفكيك الشعر أيضاً.

كما اهتم محمد مفتاح بكتاب ريتشاركد كارطون المعنون بالتعبير الإيقاعي في الشعر الإنجليزي، فقدم مرتكزاته وأطروحاته ومكوناته النظرية والعلاقة بين الشعر والموسيقى مع عرض النظرية وأبعادها. وأكّد المؤلِّف "غير ما مرة أن نظريته لا يكاد يوجد ما يضاهيها، فهي وإن اعتمدت على العلوم المعرفية ، وعلى مجهودات المحللين الموسيقيين، حققت تناغماً كبيراً بين الإيقاع الموسيقي والإيقاع الشعري. وهي بهذه الخواص وغيرها صارت كونية يمكن توظيفها لحل مشاكل أشعار أخرى في لغات مختلفة"(ص.118). لذلك نجد في هذا الكتاب فيْضاً مفهومياً لتعدد مراجعه في الموسيقى والشعر وتحليل الخطاب واللسانيات والسيميائيات والنقد الأدبي. وفي النظرية الإيقاعية يقدم خلاصات بعض الأبحاث حول نظرية الإيقاع في ميداني اللغة والموسيقى. فهي النواة الموسيقية التي تتولد منها اللغة. فالباحث في هذا الميدان حسب محمد مفتاح مطالب "بأن يُوغل في علم الموسيقى حتى تنكشف له خبايا الإيقاع الذي يستند إلى كفايات بشرية توليفية خلقت كوناً مركباً"(النظرية الموحدة، ص.152). فكانت الموسيقى في هذه النظرية هي التي تتحكم في تأليف الأصوات. والنظرية الموحِّدة التي يكشف فيها عن المبادئ المشتركة بين الحركة والموسيقى واللغة. وهي تركيب لما سبق، فأكدت على التمازج بين اللغة/ الموسيقى، والبحث في مسألة الأداء اللغوي/ الموسيقي المتجلي في أنواع الحركة، والنظر في محاكاة اللغة/ الموسيقى للوقائع والأحوال.

هذا ما حاول المؤلِّف إنجاز بعضه في القسم الثاني "الأنساق". فحلل أنساق الأصوات والتراكيب والدلالات. بعد ذلك يُنزل النظريات التي اهتم بها في القسم الأول إلى ميدان التطبيق على المستوى الصوتي والتركيبي والدلالي، ليكشف عن أنواع الصلات بين اللغة والموسيقى. وفي هذا القسم يقدم المؤلِّف بعض المعطيات العلمية المعروفة ليؤسس عليها اقتراحه، "وهو أن هناك قواعد عامة تحكم الصوتيات اللغوية والموسيقية معاً، وإذا صح الاقتراح، فإنه يمكن حل بعض مشاكل الصوتيات اللغوية بقوانين علم الموسيقى وقواعده، أو على الأقل لترجيح رأي على رأي"(ص.189). ويتكون هذا القسم من ثلاثة فصول: الصوت المفرد، والصوت المركب، وتطبيقات المُشَاهَدِ على ما غاب.

وجاء الجزء الثالث من هذا المؤلَّف بعنوان "أنغام ورموز" لتلخيص نحو النظرية التي اقترحها محمد مفتاح في الجزأين السابقين من الكتاب "مبادئ ومسارات" و"نظريات وأنساق". فعمد في هذا الجزء إلى تفكيكات دقيقة لنماذج شعرية مغربية ومشرقية بتأويلات تهدف إلى استخلاص أنواع الرؤى التي تشغل الفكر البشري من أجل غايات إنسانية وقومية ووطنية بعيداً عن كل نزعة تعليمية ضيقة. وقد خصص المدخل للآلة والمتن حيث قدّم خلاصة مركّزة لِما دعاه بالآلة مع طرح مسألة المتن ليبيِّن اللاقطيعة في الإبداع الشعري/ الموسيقي، وفيه يتحدث على مكونات الأنموذج، فدقق في قضيتين أساسيتين، الإيقاع في اللغة وفي الشعر من جهة وما يخص النثائر والصواف من جهة أخرى. وتعرّض في القسم الأول "أنغام" إلى أهم القضايا التي تشغل بال الشاعر المعاصر كـ"التّفان" و"المقارنة" و"الفضاء" و"الزمان" و"البياض" و"الصمت".. كُل ما يشكل هوية الكتابة الشعرية.

ثم تناول في القسم الثاني المعَنون بـ"الرموز" علاقة الشعر ببعض الأحداث التي عرفها النصف الثاني من القرن العشرين والتي كان لها كبير الأثر في التاريخ العربي كـ"المقاومة" و"الخيانة" و"المراهنة" في مزاوجة بين التحليل الجمالي وبين الكشف عن المحددات الأساسية للنص الشعري الذي ينفتح على أنواع شتى من الفنون، فآمن بمبدإ التفانن الذي يجمع في القصيدة بين الرسم والتشكيل بالخط اللغوي مشيراً إلى الصَّوْمَتَة الذي يجعل الصمت والصوت وجهين لعملة واحدة بأبعادها المختلفة، وكذلك التعبير بالموسيقى وبالتمثيل والتشكيل، موظفاً بعض المبادئ الملائمة لتحليل النص الشعري مع هيمنة التوافقية التي تتأسس على مبادئ رياضية منطقية قد تكون إنسانية حسب المؤلِّف. فصارت الأعمال الموسيقية التي نتجت عنها تراثاً للبشرية، وحظيت باهتمام التحاليل الموسيقية والإبداعات المعاصرة. ويخلص الباحث إلى أن اللغة موسيقى "والشعر مهما كان نوعه يعبِّر بنغم عن معنى"(ص.317).

محمد مفتاح صوت تحدى زمنه، بوضع نظرية لشعرية موسعة قوامها اللغة، الموسيقى، الحركة. مغامرة لتأسيس رؤية عميقة لشعرنا العربي منفتحة على العلوم الإنسانية. وهذا المنجز العلمي الكبير تشريف للشعر العربي والثقافة العربية. فهذا الكتاب معناه أيضاً أن هناك ثقافة مغربية عربية مسايرة للثقافة العالمية جنباً إلى جنب. فقد فتح آفاقاً لم يتطرّق إليها أحد من قبل للنظر في ماهية الشعر وعلاقته بباقي الفنون ومنهجية تلقيه بطرق معرفية جديدة في إطار إبدالات القصيدة المعاصرة في القرن الواحد والعشرين بمرتكزات شاملة فلسفياً ونظرياً ومنهاجياً. ولمحمد مفتاح كعادته فضل السبق في ابتداع طرق جديدة لنظرية شعرية موسعة برؤية مختلفة لدراسة القصيدة بأجناسها وألوانها المختلفة، مستمدة من ثقافته الموسوعية المنفتحة على الثقافة العالمية فبدت القصائد في هذا المؤلَّف معزوفات موسيقية. والمعزوفات قصائد شعرية ذات أنغام عذبة.