يواجه بيتر هاندكه الروائي النمساوي في رواية )محنة( إشكالية أو محنة الكتابة عن أمه ومراحل حياتها المختلفة حتى انتحارها. ورغم تأكيده على أنه يعرف عنها أكثر من أي "صحفي غريب" إلا أنه على مدار النص يثير ويتأمل مشكلات الكتابة عن إنسان نعرفه، ويتوقف عند مخاوفه من أن تشده اللغة بعيدا عن أن يكون وفيا لسرد حياة أمه والقبض على حالاتها الأساسية وكيف عاشت حياتها.
في مقالة عن سيرته الذاتية كتب هاندكه ـ كما ورد في مقدمة عبد الغفار مكاوي للراوية – "عندما كنت أُكلَّف بوصف تجربة مررت بها لم أكن أكتب عن التجربة نفسها كما عشتها، وإنما كانت التجربة تتغير من خلال كتابتي عنها، أو لم تكن في الغالب تكتسب ملامحها إلا مع كتابة المقال الذي كلفت بكتابته "فالكتابة تعيد تشكيل ما نظن معرفته أو توجده كما لم يوجد من قبل، هذا الوعي الفني يصارعه الكاتب في رواية محنة محاولا أن يكون قريبا من حياة أمه كما عاشتها وباحثا عن اللغة المناسبة التي لا تفقده الطريق إلى حياتها. ومن هنا خوفه المعلن في النص من نسيان أمه ـ الدافع الرئيسي للكتابة والمحرك لها ـ لتتحول إلى شخصية فنية قد تتشابه مع كثيرات في ذاكرة القراء وتفقد خصوصيتها التي يجتهد في الوصول إليها بكتابة هذا النص.
وتتبدى لنا صعوبة محاولة الكاتب مع المقارنة التي يعقدها بين طريقته في كتابة رواياته السابقة وكتابة هذه الرواية، فقد اعتاد الانطلاق من حياته الشخصية ثم تحرره الكتابة تدريجيا أو تأخذه في تقلباتها ومفاجآتها. لم يشغله الخوف من البعد عن واقع خارجي محدد، ولا رغبة في التمسك بحدود ما للذاكرة. إن هذا التوتر أو الصراع بين طريقتين في الكتابة يلازم القارئ أثناء قراءته، وتتفرع منه تعليقات تنقد طرقا أخرى للحكي يراها الكاتب مفيدة في الكتابة عن شخصيات خيالية وليست عن أمه التي يحاول "في جدٍّ متصلب لا يتغير" أن يقترب منها بالكتابة.
وإذا كان من دوافع كتابة هذه الرواية الخروج من حالات الفزع والعجز التي انتابت الراوي بعد انتحار أمه، فإننا نجد النقيض عند الأم التي كان لديها دائما احتياج إلى أن تحكي حياتها، وما اتسمت به من بؤس شديد وإخفاقات تتالت، وعدم قدرتها على الخروج عن النمط الشائع للجموع الفقيرة التي كان يترادف عندها معنى التوفير بالتخلي عن جوانب كثيرة أساسية في الحياة. حينما كانت تحكي كانت "ترتعش بخوف لأنها لم تكن تحكي لتنفض عنها القرف والبؤس، ولكنها كانت تعيشهما مرة أخرى بفزع" الحكاية بالنسبة للأم مرآة مصقولة ترى فيها نفسها ولا تقدر على الخروج عن حدودها. فحياتها سواء قبل الحرب العالمية الثانية أو بعدها، سواء في بلدتها أو في المدينة كانت محكومة بحدود النمط الذي يجب أن يعاش، ويتم توريثه إلى أجيال لاحقة ويظهره الجميع كأنه حقيقة طبيعية خالدة وليس شكلا اجتماعيا يمكن تغييره. لا بديل مع هذا النمط الراسخ سوى بنزوات صغيرة بائسة سرعان ما تنطفئ أو تقاد إلى ما يجب فعله. احتياجها إلى الحكي في هذا السياق يبدو رغبة في أن تسمع هي نفسها حكاياتها بصوت عال، وتُسمعها للآخرين الذين يعيشونها في صمت وتواطؤ وتكرار بليد.
أن يعلو صوتها بالحكاية مضاد لما تربت عليه في بيت أسرتها التي فرضت عليها الصمت وألا تظهر رغباتها حتى لو كانت أن تتعلم، مضاد لما كانت تجيب به زوجها حينما يسألها لماذا لا تطيقه "كيف يخطر هذا على بالك ... كانت تهدئه وتكرهه بعدها أكثر، لم يؤثر فيها أنهما كبرا في السن سويا" أن يعلو صوتها بالحكاية مضاد لرعشة "إصبع في اليد الثقيلة الصامتة في خجل وخفاء كلما تذكرت بهجة مرت عليها وسرعان ما كانت اليد الأخرى تغطي هذه اليد الثقيلة". وكان منطقيا مع هذه الحياة أن يصل بها الاحتياج إلى الحكي إلى طبيب أعصاب حينما تدهورت حالتها الصحية في آخر حياتها:
"تعجبت للكم الذي قصته عليه كانت تبدأ في التذكر عندما كانت تتحدث ما هدأها هو أن الطبيب كان يهز رأسه لكل شيء تقوله وفي نفس الوقت كان قد رأى في التفاصيل التي تحكيها مظاهر مرض أدرجه تحت مسمى: انهيار عصبي"
والملفت للنظر أن جملة "كانت تبدأ في التذكر عندما كانت تتحدث " تذكرنا بجملة الراوي / الابن في أول الرواية " وبينما أصفها أبدا بالفعل في تذكرها". تذكر الاثنين مرتبط بالحكي بوجود آخر يسمع / يقرأ. لكن تذكر الأم مجرد حديث اجترار وتأكيد على الدائرة المحكمة المضروبة حولها، في حين أنه عند الابن محاولة للخروج من العجز والفزع اللذين حكما حياتها، إلا أننا يمكن أن نرى في تذكر الأم وحديثها شكلا من أشكال الخروج لكنه مجرد خروج تفاصيل حياتها المتراكمة داخلها إلى إنسان يسمع أو إلى طبيب ينجح في أن يسمي لأول مرة ما عجزت دائما عن تسميته. يرتبط باحتياجها إلى الحكي ما كتبته من خطابات خوفا من أن تجن. "كانت الخطابات مُلحَّة كأنها كانت تحاول أن تحفر نفسها على الورق في هذه الفترة لم تكن الكتابة غريبة عنها كما هو الحال مع الناس في نفس ظروف حياتها ولكنها كانت عملية مثل التنفس منفصلة عن الإرادة" الأم في هذه الخطابات ترغب في أن تكون واضحة بارزة لا مختفية ضمن الجموع الصامتة أن تكون مرئية ـ كحالها أن تكون مسموعة ـ حتى لو كانت تجتر فقط ما عاشته.
المفارقة أن الأم والراوي تجمعهما الرغبة في الحكي والكتابة وفي نفس الوقت تفرقهما، وتبين اختلاف نوعيتها عند كل منهما. الراوي يخشى عند كتابته الرواية أن يؤدي إعادة الحكي إلى التلاشي المؤلم للشخص المحكي عنه في الجمل البلاغية، ويصارع اللغة والتقاليد الفنية لكي تظل الأم بعيدة عن التجريدات ولا تُنسى مع تقدم السرد. وفي الاتجاه المعاكس ـ وإن كان له نفس الهدف ظاهريا على الأقل ـ تكتب الأم لتخرج من الجموع المجردة وتكون بارزة محفورة يستطيع آخرون أن يروها بوضوح ويتعرفوا على ملامحها. ويتباين مستوى فعل القراءة لدى الأم عن مستوى حكيها وكتابتها، من ناحية شعورها بأنها تعود مع قراءة الروايات إلى مرحلة شبابها، ولا يعني هذا بداية جديدة تستشرفها لحياتها، بل على العكس ينتابها هذا الشعور حينما تقرأ في رواية ما لم تعشه، ما تمنته ولم تقدر على تحقيقه وضمنيا لا تقدر على تحقيقه تعود شابة لأنها تشعر بما ينتمي إلى الماضي " والذي لا تستطيع أن تعوضه أبدا هي نفسها. كانت قد أخرجت المستقبل مبكرا من تفكيرها "
فالقراءة لا تفتح إمكانيات في المستقبل بل تعيد إليها إمكانيات كانت في الماضي. وكانت تحكي الروايات التي أحبتها، تحكي حياة لم تعشها وكانت تقول " ولكنني لست هكذا " كأنها هذه المرة لا تحكي لتجتر أحداثا بائسة إنما تحكي لتعيش ما فاتها. كانت تلعب مع أبطال الروايات لعبة الكراسي الموسيقية ويتبادلان معا أدوارهما . إذا كانت مع الكتابة تحفر نفسها في الورق فإنها بالقراءة ومن خلالها كانت تستعيد نفسا كانت تتمناها
لم تكن الكتابة والتذكر والقراءة محنة عاشها الراوي/ الابن فقط بل عاشتها الأم أيضا كمرآة تعكس ما هو موجود، ولم تعشها كإمكانيات لحياة مختلفة تقدر على أن توجدها.
* محنة لبيتر هاندكه. ترجمة: هبة شريف. مراجعة وتقديم: عبد الغفار مكاوي، سلسلة أفاق الترجمة