ارتبط اسم الأرجنتيني البرتو مانغويل بالكتاب، أنى كانت جنسيته وهويته وأصله، فهو المتتبع الأكبر لهذا العالم الصغير القاطن في كتاب، له مقدرة أبستمولوجية وأنطولوجية بعلم الكتاب، بدءاً بالمنشأ والتاريخ والأزمنة التي عبر فيها الكتاب وهو لم يزل وليداً، ملفوفاً بالبردي، أو مُقمَّطاً بالرقائق الجلدية، أو رُقيماً جنيناً محفوراً على حجر أسطوري منذ آشور وسومر وبابل.
بمناسبة ذكر بابل وآشور يتحدث مانغويل في كتابه «المكتبة في الليل» وهو من أهم كتبه التي صدرت بعد كتابه «تاريخ القراءة»، يتحدث عن مكتبة بابل ومكتبة آشور بانيبال، وعن الملحمة الشعرية الميثولوجية «ملحمة كلكامش» التي تتحدث عن الملك جلجامش في حضارة سومر، أول حضارة على الأرض دوّنتْ الكتابة المعروفة بالمسمارية.
يدوّن مانغويل المتحدّر من أصل أرجنتيني، والذي بدأ حياته الكتبيّة لشدة شغفه بها، عاملاً في مكتبة، ثم قارئاً للأديب والقاص الأرجنتيني والعالمي بورخيس، ومن ثم مترجماً في مهنته هذه التي رافق فيها الكتاب ما يزيد على الخمسين عاماً، يدوّن سيرة الكتاب والمكتبة، إذا صح التعبير، مستمتعا بجماليات الكتاب وكائناته منذ كان طفلاً، فلقد تربّى على حب الكتاب وعشقه وصحبته له، تلك الصحبة التي ظلت ملازمة له حتى هذه اللحظة، لا بل زاد هيمانه بالكتاب كلما كبُر وفهم أسرار هذا الكون المترامي الأطراف، الغامض والساحر والمهيمن على مخيّلة البشرية بسحر معانيه، وخيال عوالمه المُلهمة للكائن البشري.
في رحلته الممتعة هذه «المكتبة في الليل» يأسرنا مانغويل بجمال ما لديه من معرفة وإطلاع وكشوفات أركيولوجية في باطن ومعاني المكتبات التي عمل فيها، في كلّ من فرنسا وكندا والأرجنتين، وليس هذا حسب، بل هناك معرفته الشمولية في كل مكتبات العالم، فهو يتحدث حتى عن المكتبة العامة في بيروت التي طالتها يد الحرب فاحترق جزء كبير منها وضاع وأتلف. ويتحدث عن مكتبة المتحف الوطني في بغداد، إثْر نهبها أثناء الغزو الأمريكي، ومكتبة الإسكندرية منذ نشأتها الأولى أيام البطالمة الملوك، في القرن الثالث قبل الميلاد، مُفرداً المزيد من الصفحات حولها، وحول تأريخها وكتبها القديمة وتصميمها، كونها أول مكتبة في التاريخ تُفهرس وتُؤرّخ لعالم الكتاب. إنه فصل ممتع حقا، مفعم بالوفير من المعلومات والأدلة والشواهد عن هذه المكتبة، وصولاً إلى إعادتها وبعثها مرة أخرى للحياة في عام 2003 لتستأنف مشوارها الطويل، مع الكلمات وغابات الكتب وشؤونها المختلفة وأنواعها العديدة، في مجالات الحياة والكون والطبيعة وكل ما يخص البشرية من علوم وصناعة وتاريخ.
كانت أول إشارة إلى المكتبة قد جاءت من الإغريقي الشاعر والمؤرخ هيرودتس، وهو عاش في القرن الثالث قبل الميلاد في نص يذكر فيه بناء معروفاً في مصر، يُسمّيه بيت موسى، أو بيت ربّات الفنون، مضفيا على المكتبة المصرية طابع المكتبة العالمية التي اتخذت شكل الأرض، واصفاً ما رآه في مصر بالقول: «تشبه بيت أفروديت، فيه كل ما يحيا وكل ما هو ممكن أن يوجد في مصر: المال، واللهو، السلطان، السماء الزرقاء في الأعالي، الشهرة، العُروض، الفلاسفة، الذهب، الشباب، الآنسات، معبد الآلهة الأنسباء، الملك الخيِّر، المتحف، النبيذ وكل ما يمكن أن يتخيله المرء» .
من هنا تبدو كتابات مانغويل بمجملها، وهي كتابات نادرة ومشوّقة، وكأنّها تنتمي إليك، تخصّك، تتحدث عن عالمك وتاريخك أنتَ، وعن نشأة تلك الأسفار الأولى في عالم صناعة الكتاب منذ الصين وابتكارهم للطباعة، ومن ثم عبورها إلى بغداد الخلفاء العباسيين المحبّين للكتب والعلم والثقافة كالأمين والمأمون ومن رافقهما من كتاب وعلماء وفقهاء ومدوّنين وورّاقين. لم ينس مانغويل الإشارة إلى أبي حيّان التوحيدي الورّاق، ولا إلى الكتبيّ المعروف ابن النديم، وإلى كارنيغي الإنكليزي، والفرنسيَّين ديدرو الموسوعي وصاحبه ديلامبير، مروراً بمئات الأسماء، لا بل ببحر من الأسماء التي صادفها وارتبطت بشكل ما بالكتاب.
ما أوردته أعلاه هو لمحة عامة عن الكتاب، أما فصوله الأربعة عشر، فإنها دون شك مثيرة وجذابة، تروي ظمأ الشغوفين بعالم الكتب ودورها في الحياة الإنسانية، وهي مقسّمة بطريقة لافتة تبدأ هكذا: ـ المكتبة كترتيب ـ المكتبة كمكان ـ المكتبة كسلطة ـ المكتبة كظل ـ المكتبة كشكل ـ المكتبة كمصادفة ـ المكتبة كمشغل ـ المكتبة كذهن ـ المكتبة كجزيرة ـ المكتبة كبقاء ـ المكتبة كنسيان ـ المكتبة كخيال ـ المكتبة كهوية ـ المكتبة كوطن. أهم ما لفت نظري في هذي الفصول من عناوين أخاذة فهو المكتبة كوطن. أجل المكتبة هي وطن حقيقي في المنفى، أو في مواطن الاغتراب، وقد تكون للمقيم في وطنه وهو من طينة أخرى، هي الوطن البديل الذي لا يضاهى.
تُعد كتب مانغويل التي يُصدّرها، وهي قليلة على نحو عام، من الكتب الأكثر مبيعاً في عالم النشر الآن، لغنى محتواها وثراء أفكارها ولنسبة عناصر التشويق الطافحة في متونها. وهي تدور غالباً في هذا العالم، عالم الكتب وجمالياتها وسحرها اللذين تضفيانه على الوجود الإنساني، وحتى روايته القصيرة وقد ترجمت هذا العام إلى العربية، رغم قصرها، تعد من الأعمال اللافتة والمثيرة، ولنا عودة اليها في وقت لاحق.
يُسدي البرتو مانغويل المديح، في فصول هذا الكتاب الجميل إلى كل من علمه وأفاد منه، إنْ كان على صعيد الخيال، أو الاطلاع أو المعرفة بشكل عام، أو أخذه في رحلة حلمية، مترعة بالهيام والولوع والفتنة. فهو إن تحدّث عن ارسطو وسقراط وأفلاطون، وعن أفكار الأول واهتمامه بالكتاب أينما وجد، فإنه لا ينسى البغدادي ابن طيفور، ولا الأندلسي ابن رشد، ولا علوم ابن سينا والرازي، وطائفة واسعة من الكتّاب والموسوعيين والكتبيّين الذين يأتي على ذكرهم، فهو أي مانغويل بحد ذاته مكتبة كبرى، ومتاهة من العناوين والحروف واللغات واللهجات والباحث الأمثل عن البراعات الأولى لليراع واللفيفة.
ولعل فصول هذا الكتاب وموج الأسماء الواردة فيه، والتي تطفو فوق سطحه تمنح القارئ معارف مجهولة وغامضة ومستترة، ولكن مانغويل كشفها وأبرزها وصاغها في أنسقة مبهجة لتكون فصول هذا الكتاب الممتع.
ففي الفصل الأول على سبيل المثال والمسمى «المكتبة كترتيب» يقترح طريقة معيّنة وبسيطة للترتيب، وربما تكون مستخدمة من قبل الكثيرين من القرّاء والمهتمين بشأن الكتاب، وهي كالتالي: «أبجدياً ـ حسب القارة أو البلد ـ حسب تاريخ الشراء ـ حسب تاريخ النشرـ حسب التصميم ـ حسب الجنس الأدبي ـ حسب الحقبة الأدبية ـ حسب اللغة ـ وفق أولويات قراءاتنا ـ وفق طريقة تجليدها ـ حسب السلسلة».
فهو حين يتحدّث، في سياق الترتيب الأبجدي فهو يعرّج على ابن خلكان القاضي البغدادي، مشيراً إلى مؤلفه «وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان» وقد ضمّ فيه ابن خلكان 826 مادة من سِيَر الشعراء والحكام والقادة والفقهاء والمؤرخين والناثرين والمحافظين والدعاة والزهّاد والوزراء ومفسّري القرآن والفلاسفة والأطباء وعلماء الدين والموسيقيين والقضاة، بالإضافة إلى ميولهم الجنسية وجدارتهم المهنية والمكانة الاجتماعية لصاحب السيرة، ويُسمّي ذلك «المكتبة البيوغرافية» أقصد مانغويل، ليختم بأن مؤلف ابن خلكان ذو الأسبقية الذي أعتمد في ترتيبه الأحرف الأبجدية.
في حديث شيّق، يسلط مانغويل ضوء كشوفاته على مكتبة الكونغرس وما تحتويه والفاتيكان والمكتبة الوطنية في الأرجنتين وكندا وفرنسا، وهي المدن التي قضّى فيها شطرا من حياته، كمقيم في مكتبة أو مستوطن في كتاب، أو راحلاً يجول حول العالم، متفقداً المكتبات في كلّ من سان فرانسيسكو وبيروت ونابولي وروما وأثينا، باحثاً عن سرّ الحروف الأولى قرب الأكروبول، حيث الجدل والحواريات التي لا يزال صداها يتردد في أعمدة ومدارج الآلهة في البانتيون.
أما في فصل «المكتبة كظل» فإنه يتحدّث عن إعدام الكتب، ليشير فيه إلى الوثنيين الذين أحرقوا دراسة شيشرون «في طبيعة الآلهة» لأنها شديدة الميل إلى التوحيد. ويشير أيضاً إلى اليسوعي المتشدّد جاكوب غرتسر، في مرافعة له حضّت على حرق الكتب المهرطقة والهدامة، دون أن ينسى دور هولاكو وإحراق الكتب العراقية، ليضيف إلى قائمته هتلر والنازية ووزير دعايته الذي أحرق الكتب إبّان تلك السنوات المريرة من عمر البشرية، ويضيف أيضاً ستالين والشيوعية ورقابتها في تلك الأيام والسَيْر مكارثي في أمريكا الذي حارب كل الكتّاب الأميركان اليساريين، وكذلك يمر في عصرنا الحالي على حركة طالبان وكاسترو وحكومة كوريا الشمالية ومسؤولي الجمارك الكندية، هذا دون أن يقيّض له الوقت أن يرى ما فعل ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام بالكتاب من تنكيل وحرق وإعدام لآلاف المخطوطات النادرة والتاريخية في كل من مكتبات الموصل وما جاورها من مدن سورية تقع تحت سيطرتهم.
إن كتاب البرتو مانغويل متعدّد الهُويات والإقامات والكائن العالمي بامتياز، «المكتبة في الليل» يحتاج منا إلى أكثر من قراءة ووقفة ومتابعة، على الأقل لكي نتعلم من مانغويل عشق الكتاب ومحبّته، في زمن التشظيات والظلام السابغ، الذي يحيط بأمة يـتآكلها النكال والخصام والهدم وعوامل التخريب التي تحيق بتاريخ هذه الأمة المعرّضة لانهيارات كبيرة، يخطط لها الطامعون والكارهون لصيغة التعايش العربي.
البرتو مانغويل: «المكتبة في الليل»، ترجمة أحمد م أحمد
دار الساقي بيروت، 2015
355 صفحة
عن جريدة القدس