هي ذاكرة عشوائية، مزج غير بريء بين الموضوعي والمتخيل. جنس هجين قد لا تستسيغه الذائقة النقدية. هي ذاكرة عشوائية لأنها تنتقي من الزمان والمكان ما يروق لها، لا ما يروق للمصنفات الأدبية.
1- ذاكرة تتنفس في طائرة كوانتس[i]
"أطل على ما أريد". تذكر محمود درويش فيما هو يطل من نافذة السيارة على البيوت القرميدية الراتعة آمنة بين أحضان السرو والصنوبر والأوكاليبتوس.
- لماذا يبيع محمود درويش مليون نسخة من كتابه ولا يبيع هو سوى بضع مئات؟ ترى لو أنه كان قد بدأ الكتابة في عمر مبكر هل كان حظي بحظ ما من النجاح؟ هل كان حصل على شهرة كشهرة درويش وأدونيس والطيب صالح؟ هو وكل من قرأه يشهد له بالإبداع والتميُّز وعمق الرؤية. فلماذا لا يطاله شيء مما يطال كل تلك الاسماء الضاربة في السماء؟
لا لا. هو لا يستطيع ان يكون مثل درويش وأدونيس. درويش يبقى دائماً خارج الحدث، على قرابة منه ولكن ليس بداخله. أما هو فينغمس بتفاصيله حتى ولو كان على بعد آلاف الكيلومترات من حدوثه. لا يستطيع أن يرى الصورة بالوضوح الذي يراها المتفرج.
بل قل إنك جبان تخاف الفشل وتؤجل مشروعك لأسباب أنت وحدك تراها تضحية ونكران ذات: "اًنتظِر حتى يكبر الزغاليل. "أبتعد عن الأضواء إرضاء للزوجة الغيورة"
كان يعتذر عن دعوات كثيرة فقط لأنه يحس بعدم ترحيبها. يحبها؟! .. يخافها؟! .. يتحاشى غضبها؟!.. يتوسل رضاها! كله وارد. هي عشقه الأوحد أدمن هذا العشق على مدى أربعين عاماً، وحتى بعد مماتها لا يستطيع ان يأخذ إلى الفراش امرأة أخرى. حتى في ما يسمونه أزمة منتصف العمر عنّ له ان يتفلّت من قيد عشقها. بحث عن علاقة وعندما سنحت الفرصة وأخذ الأخرى إلى الفراش علم أنه مدمن عليها وعليها فقط.
نزعه من شروده لعنة أطلقها السائق باللغة العربية اذ تخطاه سائق أهوج. تعجب من استيقاظ سدني المبكر هذا. كم تغيرت هذه المدينة على مدى عشرين سنة! وانت يا ناصر تغيرت.
اشتباكات بين فتح وحماس. مجزره في بيت حانون. انسحاب وزراء أمل وحزب الله من الحكومة. خطف أساتذة جامعيين في العراق، ومع ذلك تحمل حالك راجعاً الى ما هربت منه قبل عشرين سنة.
المرة الوحيدة التي زار فيها بيروت قبل عشر سنوات ملأته بمشاعر متضاربة. رأى الاشياء أكثر حناناً وألفة. كانت شجيرات الزيتون الرابضة في حقلة صغيرة على جانبي الطريق في "البرامية"، البلدة التي تستضيفه تملأه بانتشاء ما بعده انتشاء. شجيرات تبعث في نفسه أحاسيس لم يشعر بمثلها منذ زمن طويل. أحاسيس لا يضعفها التكرار ولا تقتلها العادة.
- تمهل رجاء. . . يقول للسائق. يفتح زجاج النافذة، يتخذ نفساً عميقاً، يملأ رئتيه بعبق الأرض. يشبع ناظريه من تلك الزيتونات الرابضة كدجاجة تحتضن بيضها، كجدة تعتصر حفيدها البكر. ترى لماذا لا يعتريه مثل هذا الانتشاء إزاء أشجار الزيتون التي يزرعها العرب في حدائقهم الخلفية في سدني؟
سره ما رآه من شوارع واسعة ونظيفة وكاملة الإضاءة.
قال لها:
- هذا الشوارع وحدها تكفي الحريري فخراً!
- قالت متهكمة، عجبـي لسذاجتك!. . . كيف تسر بهذه الشوارع النظيفة والمضاءة ووجوه الذين فوقها مسكونة بالقلق والبؤس والخوف على المصير؟
نعم أحزنه ذلك البؤس فوق الوجوه وعجب لهذا الانسان الصابر الشاطر.
- شاطرين اللبنانية قالت له عندما انزلتهما عربة أمام صالة معرض الكتاب في "البيال".
كانا حائرين كيف يقطعان المسافة بين موقف السيارة وصالة العرض، فهما لم يحملا مظلة ولا واقياً من المطر التشرينـي الذي انهمر فجأة. توقفت أمامهما عربة كأنها انبثقت فقط لحل مشكلتهما فقط.
- تفضل أستاذ (مال سائقها برأسه صوبـهما وقال )
عند الوصول سأله: كم تريد؟
- اللي بيطلع من خاطرك أستاذ!
يومها هزه المشهد، ومن وحيه كتب فيهم زاويته الأسبوعية في مجلة الجالية: "إنهم بيروت وملحها وناسها وعملتها الصعبة".
ترى كم من الناس قرأها؟ هو لم يتلق تعليقاً واحداً على جودتـها أو ركاكتها.
لن يكتب بعد اليوم كتاباً ولا حتى مقالة ولماذا يكتب ما دام لا يوجد من يقرأ ؟
* * * * *
طائرات الكوانتس دائما ملآنة. تمنى لو يكون مقعده على طرف فلا يزعج جليسه كل مرة يريد ان يذهب إلى الحمام.
لو انه استجاب الى ما عرض عليه بعد سنوات قليلة من بدء الثورة لكان هذا المتعجرف على الحاجز ضرب له تعظيم سلام وقال له بأمرك سيدي. هو يومها لم يرفض العرض لأنه جبان كما قالت له عينا زوجته الغبية المراهقة سياسياً ، كما كان يسميها، بل لأنه لا يؤمن بسياسة الاستزلام. تألم وهو يسترجع السنوات السابقة على إعلان الثورة. أيام كان العمل سرياً لا ينتمي إليه إلا كبار النفوس الشجعان. كم تغيرت الثورة بعد انفلاشها العلني. كثر المنتفعون. أبو مجاهد، أبو فيصل، أبو طلال، أبو مصطفى أبو ضراب السخن. . . تنحى لأنه لا يريد أن يكون واحداً من هؤلاء الأبوات المنتفعين لا النافعين الثورة!
صديقه الحميم أبو غسان لامه يوم قرر أن يتنحى.
وتتركها للزعران والمنتفعين والجبناء. إبق وحاربـهم من الداخل
- لا أستطيع. أعصابي لا تتحمل الشواذ.
- لا زالت كلمات أبو فلان تغضبه وتؤلمه: نرسل فلان وهو ابن السادسة عشرة في عملية، فيستشهد. نقيم له تأبينا ضخماً في بلدته فيتحمس شباب البلدة وينضمون إلينا بالمئات!
انتفض من مكانه مسكه من خناقه وقال في حشرجة: أيها التاجر الحقير حياة الناس بضاعة تشتري وتبيع فيها. تفو عليك أيها الحشرة الطفيلية. أنت قمل الثورة وعلقها يا خائن الأمانة. يلعن أبو الذين نصبوك أميناً على كوادرها النبيلة الشريفة المعطاءة.
أبو غسان أفضل منه. استطاع ان يستوعب الشواذ. قال له: شعبنا ليس جوقة ملائكة يا ناصر.
تنهد وقال في سره: ربما كنت على حق يا أبو غسان. ربما كان عليّ أن أستمر وأقاوم الخلل من الداخل لا أن أحرد مثل الولد المدلل الذي ينسحب من اللعبة إذا أزعجه طفل آخر.
* * * *
غرق في مقعده الذي لم يكن مريحاً، فعلى يمينه رجل "زقاقي" كما تقول جارته الشامية، يتكلم مع جاره بصوت عالٍ ويشتم الانكليز والاسترال باللغة العربية. وعلى شماله سيدة عجوز أسترالية تتأفف ولا تنفك تتمتم بكلمات يفهم منها أنها منزعجة من هؤلاء العرب (الوغ)! وتبدي تبرماً كلما استأذنـها للذهاب الى الحمام.
ترى كم سيمضي من الوقت حتى يكتشفوا غيابه؟ لقد حرص على ان يبدو الأمر وكأنه ذاهب لقضاء حاجة ما. لم يحمل معه إلا الضروري من الثياب وصورة زواجهما. عندما رفعها عن رف المكتبة ليدسها بين الثياب تأمل وجهها بجنان بالغ. الابتسامة الخجولة وانحناءة الرأس المتواضعة التي كان يغيظها في تعليقاته عليها
يبتسم لسلاطة لسانها:
_ ولك روح يا مغرور أنا ما تزوجتك إلا شفقة. خفت تقتل حالك إذا رفضتك. قليل ما كنت تحبني!
أيه والله أحبها منذ أول نظرة. كانت آتية من احدى الضواحي إلى مدرسة المخيم. في السادسة عشرة من العمر. طبيعية، مختلفة عن بنات مخيمه. تكلم الصبيان من غير عقد، وبدون أن تخاف منهم، او من "شو بدهم يقولوا الناس". وكانت خامة وطنية نظيفة وبريئة حسب تعابير ذلك الزمان. ظل حتى ماتت وهو يتهكم على سذاجتها ويعيد تلك القصة: في احدى المناسبات الوطنية لقطها تصفق بحماس غريب عندما انـهى أحد المعروفين بعمالتهم للمكتب الثاني كلمة ألقاها في حفل ما "عشتم وعاشت فلسطين". من يومها صارت قضيته. رشحها للانضمام إلى التنظيم السري الذي كان هو رئيس إحدى خلاياه وقبل أن تدخل التنظيم كانت قد دخلت قلبه وهام بها.
ندم على كل ما سببه لها من ألم بسبب غيرته غير المبررة. فتاة لا تعرف استعمال الشوكة والسكينة كيف يمكن ان تكون صاحبة سوابق غرامية ولاعبة على حبال الشباب كما كان يتهمها.
لم يكن صهراً ولا زوج أخت. هو ابن أضيف إلى العائلة يقول الوالد متباهياً به أمام اقاربه وأصدقائه. وهو من ناحيته أحب عائلته الجديدة، وتحسس هموم كل فرد من أفرادها. أحب التماسك الذي كان يفتقده في عائلته. أحب ابتعاد هذه العائلة عن التزمت والتمظهر. أحب التعاضد العفوي الذي يربط أفرادها.
* * * *
ندم لأنه لم يقطع خط التلفون. في هذه الحالة سيحس المتكلم ان هنالك امراً ما، فهو عادة يرد على رسائلهم التي يتركونها على آلة التسجيل. أول من سيقلق عليه ويهرول لتفقده هو هذا اللواطي، ابنه الأصغر. هو أكثرهم حباً له وأشدهم عاطفة وحناناً ولهفة عليه. هو الوحيد الذي لا يكلمه إلا بالعربي وهو الوحيد الذي كان يشاركه مشاهدة قناة الجزيرة ويجمع التبرعات لأهل غزة ويشارك في المظاهرات التي تقام دعماً للمقاومة ويتابع ما يجري في غزة وبغداد وشبعا. منذ اعترافه بميوله الجنسية الشاذة، وهو يسعى لاسترضائه. رغم كل القسوة التي عامله بها، رغم طرده من المنزل وتهديده بالقتل اذا لم يرجع عن شذوذه ظل يستسمحه ويرجوه أن يتقبله.
- كان بإمكانه ان يقابل زعيقي بزعيق اشد، واتهاماتي باتهامات أعنف وأقسى، ولكنه لم يفعل. لم يقل لي كما يقول أمثاله: أنت المسؤول، تربيتك الغلط عملتني هيك بل قال: هذه هي طبيعتي الامر خارج عن ارادتي. إنه قدري.
- طبيعتك يا عرص، أو محنتك أو المجتمع الفاسد الذي تربيت فيه؟
- لا يا ابو أيمن، المجتمع الذي تربيت فيه ليس فاسداً. هو مجتمع صحي يقبلني كما أنا، لا كما يجب أن أكون.
- يا عيب الشوم عليك وطيت راسي بين الناس!
- يا أبو أيمن لا انت مؤمن حتى تقول هذه كفر وهذا حرام، وهذا يؤدي على جهنم، ولا انت في عين الحلوة حتى الناس تعيّرك. هونها بتهون صعبها بتصعب ابو ايمن!
حاول ان يهونها وما هانت. كانت النار التي تأكل قلبه. كانت جهنم التي حكت عنها الاديان. عندما كان يتخيل ابنه الذكي المتفوق في دراسته، الموسيقار الموهوب، المحب الحنون، يعاشر ذكرا يغلي الدم بعروقه. يهم بتنفيذ تهديده.
- فقط أريد أن أعرف هل انت راكباً او مركوباً سأله ذات مكالمة!
- يا يابا الحب الحقيقي ما في فاعل ومفعول به. هذا هو جمال هذه العلاقة بعيدة عن كل منفعة. علاقة عشق حقيقية. ما فيها غالب ولا مغلوب. ما فيها واحد من فوق وآخر من تحت.
صحيح أنها خيبته الكبرى والصحيح أيضاً أنه وإن تلوث منه الجسد فان روحه ناصعة طيبة. كان بإمكانه ان يعيش بوجهين، ويا ليته فعل، لكان وقاه من هذه الخيبة المريرة
ما اكثر خيباتك يا ابو ايمن[ii]
* * * * *
شجار بين الأب وابنه فيهدد الاب: ساعات ونصل الضيعة وعندها بتشوف كيف "الترباية" بتكون. حتماً هذا الأب عانى الأمرّين من "تربية" أستراليا. ألم يعان هو أيضاً؟ ألم يضعوه في قفص الاتهام؟ ألم يحرجوه حتى أجبروه على الاستقالة من وظيفته التعليمية؟!
"استعمال زائد للسلطة. تغليب العنفوان الشخصي". هكذا جاء في تقرير اللجنة التأديبية التي انعقدت إثر حادثته مع تلميذه علي. لو لم يكن علي، لو كان جيمس او مارك أو أندرو ربما كان تصرفه اختلف، أما مع علي!. . . طبعاً الامر يجب ان يختلف. هناك غيرة واحساس أكبر بالمسؤولية
- بسببك سأترك المدرسة وأصير ابن شوارع Fuck you Mr. Nasser-
دوافعه كانت نبيلة، أراد أن ينتشل ابن السادسة عشرة من تلك العادة القبيحة قبل ان تتمكن منه وتوصله الى الإدمان. لغيرته عليه فقط ضيق عليه. حاصره .. رصد كل تحركاته .. أشبعه لوماً وتوبيخاً حتى انتهى به الأمر لطلب مقابلة والده. لم يدر بخلده أن النتيجة ستؤول الى هذا الحد من الخراب. وبدل أن يصحح اعوجاجاً أدى به الى الانكسار.
* * * * *
مالت السيدة العجوز نحوه وسألته : كم الساعة؟
- الثالثة صباحاّ قال:
ذات ثالثة بعد مرور أشهر قليلة على حادثة البوسطة[iii]، كان محشوراً هو وزوجته وابنه أيمن وجيرانه من الطابق العلوي في مدخل الشقة الواقعة في بلدة قريبة من مخيم فلسطيني صغير شرقي بيروت. اتقاء للنيران المتبادلة بين ميليشيا صغيرة وميليشيات حزب الكتائب اليميني اللبناني المتواجدة في الجوار. جاؤوا "ليشدّوه" كما شدّوا غيره من الفلسطينيين الواقعين في منطقتهم. خدمه الحظ يومها. كان قائد المجموعة المداهمة قريب جاره الذي فتح لهم الباب. عندما عادوا في المرة الثانية كان قد يُسِّر له من هرّبه إلى المنطقة الغربية.
ذات ثالثة أخرى بعد سنوات قليلة من اجتياح بيروت[iv]، كاد يحصل له نفس الشيء ولكن على أيد مختلفة، قامت حرب بسوس جديدة بين حلفاء الأمس: بين حركة أمل وفلسطينيين يدينون بالولاء لزعيمهم ياسر عرفات. هكذا كغضب إله يوناني داعر حل العداء. صار كل فلسطيني في الضاحية مستهدفاً وعدواً. بعد وجبة عشاء دسمة خرج إلى الشرفة يذرعها جيئة وذهاباً عندما عمت جلبة في الشارع المقابل ورأى نيراناً تشتعل في إحدى الشقق في البناية المواجهة.
رن جرس الانترفون، صوت جاره أبو عصام الذي نصّب نفسه حارساّ على البناية يقول: ولا يهمك خيي أبو أيمن.
حار في تفسير العبارة. قلبّها من عدة وجوه. بعد دقائق دق جاره من الطابق العلوي الباب وأخبره أن حرب بسوس اخرى قامت في حيّهم. ليس على ناقة هذه المرة بل على كرة قدم. طلب منه ذلك الجار الذي ينتمي إلى تنظيم حليف لسوريا وحركة امل أن ينام عنده ليحميه من موجة الغضب العارمة على الفلسطينيين. في هذه المرة خدمه حدسه وشجعه إصرارها. كانت قد نضجت فلم تتمرجل كالمرة السابقة. بل وضعت له بيجامته في كيس وقالت:
- إذهب عند عمتي ام سليم في الحمرا. في الصباح الباكر نلحق بك.
زوجته "الساذجة سياسياً" لم تستوعب الامر. معقول؟! .. وعلى شو؟! ولصالح من؟! وأين كان مخبأً كل هذاالحقد؟!
ـ لن ابقى يوما واحدا تحت هذه السماء الفاسدة .. لن اسير خطوة فوق هذه الشوارع العاهرة. لن اتقاسمها مع من أذّلونا وفرضوا على اهلنا في المخيم أكل لحم البغال والجيف وسليق القبور .. نذر عليّ ان أمشي حافية الى المطار اول يوم يفك فيه الحصار. تفوه على كل العربان من الخليج للمحيط .. بريئه انا منهم حتى يوم الدين .. ما لي عين تشوف حدا منهم!
- عيب يا نادرة، ما هذا الحكي؟!
- هذا الحكي من هذا الكلام .. ماذا تتأمل من هكذا بلاد وهكذا بشر؟
- اين نذهب؟ كيف نعيش؟
- بلاد الله واسعة. جليد سيبيريا. جهنم الحمرا ولا هذه البلاد!
- لا جليد سيبيريا ولا جهنم الحمرا يقبلوننا. قدرنا هون!
- قدرنا .. قدرنا. تخريف عجايز .. نضرب ببلاد الله الواسعة. لن نلاقي أصعب ما لاقينا
ـ يا بنت الناس ! . . الموت بين الناس رحمه!
ـ الموت الموت! .. كم من مرة رأينا الموت؟ .. يقطع هيك حياة الموت فيها نعمة!
ـ وحّدي الله يا امرأة . . . قسمتنا هنا!
ـ لن يكون لك قسمة بعد الذي جرى. فكرك أنه بعد اليوم سوف تستطيع الوصول الى مكتبك بسهولة ؟! تتوقع ان يظل التفتيش على لغتك العربية على ذوقك بعد اليوم؟! .. الله يستر إذا ما لبسوك تهمة وطلعت من وظيفتك بالبلاش.
ـ وين نروح؟ كيف ندبر أمورنا؟ !
ـ نحن لسنا اقل من الذين راحوا .. الى السويد، الدنمارك، النروج، ألمانيا، استراليا. يسوانا ما يسوى غيرنا. كله تشرد وضياع. هل نسيت أن لي عائلة في استراليا؟
_ أنا لما نسيت، ولكن انتِ هل نسيتِ ماذا أجبت خالك عندما عرض عليك الهجرة عندما تهجَّرنا من المنطقة الشرقية!
_ لن أهاجر. هذه بلادنا ولن نستبدلها بأحسن البلدان. شو إلنا بأستراليا؟ شو بيربطنا ببناديق الإنكليز؟ هون أهلنا وناسنا وأبناء قضيتنا.
وأيضاً قلتِ:
- يا خال، انتم ما تحملوا همنا نحنا مبسوطين هون بين الإسلام. صرماية أي مسلم فيهم بتسوى ذقن أحسن خوري".
- صح هكذا كان الحال يومها. اما اليوم!....
ـ ندرس الموضوع اكثر ـ
- لا درس ولا حصيده .. قول الله!
- مغامرة خطرة .. صعبه!
ـ ليس أصعب من أكل لحم البغال وسليق القبور . . .
يوم طبعوا الفيزا على وثائق سفرهم اغتم حتى أنه بكى في سره!
جرب ان يقنعها ويقنع نفسه
- نتـرّوى. شدة وتزول
- من شدة الى شدة. من ضاحية الى ضاحية. قل لي ما هو المستقبل الذي ينتظر ابناءك هنا؟
- إنها خطوة في المجهول !
ـ خطوة في المجهول!! .. وهل انت تخطو في المعلوم؟ كل طالع شمس هو خطوة في المجهول
ـ الامر صعب علينا وعلى كل الناس. ندرس الامر اكثر.
لا درس ولا حصيده . إذا اقتضى الامر ابق انت هنا فتش على لغتك العربية. أنا آخذ اولادي أأمن لهم مستقبلا. أجد لهم وطناً تحت الشمس كي لا يظلوا لاجئين كبش فداء لكل ابن حرام. او قبل ان يكبروا ويتفرقوا كل واحد في بلد لا احد يعرف الاخر إلا ببطاقة مجاملة في موسم الاعياد. هل تضمن لي أن يعودوا اليوم مثلاً سالمين من مدارسهم؟ أي مستقبل ينتظرهم في هذه البلاد وجنسيتهم وصمة وفلسطينيتهم جرب!...
لو أنها لم تمت، أكانت ندمت على هذه الهجرة وقفلت عائدة إلى بيروت؟