يرتبط موضوع هذا الكتاب: "بلاغة الخطاب الإقناعي"، نحو تصور نسقي لبلاغة الخطاب(1) ارتباطا عضويا بانشغال الناقد الباحث الأستاذ حسن المودن، الهادف إلى فهم شبكة إنتاج الخطاب الأدبي وتداوله، وقراءته قراءة نسقية موسعة مؤطَّـرة نظريا ومنهجيا بما يُـمكِّـنها من استبطان الطبيعة التكوينية للخطاب الأدبي، باعتباره خطابا أدبيا يتقاطع فيه الشعريُّ، في أبعاده المجازية التخييلية المحرِّكة لحوافز التأثير والاحتمال والتأويل، بالإبلاغ المستضمر في البنية البلاغية، أو الراشح من شعرية بيانها، والمحرِّك لحوافز الإدراك والفهم والتفسير. والهدفُ من كل ذلك إقناعُ المتلقي وكسبُـه لصالح برنامج خطابٍ يتلقاه مدوَّنــًا أو مُـؤدًّى في مشهدٍ تمسرحيٍّ شاخص.
وإذا كان الخطابُ هو الحدثُ الأساسُ في الاشتغال النقدي والبلاغي، فإنَّ القراءةَ النسقيةَ الموسعة للخطاب، تقتضي بحثه في علاقته بمُـنـتِـجه، وبشرطه الاجتماعي والثقافي والنفسي، وبمتلقيه، وبسياق إنتاجه وإرساله واستقباله، ورصد آليات الإقناع وعناصره في جماع ذلك. فمجال بحث هذا الفعل القرائي الموسع، هو ما يمكن تسميته بالشبكة الإقناعية المركَّـبة التي تتقاطع فيها كل المتعالقات المذكورة.
والباحثُ إذ يخوض غمارَ هذه التقاطعات في دائرة الإقناع، فلأنه أدركَ أن النص الأدبيَّ، فضلا عن الخَطابيِّ والسجاليِّ، مسكونٌ برهان الإقناع، مُبَنْيَنٌ قصدًا أو ضمنا وفق استراتيجيته، وهو رهانٌ قـلَّما تمَّ الانتباه إليه من دارسي الأدب وباحثيه، اللهم إلا بعض البلاغيين ممن بحثوا الظاهرة البلاغية في ترابطات عناصرها النصية والسياقية والتداولية، والباحث يمضي في هذا المسلك، مدعما التوجه نحو الخصائص والشروط التي يتقاطع فيها الشعري والتداولي أي التخييل والتداول(2)، ومن هذا المنطلق التقاطعي يحدد ويبحث مكونات جديلة الإقناع ومولداته وعناصره. ففي تحديده، مثلا، للخطاب ينص على "أن الأمر يتعلق بمعنى للخطاب يتركب من عناصر تداولية ــــــ المتكلم، المخاطب، المقام ـــــــ ومن عناصر شعرية ـــــــ النص: في شكله ولفظه وصوته ونظمه ومعناه وصوره وأساليبه. وما يشد انتباه البلاغي هو الشروط التي ينبغي لها أن تتوفر في كل عنصر من هذه العناصر، والعلاقات المتبادلة بينها، والدور الذي تلعبه مجتمعة في الإقناع "(3).
أما هدفه من بحث الخطاب الإقناعي في البلاغة العربية القديمة، فقد رمى من جهة إلى تحيين هذا الخطاب، بالكشف عن منظومة الإقناع فيه، وبحثها في ضوء مستجدات بلاغة الإقناع المعاصرة. ورمى من جهة ثانية إلى الاستجابة لضرورة راهنة في واقعنا الإنساني العام، حيث الحاجة ماسة، وفي جميع المجالات الثقافية والتربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إلى حوار مؤسَّـس على شروط الإقناع والاقتناع الضروريين لبناء علاقات إنسانية راقية، لذلك سجل الباحث في معرض تحديده لإشكالية البحث، أن الاهتمام ببلاغة الإقناع لا ينفصل "عما يجري في العصر الراهن، فالإقناع أبرز إشكالية في عالم يعرف تقدما سريعا ومتواصلا في وسائل الاتصال والتواصل والإعلام. ومن المفترض في هذا التقدم أن يسمح بالحوار والاختلاف والتعدد، وأن يزرع ثقافة التواصل والإقناع بعيدًا عن كل أشكال التوجيه والهيمنة. إلا أن الملاحظ أننا ننتقل من عالم تتعدد فيه الخطابات والأفكار والرؤى، ويمارس فيه التواصل والحوار والإقناع، إلى عالم ينزع إلى خطاب ذي نزعة شمولية كليانية"(4).
وهذا يعني أن الباحث قد اختار بحثه، لبحث موضوع يعمق وعيه بالمنجز الأدبي، في ارتباطٍ مع ما يجري في المجتمعات والحياة. أي في ارتباطٍ مع مشاغل الواقع الإنسانيِّ الحيّ، ومن وجوه هذا الارتباط التواصل مع تطورات المعرفة الإنسانية في المجالات التي تَـهمُّ الباحث، حتى يمكنه التفاعل مع أسئلة يطرحها الراهن عليه، في علاقته بالتراث، وعلاقته بماجريات واقع تعددتْ فيه الخطاباتُ وتنوعتْ في تشكلاتها السمعية والبصرية، وفي مراميها الإقناعية والمغالطة معا!
لقد اشتغل الباحث على خطابات بلاغية قديمة، من الجاحظ في مدونته المَريعَة: البيان والتبيين -وفي غيرها متى اقتضى البحث ذلك- إلى السكاكي في: مفتاح العلوم، مرورًا بابن المعتز في: بديعه، وأبي هلال العسكري في: كتاب الصناعتين، وابن سنان الخفاجي في: سرّ الفصاحة، وعبد القاهر الجرجاني في: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة.
متنٌ واسعٌ شاسعٌ، كثيرُ العقبات والقضايا والمشكلات المعتاصة، جاس الباحث خلاله بأناة ومرونة وإدراك، مستخلصـًا لعناصر بلاغة الإقناع وقيمها ومنظوراتها وبرامجها في تلك الأصول العربية القديمة، رابطــًا بين أسس بلاغة الإقناع فيها ومعاييرها وترتيباتها، وبين تطورات غربية معاصرة في مجال هذه البلاغة، وقد أعادتْ إليها حيويتَـها احتداماتُ عصرنا الحالي، وصراعاته وفيض خطاباته المزجاة بالمسموع والمكتوب والصورة والعلامة والرمز.
وهكذا، فالبحث تتقاطع فيه نظيمات عربية قديمة في بلاغة الإقناع، بنظيمات بلاغيين معاصرين: بيرلمان، تتيكا، روبول، وغيرهم من البلاغيين واللسانيين والسيميائيين ومنظِّري الخطاب ودارسيه ومُـحلِّـليه، وَصْلاً لرصيدٍ بلاغيٍّ عربيٍّ قديم، بمنجزٍ معاصر، ومساهمة من الباحث في تحفيز الحوار الثقافي بينهما، كما ساهم فيه غيره من العرب المعاصرين، الذين وقف عند مساهمات من أهم مباحثهم في السياقات المستدعية لهذا من مُؤلَّـفه، مما ميزه بالاستقصاء ورحابة الأفق والتسنيد العملي الضروري للبحث الرصين.
ويندرج في هذا التسنيد العلمي ما اقتضاه البحث من تحديداتٍ مؤطِّـرةٍ لمفاهيمه المحورية، كالخطاب، والبلاغة، والإقناع؛ ولمفاهيمه المتفرعة، وهي كثيرة، حسب كلِّ مبحثٍ ومضمومه ومنحاه في النسقية الكلية لموضوع الكتاب.
وتحديدات الباحث تستمد من المدلولات المعجمية والمصطلحية، في مظانها البلاغية واللسانية والسيميائية، وما إليها مما يقرب المصطلح في شبكة تعالقات مدلولاته المعجمية وأطر تداولاته المعرفية، ويجعل تحديداته استقصاءات مضيئة لمقاصدها في مسالك البحث وتدرجات بنائه، فهو، مثلا، يخلص من تحديداته لمفهوميْ الخطاب والإقناع، إلى أن الخطاب الإقناعي يقوم على أسس عقلية وأسس نفسية، وهو " يشغل لتحقيق غاياته عناصر لغوية شعرية (اللفظ، الصوت، التركيب، الصورة)، في علاقةٍ بعناصر مقامية تداولية (المتكلم، المخاطب، المقام)"(5). هذا إلى ما يرتبط بالمفهوم المحوري من مفاهيم تفريعية، كالتمييز بين البرهنة والحجاج، والإقناع والاقتناع.
وعلى هذا السنن دَرجَ مع كلِّ المفاهيم والمصطلحات، مستندًا في تحديداته ومقارباته لها، على مرجعياتٍ قديمةٍ وحديثة، عربيةٍ وغربية، ومن حقولٍ معرفيةٍ متحايثة، تساعد على تأطير المصطلح أو المفهوم، وتبئيره في دائرة مرامي البحث.
ولأنَّ بناءَ خطابٍ إقناعيٍّ يقتضي كفاءاتٍ وكفايات، ويعبُرُ من مسالكَ ومراحلَ وإجراءات، فقد استلزم هذا من الباحث، انسجاما مع منظوره النسقيِّ لبلاغة الإقناع، استقصاءات تعلقتْ بكفايات المتكلم في بُـعديْـها الإقناعيِّ والإنجازيِّ، أي بالكفايات التي لا بد من توفرها في المنتِج، ليمكنه إنتاج خطابٍ متوفرٍ على مقومات بلاغته الإقناعية. وتعلقت أيضا بالكفايات التي يتحقق بها إقناع الخطاب، وهو يؤدَّى مباشرة إلى متلقيه بالصوت والحركة والصمت والسَّمْت، أي مشخصــًا في حالة تمسرح، إذ تلعب بلاغة التجسيد والتعبير الشاخص دورًا حاسمــًا في نفخ روح الحياة الدفاقة في الخطاب، فيكون النجاح في أدائه، أو يخبو أثره إن لم يتبدد، إذا فشل المنجِز في التشخيص البليغ لأدائه.
وببحث هذه الكفايات، نكون أمام مستوى من المستويات المحورية لبلاغة الإقناع الموسعة، إذ يتم البحث في كفايات المتكلم التي تؤهله إلى إنتاج خطابٍ بلاغيٍّ مقنع، والكفايات تعني المؤهلات العامة التي يستلزمها الخطاب، كتابيا كان أو شفويا، وهي كفايات عديدة ومتنوعة، منها ما هو لغوي أدبي، ومنها ما هو ثقافي تداولي، ومنها ما هو نفسي انفعالي(6). فإنتاج خطاب مثقف وَقْــفٌ إذن، على ثقافة منتجه وقدراته، على مؤهلاته التي لا يمكنه بدون حسن استعمالها، إنتاج خطاب مقنع بكفاياته الداخلية، وفي إطار جنس خطابي معين، له ضوابطه واشتراطاته التجنيسية المخصوصة، والمكيفة حسب المقاصد العليا للخطاب، وهي مقاصد التأثير والاجتذاب والاستمالة لحساب ما يُـراهنُ عليه الخطابُ ويهدفُ إلى تحقيقه.
وبعد تكوين الخطاب مادةً لفظية، وحين يتطلب الأمر تأديته تشخيصا مباشرًا، أمام سامعه أو سامعيه، وهي الحالة التي يسميها الباحث مرحلة الإنجاز، فإنَّ فعلَ الإنجاز هذا يقتضي كفايات أخرى تنضاف إلى كفايات الإنتاج. وهذا مدخلٌ آخر من مداخل البحث وفضاءاته الخصيبة، مدخلٌ ينفتح على بلاغة التمسرح وطقوس تعبيراته في تنويع ومضاعفة لغات الخطاب وعلاماته، وإمكانات أدائه بكفايات التشخيص ومكونات طقسه.
لقد أشار الباحث إلى جذور لكفاية الإنجاز في الثقافة الإغريقية، وفي الثقافة العربية لدى الجاحظ خاصة، وكان هذا في التمهيد إلى التوقف عند أهم اشتراطات الإنجاز البليغ، التي تضمن نجاحه إذا استُثمرت بنجاعة، والبحث في هذا المسار، تعلق ببلاغة الصمت، والابتداء، والإيجاز، والاختتام، وببلاغة الصوت، والحركة، والجسد واللباس، والمكان والزمان، ومختلف الوسائل والإمكانات الكفيلة بإنجاح الإنجاز للخطبة أو القصيدة، أو أي خطاب آخر تقتضي إقناعيته هذا الأداء البياني المشهدي، المنجز بلغاتٍ ومقومات عديدة. وهذا يعني أن البيان لم يكن مختزلا أو محصورًا في البيان اللغوي اللفظي، بل يمتد إلى ما يمكن تسميته بالبيان السيميائي، وهو لا يفصل بلاغة اللغة عن بلاغة أوسع، بلاغة الجسد، والجسد مأخوذ هنا في حركته ولباسه ووسائله التي يستعين بها(7). وهنا يمكن الإلماع إلى أن الخطاب يتضمن عناصر تمسرحه أو إنجازه، ظاهرة أو مضمرة، كما يتضمن فجوات ومساحات هي بمثابة دعوة لمتخيل التمسرح، من أجل بناء مشهدي يستجيب لغريزة التمثيل، ولطاقاتها التعبيرية والإقناعية.
ومن استقصاء ما يتعلق بكفاية المنتِج والإنتاج والإنجاز، في دائرة بلاغة الإقناع، خلص الباحث إلى حصيل الإنتاج، وهو الخطاب أو النص المنتَج، ليؤطره لغويا وبلاغيا وفعالية مقامية. ولأن المنظور إلى بلاغة الإقناع في النص توزعته في البلاغة العربية القديمة نظرتان: نظرة مركزة للبلاغة في اللفظ صوتا ونبرًا وإيحاء ودلالة. في مقابل نظرة مركزة للبلاغة في التركيب أو النظم، واعتباره مجال إنتاج أساليب البلاغة، وإنتاج ممكناتها الدلالية، فقد حفر الباحث في منظومتيْ النظرتين المذكورتين، مستخلصــًا تسويغات وأسس كل منهما، ومناط بلاغة الإقناع فيهما، مستدعيا أولا، الدلالة اللغوية للفظ، وتحديده الاصطلاحي، باعتباره قيمة تخاطبية، ليستخلص أن بلاغته، ومن ثمة إقناعيته، تقوم على أساس شعريته وتداوليته، بأن يتوفر على قيمة جمالية بيانية في ذاته، تستميل وتؤثر، وهذا يعني بلاغيا "أن يلجأ المتكلم إلى الألفاظ التي تتوفر فيها شروط الفصاحة والبيان، وأن يستعين بالصور والمحسنات البديعية وأن يعرف كيف يستعمل الإمكانات الكامنة في الألفاظ بالشكل الذي يمنحها وزنا وأثرًا في الإقناع، آخذًا بعين الاعتبار المقام والمخاطب ونوعية الخطاب"(8)، مع الاعتدال في تبديع اللفظ في الحدود التي تجعله بليغا مقنعا، وتنأى به عن التكلف والتمحل المجافيين للبلاغة والإقناع، إذ بلاغة اللفظ ليست في حوشيته وجفوته، بل في أريحيته ومناسبته ضمن سياقه، وفي شحنته الإيحائية وإيقاعيته ووفور معناه.
ودأبـــًا على إغناء مباحث الكتاب وترحيب آفاقه، أضاف الباحث إلى تقديمه منظور بلاغة اللفظ في مدونات عربية قديمة، ونموذجها: سرّ الفصاحة لابن سنان الخفاجي، تقديمه لهذا المنظور في دراسات معاصرة لمغاربة وأجانب، وصلا للماضي بالحاضر، وإيقافا على تناولات معاصرة لقضية كانت ضمن انشغالات تراثنا البلاغي والنقدي، حتى لقد شكلت فيه توجها قائم الذات.
وخلاف هذا المنظور المركز لبلاغة الإقناع في اللفظ، هناك المنظور المبئر لهذه البلاغة في التركيب أو النظم. ونموذج هذه النظرة في البلاغة العربية القديمة عبد القاهر الجرجاني، الذي دقق في تبيان مفهوم النظم ومزيته، مؤكدا "أن مدار النظم على معاني النحو، وعلى الوجوه والفروق التي من شأنها أن تكون فيه"(9)، والفروق والوجوه لا حصر لها، ومزيتها ليست "بواجبة لها في أنفسها، من حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسبب المعاني التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض"(10).
هذه النظرة التركيبية وجدت اهتماما لافتا في عصرنا الحالي، إذ انشغل بها العديد من الباحثين في العالم العربي. وقد وقف الباحث عند بعض من أهم مقارباتهم الفلسفية، واللغوية، والجمالية، والمقارنة، والبلاغية النصية. وهي مقاربات تدل على أن بلاغة التركيب رحبة واسعة الأفق، غزيرة المداخل والمآتي، فهي بلاغة علائقية يتأسس الإقناع فيها على بنية التركيب وتمفصلاته، فالتركيب مبدأ جوهري على أساسه يمكن تمييز النص عن غيره، وعلى أساسه يمكن للنص أن يؤدي الوظائف المتوخاة منه(11)، وفي مركز هذه الوظائف وظيفة الإقناع، والباحث في تناوله لشعرية النظم ودورها في الإقناع، اهتم بمقومات بلاغة هذه الشعرية، وإمكاناتها الإقناعية، مدعما التصور بالشاهد الإجرائي المستمد من المصدر المعتمد. ونظرًا لشساعة مستغرق بلاغة التركيب، فإنه استدعى -على سبيل التمثيل الدال- بعضا من صور النظم في أساليب: التقديم والتأخير، والحذف، مستندًا أساسا إلى عبد القاهر الجرجاني، لتبيان كيف يشتغل النظم في تشييد نصية النص، بل كيف تشكل بلاغته المحور المركزي في هذا التشييد، إذ النص في تكوينه التركيبي ليس إلا نظما، سواء انتظم من تركيب محدود، أو من متتاليات مركبات بانية لنسيج نصيته الموسعة.
ولقد أمكن لمفهوم النظم أن يغتني اليوم كثيرًا بإسنادات المباحث اللسانية والشعرية والنصية المعاصرة، التي حضرت أرصدة منها في منجَز الباحث، وهو يجاسر بين القديم والمعاصر، في بحثٍ منطلقٍ من القديم ليمتد أفقيا وعموديا، واصلا بين الماضي والحاضر، كما يقتضي البحث العلمي غير المنقطع عن أخصب ما في الماضي، وغير المُنْبَتِّ عن مستجدات الحاضر وديناميته المعرفية الوفيرة.
ويقع في صميم بحث بلاغة اللفظ والنظم، البحث في مقومين أولاهما البلاغيون، وغيرهم، الكثير من الاهتمام، وهما: المجاز والاستعارة. وفي الكتاب كان التركيز بطبيعة الحال على البلاغيين الذين سعوا إلى الربط بين المجاز والإقناع، وبين الاستعارة والحجاج(12). فالمجاز أبلغ من الحقيقة في الكثير من الحالات، لعُدوله أسلوبيا، ووفرة مستقطبه دلاليا، ولتحفيزه المخيلةَ وتوسيعه اللغة وترابطاته غير المألوفة، ولمخاطبته الإحساس والذهن في تلازم. لذلك فكتلته الإقناعية أقوى من فعل القول المباشر، ومقامات تدخلاته أرحب في سياقات التأثير والإقناع.
وفي هذا المنحى كان تناول الباحث للمجاز، نائيا عن المنظور الضيق له، والذي يلحقه بالكذب -أو ما يجري مجراه- في التمييز بين الحقيقة والمجاز، تمييزًا أخلاقيا معياريا، لا علاقة له بشعرية المجاز وخصوبة مرعاها. فالحقيقة والمجاز طريقتان مختلفتان في التعبير، لكل منهما خصائصها ووظائفها المفارقة، التي يضبط أطرها علم الأساليب، وليس معايير الكذب والصدق، والحق والباطل، وما إلى ذلك.
ومن أخصب حقول المجاز: الاستعارة، فهي بعبارة الجرجاني في توصيفه للاستعارة المفيدة " أمدّ ميدانا، وأشد افتنانا وأكثر جريانا، وأعجب حسنا وإحسانا، ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها: أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ؛ حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر؛ وتجني من الغصن الواحد أنواعا من الثمر"(13)، وهذه التوصيفات ونظيراتها، للاستعارة، تعني زخورها بالقيم الإقناعية صيغا تعبيرية ومحتملات دلالية. ولذلك كانت الاستعارة مجال أنظار جمالية، وبلاغية، ونقدية وفلسفية، ومنطقية، والباحث وفق انشغاله، استقصى الاستعارة في نوعين من الدراسات: دراسات اهتمت بها باعتبارها قيمة أدبية، وأخرى اهتمت بها باعتبارها فاعلية حجاجية. وهما اعتباران مترافدان وليسا متوازيين. فمنطلقهما واحد هو الاستعارة، واختلاف مدخليهما هو اختلاف تكامل وإغناء، وليس خلاف انفصام وانقطاع.
وحرصا على تداولية المجاز والاستعارة، أي على إفادتهما وإقناعهما، لفت الباحث إلى أن بلاغة المجاز والاستعارة تنافي التعمية والغموض المعضل، المخلين بالنص وبتلقيه الإيجابي. كما تنافي الإسفاف المتنزل بالخطاب إلى المبذول العادي. وبهذا الاعتبار الوسطي المعتدل يكون النص ملابسا بيانه بملابسته بلاغته، وملابسا بلاغته بملابسته بيانه، فالقيم والأبعاد تتقاطع فيه بما يحافظ على بلاغته وإبلاغه متكاملين. وعلى هذا الأساس، فالنص البليغ هو الذي يقع في منطقة وسطى بين المجاز والحقيقة، وبين الوضوح والغموض، وبين الصدق والكذب(14)، ففي جغرافية البَـيْـن بَـيْـن يمكن للنص الاسترفاد من أي رافد يخدم بلاغته، ويمكنه بناء هويته الخاصة.
وفي السلسلة النسقية المترابطة الحلقات، يصل الباحث إلى الحلقة الأخيرة المتعلقة بالمتلقي، وهو أنواع ومستويات، وبالمقام المحدد لطبيعة المقال والممازج له داخليا، إذ يؤثر في طريقة بنائه وفي توجهه، وكذلك شأن المتلقي، إذ يأخذه الخطاب في اعتباره، سواء كان متلقيا واقعيا عينيا، أو متخيلا حسب تمثل منتج الخطاب له، فالباحث لم يهتم بالمقام سياقا خارجيا، بل اهتم به مكونا بنيويا في علاقته بالخطاب، ولم يهتم فقط بأنواع المتلقين، ومستوياتهم، وكيفيات تلقيهم للخطاب بعد إنتاجه، بل اهتم أيضا بفعل المتلقي نفسه، في تحديد الطبيعة المخصوصة للخطاب، وذلك بحضوره واقعيا أو متخيلا، في ذات المنتج حضورًا تفاعليا، إذ له دورٌ فاعلٌ في إنتاج الخطاب قبل تلقيه، ويتلقاه وهو مسكونٌ بصوته، مما يجعله يقبل عليه، وهذا منفذٌ إقناعيٌّ إذا عرفَ المنتج كيف يستثمره، فالأمر يتعلق باستمالة المخاطب إلى دعوى، وجعله يتبنى سلوكا من خلال صورة يسعد بالتعرف فيها على نفسه(15).
وقد عالج الأستاذ حسن المودن، فاعلية الإقناع في الخطاب البلاغي معالجة علائقية تفاعلية نسقية، يلخصها قوله: "يعني التفكير في الخطاب أن نأخذ بعين الاعتبار عناصره وأطرافه الضرورية: المتكلم، النص، المخاطب، المقام؛ ومن منظور البلاغة، لا يمكن التفكير في طرف أو عنصر إلا إذا انطلقنا من أنه غير قابل للانفصال عن العناصر والأطراف الأخرى، وأن بعض العناصر التي قد تبدو خارجية، من قبيل المخاطب والمقام، هي في الواقع من المكونات الداخلية للنص"(16).
هذه الرؤية الحوارية التفاعلية، بالغة الأهمية في قراءة النص واستبصار ترابطاته المرجعية ومواثيق إنتاجه وتلقيه، لردمها هوة سوء الفهم للعلاقة بين النص وشبكة تعالقاته، ولدمجها جسد النص في جسد المتلقي، وجسد المتلقي في جسد النص، ولرؤيتها للشعري مداخلا للتداولي، وللتداولي غير منفصل عن الشعري.
ومن هذا الأفق يمكن للقراءة المؤطرة بشروطها المعرفية والمنهجية، كما في هذا البحث الخصيب، أن تنتج معرفة نقدية وبلاغية مثمرة، محفزة للمساءلة والبحث.
لقد أضاءت ثقافة الباحث النقدية والأدبية، الكثير من مسالك بحثه المنجز بتبصرٍ مدعوم برغبة المنجِز في مواصلة صقله الدائم لرؤيته وممارسته النقديتين. لقد سبق أن اشتغل على موضوع: لا وعي النص في روايات الطيب صالح ــــ قراءة من منظور التحليل النفسي، وتابع هذا المسار في قراءات لاحقة لسرود عربية معاصرة أخرى. تنضاف إلى هذا ترجمته لكتاب: التحليل النفسي والأدب لجان بيلمان نويل. وهو في هذا الكتاب يوسع أفق انشغاله ببحثٍ نسقيٍّ لفاعلية محورية في الخطاب، وهي فاعلية بلاغة الإقناع، وللبعد النفسي فيها أهمية كبيرة، وهو ما لاحظناه في مباحث الكتاب، سواء تعلق الأمر بحالة منتِج النص ومنجِزِه، وبأحوال متلقيه في المقامات المختلفة، وبما يسكن النص من قيم وأبعاد، بل إننا نقف في البحث على ملاحظاتٍ نافذةٍ في صدد هذه الوجهة النفسية. ففي تناوله، مثلا، لمنظوريْ الطبع والصنعة تساءل: "فهل الأمر يتعلق بإنتاج يصدر في مرحلة أولى عن الباطن والداخل، عن النفس والانفعال، وتتم في مرحلة ثانية عقلنته وإخضاعه لسلطان الوعي وسيادته؟ وهل يعني الإبداع هنا تركيبا بين اللاوعي والوعي؟ أهذا ما يعنيه العرب عندما يستحضرون في الوقت ذاته الطبع والصنعة؟"(17)، فهذه الإشارة النافذة تفيد من ثقافة الباحث في مجال النقد النفسي، وتؤشر على إمكان بحث منظوريْ الطبع والصنعة من زاويةٍ جديدة. هذا إلى أن الطبع والصنعة في علاقتهما المتداخلة، كما يمكن أن يشكلا من الوجهة النفسية، معادلين لللاوعي والوعي، يمكن أن يلاحَظ في تقاطعهما، ولا أقول في ثنائيتهما، تقاطعَ الشعريِّ والتداوليِّ في الخطاب الأدبي.
وهذه بعض المداخل والآفاق التي تغري بها مباحث الكتاب، في مدارها على موضوع تجددتْ حيويتُـه، واتسعَ وانفسحَ، وصارتْ ثقافتُـه من أهم المطالب اليوم، في مختلف المجالات. ولا شك أننا سنقف على نتائج مكاسب الباحث من خوضه هذا الغمار، في قراءات منتظرة منه.
(أكاديمي من المغرب، قاصٌّ وناقد)
* * *
الــهــوامـــش
1) حسن المودن: بلاغة الخطاب الإقناعي، نحو تصور نسقي لبلاغة الخطاب، دار كنوز، للمعرفة العلمية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2014.
2) نفسه، ص 35.
3) نفسه، ص 22.
4) نفسه، 5.
5) نفسه، 31.
6) ص45.
7) ص118.
8) ص 150.
9) دلائل الإعجاز، تعليق وشرح: محمد عبد المنعم خفاجي ـ نشر مكتبة القاهرة ـ القاهرة ـ 1969 ـ ط1 ـ ص: 123.
10) نفســـه ـ ص: 123.
11) بلاغة الخطاب الإقناعي، ص 207.
12) نفسه، ص 242 ــــ 248.
13) أسرار البلاغة، تصحيح وتعليق: محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1978، ص: 32، 33.
14) بلاغة الخطاب الإقناعي، ص 276.
15) نفسه، ص 285-286.
16) نفسه، ص 351.
17) نفسه، ص 66-67.