يصور القاص أحلام يقظة طفل شاردة خلال جلوسه في الدرس وهو يحاول رسم طير أحبه مات في حديقته فيروى لنا التجربة الخفية عن مقاومة للسلطات وبائعة لبن وطير ومساحة حلم الطفل بما يحدث حوله.

الموت رسماً

كامـل فـرعـون

كانَ صوتُ المعلمِ رخيماً في طلبهِ. أخرجتُ كراسةَ الرسمِ من حقيبتي، فأخفتْ بحجمها المستطيل جزءاً من وجه الرَّحْلة. كانتِ اللوحة التي تتوسط صفحة الغلاف، تُمَثّلُ منظراً طبيعياً، تحتفي موجوداتُهُ بالحياةِ والجمال. أرضُ خضراء يشقُّ منتصفها نهرٌ متعرج تزخر ضفتاهُ بمياهٍ زرقاء تنعكسُ في مرآتها ظلال رؤوسِ النخل ماسيّةً تتلألأ، وسماؤهُ تخلو من الغيوم أو تكاد .

عند آخر كلمة نطقَها المعلمُ قلبتُ الصفحة ؛ قلمُ الرصاص بيدي وعينايّ تلتهمان البياضَ المفارقَ بنصاعتهِ ما تجلبُهُ إلى منزلنا بائعةُ اللبنِ ، أسدى أبي خدمةً لها، حينَ حرَّضَ أخاها على الهرب من الحكومة لئلا تُلقي القبضَ عليه فمقارعتها آنذاك وعدم الانصياع لأوامرها صفةُ رجالِ مدينتي تساعدُهم تضاريسُ البيئة على مواجهتها والاختفاء. ومن أجلِ ردِّ الجميل وإرضائي بوصفي ابن العائلة المدلل, أمسكتْ وجهي بيديها، فلفَحتني أنفاسُها المعطرةُ بالهالِ فتَخيّلتُها تودُّ تقبيلي قَبلَ أن يفْتَرَّ ثغرُها عن ابتسامةٍ، قرأتُ بانطباقِ الشفتين وانفراجهما وعداً تُلْزِمُ نفسَها بهِ.. وفي صباحٍ دافئ جاءتني بالطير وهي خجلةُ لتأخرِها في إحضاره. لم أسمعْ عبارات الاعتذار فقد شغلتني هيئةُ الطير بمنقارهِ الأسود ورقبته الطويلة المتصلة بجسده البيضويِّ يُغطيهِ ريشٌ رماديٌّ مائلٌ للسواد وينتهي بذنبٍ قصير ترفعهُ رجلان طويلتان رفيعتان كأنّه في مشيتهِ يقفز فأحببته على الرغم من عدم إعجابي بشكله، ولأنه لا يمتلكُ الإثارة والفتنة سألتُ صاحبتَهُ : ما اسمهُ؟ أجابتني بعد أن حدّقتْ إلى عينيَّ طويلاً: (ارخيوي) أو هكذا يُعرف في هذه الأرجاء, ويبدو تسميته مأخوذةً من بُطء حركتهِ ولينهِ، ولتدليلهِ كنتُ أُناديه (الرخو) وهو ما شاعَ عنه فأصبحَ لصيقاً به. شَغلني عن لُعَبي وأصدقائي وأحلامي غير المحدودةِ بامتلاكِ الأشياء وما تجابِههُ من رفض لكن ما أحققه وأحصل عليه لا يأتي بسهولة بل بعدَ معاركَ أستخدمُ فيها وسائلي في كسبِ ما أُريده.

لم تألف عائلتي وجودَ الطير بيننا فاصطنعتِ العراقيل لدعمِ رفضها كما في مسألة زراعتي بستاني الصغيرة بأنواعِ الخضراوات فقد اقتطعتُ متراً مربعاً من حديقةِ المنزل وأحطْتهُ بسياجٍ ونثرتُ البذور بعد فِلاحة الأرض. كنتُ فَرِحاً وأنا أُراقبُ البراعمَ تُولدُ من رحمٍ يجدُ صورتَهُ في عينيَّ ممتزجةً برفضٍ يتقنعُ بالخوفِ من توسّعِ مساحة رغباتي وهو ما تحاولُ عائلتي الحدَّ منهُ.

هيّأتُ لشريكي (الرخو) مسكناً يُليقُ به ومختلف عن مكانهِ الأوّل. قضى أيامَهُ نائماً لا يأكلُ إلا مِن يدي وهو ما زادَ من تكاسلهِ وضعفهِ فقد وصلَ به الحال إلى أن أفتحَ منقارَهُ وأضعَ سُميكةً فيه. في البداية كانَ يبتلعُها وبعد أيامٍ أخذَ يُلقيها؛ آلمني وضعهُ فشكوتهُ إلى صاحبتهِ في إحدى زياراتها الصباحية ألقتْ نظرةً عليه وابتسمت قائلةً: لا عليكَ ليس فيهِ شيء. لم أطمئنْ لكلامها، لكن لا حيلةَ باليد.

وفي مساءِ اليوم ذاته رأيتهُ نائماً ؛ منقارهُ الطويل مفتوحٌ قليلاً ونصفُ جسدهِ خارج الخشبةِ التي وضعتُها لهُ لتُشكل مع زاويةِ الجدار قاعدةَ مثلث فتشعرهُ بأنه يعيش في بيئتهِ؛ رأسهُ الصغير يتوسدُ صلابةَ اللوحِ بينما يُغطي الماءُ أقدامَهُ المتدلية. طالَ وقوفي مُتأمِّلاً، يصلني صوتُ المُعلمِ خافتاً، وهو يُعلنُ انتهاء الوقت المقرر. لم أرفعْ عينيَّ  لكنّي أحسستُ بهِ قريباً، مدَّ يدهُ، أمسكَ الطيرَ من قدميهِ، فتحرك تُجاه النافذةِ، فتحها وقذفهُ بعيداً. كانت عيونُ التلاميذ تحدّقُ إليهِ. انحنى على ورقتي، وضعَ عليها درجةً كاملةً، عندما اعتدلَ بقامتهِ الطويلةِ مُتجهاً نحوَ السبورةِ، محا نثيثُ سماءِ عينيَّ ما كتبتهُ ليظلَّ المكانُ خالياً إلا من رائحةِ أسماكٍ لا تطاق.