«اللامكان» يكتب الشاعر المغربي فتح الله بوعزة، وهو يخصنا بهذا النص الشعري الجديد، يرصد من خلاله قدر الشاعر في تلمس مقولتي «الحضور» و«الغياب». ومن خلال هذا الحفر في اللغة واستعاراتها يلملم الشاعر تشظي الصورة حين حاول أن يتلمس ما يحدث أمامه، لم يجد غير القصيدة وهي تنكتب على البياض.

حينَ ارْتدتِ الْغابةُ رأْسِي

فتح الله بوعزة

لستُ ضئيلَ الحجْم
لكن المكانَ عائمٌ
والنّاسَ هيولى!

 

همْ رأوا غابةً خضْراءَ
على رأْسي
غابةً في كاملِ ضوْضائها
وأنا لم أرَـ من قبل ـ على رأسي غابةً
لكنَّ الْعصافيرَ
إذْ تنْقر عوداً يانعاً
توجعُ جنْبي!

 

مدٌّ عالٍ
يغسلُ أكْتافَ الشّجر
ورملَ الصّحارى الْبعيدةِ
الْبحيرةُ التي في داخلي
فاضَتْ!

 

همْ رأَوا غابةً خضراءَ على رأْسي:
هاهنا شاعرٌ
موغلٌ  في ضبابِ الصّباحِ
على كرْسيّ هزّازٍ
بِمشابكَ من فضّةٍ
يطعمُ الْحطّابَ بذورَ الْيقينْ!

 

ها هُنا سقطتْ أشجارٌ
 ووِلْدانٌ بأراجيحَ انْكَمَشتْ
بمَحاجِرِهِمْ
حبَّاتُ النَّدى

ها هُنا افْترشتْ نسوةٌ
لغَطَ الرُّكْبانِ
و قيلَ:
"تداعى الدَّمُ أنهاراً"
وانْقبضتْ ـ في الْهواءِ ـ أصابعُ
منْ ذابوا
ثم انْفرجتْ
مثلَ عينيْ حوريةٍ
تصطادُ النَّدَى!

 

حطّابونَ
وقنّاصونَ
وحمّالونَ مرّوا منها
كانوا يحْفرونَ بين أصابِعي
بِكثيرٍ منَ الصّبرِ
ولأنّ رؤوسَهمْ كانتْ محنيةً
ولأنّ قامَتي صفْصافةٌ
وكتفيَّ سحابةٌ
فقد أنْعشهمْ ظلّي!

 

انْحنَوا على الأرْضِ طويلا
ثبّتوا المساميرَ في قدميّ
وكنْتُ أرسمُ في الْهواءِ
ـ فوقَ رؤوسهم مباشرة ـ
غيوما صغيرةً

ورياحينَ تحرّك أعناقَها

وعصافيرَ تهشّ على وجْهي!

 

يحرثونَ الأرْضَ ذهاباً وإياباً

في المساءِ يتذكّرون

 بكثيرٍ منَ الأسى

أنّهم لم يجْلبوا بذوراً

وأنّهم مرّوا بكثير من الغيماتِ

وأنّ جمْجمتي

 تحتاجُ إلى رتقٍ كاملٍ

لمداخنِها!

 

ها هنا نسوةٌ مرحاتٌ

يرفعْن أكْمامهنّ قليلاً

إلى الأعْلى

يرْخين ضفائرهنّ الطويلةَ

في فرحٍ

أنتَ لمْ ترَ شيئاً

أنا كنتُ مضْطرباً

فتعالى الغبارُ حوالي

وارْتدتِ الغابةُ رأسي!

 

لم أكنْ مسْرعاً في خطْوي
ولم أغرقْ في ماءِ الْبحيرةِ
أنتَ رأيتَ انْكسارَ الماءِ
على حائطي
ورأيتَ البحيرةَ

 في كفّي

أزْبدتْ!

 

هم رأوا غابة خضراء على رأسي
لكني حينَ الْتفتُّ
إلى حيث مالتْ أصابعُهم
لم أجدْني
هواءٌ أنا لا يُرى؟