تقديم:
تثير رواية دموع باخوس(1) أسئلة نقدية جديدة،متولدة من الجدة الكامنة في موضوعها وأجوائها وبنائها ولغتها،وتعد في اعتقادي من الروايات المقلقة،على مستوى التلقي،لما تفرضه،بقوتها،من استحضار مدونة مفاهيمية نقدية مواكبة لتلك القوة،ومن قدرة على استكناه جمالية الكتابة الروائية،فيها،بكل تدفقها وتوهجها.
ومن الأسئلة التي تحفزنا على طرحها،هذه الرواية:سؤال البناء الجمالي،وما يتصل به من قضايا التعبير عن أزمات الوجود المعاصر المغربي والإنساني؟
أولا:رواية جديدة:لماذا؟
وسمنا عمل الروائي محمد أمنصور[دموع باخوس]بأنه رواية جديدة،لا بصفة الجدة الزمنية فقط،بل بصفة الجدة الفنية،وهذا حكم نقدي يستدل عليه من الرواية ذاتها،ذلك أن دموع باخوس تقوم على بناء جمالي يضمن الرواية داخل الرواية،ويتحدث عن الكتابة الروائية وخصائصها البنائية الفنية داخل المتن الروائي..ونحن نعلم أن هذا الصنيع الإبداعي قد شغف به كتاب كثر من أعلام الرواية المغاربة المعاصرين منهم محمد عزالدين التازي ومحمد برادة وأحمد المديني ومحمد أنقار...
لكن محمد أمنصور يضيف،من بين ما يضيف،إلى هذا الصنيع الروائي*الذي يسميه البعض بالميتارواية والبعض الآخر بالروائية..*إضافة ليست من منطلق متعال أو متعالم بل من منطلق له مسوغات فنية،تنطوي على مقبولية جمالية ،فهو إذ يتحدث عن الرواية إنما يفعل ذلك في صميم البناء الجمالي لرواية دموع باخوس ويصبح ذاك الحديث عن الرواية من صميم لحمتها وحبكتها وجديلة ضفيرتها الكتابية الفنية.وإذا استحضرنا سياق الروائية في متن دموع باخوس ألفينا هذا الحديث الجمالي عن صنعة الرواية منبثا في النسيج الروائي عندما كان السارد[أنور]يعلق على مخطوط رواية صديقه[علاء] المسماة [منزل البهلوان]وهي رواية داخل روايةدموع باخوس وكلتا الروايتين تتلاقيان على حدث بارز هو سرقة الإله الروماني باخوس من مدينة وليلي وما نتج عنه من أحداث اجتماعية مرعبة ومخيفة نظرا للقمع والتعذيب الذين تعرض لهما السكان المجاورون لوليلي جراء تلك السرقة المشؤومة،على أن رواية علاء تقول ذلك بضجة ومباشرة وتقريرية شبيهة بروايات السبعينات في المغرب،وهو ما لايستسيغه الذوق الروائي الآن إبداعا ونقدا،وفي إطراء الذوق الجديد والتأكيد عليه وعلى ضرورته إبداعا وتلقيا تصبح رواية دموع باخوس جديدة،بهذا الأفق الذي تشترعه جماليا.
ثانيا:دموع باخوس:رواية من؟
ليس طرح هذا السؤال مجانيا، بل هو من صميم القراءة النقدية المنصتة لجمالية الرواية المسماة(دموع باخوس)إذ أن القارئ يفاجأ وهو يتابع قراءة فصول هذه الرواية بوجود(فخاخ الصنعة الروائية)التي لا تدعه يركن إلى "القراءة الخطية التتابعية"ذلك أن رواية محمد أمنصور تتخلق في أعطافها رواية أخرى اسمها (منزل البهلوان)وهذه الرواية تدور هي أيضا حول باخوس الإله الروماني،وتنعطف بدورها إلى الأحداث المرتبطة بسرقة هذا الإله في علاقتها بحياة الناس وتظهر شخصيات أخرى في متن هذه الرواية الجديدة منها بالأخص شخصية ادريس الموظف البسيط وإيميلي شقيقة شيلا-وهذه باحثة أمريكية كتبت أطروحة حول باخوس وليلي لكنها ماتت فيمن مات من ركاب الطائرة المتجهة إلى المغرب.ماتت شيلا ميتة مروعة وترك موتها فراغا في قضية باخوس وليلي..ومن هنا تكون رواية(منزل البهلوان)بفصليها الإثنين اللذين كتبهما علاء ونركهما من بين ما ترك من إرث روائي حول باخوس المنهوب الباكي المعتدى على أهله الباكين كذلك...هذه الرواية سنجدها في الملف الرمادي الذي تركه علاء كوصية ووديعة في يدي صديقته روزالي من أجل توصيلها إلى صديق العمر أنور السارد الرئيسي في رواية دموع باخوس ولوضعية هذه الرواية الموروثة عن صديق العمر علاء ينبغي التذكير بالمعمار الروائي لرواية دموع باخوس:
تتكون رواية محمد أمنصور من:
الباب الأول:يحمل عنوان(الوصية):وتندرج تحته أربعة فصول هي:
الفصل1:القريةالتي عبدت إلها غير معلن بشكل رسمي.
الفصل2:النهر الذي يضمن حمل البول المقدس إلى مصبه الكوني في المحيط الأطلسي.
الفصل3:هاتف المرحوم يدلي باسم امرأة تدعى روزالي.
الفصل4:كيف تسقط المستشقرات في الفخ الجمالي.
الباب الثاني:منزل البهلوان:ويتشكل من أربعة فصول هي:
الغصل1:الرسالة ذات النبرة الآمرة المتخفية.
الفصل2:الشقراء الأمريكية التي تعقبت خطوات الملكة كيلوباترا.
الفصل3:الرجل الذي تنكرت له إيميلي بعد عودتها إلى أمريكا.
الفصل4: الفصل الثالث من رواية منزل البهلوان وهو غير مكتوب.ويتكون هذا الفصل من أربعة مقاطع كل واحد منها يحمل عنوانا كأنه عنوان فصل...
الباب الثالث:السر المحجوب:وينطوي على أربعة فصول هي:
الفصل1:ضحية النظام الذي لا يميز بين الليف والزرواطة.
الفصل2:التنازل الطوعي عن الانتقام الذي لم يجلب التعويض.
الفصل3:الإمبراطور الذي يتسلى ببهلوان يركب حمارا عكس الاتجاه الصحيح.
الفصل4:امرأة من سلالة الباخيات.
حين نمعن النظر في هذا البناء الهندسي سنجد أن المعمار الروائي ينهض على تماسك وانسجام في الوقت الذي تبعثر فيه خطية السرد وتخلخل القاعدة المألوفة في نسبة الرواية إلى مؤلف واحد ووحيد وهي لعبة روائية ممتعة،تجعل القارئ يستسلم لمنطق السرد-بتعبير كلود بريمون-فيبحث عن كاتب الرواية الحقيقي،وهو بحث ممعن في التسلية والمتعة واللذة الإبداعية.ذلك أن الباب الثاني(منزل البهلوان)الذي جاء وسطا بين الباب الأول(الوصية)والباب الثالث(السر المحجوب)،يتمتع بسمة الذروة في التحبيك الجمالي.
تلقى (البطل) أنور، بعد رجوعه إلى المغرب،خبر وفاة صديق عمره علاء بنوع من القلق والحزن والمواساة والإحساس بالذنب،ولكي يكفر عن ذنبه طفق يبحث عن ما خلفه علاء،لأنه كان قد اعلمه بشروعه في كتابة رواية،وبعد أن يهتدي إلى اسم روزالي وهاتفها،التقى بها وتسلم منها ملفا رماديا يتضمن مخطوطة منزل البهلوان في فصلين مكتوبين وثالث خطط له وتركت حوله قصاصات الصحف والمعلومات اللازمة لإتمامه،لكن السارد أنور يجد أن رواية دموع باخوس هي روايته هو وأن ما تركه صديقه علاء إن هو إلا اختلاس حقيقي لفكرة حلم بها كثيرا،خاصة وأنه يسعى لتحقيقها بكل الوسائل تكفيرا منه لماضيه البطولي المخدوش برعونة بسبب الإنشاء الذي كتبه حول المسيرة الخضراء.ثم تعود بنا الرواية في الباب الثالث[السر المحجوب]إلى قضية باخوس وليلي المسروق وإلى الحياة التي صار يحياها البطل أنور الذي لم يكن له من هدف في أول أمره بعد انقضاء زمن عقوبات سرقة تمثال باخوس من وليلي،والتي أوذي فيها أبوه وأهله وسكان فرطاسة...إن رواية دموع باخوس تقوم على التركيب التخييلي الذي يحث الكاتب والقارئ على النظر إلى الحكاية الواحدة من زوايا نظر مختلفة باختلاف الأنظار ولذلك فإن السؤال أعلاه:دموع باخوس:رواية من؟هو سؤال اللحظة الجمالية التي لا ننسى فيها الكاتب الأصلي صاحب الرواية حسب ميثاق القراءة،لكننا أيضا نصبح كتاب الرواية ذاتها بتلقيها والنظر إليها بمنظورنا الشخصي وفي كل هذا إغناء للإبداع والإبداعية الروائية.
ثالثا:رواية دموع باخوس:رواية ماذا؟
إذا حاولنا الإجابة السريعة قلنا مع القائلين إنها رواية الحياة والفن والسلطة والجمال:
هي رواية حياة،لأنها تصور المغرب الراهن في تفاصيل يومية وتعقد الحياة في هذا اليوم،للقوة الجبارة التي تكبح تدفق الحياة وانثيالها وعرامتها واحتشادها بالمفرحات أكثر من المحزنات..لكن أولي الحياة يجعلونها تنثال قطرة قطرة.
وهي رواية الفن،لأن البطل أنور متخصص في الأركيولوجيا والحفريات المعرفية والفنية،لذلك تطفح هذه المعرفة في سطور هذه الرواية:فهو يتحدث عن المكتشفات الفنية الأثرية كما يتحدث عن الرسم المعاصر وبالأخص عن ابن مكناس المرحوم محمد القاسمي...
وهي رواية السلطة بل رواية ضد السلطة باعتبارها ثابتا من ثوابت التاريخ القمعية والزجرية..
وهي رواية الجمال لأنها تقترح تجربة جديدة في الكتابة الفنية الروائية...
ولعلي أذكر في خاتمة هذه الورقة الموجزة عن رواية دموع باخوس بقولة جورج باطاي الشهيرة حول التجربة الأدبية والجمالية.يقول:أسمي تجربة كل سفر إلى الحدود القصوى،مع عدم الاعتبار أو الاعتراف بالسلط القائمة،فلا سلطة تعلو على التجربة الإنسانية الأدبية والفكرية والجمالية في تفردها وتمثلها للعالم بما يجعل هذا العالم جديدا وجميلا ورائعا ومتقدما...
الهامش(1)-محمد أمنصور:دموع باخوس.الرباط.منشورات الموجة.الطبعة الأولى2010الحجم المتوسط312صفحة.
إشارة لابد منها:
ورقة قدمت في لقاء مفتوح في طنجة مع الروائي محمد أمنصور نظمته جمعية ملتقى المتخيل المتوسطي غب صدور الرواية مباشرة وذلك يوم الأحد4أبريل2010.