هذه دراسة شيقة يقدم فيها الباحث العراقي وأستاذ الأدب العربي في جامعة أتونوما بمدريد مزيجا من الوثائق الأدبية والشهادة الشخصية والتناول النصي لآخر دواويين الشاعر العراقي الراحل.

البياتي في سنواته الأخيرة وتنهدات البحر

وليد صالح الخليفة

الحديث عن البياتي هو كالحديث عن بابل والأهرامات، لأنّ فيه ما فيهما من الأصالة والقِدم ولأنّه تشرّب بالتاريخ كما تشرّبا ولأنّه سيرث ما ورث هذان من خلود. كانت ذاكرة البياتي عامرة بأخبار الأولين والآخرين، وكان دائم التنقل بين الطريف والمُتلد، بين الماضي السحيق في قِدَمه والحاضر المُبهر في حداثته. صلتي بالبياتي الكبير كصديق بدأت في أوائل الثمانيات واستمرّت حتى وفاته. وخلال تلك السنوات الطويلة أُتيحت لي الفرصة بالتعرف عليه عن كثب وجلست إليه مئات المرات في العديد من المُدن، في مدريد وغرناطة وقرطبة وعمّان والدار البيضاء وغيرها. ودارت بيننا شتى الأحاديث في الأدب والسياسة والمجتمع. كتبتُ عنه الكثير وترجمت له ونقلت عنه وقرأت له وعنه العديد من الكتب والمقالات. كُتبت عن البياتي وخاصّة بعد وفاته في شهر أغسطس 1999 الكثير من المقالات والذكريات، غير أنّ معظم تلك الكتابات قد أكدت على البياتي الشاعر وأهملت البياتي الانسان. والبياتي الانسان، وخاصة في العقد الأخير من حياته غلبت عليه المعاناة والألم بشكل لم يكن قد عرفهما من قبلُ على تلك الصورة وبذلك العمق.

عاد البياتي إلى بغداد من إسبانبا في شهر مارس عام 1990، بعد أن أقام بها ما يزيد على عشر سنوات. وقد كانت حياته في اسبانبا خلال تلك الأعوام هادئة نوعمّا ومُرضية. غير أنّه وبعد مغادرته إيّاها بدأ رحلة من العذاب والألم. وكنت اتتبّع ذلك من خلال رسائله لي ومكالماته الهاتفية. بعد عودة البياتي إلى العراق بشهور قليلة حدثت الأزمة الكبيرة بين هذا البلد وبلدان العالم أجمع بسبب غزو الكويت. وأصبح العراق منعزلا عن الكون وتحوّل إلى نقطة ساخنة أخذت الأقمار الصناعية الأمريكية تُحدّق فيه وترقبه وترصد كلّ حركة بالمنطقة. وكان البياتي حينها في العراق، وهو الرجل الذي كان يُدرك جيداً بأنّ أمراً رهيباً كان يتربّص بالوطن. غير أنّ الضربة القاصمة التي أصابت البياتي في الصميم وأصابت عائلته جميعاً هو وفاة ابنته الكبيرة نادية في الولايات المتحدة الأمريكية في شهر نوفمبر من ذلك العام. وأراد البياتي السفر مع زوجته لحضور مراسيم دفن نادية، ولم يكن السفر من العراق أمراً هيّناً آنذاك. وبعد جهد شاقّ استطاع البياتي التوجه إلى الولايات المتحدة مع زوجته أم عليّ. ومن هناك كتب لي رسالة بتاريخ 3ـ12ـ1990 شعرت من خلال كلماتها بأنّ شيئاً ما قد تحطّم في داخل جسد البياتي، وبأنّ هذا الشيء المدمّر قد لازمه حتى وفاته كما تأكد لي خلال السنوات اللاحقة. ومن بين ما قاله لي في رسالته تلك: "... لم أكتب لك منذ مدّة طويلة، لأنّ الكوارث لاحقتنا منذ عودتنا (من إسبانبا) حتى اليوم وكان آخرها هو موت ابنتي نادية هنا في الولايات المتحدة منذ شهر تاركة ثلاث بنات صغيرات. وقد حضرت إلى الولايات المتحدة مع "أم علي"، وقد تمّ دفن نادية في مقبرة المسلمين هنا بناء على رغبة زوجها...".
وعلى أثر تلك الحادثة الأليمة كتب البياتي قصيدته المؤثرة "مراثي نادية البياتي" يقول فيها:
      مَن مات في غربته، مات شهيداً
      غمرته الأرض بالحنان
      حلّت روحه في طائر
      يرحلُ نحو الشمس
      مثل نجمة الصباح لا تُرى
      وجودٌ غائب: يذوب في الضياء
      يرحلُ من منازل الموتى
      إلى منازل الأحياء
      يسكن في دموعهم
      وفي صياح الطائر المُلتاع
      في زرقة السماء.
      ...
      أُمّكِ في ثوب الحداد صرخت
      وارحمةَ الغريب
      في البلد النازح
      ماذا صنعت به المقادير
      وماذا صنع الغياب
      والموتُ والغربةُ والتجواب
      قالت: لماذا، يا إلهي، أغلقت
      رحمتك الأبواب؟
      وغابت الشمس
      وحانت ساعة الفراق؟
      ...
      أهذه الدنيا هي الجحيم؟
      لَكَم إلهي،
      سحقت قلوبنا الغربة
      ها نحنُ على لائحة الموتى
      وفي المنفى
      وفي القبور.
      ...
      هندُ / هُدى / هناء
      ثلاثُ ورداتٍ على نافذة الشتاء
      ينبض في أوراقهنّ العطرُ والنّماء
      هنّ إلهي المُرتجى:
      بقيّةٌ منها ومن ربيعها المعطار". 

وبعد هذا الحادث الرهيب الذي سلب البياتي فلذة كبده، وحين لم يكن قد استعاد أنفاسه بعدُ، حلّ الخراب الكبيرُ بالوطن، وتمّ تدمير العراق العتيد الساكن في قلوب أبنائه وخاصّة المتغربين منهم وبينهم البياتي الذي شعر بأن ضربة قاسية أخرى تناله في الصميم، كما نالت أبناء هذا الشعب المقهور عندما حلّت عليه لعنة المجتمع الدولي في يناير من عام 1991. وكتب لي البياتي حينها من الولايات المتحدة يحكي عن ألمه العميق، قائلاً: "... الكارثة الكبرى التي حلّت بوطننا وشعبنا لا يمكن وصفها، وأظنك الآن تتذكّر أحاديثنا التي كنّا نسترسل بها في مدريد..."

وتوالت النكبات على أبي علي واضطرّ على العودة إلى العراق الذي كان غارقاً في مأساته، ودخل شعب بأكمله في نفق دامس لم يخرج منه حتى الآن، ويعلم الله كم من الوقت سيحتاج لتجاوزه، ناهيك عن نسيانه وقلب هذه الصفحة السوداء المؤلمة. ولم يطل به المقام كثيراً في الوطن، إذ غادره للاقامة في عمّان. ومن هناك كتب لي بتاريخ 11ـ7ـ1994 يخبرني بأمر جديد حلّ به، إذ وبسبب الظروف التي كان يعيشها أبناء العراق، وبدافع الفقر والحاجة والعوز فقد كثرت السرقات التي لم يكن هذا البلد يعرفها من قبلُ إلاّ نادراً. ويبدو أنّ يداً لئيمة قد طالت مكتبة البياتي الخاصة، فكتب لي شاكياً: "... بلغني أنّ مكتبتي في بغداد والتي تضمّ كل كتبي العربية والمترجمة والكتب المؤلفة عنّي قد سُرقت وبيعت...، وبهذا يكون قد ضاع جهد أربعين عاماً من البحث عن هذه الكتب شرقاً وغرباً... كم سأشكرك لو أرسلت لي كلّ ما يقع في يدك من كتبي المترجمة للإسبانية لكي أعوّض عن واحد بالمئة مما فقدتُ. هذا مجرّد رجاء في سنوات قاسية ضاع فيها الوطن، وهو أعزّ ما نملك، وضاع فيه كلّ ما نحبّ وما نملك من أوراق وذكريات..."

والسنوات التي تلت تلك الأحداث لم تكن أرحم من سابقتها، ففي عام 1995 دُعي إلى مهرجان الجنادرية بالعربية السعودية مع غيره من الأدباء العرب وبعض العراقيين من بينهم الشاعر الراحل الجواهري والصحفي سعد البزاز رئيس تحرير جريدة "الزمان" اللندنية، ويبدو أنّ السلطات الحاكمة في العراق لم ترقها تلك الزيارة فجرّدت هؤلاء الثلاثة من جنسياتهم العراقية احتجاجا منها بسبب سوء علاقاتها مع السعودية، فجاء ذلك بمثابة جرح غائر جديد في قلب البياتي الكبير الذي احتلّ حبّ الوطن في نفسه قدرا كبيرا.

تلك الظروف القاسية المتتالية بدأت تدكّ جسد البياتي المتعب أصلاً، وأخذ بمرور الأيام يفقد الكثير من حيويته ونشاطه المعهودين. وكان يحز في نفسه أن يقف سوء أحواله الصحية حائلا بينه وبين مساهماته الأدبية الفعالة في المهرجانات والمؤتمرات. وقد كتب لي في سنة 1997 في إحدى رسائله قائلاً: "وصلتني رسالتك الأخيرة، شكراً. منذ أشهر وحالتي الصحية ليست كما ينبغي، ولكنّي أتجلّد مقاوماً التلوّث الروحي والمادي الذي أصاب كلّ شيء..."

هكذا كانت حياة البياتي في سنواته الأخيرة، كانت أعواماً قاسية مرّة، وهو في هذه المرحلة يمثّل خير تمثيل طبقة المثقفين والكتّاب العراقيين الذين لاقوا في العقد الأخير من القرن الماضي الأمرّين بسبب الأوضاع الداخلية القلقة التي غلب عليها التضييق والأساليب القمعية القهرية من ناحية والعقوبات الدولية والحصار الذي قتل الآلاف وحطّم النفوس وكسر القلوب من ناحية ثانية. ربّما عزاؤنا الوحيد بوفاة البياتي سنة 1999 هو أن رحيله المبكر منعه من رؤية ما حلّ بالعراق لاحقاً بعد الاحتلال الأمريكي البشع للبلاد عم 2003 وتدمير مرافق الدولة وخلق حرب أهلية ضروس لا نعلم مداها ولا منتهاها.

والبياتي، كما نعلم، نشأ واستمرّ شاعراً ملتزماً بقضايا أمته وشعبه ووطنه. غير أنّ الالتزام في نتاجه الأخير وخاصة بعد أن عانى ما عاناه من تلك الظروف القاسية، قد تضاعف وشكواه تعمّقت بسبب آلامه الطافحة. ومن خلال مراجعة سريعة لقصائده لهذه المرحلة الأخيرة نتوصّل إلى تلك الحقيقة التي تعبّر خير تعبير عن ذلك الالتزام. 

تنهدات البحر
قد يكون ديوان البياتي الأخير "البحر بعيد ... أسمعه يتنهّد"، والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت سنة 1998 خير شاهد على المرحلة الأخيرة من حياة الشاعر. تلك المرحلة القلقة والكئيبة التي زلزلت كيان البياتي وأثارت فيه نوازع الشجن واليأس. والواقع أنّه لم يعد من السهل التحدث عن شعر البياتي والاتيان بالجديد، وذلك لكثرة الدراسات الجادّة والبحوث المتعمّقة التي تناولت دواوينه بالتحليل المفصّل. غير أنّه ومن حسن حظ الشعر العربي فإنّ البياتي يشكّل سلسلة من المراحل المتطورة، إذ لم يتوقف الشاعر منذ بداياته في أواخر الأربعينيات وحتى وفاته من التجريب في مظانّ الشعر وإضافة الجديد. فكلّما صدر له ديوان وجد فيه النقّاد تجاوزاً لتجاربه السابقة واكتشافاً لآفاق لم يكن الشعر العربي من قبل قد سبر أغوارها أو قد توغّل في أطرافها المترامية. بالاضافة إلى ذلك فإنّ أكثر من ناقد قد وجد في جُبّة البياتي ليس شاعراً واحداً بل عدّة شعراء، حيث أنّ كلّ مجموعة من دواوينه تكاد تشكّل شاعراً كبيراً ومستقلاً عن غيره، وإن كان الخيط الرابط بينهم موجوداً وغير منقطع.

ولا يخرج عن الحكم السابق ديوانه الأخير "البحر بعيد ... أسمعه يتنهّد" والذي يتضمّن خمساً وعشرين قصيدة، وردت أربع عشرة قصيدة منها بدون تاريخ والاحدى عشرة الباقية ذيّلها الشاعر بتاريخ كتابتها. وتعود أقدمها إلى أواخر عام 1995، مع أنّ الغالبيّة الكبرى ترجع إلى العام 1997. ومع أنّ خطوط البياتي وموضوعاته تتقاطع وتتداخل إلى حدّ كبير، فإنّ قصائد هذا الديوان تتجمّع حول محاور محدّدة يمكن للدارس أن يتبيّن ملامحها ويتعرّف على حدودها وتفاصيلها.

فالمحور الأول يشتمل على عدد من قصائد التأمّل والتي تنطلق من موقف فلسفي عميق. وقصائد هذا المحور هي: شهوة الحياة والبحر بعيد... أسمعه يتنهّد والخائنة ودولة الخدم. ويضمّن الشاعر قصائده هذه نظرات فلسفية دقيقة تقوم على فكر ثاقب مدعوم بتجارب حيّة خبرها الانسان على مرّ العصور. ففي قصيدة "شهوة الحياة" نقف عند تشبّث الانسان بالحياة على الرغم من قسوتها ومأساويتها. وهذا الطعم الحلو ـ المرّ والشعور المتناقض الطلب ـ الرفض، يتجسد منذ البيت الأول حين يقول:
             "متُّ من الحياة
             لكنّني
             ما زلت طفلا جائعاً
             يبكي
             كدودة تقرض تفّاحة
             كان هو الموت..." 

وتتجسّد هذه الرغبة العارمة في الاستمرار بالحياة والتمسك بها على الرغم من كلّ شيْ. هذا الموقف قد لازم الانسان منذ الأزل وعبّر عنه الكثير من الفلاسفة والشعراء.
ألم يقل شاعر المعرّة:
      نحبّ العيش بُغضاً للمنايا  ونحن بما هوينا أشقياءُ
وتتجلى في قصيدة "البحر بعيد... أسمعه يتنهّد" مشاعر الضياع والتيه والخطر والجنون. والشخصية التي يبدعها قلم الشاعر في هذه القصيدة ديدنها التضامن مع الآخرين والشكوى المرّة من الزمن الرديء، وهي بالتالي تنشد التمرّد كسبيل للخلاص:
             "وأنا بين معريّ النعمان
             والدؤليّ الأسود
             أبحث عن مخطوط
             لا أعرف من كان مؤلفه
             أو مَن ضيّعه:
             سيف الدولة 
             أم كافور الأخشيدي؟
             في زمن ما عاد به أحد
             يبكي أحداً
            أو يتمرّد"

وتثير قصيدة "الخائنة" لدى المُتلقّي الكثير من التساؤلات.لِمَ هذه الخيانة وقد ضحّى المحبّون والعاشقون بكلّ ما لديهم؟. وعلام هذا التقلّب وقد حازت على قلوب الشعراء واحداً بعد الآخر؟. وحتى كافور الأخشيدي لم يتردّد في منحها جارية وغلاماً، بالاضافة إلى أهاجي المتنبّي. ولكن ماذا كانت نتيجة ذلك كلّه؟ إنّ الخائنة قد:
             "عادت من غربتها تبكي
             في صحبة لاعب سيرك
             باعت كلّ هدايا العشّاق
             وباعت قمر المنفى
             وثياب العرس".

هل هي طبيعة الانسان الذي لا يقرّ له قرار ولا يستقرّ على حال؟ أم هي حالة خاصّة تميّز هذه الحبيبة التي تنقل فؤادها من حبيب إلى آخر، وهي لا تجد ضيراً باستبدال "ت.س. اليوت" و"والت وايتمان" بلاعب سيرك. قد تكون غرائب الأقدار تتأمّل هؤلاء العاشقين من بعيد وتسخر منهم. ربّما.

وتأتي قصيدة "دولة الخدم"، وهي في منتهى التركيز، لتطلق حكمة على لسان النواسيّ الذي تساوت في رأيه الأشياء واختلط الحابل بالنابل، عندما يقول:
             "النواسيّ قال لي: دولة الخدم
              يستوي في جحيمها
              ملك الطير
              والخدم"

أمّا المحور الثاني من محاور هذا الديوان، والذي يكاد يستقطب معظم قصائد "البحر بعيد..." فهو ما يمكن أن نصنّفه في باب القصيدة ـ الشخصيّة ـ القناع. ويعالج الشاعر في قصائد هذا المحور شخصيات من الفكر العربي والأجنبي، القديم والحديث. والبياتي، كما نعلم، مولع باستثمار الشخصيات التاريخية والتراثية التي يستلهمها في شعره ويحولها إلى مواد جوهريّة تعمل على تحريك القصيدة وتطويرها، فهي في الواقع، العنصر الدراميّ فيها، تثري الحدث وتتواصل مع القارئ وتعمل على مدّ جسر لتوصيل التجربة أو الفكرة التي تنطوي عليها القصيدة.

وتتميّز قصائد هذا المحور، بالاضافة إلى ذلك، بكونها تلجأ إلى الأداء القصصي في نموّها وتطورها. وقصائد هذا المحور هي: احتضار أبي تمّام، القطب والمريد، مرثيّة إلى برودسكي، العبّاس بن الأحنف، الحبّ المستحيل، إلى الجواهري الذي رحل في عيد ميلاده، إلى نجيب محفوظ، مرثيّة إلى محمّد شمسي، من اعترافات أبي نواس، وصف عمر الخيّام. في قصيدة "احتضار أبي تمّام" نشهد غربة المفكّر والشاعر بين أهله وقومه. نعيش احتضار الشاعر الذي عانى ما عاناه من عدم فهم الناس له. إنّه الشاعر المجدّد الذي وقف منه التقليديون والسلفيون موقف العداء. ألم يقل أحدهم عندما كان أبو تمّام يقرأ شعره: لماذا تقول ما لا يُفهم؟ فردّ عليه أبو تمّام على الفور قائلاً: ولماذا لا تفهم ما يُقال؟. فالعلّة لم تكن في نفس الشاعر، بل في المجتمع المتجمّد والرّاكن إلى الراحة والسكون والمستسيغ للتقليد الرافض للتجديد. وهكذا أيضاً، فأبو تمّام البياتي هو كالماء والريح لا يستقرّ بأرض، يبحث عن مستقرّ له إلاّ أنّه لا يجد إلاّ الخيبة:
             "ساعي البريد أنا
             أم طريد زمان يموت؟
             مؤرّخهم 
             فاته قلقي وانتظاري
             وسرّ احتضاري الطويل"

ويستعرض البياتي من جديد التجربة الصوفيّة في قصيدته "القطب والمريد". وتأتي التجربة هذه المرّة على يد الشيخ عبد القادر الكيلاني (ت. 1166م)، وهو كما نعلم واحد من كبار الصوفيين ومؤسس الطريقة القادرية. وضريحه موجود بمنطقة باب الشيخ في وسط بغداد، حيث وُلد البياتي وعايش حلقات المتصوفين ورأى عن قرب هؤلاء الفقراء والمعوزين الذين يحومون حول ضريح هذا القطب. وباسلوب قصصي مؤثر وشيّق يروي الشيخ الكيلاني للزائر المجهول ما جرى لحفيده الذي غيّبته الغربة وقست عليه الأحوال ولم تعد بغداد بالنسبة له سوى مقبرة للأحبّة. أليس هذا الحفيد هو البياتي نفسه؟
يقول في هذه القصيدة:
             "في آخر يوم 
             قبّل شُبّاك ضريحي
             قال: وداعا شيخي
             ومضى
             ما عادت بغداد
             إلا مقبرة لأحبّته
             وقصيدة حبّ ضاع"

وقصيدته "مرثيّة إلى برودسكي" المتكونة من ثلاثة مقاطع تجسّد موت هذا الشاعر الروسي في الغربة. ويعبّر البياتي عن شكواه المرّة لهذا المصير المؤلم الذي نال وما يزال العديد من مفكري وشعراء العالم. وتتجسّد روح الشاعر في عصفور يطلقه من محبسه موسيقيّ أعمى هو صديق للشاعر، فيحطّ على رأس تمثال "بوشكين" ثمّ يطير. وهكذا فإنّ برودسكي يتواصل ويتعاطف مع "بوشكين" الأديب الروسي الكبير.

أمّا قصيدته "العبّاس بن الأحنف ـ الحبّ المستحيل" والمتكونة أيضاً من ثلاثة مقاطع، فإنّ الشخصيّة ـ القناع فيها هذه المرّة هي من أشهر شعراء الغزل في عصر بني العباس. ولا يكاد يُعرف لهذا الشاعر شعر غير الغزل. وقد كان شاعراً مطبوعاً لطيف الحسّ يتبع مذهب عمر بن أبي ربيعة ويتمّمه. غير أنّ شخصيّة العباس بن الأحنف في قصيدة البياتي هي معاصرة تماماً بكل ملامحها وتحركاتها، مع أنّها تتواصل مع "العبّاس" التاريخي. إنّه يبحث عن الفرح في ظرف خلت الدنيا فيه من أيّة ابتسامة، ويرجو الرّقص في عالم خيّم عليه الحزن والموت حتى أُذنيه:
             " إنّها بغداد تستيقظ من موت إلى موت
             ومن حاناتها يخرج حفّار القبور
             والصعاليك وأشباه اللصوص
             شاحباً عبّاس في أعقابهم
             يشعل قنديل الحنين
             باحثاً في الكأس عن جارية أخرى
             أما من رقصة في ذلك الليل الطويل؟"

ويتّخذ البياتي من رحيل الجواهري في قصيدته "إلى الجواهري لذي رحل في عيد ميلاده" مبرراً وقناعاً لفضح للمارسات الخاطئة التي يعاني منها رجال الفكر في زماننا هذا ولابراز دور الشاعر العظيم الجواهري وما قاساه من عذاب ومرارة، ومع ذلك فقد بقي طوداً شامخاً على مدى ما يقرب من قرن من الزمان. وتشابهت محنة الجواهري في غربته الدائمة ونفيه مع غربة البياتي الشاعر، وأصبح كلّ منهما رمزاً للبعد والنفي والمعاناة الطويلة. وماذا عن بلد الجواهري الذي هو بلد البياتي أيضاً؟ إنّه يسير من بؤس إلى بؤس ومن ظلام إلى ظلام. وحتى نهر دجلة الذي تغنّى به الجواهري على البعاد من منفاه منذ ما يقرب من نصف قرن عندما قال:
       حيّيتُ سفحك عن بعدٍ فحيّيني         يا دجلة الخير يا أُمّ   البساتين
       حيّيتُ سفحك ظمآناً  ألوذ  به         لوذَ الحمائم بين الماء والطين

حتى دجلة هذا ما زال مكبلاً بالحزن والأسى عند البياتي الذي يقول:
       دجلة ما زال على عهده        محصّناً     بمدن      البؤس
       فمن شهيد لشهيد رأى          نجمك يدمي وهو في الرّمس

ولا ينسى البياتي دور الجواهري سياسياً ولا أدبياً، وكيف له أن ينسى الرجل الذي عاصر وساهم في التغييرات السياسية في العراق منذ العشرينيات بيده ولسانه، وليس هناك بين العراقيين وحتى بين العرب ممّن لا يحفظ الكثير من قصائد الجواهري التي نظمها ينتقد فيها الاستعمار ويدعو إلى التحرّر والدفاع عن حقوق الانسان. يقول عنه البياتي:
       شعرك كان الزاد والماء في       عراقنا الطاعن في  الحبس
       تعاقب    الطغاةُ   في   نفيه       بين الغد المجهول  والأمس
       تساقطوا وافترسوا بعضهم       بعضاً، وكانوا شارة النّحس
       هل  غادرَ العراقَ   عُشّاقُه       واستوحشت  مرابع  الأنس

وكما نرى فقد اختار البياتي شكل الشعر التقليدي في نظم قصيدته، فسار على البحر السريع ربّما من أجل التضامن مع الجواهري الذي يعتبر من أكبر الشعراء العرب المعاصرين الذين حافظوا على التقليد الشعري العربي في شكله ولغته وأساليبه.

ومن القصائد المهمّة التي تندرج تحت هذا المحور قصيدة "وصف عمر الخيام". ومن المعلوم أنّ البياتي استوحى شخصية الخيام في أكثر من قصيدة، كما أنّ الشخصية المركزية أو بطل مسرحيته الوحيدة "محاكمة في نيسابور" هو عمر الخيّام. والخيام لكونه نموذجاً للمفكّر المتمرّد الثائر هو واحد من شخصيّات البياتي المفضلة. وعمر الخيام هنا هو الشعر بعينه وهو القصائد نفسها، حيث أنّه كان يردّد الأبيات حتى قبل أن يُبصر النور. وكانت القصائد مذخورة في الأرض إلى أن جاء الخيّام ليخرجها من رحِم الأرض واحدة بعد الأخرى. وقد يكون ملخّص وصف الخيام لدى الببياتي في المقطع الثاني من القصيدة والذي لا يتعدّى البيت الواحد، حيث يقول:
        في وجهه حديقة لا تُرى       وعُنفوان الرجل الطّفل

والمحور الثالث بهذا الديوان يتشكّل من القصائد ـ الشكوى. وتمتاز بكونها مشوبة بعنصر السخرية، وهي تنحو إلى التعبير بالاسلوب المباشر. والقصائد التي تدخل ضمن هذا المحور هي: مَن يملك الوطن؟، التنّين، الكابوس. والعناوين هنا ليست بريئة أو وليدة الصدفة، بل هي مقصودة ومعنيّة، لأنّ لها دلالات ومعانيا. ففي قصيدته "مّن يملك الوطن؟" المركّزة إلى أكبر حدّ تكاد تكون صرخة تمزّق الضمائر وتهزّ الكيانات وتتوجه كسهم قاتل. والسؤال هنا مجازيّ يعرف الجميع جوابه، إذ لم يعد الوطن بيد مّن يستحقّ أن يُمسك بزمام الأمور ويسهر حفاظاً على كرامته، بل صار بيد اللصوص والقتلة وقطاع الطرق من بائعي الذمّة والضمير. يقول البياتي:
             "مَن يملك الوطن؟
             القاتل المأجور والسجّان
             يا سيدتي
             أم رجل المطر؟
             نازك والسيّاب والجواهري؟
             أم سارق الرّغيف والدواء والوطن؟"

وقصيدة "التنّين" شكوى مرّة أخرى ذات نظرة أمميّة. تتضمّن مقطعين وتصوّر باسلوب ساخر وحادّ كيف أنّ الدكتادور الهمجي قد لبس لبوس الحَمَل وادّعى أنّه غير قادر حتى على قتل عصفور، وإن كانت حقيقته غير ذلك وإنّ له مخالب الأسد وأنياب الذئب، وهو لا يتردّد في مسخ كلّ شيء والتحكّم بكلّ شيء من خلال كلاب حراسته. والدكتادور لسوء الحظ يتواجد في كلّ زاوية ومقهى وملهى وسوق. وهو لا يخصّ بلداً واحداً، لأنّه ألغى نيرودا وماركيث وأمادو، ولأنّه يتناسخ من بحر الكاريبي حتى سور الصين. وقد صوّر لنا البياتي هذا الدكتادور تصويراً مهولاً عندما قال:
             "سمّى باسم سيادته كلّ الساحات
             وكلّ الأنهار
             وكلّ سجون الوطن المقهور.
             أحرق آخر عرّاف لم يسجد للصنم المعبود،
             مدّعياً أنّ الموت هدايا ونذور.
             عاث كلاب حراسته في الأرض فساداً
             سرقوا قوت الشعب
             اغتصبوا ربّات الشعر
             وزوجات رجال ماتوا تحت التعذيب
             وصبايا وأرامل حرب هُزموا هُم فيها
             فرّوا كأرانب في حقل البرسيم.
             تركوا جثث القتلى: عُمّالاً / فلاّحين
             كُتّاباً / فنّانين
            أطفالاً في العشرين"

وأخيراً، فإنّ قصيدة "الكابوس" التي يختتم بها الشاعر ديوانه والتي يصوغها حول "الرجل الصغير"، وهو عنوان قصّة للكاتب العراقي عبد الملك نوري. والقصيدة هذه كسابقتها تصوّر قوّة الشرّ والظلام وتفضحها، لأنّها تتقصّى وتطارد رجال الفكر لأنّهم يناصرون الحقّ والعدل. أمّا القوى الشرّيرة العمياء فإنّها تكره الكُتّاب والكُتب. يقول البياتي:
             "شبحٌ يُطارد في الظلام مؤلّف (الرجل الصغير)
             يتشمّم الكتب القديمة في رفوف المكتبات
             في ساحة السعدون 
             أو في سوق السّراي
             ويعود مخذولاً إلى المقهى
             فلا يجد الأُلى 
             بالأمس طاردهم
             فقد طاروا كأسراب الطيور
             إلى المنافي
             لم يعُد صيدٌ وفيرٌ، فالمقابر والسجون
             تكتظّ بالباقين"

وفي هذا الجو الموبوء تشوّه كلّ شيء وفسدت الضمائر، وحتى عشتار فإنّها فقدت عذريتها ونقاءها وصارت ذئبة عمياء ولم تعد سوى ثُمالة يعافها الناس وتمجّها الأذواق وهي نهب للطغاة:
             "عشتار في مرآتها الأخرى وتحت حصارهم
             أمّ عجوز ترتدي الأسمال
             تبكي في الخفاء"

إنّه باختصار الكابوس الذي خيّم على صدر الوطن وأحال كلّ شيء ركاماً وسمّم القلوب وقضى على بذرة الخير في النفوس. إنّها اللعنة التي حلّت بتلك البقاع منذ عقود. تعوّذ منها البياتي في أكثر من قصيدة كما فضحها شعراء آخرون غيره. وقد قرأنا منذ زمن قصيدة للبياتي بعنوان "المخبر" وأخرى للسياب بنفس العنوان.

ويمكن أن نسمّي المحور الرابع بالقصيدة ـ الرمز. والبياتي كما نعلم هو من أفضل الشعراء المعاصرين الذين عرفوا حدود استعمال الرمز ودلالاته الدقيقة. وتدخل في إطار هذا المحور قصائده "الوجه المقدّس، حديقة الشتاء ورؤيا في قصر الشتاء. والرمز أيضاً من المحطّات الكبرى للشعر العربي الحديث الذي أجاد أيّما اجادة في توظيفه والنّهل منه. وهو إلى جانب وظيفته الفنيّة في القصيدة يشحذ الخيال ويؤدّي بالفكر إلى التحليق في عوالم نائية وفي أصقاع خياليّة أو حقيقية.

ففي "الوجه المقدس" نتأمّل محيّا الحبيبة التي ترمز إلى قسمات وملامح الوطن الحبيب. إنّه الحبّ البريء الذي لا يشيخ، بل انّه يستمرّ نبعاً يتجدّد على مرّ الزمن.
             "هل أنتِ التي أحببتها في زمن آخر
             أم أنتِ التي مارس السحر
             على دجلة والفرات في فجر الحضارات
             ففاضا ذهباً
             أم أنتِ في طفولتي
             كُنتِ بنومي امرأة تمارس الطقوس
             لم تكبري، وجهك ما زال، كما كان
             بهيّاً صافياً
             يشعّ منه النّور"

ومن جديد رمز البياتي إلى الوطن بحديقة الشتاء، وهي القصيدة المهداة إلى روح الشاعر بلند الحيدري:
        دجلة والفرات   فاضا  دماً          من ألف ألفٍ حيثما شئتِ
       (سومر) قلبي تحت أنقاضه          قيثارة       دفنتها    أنتِ
        تناهب    الطغاة   تاريخها          وتوّجوا   بالدم   والمقت

أما قصيدته "رؤيا في قصر الشتاء" فإنّها ترمز إلى التغييرات التي جرت في السنوات الأخيرة في الاتحاد السوفياتي السابق وما كان يُعرف بالدول الاشتراكية. والبياتي ذو التوجه اليساري والانساني يشعر بألم وحزن كبيرين، لأنّ ذلك الذي كان أملاً للشعوب المعدمة والفقيرة والمستقبل الطيّب الذي كان منتظراً لملايين العمال والفلاحين صار بيد المتاجرين بمصائر الناس من أصحاب رؤوس الأموال والامبرياليين. يقول البياتي بمرارة وألم:
             " في زمن الغواية والسقوط
             مَن يعرف الآن الطريق
             إلى منافي الشمس
             غوركي كان يعرف ما يخبّئه اللصوص
             في الساحة الحمراء
             أو في قصر الشتاء
             وكان يعرف: أنّ أحفاداً لهم
             سيقايضون النجمة الحمراء
             بالدولار"

ويتخيّل البياتي وجه المعلم "لينين" الذي يطلّ على الملايين كما أطلّ من قبل محيّا المسيح. ولكن يا للخيبة لقد ضاع كل شيء وانقلبت الأشياء رأساً على عقب، وتحقق الواقع البائس الذي كان يتخوّف منه الكثير من رجال العلم والفكر. إذن لقد كانت رؤيا غوركي صائبة ولم يخطئ في تنبئه.

ويشتمل المحور الخامس على قصائد حبّ، وهو الموضوع المحبّب الآخر لدى البياتي. ويستقطب هذا المحور قصائده "إلهة القمر، مطر فوق الأطلس، العمياء، الحريق وهنادي.

في قصيدة "الحريق" تتلاقح الصور وتندمج لتخلق لنا لوحة من الجمال والخيال الذي يحلّق بعيداً. ويختلط الحبّ العفيف الطاهر بنوازع الجسد الذي يشتهي اللقاء ويرجو الانصهار ليخلق خلقاً جديدياً:
             "أُميمة قالت لمرآتها
             ها هنا جثم النسرُ فوقي
             ومرّت مخالبه فوق نهدي
             تاركة قمراً وصليب
             تملّكني وأنا بين ذراعيه
             أسبحُ مجنونة ببريق النجوم
             توغّل بي حارثاً جسدي البكر
             فكدت / وقد خطف الحب قلبي / أموت
             أعانقه وهو عنّي بعيد
             وأشربه وهو منّي قريب"

ألا يذكرنا هذان البيتان الأخيران برابعة العدوية أو بابن العربي؟ إنّ الحبّ عند البياتي هو المحرّك الأساسي والجوهري للحياة، وهو النور ذلك العنصر المولّد في قصائده.

فالمرأة ليست المثيرة لرغبات الجسد فحسب، لأنّها أيضاً شريكة الدرب وزميلة النضال في طريق الالتزام والصراع من أجل بلوغ الحقيقة. وما زالت عائشة رمزاً للحياة وللمرأة الكاملة والحبّ الأزليّ، وهي ما زالت ترافق الشاعر في حلّه وترحاله، في غربته ومنفاه. يقول في قصيدته "مطر فوق الأطلس":
             " كنت وعائشة
             نتبادل في المرآة الأدوار
             حتى أصبحت أنا الأصل
             وصارت هي ظلّي
             قال الملك الإشبيليّ لأمّي
             بنتكِ ساحرةٌ
             سلبت عقل الملك الضليل
             مَن سمّاها: كان يرى في المرآة السحرية
             وجه ملاك
             من منفاه يعود"

وكما نرى في هذه الأبيات فإنّ الشاعر ينصهر أو يندمج مع حبيبته عائشة. والحبيبة رائعة حدّ السحر وإنّها تسلب عقول المحبّين. والمحبّون في هذه القصيدة هم من كبار العشّاق، اضافة إلى كونهم ملوكاً. فالملك الضليل امرؤ القيس والملك الاشبيليّ المعتمد بن العبّاد اشتهرا بقصص الحبّ وبرهافة الحسّ ورقّة العاطفة. والحبّ والشعر لا ينفصلان، وسيستمرّان ما دام للانسان قلب ينبض.

ويتمثل المحور السادس والأخير بالقصيدة ـ الحوار. وهذه سمة أخرى من سمات الشعر الحديث، والتي تأثّر بها كثيراً بالفنّ الدرامي الذي يقوم على الفعل والحركة والحدث الذي ينمو تدريجياً. وتتعدّد الأصوات في القصيدة الواحدة وتتقابل أو تتعارض لتساهم في بلورة الحدث والدفع به نحو النهاية. وقصيدة "التروبادور" هي خير مثال على هذا النوع من القصائد في الديوان.

والقصيدة على الرغم من قصرها تظهر فيها أصوات عدّة وتتعدّد شخصياتها من التروبادور، وهم الشعراء الذين كانوا يتغنّون بقصائدهم في العصر الوسيط في جنوب فرنسا، وإن كانوا في قصيدة البياتي أحدث عهداً، لأنّهم ينتمون إلى الأندلس الشائع، وهم يبكون "المادونا" مريم العذراء.

وينعقد الحوار بين الشخصيات الأربع وتتداخل العصور وتتضارب الأهواء وتصبح غرناطة مركزاً لهذا الحوار، ويتساءل أحدهم:
             "قال الثالث:
             هل سقطت غرناطة
             أم ما زالت تتلألأ كالنجمة؟
             فالمادونا تلد الآن
             حفيداً آخر تحت قباب النور
             وتحت نحيب النافورة في قصر الحمراء
             سيعيد كتابة (لا غالب إلاّ اللّه)
             في مدن أخرى
             لم يضرّ بها الزلزال"

فعلى الرغم من الحزن المخيّم والألم المقيم، وعلى الرغم من نحيب النافورة، فإنّ الأمل معقود على الحفيد الجديد الذي سيفتح بلداناً جديدة لينقش فيها ختمه القديم ـ الجديد (لا غالب إلاّ اللّه) على جدران قصور ومساجد لم تعرف من قبل هذه الكلمات.

ويأتي الصوت الرابع ليكون أكثر تفاؤلاً وتفتّحا نحو الحياة، إذ أنّه لا يرضى بالنحيب وندب الحظوظ، ولأنّه يرى في قومه بذرة الخير التي يمكن لها أن تخلق الجديد وتتواصل مع الأجداد:
             "قال الرابع: نحن بذور النّار
             نبدع في المنفى
             أندلساً
             فلماذا ليلَ نهار
             تبكي القيثارات؟"

وبعدُ، فهذا ديوان البياتي الأخير الذي يتربّع علة قمّة تراثٍ قوامه نصف قرن من الانتاج الشعري الخصب والدائم، تراث البياتي الطويل العريض. ويمثّل الحبّة الأخيرة من العنقود الذهبي الذي بدأ الشاعر بصياغته في أواخر الأربعينيات، وهو منذ تلك الساعة وحتى وفاته لم يزل يقوم على بلورته وصقله، فبات جماله يُبهر الأبصار وأصبح لألاؤه يتجاوز الحدود الاقليمية للعالم العربي ليُدخل صاحبه بخطى ثابتة ورصينة في عداد الكتّاب العالميين. سيبقى اسم البياتي يتردّد، شئنا أم أبينا، في المستقبل كلّما جرى الحديث حول الشعر العربيّ، لأنّ شاعراً بقامته لا يمكن تهميشه أو تناسيه، خاصة وأنّ بصماته طُبعت بل نُقشت بعمق على خارطة الثقافة العربية إلى الأبد. 

جامعة أوتونوما بمدريد