ليست هذه مجرد قراءة من ناقدة مصرية كبيرة لكتاب، ولكنها نوع من الكتابة على الكتابة التي يصبح فيها النقد إبداعا في حد ذاته، يضيء النص المكتوب عنه بطاقات ورؤى جديدة، وهذا هو السبب في أننا أعدنا نشرها عن (أخبار الأدب).

الذاكرة توأم الخيال

عن الكفراوي وناسه الطيبين

سيزا قاسم


جمع سعيد الكفراوي في (حكايات عن ناس طيبين) مجموعة من الاسكتشات التي سبق له نشرها في مناسبات متفرقة. وهي بطبيعة كتابتها متفرقة، فقد تفاوتت قيمتها. غير أن وزنها مجتمعة يزيد عن محصلة مفرداتها. فهناك أنواع مختلفة من المتعة. منها الجدة، ومنها الألفة. فزيارة بلاد جديدة تكشف عوالم لم نعرفها من قبل، نشعر أمامها بالاندهاش والانبهار، أو إذا استمعت إلي مقطوعة موسيقية لم تسمعها من قبل، تتطلع للنوتة التالية بشغف وتوتر. متعة الجدة والاكتشاف والاستشراف متعة كبيرة. ولكن متعة التعرف علي المألوف تكون، أحيانا، أعمق وأكثر التصاقا بالطبقات الدفينة من النفس. وهذا ينطبق علي الأشياء والناس علي حد سواء. فالأصدقاء القدامي الذين يصاحبوننا في مسار حياتنا، أصدقاء العمر كما نسميهم، الذين تتقد جذوة المحبة كلما التقيناهم، الذين يتصل الحديث معهم مهما طال الفراق، هؤلاء يشاركوننا الذاكرة، فذاكرتنا مشتركة، ذاكرتهم من صنع ذاكرتنا. هذا ما شعرت به عندما أبحرت في ذاكرة سعيد الكفراوي.

وقف الناس حياري أمام الذاكرة، وعجزوا عن فك لغز هذه الملكة السحرية. إذا توقفنا أمام كتاب سعيد الكفراوي (حكايات عن ناس طيبين) ربما نستطيع أن نرفع الستار عن بعض سحرها. يقدم الكفراوي في كتابه ذكريات تمتد من الطفولة حتي الكهولة. فالإنسان يظل واحدا تعيش في نفسه طبقات الزمن ملتحمة متداخلة لا يمكن فصل بعضها عن البعض. فالطفل الذي كأنه هو الشاب اليافع الذي انطلق من الطفل كما تنطلق الفراشة من الشرنقة، ولكن اللغز أن الشرنقة تتحلل وتختفي بينما يظل الطفل حيا بجانب الفراشة. متلازمين متلاحمين. ويسير الشاب في طريقه ويتحول إلي رجل مكتمل الملامح والنضج، غير أن الشاب يظل واقفا بجانبه لا يبرحه، يطل عليه من نافذة، يلحظه وهو يتعثر في مسيرته علي امتداد الطريق ... وعندما ينحني الظهر ويشيب الشعر وترتعش اليد، يظل هؤلاء ماثلين أمامنا في كتاب الكفراوي. وما أجمل هؤلاء الناس بأعمارهم المختلفة.

غريب هذا الكفراوي حقا. معظم الناس يعيش معلقا في الساقية معصوب العينين غافلا عما يحيط به. غير أن الكفراوي يسير في الطريق مرهف الحواس والأحاسيس. يسمع دبيب النملة، يري الشعاع المختبئ وراء الغمام، يحس مرور النسيم علي أيادي العذراي. يري بعيون من لا يبصرون، يسمع بآذان الأصماء، يستشرف ما وراء النوافذ المغلقة، يكشف ما في قلوب الناس دون أن يفصحوا عنه، بل وربما ما هم عنه غافلون. أستطاع الكفراوي في كتابه هذا ـ وهو من خير ما كتب ـ أن يعبر عن طبقات دفينة من حياة البشر. وانتسب به إلي يحيي حقي الذي أضاء الأدب العربي. لم يقترب أحد من الكتاب العرب من صاحب (عطر الأحباب) كما اقترب الكفراوي.

عند الاحتفال بمئوية يحيي حقي اختارت ابنته، نهي حقي، في حديثها عن والدها أحب أقواله إلي قلبها: »أكره الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة والأدراج المعصلجة والشفاه المطبقة»«أحب السحابة الرقيقة التي تقبل أن تذوب وهي تقول لشمس الصيف سأكفكف من جبروتك, أحب الأصابع السرحة في راحة اليد المنبسطة مخلوقة للبذل للعزف للتربيت بحنان .... وأستمخ من نجم الحفلة من أجله ذهبت إليها وعدت مرتويا من فيضه ولكن قلبي مع الكومبارس الواقف إلي الوراء في الظل«ألا تعبر هذه الأقوال عما في نفسك يا سعيد؟ ألا تلقي ضوءا علي التشابه بين المريد والأستاذ؟ فلنقف الآن عند الناس الطيببين الذين يحكي الكفراوي حكاياتهم.

*  *  *

في الحقيقة عنوان الكتاب ملتبس إلي حد ما. هل الحكايات موضوعها الناس أم الحكايات مصدرها الناس؟ يخيل إليٌ أنها الاثنين. فالناس قد حكوا في هذا الكتاب حكايات كثيرة ترسبت في ذاكرة الكفراوي واختمرت، وتولدت عنها حكايات أخري ... فكثير من هذه الحكايات القديمة ما هي إلا نواة تتولد عنها حكايات أخري وهلم جرا. ومن جانب آخر من هم هؤلاء الناس؟ «الناس» كلمة فصيحة وقديمة. يقول ابن منظور في اللسان: «الناس» يكون من الإنس ومن الجنٌِ لكن غلب استعماله في الإنس ... وقيل الناس اسم وجمِع للجمع كالرهط والقوم واحده إنسان ... . وتقول المعاجم أيضا النٌّاس: اسم للجمع من بني آدم، واحده إنسان من غير لفظه، وقد يجرد به الفضّلاء دون غيرهم: مراعاة لمعني الإنسانيٌة.

فقدت هذه الكلمة نقاءها القديم واصطبغت بتلوث البيئة! غير أن الكفراوي يعيد لها رونقها القديم. فمنذ البداية يضعنا الكفراوي في محيط من القيم تشع من العنوان. فالناس ليسوا أفرادا منفرطين بل هم جماعة، تميزهم صفات. من بينها، أو فلنقل علي رأسها الطيبة. أليست الطيبة هي الصفة الأم للإنسانية؟ أليست هي الفضيلة التي تنبثق منها باقي الفضائل؟ كنا زمان نعلي هذه الصفة علي ما عداها. فإذا قلنا هؤلاء ناس طيبون، قلنا كل شيء. فإذا أراد الأب أن يزوج ابنته، فلذة كبده، لم يكن يبحث عن الجاه أو المركز أو الثروة، كان يبحث عن «ابن ناس طيبين»، وكان هذا هو المحك، والمعيار والضمان ، والصون والملاذ.

من هم هؤلاء الناس الطيبون الذي استعادهم الكفراوي من طبقات ذاكرته ؟ في الحقيقة أحببت هذا الجمع من الناس الذي استعدته أنا أيضا من ذاكرتي. فلقد شاركت الكفراوي في معرفة مجموعة من ناسه، رغم أننا نختلف في مسارات حياتنا. فأنا لم أنشأ في الريف المصري، بل إني قاهرية، ابنة طبقة التجار القاهريين الذين نشأوا في أحياء القاهرة القديمة مثل الحمزاوي وباب الخلق والموسكي. فلم أنشأ وسط القري والحقول بل في الأحياء المكتظة بتاريخ هذه المدينة الأسطورية النابضة بحركة التاريخ الممتد علي مر العصور. هذا من جانب ومن جانب آخر سبقت الكفراوي في المجيء إلي هذه الدنيا فعرفت وخبرت أشياء لم يخبرها هو. ولكن هناك مخزون مشترك يجمع بيننا.

فالناس في كتاب الحكايات هم كتٌاب من أجيال مختلفة، بعضهم من السابقين (مثل نجيب محفوظ، يحيي حقي، طه حسين، أحمد أمين)، وبعضهم من جيله (مثل محمد عفيفي مطر، محمد مستجاب، محمد بنيس)، ومنهم فنانون تشكيليون (مثل حسن سليمان، عدلي رزق الله، عبد الهادي الجزار) ، بعضهم مغنون (مثل أم كلثوم وفريد الأطرش)، وبعضهم من البسطاء الذين تأهل بهم قري المحروسة وحقولها مثل الخضرة أم الحلبي، «هذه المرأة الغلبانة الطيبة وعلي باب الكريم»، بعضهم أفراد شرائح اجتماعية أخري مثل المداحين، وغيرهم جماعات أكثر اتساعا وأكثر تجريدا مثل المرأة بصفة عامة، هؤلاء كلهم من لحمة المجتمع الذي يعيش في خضمه الكفراوي. وهناك ناس آخرون ـ لا يقلو حيوية عن السابقين ـ عرفهم الكفراوي في الكتب. فالكتب بالنسبة للكفراوي جزء من الحياة وليست أشياء صامتة تتراص علي رفوف المكتبات ،بل تعج بالنشاط، تتكلم بصوت جهير ، ليست مبتوتة الصلة بأصحابها. يسكن مؤلفوها ذاكرة الكفراوي ويستدعيهم مثلما يستدعي أصدقاءه، أو أجداده ، ومن هنا يطل علينا تشيكوف أو همنجواي يصارعون الحياة، ناس من لحم ودم ، وهم أيضا من الناس الطيبين. وإذا كان الروائي أو المسرحي ينتمي إلي رهط البني آدمين فإن الشخصيات الروائية أيضا «ناس» وليسوا مخلوقات يابسة من ورق يجري في عروقها الحبر، بل ينزف من جروحهم دم قاني اللون، جروح غائرة العمق لا تندمل في ذاكرة الكفراوي ، ومن هؤلاء الناس عجوز ماركيز وعجوز كاواباتا ... هذه قراءة من أجل الحياة كما قال ديفيد كوبرفيلد عندما وجد نفسه مضطهدا من زوج أمه، ومحروما من حنانها. فكان يلوذ بغرفة صغيرة مسروقة مليئة بالكتب التي تركها له أبوه، يخرج منها رهط غفير من الناس: دون كيخوته، جيل بلاس، روبنسون كروزو. ناس ألف ليلة وليلة وحكايات جنجي. آنست وحدته بينما كان الصغار يلهثون في الحديقة المجاورة وهو مستلق علي سريره يقرأ من أجل الحياة.

*  *  *

هؤلاء الناس خرجوا من «معطف» الكفراوي ... ولكن هناك تفاوت في علاقته بناسه. في بعض المواقف ينزوي ويخرج من الإطار ويسلط الضوء علي الآخر فتظهر الصورة جلية منمنمة وساطعة الوضوح لأنها مرسومة بريشة الحب والإعجاب. ولكنني دهشت إلي حد كبير من الحكايات الأربع الأولي عن نجيب محفوظ ويحيي حقي لأنهما أتيا شاحبين متقلصين بينما وضع الكفراوي نفسه في الصدارة. ٌهذا ظلم في رأيي لأن هذين الإنسانين لهما عطر خاص كانا أولي بمكانة أكبر من التي أعطيتها لهما يا كفراوي. وأنت الذي عرفهما معرفة المحب والمريد. أين ضحكة نجيب محفوظ المجلجلة؟ وأين رقة يحيي حقي الآسرة؟ لم أتعرف عليهما في هذه الاسكتشات المقتضبة ... فأنهم أكبر حجما وأعمق تأثيرا في ذاكرتي من صورتهما في هذا المضمار.

وقد نتساءل بشيء من الدهشة ماذا يفعل مقهي ريش بين «الناس الطيبيين» أو مدينة فاس؟ هل للمكان بعض صفات الناس؟ نعم في مفهوم الكفراوي الذي يعتبر هذه الأمكنه «أوادم» علي حد التعبير الذي استخدمه. المدن، والمقاهي، والأبنية حية بكل تأكيد، وليست مجرد أوعية فارعة تحتوي قاطنيها، ليست مجموعة من الأحجار الصماء المتراصة ولكن لها حياتها. يقول مثلا الكفراوي عند حديثه عن معهد الموسيقي الشرقية: «ظل هذا المعهد العريق يهتم بابتكارات البعض في إنشاء آلات جديدة ... كما أقام المباريات في التأليف والتلحين، وتعهد الأصوات الجديدة بالتدريب والتثقيف، كما قام بتعميم علم النوتة الموسيقية».

لقد اهتم كثير من النقاد بدور المكان ودلالته في الكتابات القصصية الحديثة من حيث ارتباطه بالشخصية الروائية، وكيف أن المكان يكون في بعض الأحيان امتدادا لها لا مجرد إطار تتحرك فيه وتقع فيه الأحداث ولكن المكان هنا في هذه النصوص شيئ آخر تماما. فهو أقرب إلي المكان في الحواديت والقصص الخرافي له كيان خاص به. ولذلك لم استغرب عندما التقيت بفصل ممتع عن السرير بين نصوص هذا الكتاب الجميل. فللسرير علاقة حميمة بالنائم وليس مجرد مرقد يتمدد عليه النائم ولكنه مأوي الأحلام.

ومن أجمل النصوص التي أوردها الكفراوي عن المكان، النص المعنون «دعوة»  ويأتي في شكل خطاب موجه إلي الشاعر المغربي محمد بنيس. أنا لا أعرف بنيس معرفة شخصية ولكني أحببته حقا من خلال وجوده في هذه الصفحات العطرة. هذا النص هو حوار بين الأمكنة. بين القاهرة وفاس. المدينتان لهما روح. أي أن المدن، مثل البشر، لها جسد وروح ولا بد من الولوج وراء مظاهر الجسد لاقتناص مؤشرات الروح. يقول الكفراوي عن فاس: «تبدو مرابعها أوادم من زمن ولي، وحين خوضت في الحارات والأزقة الضيقة رأيت بشرا تخرج من بطون المتون ... وسمعت همس الحجارة، وخفق روح المدينة» ما هي هذه المتون؟ ونحن نعلم أن كلمة متون تعني ما ارتفع من الأرض واستوي وتعني أيضا نصوص الكتب ... ومن هم هؤلاء البشر الذين ينطلقون من جوف الأرض أو من داخل نصوص الكتب؟ توضح الفقرة التالية الدلالة المرجوة. فهم كل من سكن هذه المدينة العريقة منذ الأزمنة الغابرة من موحدين ومرابطين ومرينيين. المكان عند الكفراوي مكان سحري ، مسكون. مكان يعود بنا إلي غياهب الخبرات الأولي، خبرات الطفولة قبل أن تتشكل القدرات العقلية وقبل أن يجف الخيال وتتبلد الحواس. العين تسمع والأذن تري في عالم الكفراوي، العين المسبلة تستكشف الأشياء التي لا تظهر للعيان، الفتاة التي ترقص عارية علي سطح البحيرة والأنغام المنطلقة من الآلات والأغاني ليست من صنع الخيال ...  ليست من بنات أفكار الكفراوي ولكنه استدعاها من أعماق الذاكرة، فلبت النداء. ربما آتت من ذاكرة أحد العشاق الذين سكنوا هذه المدينة في الأيام الغابرة.

*  *  *

كيف استطاع الكفراوي أن يستعيد الماضي ويستحضره؟ هذا هو سحر الكتابة. إننا نعيش حياتنا وتمر السنون ويتلاشي الماضي ويدفن في أعماق الذاكرة. في بعض الأحيان نحن إلي هذا الماضي ونستعيد بعض الأحداث التي هزت حياتنا. ولكن سعيد الكفراوي استخرج هذه الذكريات وجعل منها بؤرا من نور تشع وتسطع مثل الجواهر المتلألئة في مغارة علي بابا. هذا الكتاب ليس عن الماضي الجميل. ولكنه عن قدرتنا في أن نعيش في أزمنة مختلفة، أن نتخلص من نير التاريخ، أن نخلع الأردية المتهرئة المتربة التي يكسونا بها الحاضر ونرتدي الحلل السندسية البهية، أن نتجمل ونتزين ونبحر في هذه الذاكرة المسحورة. فالذاكرة ليست زكيبة من الخيش نزج فيها قصاصات من ورق محفورة عليها الحوادث الكئيبة التي نعيشها. الذاكرة آلة عجائبية لأنها توأم الخيال. فالذاكرة والخيال وجهان يتبدلان الواحد مكان الآخر عند من كان لهم هذا الحظ الخارق أن ينفخوا الحياة في هذا التمثال المصنوع من الصلصال فيحولوه إلي كائن حيٌ، هذه الأماكن الخربة فتصبح حدائق غناء مليئة بالأزهار والورود والغناء. هؤلاء هم الفنانون الحق وهنيئا لنا بوجودهم بيننا.

إن الإبحار في ذاكرة سعيد الكفراوي هو رحلة في ذاكرة الوجود. فقد استطاع في هذا الكتاب الجميل أن يخطو الخطوة الفاصلة ليجتاز ذاكرته الفردية ليدخل من البوابة الكبري إلي الذاكرة الجمعية ، ذاكرة أهل زمانه والأزمنة السابقة عليه والأزمنة الآتية.