في محاضرة قدمها الأكاديمي المغربي المرموق، والتي أخضع من خلالها تقاطعات الروائي والسينمائي في إنتاج وتلقي الصورة عبر سؤال استشكالي عميق ومعرفي واعتمادا على منهج ابستيمولوجي نقدي، وهو ما مكنه أن يصيغ العديد من الخلاصات ذات طبيعة معرفية تخص هذه العلاقة الشائكة والملتبسة بين سياقين جمالي فني وإبداعي أدبي.

إنتاج وتلقي الصورة بين الرواية والسينما

محمد بوعزة

استضافت رابطة الإبداع الثقافي بالقصر الكبير في إحدى مساءات شهر نونبر من السنة الماضية بدار الثقافة في إطار سلسلة محاضرات الحلقة الثانية الأكاديمي الدكتور عبد اللطيف محفوظ ( أستاذ السيميائيات والنقد الروائي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدار البيضاء) في موضوع: "إنتاج وتلقي الصورة بين الرواية والسينما". أدار هذا اللقاء باقتدار المبدع محمد أكرم الغرباوي الذي مهد لهذه المحاضرة بالسيرة المشرقة للأستاذ المحاضر من خلال منجزه النقدي الرصين. وعبر الأستاذ محمد منيس في كلمة رابطة الإبداع الثقافي بالقصر الكبير عن أهمية المحور الذي اختاره السيد المحاضر ارتباطا براهنيته  وارتباطه بالمتخيل الأدبي والمنجز السينمائي مستحضرا عددا من الاعمال السينمائية التي ترجمت هذا الطموح الجمالي.

وقد عرض الدكتور عبد اللطيف محفوظ لموضوع الصورة في الرواية والسينما من منظور نقدي استشكالي، أخضع موضوع الصورة السينمائية لتفحص ابستيمولوجي نقدي، صاغه في سؤال إشكالي: هل يمكن الحديث عن الصورة في السينما باعتبار السينما فن الصورة أصلا؟

استهل الباحث محاضرته بتأطير عام  تناول فيه الصورة من زاويتين: الصورة باعتبارها معطى والصورة باعتبارها تشكيلا.في المستوى الأول، سجل الباحث الطابع الإشكالي للموضوع، ومرده التعدد الذي يطبع موضوع الصورة، فهناك الصورة الفتوغرافية والصورة السينمائية والصورة التشكيلية،والصورة الفنية بمختلف أنماطها (الشعرية، الروائية، المسرحية...). هذا التعدد في الحقول والمرجعيات يفرض دراسة كل صورة وفق مبدأ الملاءمة المعرفية، اي داخل الحقل المعرفي الذي تنتمي إليه.

بالإضافة إلى مشكلة التعدد، تطرح الصورة التباسا في علاقتها بالزمن. فإذا كانت اللغة تسمح بالحديث عن كل الأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل)، وتسطيع أن تؤلف بين كل الأزمنة، فإن الصورة ترتبط فقط بالماضي، لاحاضر لها ولا مستقبل، تحيل فقط على الماضي. وإذا كانت اللغة تستطيع أن تقدم الشيء بتمثيل كل مكوناته الداخلية والخارجية، فإن الصورة لا تقدم سوى السطح، لأنها من جهة محرومة من البعد الثلاثي، ومن جعة لا تكشف عن المكنون.

وبسبب هذا القصور الذي يطبع الصورة مقارنة مع اللغة، يخلص الباحث إلى أن كل محاولة للحديث عن لغة الصورة أو اللغة السينمائية، هو حديث تنقصه الدقة العلمية.

بعد تحديد كيفية اشتغال الصورة ، انتقل الباحث إلى الحديث عن الصورة باعتبارها تشكيلا. في هذا المستوى البنائي تحدد الصورة بوصفها صورة نفسية داخل الشعور. وبهذه الدلالة يمكن الحديث عن الصورة الشعرية والصورة المسرحية. إن الصورة الروائية باعتبارها تشكيلا هي نتاج مجرد للعمل الروائي من بدايته إلى نهايته. وإنتاج العمل الروائي يخضع- كما يمكن أن تتصوره السيميائيات الذريعية التي يستند إليها الباحث - لأربع مراحل: 1 يبدأ في شكل فكرة في ذهن الكاتب (مرحلة الدليل التفكري)،2 ثم يحول الكتاب الفكرة إلى حكاية، 3 ثم يحول الحكاية إلى بنية سردية، 4 ثم يحول البنية السردية إلى كتابة، أي نص (مرحلة التظهير) وفق ما هو مبين بدقة في كتابه المتميز ( آليات إنتاج النص: نحو تصور سيميائي). بعد هذا المسار الإنتاجي، يتحول النص في مرحلة تلقيه، بدوره إلى دليل في ذهن المتلقي، الذي يحاول أن يفهم النص فيحوله إلى صورة، يتمثلها في ذهنه.

وبالنسبة للباحث يخضع إنتاج الفيلم السينمائي للمسار نفسه الخاص بالنص الروائي، من حيث أن المخرج ينطلق من فكرة، ويحول هذه الفكرة عن طريق كتابة السيناريو إلى حكاية، ثم تبدأ العمليات التقنية، التأطير والتقطيع والتركيب،الذي هو بمثابة نهاية الفيلم. وفق هذا التصور السيميائي، فإننا نتلقى الفيلم وندرك معناه في شكل صورة. بهذا المفهوم تدل الصورة على المعنى والدلالة والمحتوى. وهنا يكمن الإشكال الذي تطرحه الصورة السينمائية، حين نستعمل الصورة بوصفها دالة على المعنى. فإذا كان من الممكن الحديث عن الصورة الشعرية أو الصورة الروائية، كيف يمكننا الحديث عن الصورة بالمفهوم الدلالي في السينما، والسينما هي صورة أصلا؟

هذا الإشكال هو ما يفرض بالضرورة – بحسب الباحث- تعديل تصوراتنا عن الصورة السينمائية. فبدل الحديث عن الصورة السنميائية بالمفهوم الدلالي، يمكن الحديث عنها باعتبارها مجموعة من الصور تأتي إلى أذهاننا، وليست معان أو مدلولات.

ولتفكيك هذا الإشكال بين الصورة الروائية والصورة السينمائية، يجري الباحث مقارنة بينهما/ بقصد رصد الفوارق التي تظهر خصوصية كل نمط منهما.

1-تختلف السينما عن الرواية من حيث البعد الإيديولوجي، فالرواية تعبر عن "كلية ممتدة" خاصة بشعب أو أمة، تحاكي الزمن وهي خطية، بينما تعبر الرواية عن الكلية المكثفة، وتصور المعقول.

2- الرواية هي سنن ثانوي، يعتمد على سنن أولي هو اللغة، بينما السينما محرومة من هذا السنن، ليس لها سنن ثانوي، لأنها متماهية مع سنن أولي، غير منظم، هو العالم. فالسينما هي صور تأتينا من العالم. وهذا السنن الأولي الخاص بالسينما ليس متعاليا مثل السنن اللغوي. ونتيجة غياب هذا السنن الأولي، كل الصورالسينمائية لا تدل سوى على نفسها، وذلك على خلاف العلامات اللغوية التي تتكون من دال ومدلول مخالف. وإذا كانت اللغة تعبر في كل المستويات، الممكن، والضروري، والواقع، فإن الصورة السينمائية لا تعبر سوى في مستوى واحد، هو الوجود. وهذا يمثل مظهرا من  مظاهر قصورها.وهذا ما يفسر اضطرار السينمائيين إلى الاستعانة في الأفلام بأسنن أخرى مثل اللغة والأصوات والموسيقى.

3-تسعى الرواية إلى الإيهام بالواقع، بينما تصل السينما بالإيهام إلى ذروته، لأنها تعبر بوساطة نقل ما هو موجود في العالم. فالسينما هي الشكل الواحد الذي يعبر عن العالم بواسطة العالم.

هذه هي أهم الفوارق بين إنتاج الصورة في الرواية والسينما. وطبيعة هذه الفوارق هي التي تفسر أن حدود "اللغة" في السينما لا يمكن أن ترقى إلى إمكانات اللغة في التعبير. والحالة الوحيدة التي تصبح فيها الصورة مثل اللغة، هي حين تتحول إلى جزء من نسق منظم، (علامات الصيدليات والبنوك مثلا)، تسمى بالأنساق العرفية.

وقد تلت المحاضرة مناقشة عميقة شارك فيها نخبة من النقاد والمبدعين والباحثين.