الأديب يكتب للخاصة
سيداتي سادتي يجب أن أقول لكم الحق قبل أن آخذ معكم في هذا الحديث، فأنا لم ألتزم الدفاع عن الخاصة ولا عن العامّة، وأنا لم ألتزم موضوعاً ما، فكل الذي كان، وكل الذي أعرفه هو أني تلقيت دعوة كريمة من جمعية المقاصد الإسلامية أمضاها الأستاذ الصديق سهيل أدريس، وعرض فيها أن ستكون مناقشة حول الكتابة للخاصة أو الكتابة للعامة، وطلب إليّ أو ذكر أني سأتحدث عن الكتابة للخاصة إن أردت. وهنا يجب أن أقول الحق مرة أخرى، وهو أن شوقي إلى لقائكم وشوقي إلى تحية لبنان في وطن لبنان، بعد كل الذي أسداه إليّ لبنان من الخير، وأسداه إلي من المعروف، أقول إن شوقي على لقاء لبنان ألقى في روعي أن أجيب الأستاذ سهيل إدريس بأني موافق على كل ما يريد ما دامت النتيجة أن أزور لبنان وأن ألقاكم وأن أصغي إليكم. يجب إذاً أن نتفق. فهذه المناظرة أو هذه الموقعة أو المعركة أو هذه الخصومة، إنما هي له أصلاً، لسبب في غاية البساطة، وهو أني فيما بيني وبين نفسي وفي كل ما كتبت وفي كل ما علقت وفي كل ما حاولت من عناية بالأدب لم أفهم عامة وخاصة بالقياس إلى الأدب، وإنما فهمت أدباً وفهمت قراء يقرأون هذا الأدب، فيرضون عنه أو يسخطون عليه، ثم لم أتجاوز هذا إلى شيء آخر مطلقاً. ولست من الذين تفتنهم هذه الآراء الكثيرة الخطيرة الحديثة، التي يشغل الأوروبيون بها أنفسهم منذ زمن والتي يشغلون بها أنفسم منذ كانت هذه النظريات السياسية التي غيرت نظم الحياة في هذا العصر الحديث. ولست من الذين يؤمنون بهذا كله أو يأبهون له أو يحفلون به، لأن الأدب قد وجد قبل أن توجد هذه النظريات، وهو قد أثر في حياة الأمم والشعوب، وقد أتاح لها أن تتطور، وأتاح لها ألواناً كثيرة من التأثر دون أن يفكر الذين أنشأوه في أنهم يكتبون للعامة أو للخاصة أو يفكروا في أنهم موجَّهون أو موجِّهون، كل هذه أشياء لم تكن تخطر للأدباء ببال عندما أنشأوا روائعهم منذ العصور القديمة على أوائل هذا العصر. فما الذي طرأ على الحياة الإنسانية وعلى الحياة العقلية بصفة خاصة؟ ولِمَ نقسم الشعب إلى نصفين، ولِمَ نلتمس الظهر في الساعة الرابعة عشرة كما يقول الفرنسيون لا شيء، إلا أن نظريات جديدة في السياسة قد دعت ألواناً من الساسة إلى أن يسيطروا على حياة الناس، وقد سيطروا عليها بالفعل، وكلكم يعرف السياسة إذا سيطرت فهي لا تستطيع أن تعيش ولا أن تمكن لنفسها إلا إذا كان لها دعاة يؤيدنها ويصدقون ويذيعون نظرياتها ويدعون لها في أعماق الشعوب. هؤلاء الساسة أرادوا إذن أن يؤثروا في الأدب، وأن يفرضوا عليه نظرياتهم السياسية، فكان الأدب الموجَّه وكان الأدب الموجِّه، وظهرت الكتابة للخاصة وظهرت الكتابة للعامة، وظهرت الكتابة التي يلتزم فيها الأديب وظهرت الكتابة التي لا يلتزم فيها الأديب شيئاً. كل هذه أشياء صنيع السياسية أيها السادة. ولم يصنعها شيء غير السياسة. وإذن فأذنوا لي في أن أكون حراً، وأذنوا لي في أن أكون بأوسع وأعمق معاني هذه الكلمة، واطمئنوا فلوا قد صارحتم أنكم لن تأذنوا لي بهذه الحرية، فسيكون ردي عليكم يسير جداً هو أني سأكون حراً سواء رضيتم أم لم ترضوا! ما طبيعة هذه المشكلة التي أثارها الأستاذ سهيل إدريس وخاض غمارها الأستاذ الصديق رئيف خوري؟ ما طبيعة المشكلة، وما عسى أن تكون في حقيقة الأمر. دعوا هذا العصر الحديث الذي نعيش فيه، ودعوا كل الظروف التي تحيط به وتؤثر في الأدباء وفي أدبهم آثاراً مختلفة، وانتقلوا إلى عصر بعيد كل البعد عن هذه الظروف التي نحن فيها الآن واختاروا أيّ أديب شئتم من أدباء العصور القديمة، ولنأخذ مثلاً أدباء التراجيديا عند اليونان. من الذي كان يوجّه هؤلاء الأدباء؟ أكانوا موجَّهين أم كانوا موجِّهين أم كانوا موجَّهين وموجِّهين ما دام الأستاذ رئيف يحب هذه الألفاظ. من الذي وجَّه كاتباً أو شاعراً كسوفوكل مثلاً؟ أتظنون أن الحزب الأرستقراطي أم الحزب الديمقراطي في أثينا اتفق مع سوفوكل على أن ينشيء قصة "أنطيغونا" وقصة "الكتر" أو ما شئتم من قصصه، على هذا النحو الذي أنشأها عليه؟ أتظنون أنه إنما أنشأ قصته على هذا النحو لأن هذا كان يدعو على هذا المذهب أو ذاك من المذاهب السياسية، ويلائم هذا الحزب أو ذاك من الأحزاب التي كانت تتنافس في أثينا؟ أما أنا، فمقتنع بأن سوفوكل لم يحفل عندما أنشأ أنطيغونا لا ببيركليس ولا بالذين سبقوا بيركليس ولا بالحزب الديمقراطي ولا بالحزب الأرستقراطي، وإنما وجد أمامه أسطورة قديمة رائعة تأثر بها اليونان حتى تناقلتها أجيالهم، ورأى أن النظام في أثينا، النظام الديني والنظام السياسي، يقضي أن يحتفل في كل عام بإلاه من آلهتهم هو أتينا في التراجيديا أو هو ديونيسوس في الكوميديا، وأن الشعراء يتفقون في إنشاء طائفة من القصص لتعرض على الجماهير في ملعب التمثيل، وأحسّ من نفسه اتجاهاً إلى هذا الفن وقدرة عليه، فمارس هذا الفن واستغل هذه الأسطورة القديمة وأنشأ قصته هذه، أو أنشأ قصصه الأربع التي مست حياة الأدب وما كان بعد محنة أوديب، دون أن يكون للسياسة ولا لأحد سلطانٌ على هذا الشاعر، لا في رأيه ولا في صيغته ولا في مضمونه، كما يحب الأستاذ رئيف أن يقول، ولا في موضوعه أو معناه كما نحب نحن القدماء أن نقول، لم يفكر أحد في أن يوجه سوفوكل على شيء ولم يفكر سوفوكل في أن يوجهه أحد على شيء، وإنما رأى أمامه أسطورة فاستغلها، استغلها على النحو الذي لاءم طبعه ومزاجه وتصرفه ولاءم المذاهب المألوفة في الفلسفة والحياة في العصر الذي كان يعيش فيه. وإذاً فقد استطاعت طائفة من القدماء في عصور مختلفة جداً، متباعدة في الأزمنة والأمكنة، متباينة في الظروف وفي المؤثرات المختلفة التي تؤثر، استطاعت هذه الطوائف أن تنتج ما أنتجت، دون أن تفكر في شيء من كل هذا الكلام الجميل الذي اسمعنا له منذ حين. لأن كل هذه المعاني لم تكن تخطر لأحد منهم ببال، أو لأن العصر لم يكن يسمح بأن تنشأ هذه المعاني ولا أن يدفع إليها الكتاب والشعراء. وتظنون أن أحداً وجه هوميروس أو وجه الذين أنشأوا الإلياذة أو أنشأوا الأوديسة؟ فما عسى أن يكون التوجيه الذي دفع به هؤلاء الناس على إنتاج ما أنتجوا، بل هل يخطر لكم أن هوميروس وأصحابه الذي أتموا بعده الألياذة أو الأوذيسة فكروا لحظة في الصورة والمضمون، أو في اللفظ والمعنى والأسلوب كما نقول، أو في أي ظاهرة من هذه الظواهر التي يكثر فيها قول النقاد منذ نشأ النقد ؟ أؤكد لكم أن شيئاً من هذا لم يخطر لأحدهم ببال وإنما دفعوا إلى إنتاجهم الأدبي، دفعتهم طبيعتهم أولاً ودفعتهم حياتهم وحياة الشعب الذي كانوا يعيشون فيها ثانياً، فصورا ما صورا من حياة شعوبهم، لم يوجههم أحد ولم يوجههم رأي، ولم تكن لهم نظرية ما لا في الأدب ولا في الجمال، ولا في شيء من هذا بحال من الأحوال. وشعراؤنا نحن وكتابنا نحن؟ وعصورنا القديمة، من الذي وجههم؟ وما هذه النظريات المعنية التي فرضت عليهم نفسها؟ أما في العصر الجاهلي فلا أعرف أن أحداً من الجاهليين كان يعرف نظرية ما في نقد أو في أدب أو في شيء من هذه الأشياء التي نتحدث عنها الآن. وفي العصور الإسلامية الأولى مضى شعراءنا مع طبيعتهم، فاندفع على السياسة الحزبية منهم من اندفع، واستقل عن سياسة الأحزاب وعُني بالفنون الخاصة منهم من آثر هذا الاستقلال، واستغل أصحاب السياسة هذا الشاعر أو ذلك، فأجازوه وشجعوه لأنه كان يدعو لهم ويروّج مبادئهم. هذا كله شيء طبيعي لا غبار عليه، ولكن الشيء الذي فيه شك أنه لم تكن هناك نظرية فنية تفرض على هذا الشاعر أو ذاك أن يفكر في أنه ينظم شعره للشعب، أو ينظم شعره لهؤلاء الخاصة الذين ابتكرهم الأستاذ سهيل إدريس والأستاذ رئيف خوري من حيث لا أدري. لم يخطر لأحد من هؤلاء الشعراء أن يفكر في عامة أو خاصة وإنما فكر في فنه وفكر في الغرض الذي قال فيه الشعر لم يزد عل هذا إلا أنه أجاد وأتقن بمقدار ما أتيح له الإجادة وأتيح له الإتقان. شاعر كعبيد الله بن قيس الرقيات كان قريشياً، مؤمناً بقريش كارهاً لكل سلطان يعتمد على قوة غير قوة قريش يبغض الأمويين لأنهم اعتمدوا على اليمن في تقوية سلطانهم، ولا يحب العلويين لأنهم اعتمدوا على الموالي في تقوية مذهبهم والدعوى له في شرق الدولة الإسلامية. كان قرشياً كهذه الأرستقراطية القرشية التي عاشت في العصر الجاهلي، وعرفت كيف تستغل الظروف الجديدة بعد أن ظهر الإسلام وأتيح له الانتصار والتفوق من أجل هذا يدافع عن سياسة عبد الله بن الزبير الذي يريد أن يكون سلطانه قرشياً صرفاً لا يحب أن يعتمد على اليمن ولا على الموالي، وإنما يحب أن يعتمد على قريش وعلى قريشٍ وحدها. من الذي كان يوجهه؟ ما عسى أن تكون النظرية التي تأثر بها؟ الشيء المحقق أن ابن الرقيات لم يكن يتأثر إلا بحبه لمصعب بن الزبير وبإيمانه بقريش وحرصه على سيادة قريش، وبغزله في أولئك الرقيات اللاتي هام بهن وسمي باسمهن. وخذوا من أحببتم من شعرائنا القدماء أكانوا مدّاحين أم كانوا هجائين أم كانوا سياسيين، فلن تجدوا أنهم فكروا في عامةٍ أو فكروا في خاصة، ولكن المشكلة الحقيقية ليست هذه. هم لم يفكروا في شيء من هذا ولكنهم أنشأوا شعرهم لمن؟ لم يفكروا هم فلنفكر نحن مكانهم. لمن أنشأ الشعراء شعرهم؟ أترونهم أنشأوا هذا الشعر لهؤلاء الذين كانوا يمدحونهم أو يهجونهم؟ أترونهم أنشأوا الشعر السياسي لقادتهم السياسيين؟ أما أنا فأعتقد أنهم لم يفكروا في أن ينشئوا شعرهم لهؤلاء، وإنما الشعر وُجّه قبل كل شيء إلى القادرين على فهمه وذوقه والتأثر به من الذين سيسمعونه حين ينشد أو يقرأونه حين يذاع مكتوباً. هناك أشياء قوامها الخطأ أيها السادة، ومعذرةً إليكم من هذا العنف في الحديث. هناك الخطأ في فهم التاريخ الأدبي والتاريخ الأدبي الغربي بنوع خاص. لست أدري أعندكم الآن هذه المشكلة التي يشقى بها كثيرٌ من الكتاب ومن الأدباء في مصر، وهذا السخط على المدح وعلى المادحين والممدوحين وإعلان أن شعر المدح إنما كان يصور مهنة الشاعر ويصور أنه كان يبيع شعره ويبيع خلقه ويبيع نفسه، إلى آخر هذا الكلام الكثير الذي يقال لا منذ كانت الثورة الأخيرة في مصر، بل منذ كان العصر المصري الحديث منذ أوائل هذا القرن. أؤكد لكم أن هذا كله ليس في حقيقة الأمر إلا عبثاً من العبث، وكلاماً لا يقدم أصحابه ولا يأخر، فليس من شكٍ في أن شعراءنا قد مدحوا، وغلوا في المدح إذ قالوا شعرهم، ولكن ليس من شك أيضاً في أننا حين ما ندرس حال هؤلاء الشعراء الذين كانوا يبيعون المدح ويأخذون ثمنه من الأمراء والخلفاء، وندرس حال أولئك الذين يغرون بهذا المدح ويعطون الجوائز السنية في سبيل هذا المدح ونسأل أنفسنا: أي الفريقين كان أدنى إلى الغفل، وأقرب إلى الحماقة، وأي الفريقين كان مغفلاً بالمعنى الصحيح؟ فالجواب أن الملوك والخلفاء والأمراء هم الذين كانوا أغفالاً مغفلين، وإن هؤلاء الشعراء كانوا يعبثون بهم ويسخرون منهم فيما بينهم وبين أنفسهم ثم يغدقون عليهم فيقولون لهم كاملاً لا يصدقه إلا المحمقون الأغرار، والمدهش أن هؤلاء الخلفاء يصدقون هذا الكلام، ويؤدون عليه لهم أثماناً ضخمة. عندما يقول الشاعر لهارون الرشيد: وأخفت أهل الشرك حتى أنه لتخافك النطف التي لم تخلق فيرضى الرشيد عن هذا الكلام، ويهتز له أريحيةً وطرباً ويجيز الشاعر أعظم جائزة وأسناها، أي الرجلين كان محمّقاً. ليس هو الشاعر من غير شك، فالشاعر لم يكن من الحمق بحيث يظن أن الرشيد يستطيع أن يخيف النطف التي لم تخلق، وإنما هو الرشيد الذي غرّه الغرور واطمأن إلى قوته، وظنه أنه حقيقة يخيف النطف التي لم تخلق. وعندما يقول له شاعر آخر: وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان: ضوء الصبح والإظلام فـإذا تنبـه رعتـه وإذا غــفــا سلّت عـليه سيوفـك الإحلام فيطمئن على هذا ويجيز الشاعر. ليس الشاعر هو الغفل، والمغفل هو الذي ترك نفسه ينخدع بهذا الكلام. ولم يتمثل في أحد كما تمثل في أبي الطيب المتنبي الذي لم يسخر أحد بممدوحيه كما سخر هو بالكثرة الكثيرة من ممدوحيه، فقد كان يحتقر ممدوحيه كافة، لا أستثني إلا سيف الدولة. كان يغلو في مدح بعضهم حتى يجعله مستقراً لروح من الله ويغلو في مدح بعضهم حتى ليشبه بموسى وعيسى ومن غيرهم من الأنبياء، وهو يحتقرهم أشد الاحتقار فيما بينه وبين نفسه، فأي الفريقين كان ينزل للآخرين عن كرامته؟. أما أنا فأعتقد أن الممدوحين هم الذين خسروا في هذه القضية، وأن الشعراء لم يخسروا فيها شيئاً. وأغرب من هذا، وهو الذي يتصل بالخصومة التي أثيرت لا أدري لماذا، أغرب من هذا أن هؤلاء الشعراء عندما كانوا يمدحون وعندما كانوا يهجون، أكانوا حقاً يفكرون فيمن يمدحون ويهجون فحسب، ولا يفكرون في شيء آخر، أم كانوا يفكرون في أن ينشئوا شعراً يروع كل من سمعه وكل من قرأه، فهم قبل كل شي، قبل أن يفكروا في الممدوحين وفي المهجوين وفي الساسة، إنما يفكرون في الشعب، ويفكرون في هذه الكثرة من الناس الذين سيقرأون هذه القصيدة أو سيتناشدونها فيما بينهم. أما أنا فـأؤمن أيها السادة بأن المادحين لم يفكروا بممدوحيهم بمقدار ما فكروا في سامعيهم وقرائهم. وليس أدل على ذلك من أن هؤلاء المادحين قد انقرضوا وانقضى الذين مدحوهم ولا نزال نقرأ شعرهم إلى الآن فنجد في قراءته لذة ومتعة ونحس الروعة كل الروعة بالقياس على فريق منهم. لقد مات المعتصم ومات أبو تمام ومات الذين سمعوا أبا تمام عندما أنشأ بائيته في قصة عمورية، ولكننا نقرأ هذه القصيدة الآن فنجد لها الروعة وربما كان فقهنا بهذه القصيدة خيراً من فقه الذين عاصروا أبا تمام. إذن فليس هناك شيء جديد عندما يقال: يجب أن يكتب الأديب للعامة دون الكافة وعندما يقال بل يجب أن يكتب الأديب للخاصة. لا جديد في هذه النظرية مطلقاً. لا أعرف أديباً كتب أو شاعراً نظم شعراً وهو يفكر في طائفة بعينها، لا يفكر إلا فيها. وإنما الذي أعرفه أن الأديب يفرض الموضوع نفسه عليه أولاً، ويلحّ عليه بعد ذلك إلحاحاً شديداً حتى لا يرى بداً من أن يخرجه إلى غيره، فينظمه شعراً أو يصنعه نثراً، ثم يذيعه بين الناس على الطريق البسيطة التي كانت معروفة قبل أن تنشأ المطبعة، قبل أن يذيعه على الناس بالطريقة الحديثة التي عرفت بعد وجود المطبعة وبعد تنظيم النشر. فهو إذن لا يكتب لنفسه، وما أكثر ما يخدع الأدباء أنفسهم فيقولون أنهم يكتبون لأنفسهم. كلام فارغ: لا يكتب الأديب لنفسه ولو قد أراد الأديب أن لا يكتب إلا لنفسه، لما احتاج إلى الكتابة، ولاكتفى بمداعبة خواطره وآرائه حين تجول في نفسه وتضطرب بها عواطفه، فهو ليس في حاجة على أن يقرأها مكتوبة، وحسبه أن ينعم بها، ولكنه حين يخرجها من نفسه وحين يلقيها على القرطاس يثبت أنه لا يكتب لنفسه وإنما يكتب لها ويكتب لغيرها وهو لا يكتب إلا أنه يفكر في غيره، وهو لا يكتب للعامة ولا يفكر في العامة، وإنما يكتب لغيره، يكتب لكل من يتاح له أن يقرأ، ويكتب لكل من يتاح له أن يفهم ويكتب لكل من يتاح لهم الفهم والذوق هم من يسميهم الأستاذ رئيف ولا أسميهم أنا شيئاً لأني لا أعرفهم إذا كان هؤلاء هم الخاصة فالأديب يكتب للخاصة، وإذا كان هؤلاء الذين سيتاح لهم أن يقرأوا ويفهموا ويذوقوا هم العامة أو هم الشعب كله، فالأديب يكتب للعامة أو يكتب للشعب كله، وكل أديب حريص أشد الحرص على أن يقرأ ويفهمه ويتذوقه أضخم عدد ممكن من الناس، فمن زعم لكم غير هذا فثقوا بأنه خادع أو مخدوع. فالأديب بطبعه طموح، وهو بطبعه مغرور، وهو بطبعه حريص على أن يبلغ قلوب الناس جميعاً ونفوسهم جميعاً إن أتيح له ذلك، فمن قال لكم إنه لا يكتب إلا الطائفة بعينها من الناس فثقوا بأنه إنما يريد أن يقول بأنه يائس، وعالم وواثق كل الثقة بأنه لن يفهمه ولن يذوقه إلا عدد محدود من الناس. أيها السادة، لست أدري أناقشت الأستاذ رئيف الخوري في كل ما عرض علينا أم لم أناقشه، بل يخيل إلي أني لم أناقشه مطلقاً، لسبب بسيط هو أني لم أؤمن قط بهذه المناقشة فكل ما أحرص على أن أقوله للأستاذ الصديق وعلى أن أقوله لحضراتكم، وقد قلته دائماً ويظهر أني لن أمل قوله، هو أننا نستطيع أن نتفق على كلمة سواء، إذا كان الذين يفهمون الأدب ويقرأونه ويذوقونه ويستمتعون به قله، فلهذه القلة يكتب الأديب وإذا كانوا كثرة فلهذه الكثرة يكتب الأديب. والغريب أن من الأدباء من يكتب في أول أمره لقلة قليلة جداً، ولكن مرّ الزمن ورقي الحياة وانتشار الثقافة ويقظة الشعب، ومشاركته في الثقافة، كل هذا يتيح للأديب الذي كتب لفئة قليلة أن يكون قد كتب لفئة كثيرة لا تحصى كثرتها. فالذين يقرأون الآن شعر القدماء أكثر جداً من الذين قرأوهم في أيامهم، لأن العصر الذي عاش فيه شعراؤنا القدماء والعصر الذي عاش فيه القدماء من اليونان والرومان والعصر الذي عاش فيه دانتي، ما دام الأستاذ قد ذكر دانتي، والعصر الذي عاش فيه كورنيل وراسين وموليير وفولتير وكل هؤلاء، في هذه العصور كان الذين يقرأون قلة قليلة، وكان هؤلاء الشعراء وهؤلاء الكتاب ينشئون أدبهم لهذه القلة القليلة، ولكن الدنيا تغيرت وأصبح التعليم فرضاً على الشعب كله، وأصبحت الشعوب كلها آخذة في أن تقرأ وتكتب وتتثقف، وإذا الذين يقرأون دانتي والذين يقرأون سوفوكل لا يقاس إليهم بأي حال من الأحوال من قرأوا هذين الشاعرين حين كتب ما كتب من آثارهم الراقية. وإذن فقد يكتب الأديب للخاصة أو للقلة القليلة ثم يتاح لأدبه أن تقرأه الكثرة التي لا سبيل إلى إحصائها. هوميروس أنشأ شعره لليونان، ولكن من الذين يقرأون شعر هوميروس الآن؟ أهم اليونان وحدهم؟ أم الإنسانية كلها؟ وكذلك سوفوكل، وكذلك كل الشعراء البارعين وكل الكتاب الممتازين، كل هؤلاء العبقريين في الفن أنشأوا فنونهم لطائفة بعينها ولنقل أنشأوها لشعوبهم، لكنها أصبحت إنسانية عالمية. فليس هناك إذن خاصة ولا كافة ولا قلة ولا كثرة وإنما هناك الحظ وهناك الظروف وهناك كل هذه الأشياء التي تتيح للأدباء أن يكتبوا وأن تقرأهم قلة أو يكتبوا ثم تقرأهم كثرة كثيرة لا حد لها. أتظنون أن الذين يقرأون أبا العلا المعري في هذه الأيام يمكن أن يقاس إليهم من قرأ المعري في أيامه؟ مطلقاً. لا، ولم يكن يخطر مطلقاً لأبي العلاء أن العالم العربي كله سيقرأه وسيقرأه منه من تخصص في الأدب ومن لم يتخصص وسيقرأه كل من يتاح له أن يقرأ وكل من يستطيع أن يفهم ويذوق، وإذن فالموضوع في نفسه ليس دقيقاً، ليس هناك خاصة، وليس هناك عامة، وإنما هناك أدب يجب أن ينشأ ويجب أن ينشأ كأروع ما يكون الأدب وفي أجمل صورة ممكنة وفي أحسن موضوع ممكن ثم يكتب، ولتقرأه الخاصة ولتقرأه العامة وليقرأه من يشاء فهو لم يكتب لهؤلاء أو لهؤلاء وإنما كتب ليقرأ، وليقرأه كل من يستطيع أن يقرأه أو يفهمه أو يذوقه. ولست مطمئناً إلى هذه المذاهب في الأدب. أن يكون الأدب إشتراكياً، أو أن يكون الأدب شيوعياً، أو أن يكون الأدب ديمقراطياً، كل هذا أرجو أن تعذروني إذا قلت لكم أني لا أفهمه ولا أسيغه ولا أحب للأدب أن يفرض عليه مذهب من المذاهب أو خطة من الخطط وإنما الأديب يفرض لنفسه وعلى نفسه طبعه ومزاجه وخطته، والحرية الواسعة المطلقة يجب أن تكون هي القانون وهي الصلة بين الأديب وبين الذين يقرأونه. وقد قلت دائماً وسأقول دائماً إني أكتب كما أشاء، ولا أسمح لقارئ مهما يكن أن يجادلني فيما أكتب أو في الطريقة التي أكتب عليها، ولا أن يفرض عليّ رأياً من الآراء أو مذهباً أو خطة، وإنما الذي هو حق للقارئ هو أن يقرأ إن شاء وأن لا يقرأ إن شاء، فإذا قرأ فمن حقه أن يغضب ومن حقه أن يسخط ومن حقه إن شاء أن يمزق الكتاب تمزيقاً، كل هذا لا يعنيني. وكم أحب أن يجيبني إخواننا الذين يحبون الأدب الموجه، أتراهم يقرأون الآداب القديمة، أتراهم يذوقون هذه الآداب؟ الذي أعرفه أنهم يقرأون قراءة ملحة وأنهم يقدرونها حق قدرها وأنهم يحرصون عليها أشد الحرص، يجاهرون بذلك أن يستخفون به لا أدري ولكن المهم هو أن الذين يحبون الأدب الموجه الذي توجهه النظرية السياسية أو توجهه الشعوب لا أدري، مع حبهم لهذا الأدب الموجه ومع حرصهم على أن يكونوا موجهين أي مع حرصهم على أن يكونوا على أن ينزلوا عن بعض حقهم في الحرية والاستقلال مع هذا كله هم يقرأون مونتاني ويقرأون شكسبير ويقرأون كورنيل وراسين وموليير ويقرأون القدماء من العرب ومن اليونان ومن الرومان وقد يقرأون من الآثار الهندية القديمة ويجدون في هذا كله روعة أي روعة مع أنهم يعرفون أن هذا الأدب القديم لم يكن موجهاً بالمعنى الذي يفهمونه هم وبالمعنى الذي يريدونه هم الآن. ألستم ترون في هذا تناقضاً قوياً جداً بين ما يريد هؤلاء السادة وبين حقائق نفوسهم، هم فيما بينهم وبين نفوسهم يستمتعون بالأدب غير الموجه، فإذا أرادوا أن ينشئوا أدباً أبوا إلا أن يكونوا موجَّهين وأبوا إلا أن يقيدوا أنفسهم. كيف تسمون هذا وكيف يسمون هم هذا؟ أما فأسميه التناقض من ناحية وأسميه التفريط في حرية الأديب من ناحية أخرى. ومهما يكن فلنقل الحق ولنقله صراحة لا نتردد ولا نشفق ولا نخاف، أتريدون أن تعرفوا هذا الحق؟ هو بسيط جداً: الأدب الموجه هو الأدب الذي يراد به أن يكن أدب الدعوة، ويراد به أن يسوق الشعوب إلى ما يريده بها هذا الحزب أو ذاك ليكن اشتراكياً أم شيوعياً أم ديمقراطياً. ولا أحب أن أخدع نفسي مطلقاً ولا أحب أن يخدع أحد نفسه، إني لا أحب أن أتملق الشعب لأخضعه لما لا ينبغي أن يخضع له، إني لا أريد أن أقول أني أكتب من الشعب وأكتب للشعب وأكتب بالشعب وأستقي وأشتق ما أكتبه من الشعب ليسمع الشعب هذا الكلام وليقرأه وليندس له هذا المذهب أو ذاك، فأنا أخدع الشعب عن نفسه وأنا أسخر الشعب لما لا أحب أن تسخر له الشعوب، والأمر أيسر من هذا. أما أن الأديب موجه بطبعه وبفطرته توجهه طبيعته هو ومزاجه هو وطبعه هو ويتعرض من أجل ذلك للسخط ويتعرض للأذى ويتعرض للعذاب والنكال، فهذا حقه وهذه طبيعته في الحياة وهذه طبيعة الأدب الذي يستحق أن يكون أدباً. وأما أن يأتي التوجيه من غيره كائناً ما يكون غيره، ليكن فرداً، ليكن حزباً، لتكن حكومة، لتكن جماعة، فهذه لا صلة بينه وبين الأدب ولا يمكن لهذا التوجيه الذي يأتي من الخارج أن يتيح أدباً صريحاً بريئاً من المصانعة والمداجاة. ولنكن صريحين مرة أخرى: ما تحبون للأديب؟ أتحبون للأديب أن يكون خادعاً وأن يكون مخدوعاً؟ وإذن فليكن الأديب موجَّهاً ولتكن سيرة الأديب مع الذين يوجهونه كسيرة أبي تمام والمتنبي مع الذين كانوا يعبثون بعقولهم من الممدوحين، أم تريدون أن يكون الأديب صريحاً مؤثراً للحق والخير إن أراد؟ وإذاً فخلوا بين الأديب وبين حريته وخلوا يبن القراء وبين حريتهم. وأؤكد لكم أني من أكثر الناس قراءة للأدب الموجه، الموجه على اختلاف التوجيهات التي تصب على الأدب صباً في هذه الأيام. لا تصدقوا أني لا أقرأ أدباً شيوعياً فأنا أقرأه وأكثر من قراءته، وأقرأ أدباً اشتراكياً وأكثر من قراءته، وقرأت آداباً متأثرة بالفاشية، ولكن اسمحوا لي أن أقول إني قلماً أحسست الصدق في هذه الآداب الموجهة، وأكثر مما تأخذني الرحمة والشفقة لكتاب بارعين متميزين قادرين حقاً على أن يبدعوا أو ينتجوا ولكن الظروف أرادت أن يكونوا موجَّهين فأضاعت من قيمة ما يكتبون كثيراً وأضاعت منها كثيراً جداً. خذوا قصة البرج العاجي هؤلاء الذين يكتبون فيما لا يرضي الشعب أو فيما لا يصور حاجة الشعب. ما هذا الكلام؟ أولاً ما هي حاجة الشعب؟ ما عسى أن تكون حاجة الشعب، ومن الذي يستطيع أن يحقق ويحدد حاجة الشعب في وقت من الأوقات؟ أيحتاج الشعب إلى أن يأكل بعد جوع، ويكتسي بعد عري؟ ويروي بعد ظمأ، ويقضي كل هذه الحاجات المادية التي فقد فيها النظام الاجتماعي وقسمت ثمرات الأرض على أساس ليس للعدل فيه نصيب؛ فإذا أتيح للشعب أن يظفر بهذا كله وإذا لم يتح للشعب أن يظفر بهذا كله؟ أتظنون أنه لا يحتاج إلا هذه الحاجات المادية؟ أليس للشعب عقل وذوق وقلب وعواطف؟ ما الذي يصنعه غزل الغزليين في إطعام الجائعين إذا قرأ الجائع شعراً كثيراً وشعراً جميلاً أو شعر من شئتم من شعراء الغزل لم يجد ما يدفع عنه الجوع في قراءة هذا الشعر. أواثقون أنتم بأنه ليس محتاجاً لقراءة هذا الشعر؟ أما أنا فمطمئن إلى أنه محتاج أشد الحاجة على قراءة هذا الشعر. وأن الشعب بطبعه أرشد من أن يخلط بين الأشياء التي لا سبيل إلى أن يخلط بينها، فيهو يفرق بين ما ينفع جسمه وبين ما ينفع عقله وهو حريص حين يتاح له حظ من ثقافة أن يرضي روحه كما أنه حريص على أن يرضي جسمه. ولم لا نذكر حقائق التاريخ؟ أتظنون أن هؤلاء الشعراء الذين تغزلوا في القرن الأول الهجري كانوا يتغزلون لأنهم كانوا عشاقاً يهيمون بليلى وعبلة وغيرها من هؤلاء السيدات؟ أما أنا فأؤكد أن هؤلاء الشعراء إنما كانوا يستعينون بغزلاهم على احتمال الحرمان ويتعزون عن آمال بعيدة لم يتح لهم أن يحققوها، وكانوا ربما أرضوا أرواحهم بعد أن حيل بينهم وبين أن يرضوا أجسامهم كما ينبغي. فلنكن إذاً مقتصدين ولنعترف بأن الشعب ليس طعاماً وشراباً ولباساً فحسب. إن من الإجرام أن يتعرض الشعب للجوع، للبأساء أو يتعرض لشقاء ما دامت الأرض تعطي ثمراتها وما دام الجهد الإنساني يستطيع أن ينتج من الخبز ما يسع الناس جميعاً، من الإجرام مع ذلك أن يجوع جائع وأنا أعتقد كما كان يقول بعض المعاصرين، أعتقد أن جوع فرد واحد في وطن من الأوطان يخل التوازن في هذا الوطن، ولكن هذا كله شيء، وقصر الأدب وقصر تفكير الأديب وقصر اتجاه الأديب على هذا النوع من الحياة شيء آخر. أو ما أكثر ما يقرأ الإنسان المثقف ثقافة أديب من هؤلاء الأدباء الذين اعتصموا ببرجهم العاجي في بعض الأحيان وكتبوا كلاماً لا يمس إلا أنفسهم ما أكثر ما نقرأ هذا الكلام فنجد فيه أحياناً كثيراً من الرضى وكثيراً من المتعة وكثيراً من اللذة. لماذا؟ لأننا نحب المثل العليا ونحب الجمال من حيث هو جمال ولسنا محتاجين دائماً إلى أن نتخذ كل شيء وسيلة وأن نجعل كل شيء غاية. إنما نتخذ الأدب غاية في نفسه. ليس من الضروري أن نسخر الأدب لهذا الغرض أو ذاك، وليس من الضروري أن نسخر الفن نفسه لهذا الغرض أو ذلك. إن الفن ينفعنا في حياتنا المادية سواء أردناه على ذلك أم لم نرد، إنه يبتكر لنا من النظريات ومن القوانين ما يتيح للتطبيقييق أن يخترعوا ما يخترعوا من الأدوات ولكن اسمحوا لبعض العلماء أن يحبوا العلم لا لشيء إلا لأن فيه رضى لنفوسهم ويحبون العلم لأنه معرفة المعرفة فحسب، يرضون بالمعرفة مهما تكن نتائجها، سواءً أكانت نتائجها اختراع كل هذه الآلات وترقية العالم من الناحية المادية على حيث ترون أم لم تكن. اسمحوا لعالم يعيش في معمل أن يرضى ويجتهد بنتائج التجارب التي يجريها وأن يترك لغيره استغلال هذه التجارب، استغلالها في الاختراعات والاستكشافات إلى آخر هذه الحياة المادية التي تعرفونها. كذلك الأديب، دعوه ينتج، ودعوه ينتج كما يريد طبعه أن ينتج، وكما تريد له الحياة التي يحياها أن ينتج، ثم خذوا إنتاجه واصنعوا به ما تريدون. أسيغوه إن أعجبكم واتركوه إن لم يعجبكم ولكن دعوه ينتج لأنه أديب واذكروا أن أبا العلاء المعري رحمه الله كان يسخر من الذين كانوا يظنون أن النحلة مسخرة للإنسان تصنع له العسل ليستمتع به بل كان يقول إن النحل لم تنشأ عسلها لتستمتع به أنت وإنما أنشت عسلها لنفسها. لا ينبغي إذاً أن ننظر للأديب على أنه مسخر نوجهه لهذه الغاية أو تلك بل ينبغي أن ننظر للأديب على أنه عنصر حي ينتج ما يستطيع وننتفع نحن بما ينتج لا أكثر ولا أقل. ولا تسألوني بعد ذلك، أينا انتصر وأينا لم ينتصر فإذا كان الخاصة هم الذين يستطيعون أن يقرأوا الأدب وأن يفهموه وأن يذوقوه وأن يستمتعوا به فأنا المنتصر، بشرط أن تفهموا جيداً أن هذه الخاصة تختلف باختلاف العصور وباختلاف الظروف وقد يأتي وقت يصبح الشعب كله من هذه الخاصة لأنه تعلم. وإذا كانت الخاصة طائفة بعينها من الناس لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير وإنما هي طائفة محدودة بعينها فطبعاً ينتصر الأستاذ رئيف وأصبح أنا من السخف بحيث استحيي من الوقوف بين أيديكم. وإذاً فلنتفق ونتفق قبل كل شيء على أن نحتاط من مثل هذه الألفاظ: الخاصة والعامة والشعب والتوجيه وما إلى ذلك ولنحذر إلى أن ينتهي بنا هذا كله إلى إفساد الأدب وإخراجه عن طوره. وقد أحتاط الأستاذ رئيف ويسرني ويسعدني أن أعترف له بهذا الاحتياط، فهوا لم يرد أن ينزل الأدب إلى العامة، ولا أن يتجاوز الأدب عن جماله ومثله العليا في الروعة والجمال، فإذن لقد اتفقنا سواء أراد هو أم لم يرد. اتفقنا لسبب بسيط ما دام الأديب لا يضحي بالروعة الفنية لا في الموضوع أو المضمون كما يحب أن يقول ما دمنا متفقين. وأشهدكم على أنه قد سجل هذا ما دمنا متفقين على أن الأديب لا ينبغي أن يضحي بفنه في سبيل قرائه فلن يكتب الأديب إلا للخاصة. ولكن مثل هذا الكلام عندما يذاع في هذه الأيام وتنشره الصحف ويقرأه القادرون على فهمه والعاجزون عن هذا الفهم قد يترك آثاراً خطيرة حقاً، يترك آثاراً خطيرة لأن كثيراً من الناس يستقر في نفوسهم أن الأدب يجب أن يكون مكتوباً بحيث يستطيع كل إنسان أن يفهمه، وبحيث يستطيع أي إنسان أن يذوقه. وإذاً فلا معنى للكتابة بهذه اللغة العربية الفصحى لأن الشعب لا يفهم اللغة العربية إلا إذا بسطت أشد تبسيط وخولف فيها عن قواعد اللغة ودفع بها إلى العامية التي يرتبط بها لسانه في اختلاف الأقاليم. الشعب إذاً أو كثيراً من الذين يسمعون كثيراً من هذه النظريات يظنون أن الأدب يجب أن ينزل ليفهم الناس جميعاً. أما أنا فأعتقد وأظن أن الأستاذ رئيف يعتقد معي أيضاً أن الأدب يجب أن لا ينزل وإنما الوظيفة الأولى، العمل الأول، المنصب الأساسي لكل أدب ولكل علم ولكل معرفة إنما هو أن يرفع الناس إليه لا أن يهبط هو إلى الناس. ومهما يكن من شيء فإني أعتذر إلى حضراتكم أولاً من هذه الإطالة دون أن أستوفي الموضوع حقه وأعتذر إلى الأستاذ رئيف فقد أكون قسوت بعض القسوة أو تجاوزت بعض ما ينبغي معه من العناية لكني أؤكد له أني أقدره وأقدر آراءه وأقدرها سواء وافقت عليها كلها أم لم أوافق إلا على بعضها. الآدآب، س3، ع 5، بيروت، نوار (مايو) 1955.
سيداتي سادتي يجب أن أقول لكم الحق قبل أن آخذ معكم في هذا الحديث، فأنا لم ألتزم الدفاع عن الخاصة ولا عن العامّة، وأنا لم ألتزم موضوعاً ما، فكل الذي كان، وكل الذي أعرفه هو أني تلقيت دعوة كريمة من جمعية المقاصد الإسلامية أمضاها الأستاذ الصديق سهيل أدريس، وعرض فيها أن ستكون مناقشة حول الكتابة للخاصة أو الكتابة للعامة، وطلب إليّ أو ذكر أني سأتحدث عن الكتابة للخاصة إن أردت. وهنا يجب أن أقول الحق مرة أخرى، وهو أن شوقي إلى لقائكم وشوقي إلى تحية لبنان في وطن لبنان، بعد كل الذي أسداه إليّ لبنان من الخير، وأسداه إلي من المعروف، أقول إن شوقي على لقاء لبنان ألقى في روعي أن أجيب الأستاذ سهيل إدريس بأني موافق على كل ما يريد ما دامت النتيجة أن أزور لبنان وأن ألقاكم وأن أصغي إليكم.
يجب إذاً أن نتفق. فهذه المناظرة أو هذه الموقعة أو المعركة أو هذه الخصومة، إنما هي له أصلاً، لسبب في غاية البساطة، وهو أني فيما بيني وبين نفسي وفي كل ما كتبت وفي كل ما علقت وفي كل ما حاولت من عناية بالأدب لم أفهم عامة وخاصة بالقياس إلى الأدب، وإنما فهمت أدباً وفهمت قراء يقرأون هذا الأدب، فيرضون عنه أو يسخطون عليه، ثم لم أتجاوز هذا إلى شيء آخر مطلقاً. ولست من الذين تفتنهم هذه الآراء الكثيرة الخطيرة الحديثة، التي يشغل الأوروبيون بها أنفسهم منذ زمن والتي يشغلون بها أنفسم منذ كانت هذه النظريات السياسية التي غيرت نظم الحياة في هذا العصر الحديث. ولست من الذين يؤمنون بهذا كله أو يأبهون له أو يحفلون به، لأن الأدب قد وجد قبل أن توجد هذه النظريات، وهو قد أثر في حياة الأمم والشعوب، وقد أتاح لها أن تتطور، وأتاح لها ألواناً كثيرة من التأثر دون أن يفكر الذين أنشأوه في أنهم يكتبون للعامة أو للخاصة أو يفكروا في أنهم موجَّهون أو موجِّهون، كل هذه أشياء لم تكن تخطر للأدباء ببال عندما أنشأوا روائعهم منذ العصور القديمة على أوائل هذا العصر. فما الذي طرأ على الحياة الإنسانية وعلى الحياة العقلية بصفة خاصة؟ ولِمَ نقسم الشعب إلى نصفين، ولِمَ نلتمس الظهر في الساعة الرابعة عشرة كما يقول الفرنسيون لا شيء، إلا أن نظريات جديدة في السياسة قد دعت ألواناً من الساسة إلى أن يسيطروا على حياة الناس، وقد سيطروا عليها بالفعل، وكلكم يعرف السياسة إذا سيطرت فهي لا تستطيع أن تعيش ولا أن تمكن لنفسها إلا إذا كان لها دعاة يؤيدنها ويصدقون ويذيعون نظرياتها ويدعون لها في أعماق الشعوب. هؤلاء الساسة أرادوا إذن أن يؤثروا في الأدب، وأن يفرضوا عليه نظرياتهم السياسية، فكان الأدب الموجَّه وكان الأدب الموجِّه، وظهرت الكتابة للخاصة وظهرت الكتابة للعامة، وظهرت الكتابة التي يلتزم فيها الأديب وظهرت الكتابة التي لا يلتزم فيها الأديب شيئاً. كل هذه أشياء صنيع السياسية أيها السادة. ولم يصنعها شيء غير السياسة. وإذن فأذنوا لي في أن أكون حراً، وأذنوا لي في أن أكون بأوسع وأعمق معاني هذه الكلمة، واطمئنوا فلوا قد صارحتم أنكم لن تأذنوا لي بهذه الحرية، فسيكون ردي عليكم يسير جداً هو أني سأكون حراً سواء رضيتم أم لم ترضوا!
ما طبيعة هذه المشكلة التي أثارها الأستاذ سهيل إدريس وخاض غمارها الأستاذ الصديق رئيف خوري؟ ما طبيعة المشكلة، وما عسى أن تكون في حقيقة الأمر. دعوا هذا العصر الحديث الذي نعيش فيه، ودعوا كل الظروف التي تحيط به وتؤثر في الأدباء وفي أدبهم آثاراً مختلفة، وانتقلوا إلى عصر بعيد كل البعد عن هذه الظروف التي نحن فيها الآن واختاروا أيّ أديب شئتم من أدباء العصور القديمة، ولنأخذ مثلاً أدباء التراجيديا عند اليونان. من الذي كان يوجّه هؤلاء الأدباء؟ أكانوا موجَّهين أم كانوا موجِّهين أم كانوا موجَّهين وموجِّهين ما دام الأستاذ رئيف يحب هذه الألفاظ. من الذي وجَّه كاتباً أو شاعراً كسوفوكل مثلاً؟ أتظنون أن الحزب الأرستقراطي أم الحزب الديمقراطي في أثينا اتفق مع سوفوكل على أن ينشيء قصة "أنطيغونا" وقصة "الكتر" أو ما شئتم من قصصه، على هذا النحو الذي أنشأها عليه؟ أتظنون أنه إنما أنشأ قصته على هذا النحو لأن هذا كان يدعو على هذا المذهب أو ذاك من المذاهب السياسية، ويلائم هذا الحزب أو ذاك من الأحزاب التي كانت تتنافس في أثينا؟
أما أنا، فمقتنع بأن سوفوكل لم يحفل عندما أنشأ أنطيغونا لا ببيركليس ولا بالذين سبقوا بيركليس ولا بالحزب الديمقراطي ولا بالحزب الأرستقراطي، وإنما وجد أمامه أسطورة قديمة رائعة تأثر بها اليونان حتى تناقلتها أجيالهم، ورأى أن النظام في أثينا، النظام الديني والنظام السياسي، يقضي أن يحتفل في كل عام بإلاه من آلهتهم هو أتينا في التراجيديا أو هو ديونيسوس في الكوميديا، وأن الشعراء يتفقون في إنشاء طائفة من القصص لتعرض على الجماهير في ملعب التمثيل، وأحسّ من نفسه اتجاهاً إلى هذا الفن وقدرة عليه، فمارس هذا الفن واستغل هذه الأسطورة القديمة وأنشأ قصته هذه، أو أنشأ قصصه الأربع التي مست حياة الأدب وما كان بعد محنة أوديب، دون أن يكون للسياسة ولا لأحد سلطانٌ على هذا الشاعر، لا في رأيه ولا في صيغته ولا في مضمونه، كما يحب الأستاذ رئيف أن يقول، ولا في موضوعه أو معناه كما نحب نحن القدماء أن نقول، لم يفكر أحد في أن يوجه سوفوكل على شيء ولم يفكر سوفوكل في أن يوجهه أحد على شيء، وإنما رأى أمامه أسطورة فاستغلها، استغلها على النحو الذي لاءم طبعه ومزاجه وتصرفه ولاءم المذاهب المألوفة في الفلسفة والحياة في العصر الذي كان يعيش فيه.
وإذاً فقد استطاعت طائفة من القدماء في عصور مختلفة جداً، متباعدة في الأزمنة والأمكنة، متباينة في الظروف وفي المؤثرات المختلفة التي تؤثر، استطاعت هذه الطوائف أن تنتج ما أنتجت، دون أن تفكر في شيء من كل هذا الكلام الجميل الذي اسمعنا له منذ حين. لأن كل هذه المعاني لم تكن تخطر لأحد منهم ببال، أو لأن العصر لم يكن يسمح بأن تنشأ هذه المعاني ولا أن يدفع إليها الكتاب والشعراء.
وتظنون أن أحداً وجه هوميروس أو وجه الذين أنشأوا الإلياذة أو أنشأوا الأوديسة؟ فما عسى أن يكون التوجيه الذي دفع به هؤلاء الناس على إنتاج ما أنتجوا، بل هل يخطر لكم أن هوميروس وأصحابه الذي أتموا بعده الألياذة أو الأوذيسة فكروا لحظة في الصورة والمضمون، أو في اللفظ والمعنى والأسلوب كما نقول، أو في أي ظاهرة من هذه الظواهر التي يكثر فيها قول النقاد منذ نشأ النقد ؟ أؤكد لكم أن شيئاً من هذا لم يخطر لأحدهم ببال وإنما دفعوا إلى إنتاجهم الأدبي، دفعتهم طبيعتهم أولاً ودفعتهم حياتهم وحياة الشعب الذي كانوا يعيشون فيها ثانياً، فصورا ما صورا من حياة شعوبهم، لم يوجههم أحد ولم يوجههم رأي، ولم تكن لهم نظرية ما لا في الأدب ولا في الجمال، ولا في شيء من هذا بحال من الأحوال.
وشعراؤنا نحن وكتابنا نحن؟ وعصورنا القديمة، من الذي وجههم؟ وما هذه النظريات المعنية التي فرضت عليهم نفسها؟ أما في العصر الجاهلي فلا أعرف أن أحداً من الجاهليين كان يعرف نظرية ما في نقد أو في أدب أو في شيء من هذه الأشياء التي نتحدث عنها الآن. وفي العصور الإسلامية الأولى مضى شعراءنا مع طبيعتهم، فاندفع على السياسة الحزبية منهم من اندفع، واستقل عن سياسة الأحزاب وعُني بالفنون الخاصة منهم من آثر هذا الاستقلال، واستغل أصحاب السياسة هذا الشاعر أو ذلك، فأجازوه وشجعوه لأنه كان يدعو لهم ويروّج مبادئهم. هذا كله شيء طبيعي لا غبار عليه، ولكن الشيء الذي فيه شك أنه لم تكن هناك نظرية فنية تفرض على هذا الشاعر أو ذاك أن يفكر في أنه ينظم شعره للشعب، أو ينظم شعره لهؤلاء الخاصة الذين ابتكرهم الأستاذ سهيل إدريس والأستاذ رئيف خوري من حيث لا أدري. لم يخطر لأحد من هؤلاء الشعراء أن يفكر في عامة أو خاصة وإنما فكر في فنه وفكر في الغرض الذي قال فيه الشعر لم يزد عل هذا إلا أنه أجاد وأتقن بمقدار ما أتيح له الإجادة وأتيح له الإتقان.
شاعر كعبيد الله بن قيس الرقيات كان قريشياً، مؤمناً بقريش كارهاً لكل سلطان يعتمد على قوة غير قوة قريش يبغض الأمويين لأنهم اعتمدوا على اليمن في تقوية سلطانهم، ولا يحب العلويين لأنهم اعتمدوا على الموالي في تقوية مذهبهم والدعوى له في شرق الدولة الإسلامية. كان قرشياً كهذه الأرستقراطية القرشية التي عاشت في العصر الجاهلي، وعرفت كيف تستغل الظروف الجديدة بعد أن ظهر الإسلام وأتيح له الانتصار والتفوق من أجل هذا يدافع عن سياسة عبد الله بن الزبير الذي يريد أن يكون سلطانه قرشياً صرفاً لا يحب أن يعتمد على اليمن ولا على الموالي، وإنما يحب أن يعتمد على قريش وعلى قريشٍ وحدها. من الذي كان يوجهه؟ ما عسى أن تكون النظرية التي تأثر بها؟ الشيء المحقق أن ابن الرقيات لم يكن يتأثر إلا بحبه لمصعب بن الزبير وبإيمانه بقريش وحرصه على سيادة قريش، وبغزله في أولئك الرقيات اللاتي هام بهن وسمي باسمهن.
وخذوا من أحببتم من شعرائنا القدماء أكانوا مدّاحين أم كانوا هجائين أم كانوا سياسيين، فلن تجدوا أنهم فكروا في عامةٍ أو فكروا في خاصة، ولكن المشكلة الحقيقية ليست هذه. هم لم يفكروا في شيء من هذا ولكنهم أنشأوا شعرهم لمن؟ لم يفكروا هم فلنفكر نحن مكانهم. لمن أنشأ الشعراء شعرهم؟ أترونهم أنشأوا هذا الشعر لهؤلاء الذين كانوا يمدحونهم أو يهجونهم؟ أترونهم أنشأوا الشعر السياسي لقادتهم السياسيين؟
أما أنا فأعتقد أنهم لم يفكروا في أن ينشئوا شعرهم لهؤلاء، وإنما الشعر وُجّه قبل كل شيء إلى القادرين على فهمه وذوقه والتأثر به من الذين سيسمعونه حين ينشد أو يقرأونه حين يذاع مكتوباً.
هناك أشياء قوامها الخطأ أيها السادة، ومعذرةً إليكم من هذا العنف في الحديث. هناك الخطأ في فهم التاريخ الأدبي والتاريخ الأدبي الغربي بنوع خاص. لست أدري أعندكم الآن هذه المشكلة التي يشقى بها كثيرٌ من الكتاب ومن الأدباء في مصر، وهذا السخط على المدح وعلى المادحين والممدوحين وإعلان أن شعر المدح إنما كان يصور مهنة الشاعر ويصور أنه كان يبيع شعره ويبيع خلقه ويبيع نفسه، إلى آخر هذا الكلام الكثير الذي يقال لا منذ كانت الثورة الأخيرة في مصر، بل منذ كان العصر المصري الحديث منذ أوائل هذا القرن. أؤكد لكم أن هذا كله ليس في حقيقة الأمر إلا عبثاً من العبث، وكلاماً لا يقدم أصحابه ولا يأخر، فليس من شكٍ في أن شعراءنا قد مدحوا، وغلوا في المدح إذ قالوا شعرهم، ولكن ليس من شك أيضاً في أننا حين ما ندرس حال هؤلاء الشعراء الذين كانوا يبيعون المدح ويأخذون ثمنه من الأمراء والخلفاء، وندرس حال أولئك الذين يغرون بهذا المدح ويعطون الجوائز السنية في سبيل هذا المدح ونسأل أنفسنا: أي الفريقين كان أدنى إلى الغفل، وأقرب إلى الحماقة، وأي الفريقين كان مغفلاً بالمعنى الصحيح؟ فالجواب أن الملوك والخلفاء والأمراء هم الذين كانوا أغفالاً مغفلين، وإن هؤلاء الشعراء كانوا يعبثون بهم ويسخرون منهم فيما بينهم وبين أنفسهم ثم يغدقون عليهم فيقولون لهم كاملاً لا يصدقه إلا المحمقون الأغرار، والمدهش أن هؤلاء الخلفاء يصدقون هذا الكلام، ويؤدون عليه لهم أثماناً ضخمة.
عندما يقول الشاعر لهارون الرشيد: وأخفت أهل الشرك حتى أنه لتخافك النطف التي لم تخلق فيرضى الرشيد عن هذا الكلام، ويهتز له أريحيةً وطرباً ويجيز الشاعر أعظم جائزة وأسناها، أي الرجلين كان محمّقاً. ليس هو الشاعر من غير شك، فالشاعر لم يكن من الحمق بحيث يظن أن الرشيد يستطيع أن يخيف النطف التي لم تخلق، وإنما هو الرشيد الذي غرّه الغرور واطمأن إلى قوته، وظنه أنه حقيقة يخيف النطف التي لم تخلق. وعندما يقول له شاعر آخر: وعلى عدوك يا ابن عم محمد رصدان: ضوء الصبح والإظلام فـإذا تنبـه رعتـه وإذا غــفــا سلّت عـليه سيوفـك الإحلام فيطمئن على هذا ويجيز الشاعر. ليس الشاعر هو الغفل، والمغفل هو الذي ترك نفسه ينخدع بهذا الكلام. ولم يتمثل في أحد كما تمثل في أبي الطيب المتنبي الذي لم يسخر أحد بممدوحيه كما سخر هو بالكثرة الكثيرة من ممدوحيه، فقد كان يحتقر ممدوحيه كافة، لا أستثني إلا سيف الدولة. كان يغلو في مدح بعضهم حتى يجعله مستقراً لروح من الله ويغلو في مدح بعضهم حتى ليشبه بموسى وعيسى ومن غيرهم من الأنبياء، وهو يحتقرهم أشد الاحتقار فيما بينه وبين نفسه، فأي الفريقين كان ينزل للآخرين عن كرامته؟. أما أنا فأعتقد أن الممدوحين هم الذين خسروا في هذه القضية، وأن الشعراء لم يخسروا فيها شيئاً. وأغرب من هذا، وهو الذي يتصل بالخصومة التي أثيرت لا أدري لماذا، أغرب من هذا أن هؤلاء الشعراء عندما كانوا يمدحون وعندما كانوا يهجون، أكانوا حقاً يفكرون فيمن يمدحون ويهجون فحسب، ولا يفكرون في شيء آخر، أم كانوا يفكرون في أن ينشئوا شعراً يروع كل من سمعه وكل من قرأه، فهم قبل كل شي، قبل أن يفكروا في الممدوحين وفي المهجوين وفي الساسة، إنما يفكرون في الشعب، ويفكرون في هذه الكثرة من الناس الذين سيقرأون هذه القصيدة أو سيتناشدونها فيما بينهم.
أما أنا فـأؤمن أيها السادة بأن المادحين لم يفكروا بممدوحيهم بمقدار ما فكروا في سامعيهم وقرائهم. وليس أدل على ذلك من أن هؤلاء المادحين قد انقرضوا وانقضى الذين مدحوهم ولا نزال نقرأ شعرهم إلى الآن فنجد في قراءته لذة ومتعة ونحس الروعة كل الروعة بالقياس على فريق منهم. لقد مات المعتصم ومات أبو تمام ومات الذين سمعوا أبا تمام عندما أنشأ بائيته في قصة عمورية، ولكننا نقرأ هذه القصيدة الآن فنجد لها الروعة وربما كان فقهنا بهذه القصيدة خيراً من فقه الذين عاصروا أبا تمام.
إذن فليس هناك شيء جديد عندما يقال: يجب أن يكتب الأديب للعامة دون الكافة وعندما يقال بل يجب أن يكتب الأديب للخاصة. لا جديد في هذه النظرية مطلقاً. لا أعرف أديباً كتب أو شاعراً نظم شعراً وهو يفكر في طائفة بعينها، لا يفكر إلا فيها. وإنما الذي أعرفه أن الأديب يفرض الموضوع نفسه عليه أولاً، ويلحّ عليه بعد ذلك إلحاحاً شديداً حتى لا يرى بداً من أن يخرجه إلى غيره، فينظمه شعراً أو يصنعه نثراً، ثم يذيعه بين الناس على الطريق البسيطة التي كانت معروفة قبل أن تنشأ المطبعة، قبل أن يذيعه على الناس بالطريقة الحديثة التي عرفت بعد وجود المطبعة وبعد تنظيم النشر.
فهو إذن لا يكتب لنفسه، وما أكثر ما يخدع الأدباء أنفسهم فيقولون أنهم يكتبون لأنفسهم. كلام فارغ: لا يكتب الأديب لنفسه ولو قد أراد الأديب أن لا يكتب إلا لنفسه، لما احتاج إلى الكتابة، ولاكتفى بمداعبة خواطره وآرائه حين تجول في نفسه وتضطرب بها عواطفه، فهو ليس في حاجة على أن يقرأها مكتوبة، وحسبه أن ينعم بها، ولكنه حين يخرجها من نفسه وحين يلقيها على القرطاس يثبت أنه لا يكتب لنفسه وإنما يكتب لها ويكتب لغيرها وهو لا يكتب إلا أنه يفكر في غيره، وهو لا يكتب للعامة ولا يفكر في العامة، وإنما يكتب لغيره، يكتب لكل من يتاح له أن يقرأ، ويكتب لكل من يتاح له أن يفهم ويكتب لكل من يتاح لهم الفهم والذوق هم من يسميهم الأستاذ رئيف ولا أسميهم أنا شيئاً لأني لا أعرفهم إذا كان هؤلاء هم الخاصة فالأديب يكتب للخاصة، وإذا كان هؤلاء الذين سيتاح لهم أن يقرأوا ويفهموا ويذوقوا هم العامة أو هم الشعب كله، فالأديب يكتب للعامة أو يكتب للشعب كله، وكل أديب حريص أشد الحرص على أن يقرأ ويفهمه ويتذوقه أضخم عدد ممكن من الناس، فمن زعم لكم غير هذا فثقوا بأنه خادع أو مخدوع. فالأديب بطبعه طموح، وهو بطبعه مغرور، وهو بطبعه حريص على أن يبلغ قلوب الناس جميعاً ونفوسهم جميعاً إن أتيح له ذلك، فمن قال لكم إنه لا يكتب إلا الطائفة بعينها من الناس فثقوا بأنه إنما يريد أن يقول بأنه يائس، وعالم وواثق كل الثقة بأنه لن يفهمه ولن يذوقه إلا عدد محدود من الناس.
أيها السادة، لست أدري أناقشت الأستاذ رئيف الخوري في كل ما عرض علينا أم لم أناقشه، بل يخيل إلي أني لم أناقشه مطلقاً، لسبب بسيط هو أني لم أؤمن قط بهذه المناقشة فكل ما أحرص على أن أقوله للأستاذ الصديق وعلى أن أقوله لحضراتكم، وقد قلته دائماً ويظهر أني لن أمل قوله، هو أننا نستطيع أن نتفق على كلمة سواء، إذا كان الذين يفهمون الأدب ويقرأونه ويذوقونه ويستمتعون به قله، فلهذه القلة يكتب الأديب وإذا كانوا كثرة فلهذه الكثرة يكتب الأديب.
والغريب أن من الأدباء من يكتب في أول أمره لقلة قليلة جداً، ولكن مرّ الزمن ورقي الحياة وانتشار الثقافة ويقظة الشعب، ومشاركته في الثقافة، كل هذا يتيح للأديب الذي كتب لفئة قليلة أن يكون قد كتب لفئة كثيرة لا تحصى كثرتها. فالذين يقرأون الآن شعر القدماء أكثر جداً من الذين قرأوهم في أيامهم، لأن العصر الذي عاش فيه شعراؤنا القدماء والعصر الذي عاش فيه القدماء من اليونان والرومان والعصر الذي عاش فيه دانتي، ما دام الأستاذ قد ذكر دانتي، والعصر الذي عاش فيه كورنيل وراسين وموليير وفولتير وكل هؤلاء، في هذه العصور كان الذين يقرأون قلة قليلة، وكان هؤلاء الشعراء وهؤلاء الكتاب ينشئون أدبهم لهذه القلة القليلة، ولكن الدنيا تغيرت وأصبح التعليم فرضاً على الشعب كله، وأصبحت الشعوب كلها آخذة في أن تقرأ وتكتب وتتثقف، وإذا الذين يقرأون دانتي والذين يقرأون سوفوكل لا يقاس إليهم بأي حال من الأحوال من قرأوا هذين الشاعرين حين كتب ما كتب من آثارهم الراقية.
وإذن فقد يكتب الأديب للخاصة أو للقلة القليلة ثم يتاح لأدبه أن تقرأه الكثرة التي لا سبيل إلى إحصائها. هوميروس أنشأ شعره لليونان، ولكن من الذين يقرأون شعر هوميروس الآن؟ أهم اليونان وحدهم؟ أم الإنسانية كلها؟ وكذلك سوفوكل، وكذلك كل الشعراء البارعين وكل الكتاب الممتازين، كل هؤلاء العبقريين في الفن أنشأوا فنونهم لطائفة بعينها ولنقل أنشأوها لشعوبهم، لكنها أصبحت إنسانية عالمية. فليس هناك إذن خاصة ولا كافة ولا قلة ولا كثرة وإنما هناك الحظ وهناك الظروف وهناك كل هذه الأشياء التي تتيح للأدباء أن يكتبوا وأن تقرأهم قلة أو يكتبوا ثم تقرأهم كثرة كثيرة لا حد لها. أتظنون أن الذين يقرأون أبا العلا المعري في هذه الأيام يمكن أن يقاس إليهم من قرأ المعري في أيامه؟ مطلقاً. لا، ولم يكن يخطر مطلقاً لأبي العلاء أن العالم العربي كله سيقرأه وسيقرأه منه من تخصص في الأدب ومن لم يتخصص وسيقرأه كل من يتاح له أن يقرأ وكل من يستطيع أن يفهم ويذوق، وإذن فالموضوع في نفسه ليس دقيقاً، ليس هناك خاصة، وليس هناك عامة، وإنما هناك أدب يجب أن ينشأ ويجب أن ينشأ كأروع ما يكون الأدب وفي أجمل صورة ممكنة وفي أحسن موضوع ممكن ثم يكتب، ولتقرأه الخاصة ولتقرأه العامة وليقرأه من يشاء فهو لم يكتب لهؤلاء أو لهؤلاء وإنما كتب ليقرأ، وليقرأه كل من يستطيع أن يقرأه أو يفهمه أو يذوقه.
ولست مطمئناً إلى هذه المذاهب في الأدب. أن يكون الأدب إشتراكياً، أو أن يكون الأدب شيوعياً، أو أن يكون الأدب ديمقراطياً، كل هذا أرجو أن تعذروني إذا قلت لكم أني لا أفهمه ولا أسيغه ولا أحب للأدب أن يفرض عليه مذهب من المذاهب أو خطة من الخطط وإنما الأديب يفرض لنفسه وعلى نفسه طبعه ومزاجه وخطته، والحرية الواسعة المطلقة يجب أن تكون هي القانون وهي الصلة بين الأديب وبين الذين يقرأونه. وقد قلت دائماً وسأقول دائماً إني أكتب كما أشاء، ولا أسمح لقارئ مهما يكن أن يجادلني فيما أكتب أو في الطريقة التي أكتب عليها، ولا أن يفرض عليّ رأياً من الآراء أو مذهباً أو خطة، وإنما الذي هو حق للقارئ هو أن يقرأ إن شاء وأن لا يقرأ إن شاء، فإذا قرأ فمن حقه أن يغضب ومن حقه أن يسخط ومن حقه إن شاء أن يمزق الكتاب تمزيقاً، كل هذا لا يعنيني. وكم أحب أن يجيبني إخواننا الذين يحبون الأدب الموجه، أتراهم يقرأون الآداب القديمة، أتراهم يذوقون هذه الآداب؟ الذي أعرفه أنهم يقرأون قراءة ملحة وأنهم يقدرونها حق قدرها وأنهم يحرصون عليها أشد الحرص، يجاهرون بذلك أن يستخفون به لا أدري ولكن المهم هو أن الذين يحبون الأدب الموجه الذي توجهه النظرية السياسية أو توجهه الشعوب لا أدري، مع حبهم لهذا الأدب الموجه ومع حرصهم على أن يكونوا موجهين أي مع حرصهم على أن يكونوا على أن ينزلوا عن بعض حقهم في الحرية والاستقلال مع هذا كله هم يقرأون مونتاني ويقرأون شكسبير ويقرأون كورنيل وراسين وموليير ويقرأون القدماء من العرب ومن اليونان ومن الرومان وقد يقرأون من الآثار الهندية القديمة ويجدون في هذا كله روعة أي روعة مع أنهم يعرفون أن هذا الأدب القديم لم يكن موجهاً بالمعنى الذي يفهمونه هم وبالمعنى الذي يريدونه هم الآن.
ألستم ترون في هذا تناقضاً قوياً جداً بين ما يريد هؤلاء السادة وبين حقائق نفوسهم، هم فيما بينهم وبين نفوسهم يستمتعون بالأدب غير الموجه، فإذا أرادوا أن ينشئوا أدباً أبوا إلا أن يكونوا موجَّهين وأبوا إلا أن يقيدوا أنفسهم. كيف تسمون هذا وكيف يسمون هم هذا؟ أما فأسميه التناقض من ناحية وأسميه التفريط في حرية الأديب من ناحية أخرى. ومهما يكن فلنقل الحق ولنقله صراحة لا نتردد ولا نشفق ولا نخاف، أتريدون أن تعرفوا هذا الحق؟ هو بسيط جداً: الأدب الموجه هو الأدب الذي يراد به أن يكن أدب الدعوة، ويراد به أن يسوق الشعوب إلى ما يريده بها هذا الحزب أو ذاك ليكن اشتراكياً أم شيوعياً أم ديمقراطياً. ولا أحب أن أخدع نفسي مطلقاً ولا أحب أن يخدع أحد نفسه، إني لا أحب أن أتملق الشعب لأخضعه لما لا ينبغي أن يخضع له، إني لا أريد أن أقول أني أكتب من الشعب وأكتب للشعب وأكتب بالشعب وأستقي وأشتق ما أكتبه من الشعب ليسمع الشعب هذا الكلام وليقرأه وليندس له هذا المذهب أو ذاك، فأنا أخدع الشعب عن نفسه وأنا أسخر الشعب لما لا أحب أن تسخر له الشعوب، والأمر أيسر من هذا.
أما أن الأديب موجه بطبعه وبفطرته توجهه طبيعته هو ومزاجه هو وطبعه هو ويتعرض من أجل ذلك للسخط ويتعرض للأذى ويتعرض للعذاب والنكال، فهذا حقه وهذه طبيعته في الحياة وهذه طبيعة الأدب الذي يستحق أن يكون أدباً. وأما أن يأتي التوجيه من غيره كائناً ما يكون غيره، ليكن فرداً، ليكن حزباً، لتكن حكومة، لتكن جماعة، فهذه لا صلة بينه وبين الأدب ولا يمكن لهذا التوجيه الذي يأتي من الخارج أن يتيح أدباً صريحاً بريئاً من المصانعة والمداجاة. ولنكن صريحين مرة أخرى: ما تحبون للأديب؟ أتحبون للأديب أن يكون خادعاً وأن يكون مخدوعاً؟ وإذن فليكن الأديب موجَّهاً ولتكن سيرة الأديب مع الذين يوجهونه كسيرة أبي تمام والمتنبي مع الذين كانوا يعبثون بعقولهم من الممدوحين، أم تريدون أن يكون الأديب صريحاً مؤثراً للحق والخير إن أراد؟ وإذاً فخلوا بين الأديب وبين حريته وخلوا يبن القراء وبين حريتهم. وأؤكد لكم أني من أكثر الناس قراءة للأدب الموجه، الموجه على اختلاف التوجيهات التي تصب على الأدب صباً في هذه الأيام. لا تصدقوا أني لا أقرأ أدباً شيوعياً فأنا أقرأه وأكثر من قراءته، وأقرأ أدباً اشتراكياً وأكثر من قراءته، وقرأت آداباً متأثرة بالفاشية، ولكن اسمحوا لي أن أقول إني قلماً أحسست الصدق في هذه الآداب الموجهة، وأكثر مما تأخذني الرحمة والشفقة لكتاب بارعين متميزين قادرين حقاً على أن يبدعوا أو ينتجوا ولكن الظروف أرادت أن يكونوا موجَّهين فأضاعت من قيمة ما يكتبون كثيراً وأضاعت منها كثيراً جداً.
خذوا قصة البرج العاجي هؤلاء الذين يكتبون فيما لا يرضي الشعب أو فيما لا يصور حاجة الشعب. ما هذا الكلام؟ أولاً ما هي حاجة الشعب؟ ما عسى أن تكون حاجة الشعب، ومن الذي يستطيع أن يحقق ويحدد حاجة الشعب في وقت من الأوقات؟ أيحتاج الشعب إلى أن يأكل بعد جوع، ويكتسي بعد عري؟ ويروي بعد ظمأ، ويقضي كل هذه الحاجات المادية التي فقد فيها النظام الاجتماعي وقسمت ثمرات الأرض على أساس ليس للعدل فيه نصيب؛ فإذا أتيح للشعب أن يظفر بهذا كله وإذا لم يتح للشعب أن يظفر بهذا كله؟ أتظنون أنه لا يحتاج إلا هذه الحاجات المادية؟ أليس للشعب عقل وذوق وقلب وعواطف؟ ما الذي يصنعه غزل الغزليين في إطعام الجائعين إذا قرأ الجائع شعراً كثيراً وشعراً جميلاً أو شعر من شئتم من شعراء الغزل لم يجد ما يدفع عنه الجوع في قراءة هذا الشعر. أواثقون أنتم بأنه ليس محتاجاً لقراءة هذا الشعر؟ أما أنا فمطمئن إلى أنه محتاج أشد الحاجة على قراءة هذا الشعر. وأن الشعب بطبعه أرشد من أن يخلط بين الأشياء التي لا سبيل إلى أن يخلط بينها، فيهو يفرق بين ما ينفع جسمه وبين ما ينفع عقله وهو حريص حين يتاح له حظ من ثقافة أن يرضي روحه كما أنه حريص على أن يرضي جسمه.
ولم لا نذكر حقائق التاريخ؟ أتظنون أن هؤلاء الشعراء الذين تغزلوا في القرن الأول الهجري كانوا يتغزلون لأنهم كانوا عشاقاً يهيمون بليلى وعبلة وغيرها من هؤلاء السيدات؟ أما أنا فأؤكد أن هؤلاء الشعراء إنما كانوا يستعينون بغزلاهم على احتمال الحرمان ويتعزون عن آمال بعيدة لم يتح لهم أن يحققوها، وكانوا ربما أرضوا أرواحهم بعد أن حيل بينهم وبين أن يرضوا أجسامهم كما ينبغي. فلنكن إذاً مقتصدين ولنعترف بأن الشعب ليس طعاماً وشراباً ولباساً فحسب. إن من الإجرام أن يتعرض الشعب للجوع، للبأساء أو يتعرض لشقاء ما دامت الأرض تعطي ثمراتها وما دام الجهد الإنساني يستطيع أن ينتج من الخبز ما يسع الناس جميعاً، من الإجرام مع ذلك أن يجوع جائع وأنا أعتقد كما كان يقول بعض المعاصرين، أعتقد أن جوع فرد واحد في وطن من الأوطان يخل التوازن في هذا الوطن، ولكن هذا كله شيء، وقصر الأدب وقصر تفكير الأديب وقصر اتجاه الأديب على هذا النوع من الحياة شيء آخر. أو ما أكثر ما يقرأ الإنسان المثقف ثقافة أديب من هؤلاء الأدباء الذين اعتصموا ببرجهم العاجي في بعض الأحيان وكتبوا كلاماً لا يمس إلا أنفسهم ما أكثر ما نقرأ هذا الكلام فنجد فيه أحياناً كثيراً من الرضى وكثيراً من المتعة وكثيراً من اللذة. لماذا؟ لأننا نحب المثل العليا ونحب الجمال من حيث هو جمال ولسنا محتاجين دائماً إلى أن نتخذ كل شيء وسيلة وأن نجعل كل شيء غاية. إنما نتخذ الأدب غاية في نفسه.
ليس من الضروري أن نسخر الأدب لهذا الغرض أو ذاك، وليس من الضروري أن نسخر الفن نفسه لهذا الغرض أو ذلك. إن الفن ينفعنا في حياتنا المادية سواء أردناه على ذلك أم لم نرد، إنه يبتكر لنا من النظريات ومن القوانين ما يتيح للتطبيقييق أن يخترعوا ما يخترعوا من الأدوات ولكن اسمحوا لبعض العلماء أن يحبوا العلم لا لشيء إلا لأن فيه رضى لنفوسهم ويحبون العلم لأنه معرفة المعرفة فحسب، يرضون بالمعرفة مهما تكن نتائجها، سواءً أكانت نتائجها اختراع كل هذه الآلات وترقية العالم من الناحية المادية على حيث ترون أم لم تكن. اسمحوا لعالم يعيش في معمل أن يرضى ويجتهد بنتائج التجارب التي يجريها وأن يترك لغيره استغلال هذه التجارب، استغلالها في الاختراعات والاستكشافات إلى آخر هذه الحياة المادية التي تعرفونها. كذلك الأديب، دعوه ينتج، ودعوه ينتج كما يريد طبعه أن ينتج، وكما تريد له الحياة التي يحياها أن ينتج، ثم خذوا إنتاجه واصنعوا به ما تريدون. أسيغوه إن أعجبكم واتركوه إن لم يعجبكم ولكن دعوه ينتج لأنه أديب واذكروا أن أبا العلاء المعري رحمه الله كان يسخر من الذين كانوا يظنون أن النحلة مسخرة للإنسان تصنع له العسل ليستمتع به بل كان يقول إن النحل لم تنشأ عسلها لتستمتع به أنت وإنما أنشت عسلها لنفسها.
لا ينبغي إذاً أن ننظر للأديب على أنه مسخر نوجهه لهذه الغاية أو تلك بل ينبغي أن ننظر للأديب على أنه عنصر حي ينتج ما يستطيع وننتفع نحن بما ينتج لا أكثر ولا أقل. ولا تسألوني بعد ذلك، أينا انتصر وأينا لم ينتصر فإذا كان الخاصة هم الذين يستطيعون أن يقرأوا الأدب وأن يفهموه وأن يذوقوه وأن يستمتعوا به فأنا المنتصر، بشرط أن تفهموا جيداً أن هذه الخاصة تختلف باختلاف العصور وباختلاف الظروف وقد يأتي وقت يصبح الشعب كله من هذه الخاصة لأنه تعلم. وإذا كانت الخاصة طائفة بعينها من الناس لا تزيد ولا تنقص ولا تتغير وإنما هي طائفة محدودة بعينها فطبعاً ينتصر الأستاذ رئيف وأصبح أنا من السخف بحيث استحيي من الوقوف بين أيديكم.
وإذاً فلنتفق ونتفق قبل كل شيء على أن نحتاط من مثل هذه الألفاظ: الخاصة والعامة والشعب والتوجيه وما إلى ذلك ولنحذر إلى أن ينتهي بنا هذا كله إلى إفساد الأدب وإخراجه عن طوره. وقد أحتاط الأستاذ رئيف ويسرني ويسعدني أن أعترف له بهذا الاحتياط، فهوا لم يرد أن ينزل الأدب إلى العامة، ولا أن يتجاوز الأدب عن جماله ومثله العليا في الروعة والجمال، فإذن لقد اتفقنا سواء أراد هو أم لم يرد. اتفقنا لسبب بسيط ما دام الأديب لا يضحي بالروعة الفنية لا في الموضوع أو المضمون كما يحب أن يقول ما دمنا متفقين. وأشهدكم على أنه قد سجل هذا ما دمنا متفقين على أن الأديب لا ينبغي أن يضحي بفنه في سبيل قرائه فلن يكتب الأديب إلا للخاصة.
ولكن مثل هذا الكلام عندما يذاع في هذه الأيام وتنشره الصحف ويقرأه القادرون على فهمه والعاجزون عن هذا الفهم قد يترك آثاراً خطيرة حقاً، يترك آثاراً خطيرة لأن كثيراً من الناس يستقر في نفوسهم أن الأدب يجب أن يكون مكتوباً بحيث يستطيع كل إنسان أن يفهمه، وبحيث يستطيع أي إنسان أن يذوقه. وإذاً فلا معنى للكتابة بهذه اللغة العربية الفصحى لأن الشعب لا يفهم اللغة العربية إلا إذا بسطت أشد تبسيط وخولف فيها عن قواعد اللغة ودفع بها إلى العامية التي يرتبط بها لسانه في اختلاف الأقاليم. الشعب إذاً أو كثيراً من الذين يسمعون كثيراً من هذه النظريات يظنون أن الأدب يجب أن ينزل ليفهم الناس جميعاً. أما أنا فأعتقد وأظن أن الأستاذ رئيف يعتقد معي أيضاً أن الأدب يجب أن لا ينزل وإنما الوظيفة الأولى، العمل الأول، المنصب الأساسي لكل أدب ولكل علم ولكل معرفة إنما هو أن يرفع الناس إليه لا أن يهبط هو إلى الناس. ومهما يكن من شيء فإني أعتذر إلى حضراتكم أولاً من هذه الإطالة دون أن أستوفي الموضوع حقه وأعتذر إلى الأستاذ رئيف فقد أكون قسوت بعض القسوة أو تجاوزت بعض ما ينبغي معه من العناية لكني أؤكد له أني أقدره وأقدر آراءه وأقدرها سواء وافقت عليها كلها أم لم أوافق إلا على بعضها.
الآدآب، س3، ع 5، بيروت، نوار (مايو) 1955.