ماذا لو جمعنا كلّ كتب العالم في كتابٍ واحد، بدلاً من رفوف المكتبة؟ هذه واحدة من الأفكار الفانتازية التي يطرحها الروائي الصربي زوران جيفكوفيتش في روايته «المكتبة» («دار أثر» ـــ ترجمة نوف الميموني). كاتب مهووس بالمكتبات يجد نفسه محاصراً بمواقف كابوسية، ومتاهة لا يخرج منها بسهولة، كما لو أنه في برج بابل للغات. المكتبة هنا لا تشبه مكتبة أمبرتو ايكو في «اسم الوردة»، إنما موزاييك مكتبات تضع الراوي في مواقف غرائبية. رسالة دعائية تصله إلى بريده الالكتروني تدعوه بسطور قليلة إلى زيارة موقع «المكتبة الافتراضية». مكتبة تضم جميع الكتب المنشورة في العالم. بنوع من الفضول يكتب اسمه في محرّك البحث، وإذا به يجد كتبه الثلاثة في نسخٍ الكترونية كاملة، ونبذة عن حياته، واحتمالات للكتب التي سيؤلفها مستقبلاً، وتاريخ موته. ما أغضبه هو استباحة حقوقه كمؤلف من دون إذن منه، لكنه لن يقف متفرجاً على قرصنة كتبه، فيكتب رسالة إلى الموقع يعبّر فيها عن استيائه من عملية السطو على كتبه، غير أن إدارة الموقع ستعاجل بحجب الصفحة عنه بطريقة ما، ما يضطره إلى الاستسلام.
الحركة الثانية ستقودنا إلى صندوق البريد. يفتح الصندوق فيجد كتاباً ضخماً بعنوان «أدب العالم»، لكنه ما أن يتناوله حتى تتناسل كتب أخرى من جوف الصندوق، فيضطر إلى حملها على دفعات إلى شقته الضيّقة.
سيتخلى عن الطاولة والكراسي والسرير وخزانة الثياب، لوضع الكتب مكانها والاكتفاء بركن ضيّق بالكاد يسمح له بالحركة. بعد حصوله على هذه الكنوز من المجلّدات، سيصل إلى يقين بأن معظم هذه الكتب قد «تركت وراءها شيئاً من الغبار». على هذا المنوال التوليدي يتجوّل زوران جيفكو فيتش بين أنواع المكتبات، وسيكتشف وجود «المكتبة الليلية»، هذه المكتبة التي تضعه حيال ألغاز أخرى.
سيدخل المكتبة قبل إغلاق أبوابها بدقائق، لكنه ما أن يدخل الردهة حتى يجد نفسه وحيداً في الظلام، وعندما يصعد الدرج إلى القاعة يجد شخصاً غامضاً يجلس وراء مكتبه، فيفاجأ حين يعلمه الرجل أنه مسؤول عن المكتبة الليلية التي تتيح «كتب الحياة» فقط، وتالياً فهي مكتبة ضخمة تحتوي على أكثر من مئة مليار من هذه الكتب، فيقرر أن يقرأ كتاب حياته. يحضر الرجل ملّفاً يحتوي يوميات الراوي بتواريخ متسلسلة ليكتشف أن ما يقرؤه ليس كتاب حياة، بل هو ملف أمني عنه، وهذا ما يشعره بالفزع، وبأنه مراقب تماماً.
هناك أيضاً «مكتبة الجحيم»، هذه المكتبة التي استبدلت العقوبات القديمة بعقوبات تواكب التطوّر التقني، ذلك أن «لكل زمنٍ جحيمه، وجحيم اليوم المكتبة». سيخبره شخص غامض يعمل على الحاسوب بأن «علاج من أهمل القراءة في حياته»، هو القراءة الإجبارية، «سوف تجلس في زنزانتك وتقرأ.هذا كل ما تفعله». سيختار قراءة الكتب البوليسية لكن الرجل بعد أن يفحص ملّفه بدقّة، يقرر بأن الأنسب له كعلاج هو قراءة الأدب الرعوي إلى الأبد.
في جولته على أماكن بيع الكتب المستعملة سينتبه إلى أن البائع الذي خمّن بأنه كاتب (للكتّاب رائحة خاصة بهم)، دسّ كتاباً إضافياً في الكيس. كان عنوان الكتاب «أصغر مكتبة». لم يجد اسم المؤلف أو معلومات عن اسم دار النشر، وحين بحث عن اسم هذا الكتاب الغريب في فهرس المكتبة الوطنية على الانترنت، لم يحصل على أية معلومات عنه. خلال تقليبه الصفحات سيقع، في كل مرّة، على اسم رواية جديدة، لكنه ما أن يغلقه حتى تختفي وتتحوّل إلى صفحة بيضاء، ولم يجد حلّاً إلا بإعادة نسخ الصفحات، ومنحها دورة حياة جديدة «عندما أنسخ الصفحة الأخيرة سوف أغلق الكتاب. وبهذا لن تعيش الرواية إلا في مسودتي، ومن سيلومني عندها إن أضفت اسمي فوق العنوان؟».
تسلّل كتاب رديء إلى مكتبة نفيسة يدمّرها تماماً، ويجب إتلافه فوراً، هذا ما سيسعى إليه الراوي في جولته الأخيرة للحفاظ على أناقة مكتبته «لا أحد سوى الجهلة والسفهاء يدّعون أن من الخطأ أن تحكم على الكتاب من غلافه» يقول. الكتاب الذي انتهى إلى سلّة المهملات عاد إلى مكانه ثانيةً، فاضطر إلى تمزيقه، وحين ألقى نظرة جديدة إلى المكتبة شاهده كما كان في نسخته الأولى، فقرّر أن يلقي به من فوق جسر بعد ربطه بحجر ثقيل، أو من فوق بناية عالية، ثم تحت سكة قطار، لكن كل هذه المحاولات ستبوء بالفشل، ولم يبق أمامه إلا أن يلتهمه بالشوكة والسكين، كما لو أنه طبق طعام، وهنا يخلص إلى نتيجة مفادها بأن لكل كتاب طعمه الخاص الذي يختلف عن سواه.
النجاح الساحق الذي حققته هذه الرواية بطبعاتها المتعدّدة إثر فوز صاحبها بجائزة «الفانتازيا العالمية- 2003» في أميركا، جعلت ناشراً أميركياً يطلب منه تغيير اسمه إلى «دونالد ليفينغستون» بقصد تسويقه على نحوٍ أفضل، لكنه رفض العرض محافظاً على اسمه الأصلي: «زوران جيفكوفيتش».
عن جريدة الأخبار اللبنانية