هي رؤية استقصائية للشاعر المصري عاطف عبدالعزيز حول محطة شعرية دولية شارك فيها واستلهم منها الكثير من الخلاصات الأساسية، لعل أهمها قدرة الشعر على تجسير الهوة بين الثقافات وترسيخ قيم الإنسان أما وأن يكون الملتقى الشعري الدولي لأسفي يتبع برحلة شعرية تميز هويته فهنا نتتبع مع التقرير كي استطاع الشعر أن ينسج علاقة سحرية بالأمكنة والناس.

إضاءات مغربية

عاطف عبد العزيز

عن الدورة الرابعة لملتقى آسفي الدولي للشعر

 تمامًا، مثل راحة يد مبسوطة لفتاة شهباء في ريعانها، بدت لنا آسفي وهي تستقبل الشمس والهواء والنوارس في ذلك الصباح الحنون، حينها قلت في نفسي: «الشعر حضر من غياب»، ثم انحدرت على خدي عبرة باردة وقلت: «بل الحب حط من سفر».

ثلاثة أيام زاخرة بالبهجة والانتباه والقلق الجميل أتاحها لنا أصدقاؤنا في مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بمدينة آسفي المغربية، حيث كانت الدورة الرابعة لملتقى آسفي الدولي للشعر، الذي انعقد في الفترة من 17 إلى 19 مارس 2016 ثم أعفبته رحلة شعرية في عدة مدن مغربية استغرقت نحو سبعة أيام، وهي الدورة التي اتخذت لنفسها اسم الشاعر المغربي الكبير عبد الله زريقة، الذي حالت الظروف بينه وبين الحضور، وأيضًا كانت هي الدورة التي كرم فيها الباحث والمترجم المغربي المرموق عبد الرحيم العطاوي.

ثلاث أمسيات شعرية تألق فيها الشعراء الضيوف مع شعراء المغرب الكبار: عزيز أزغاي وحسن الوزان ونور الدين ازويتني وعبد الغني فنان ومحمد عبدوس وسعيد الأمين وغيرهم، كذلك أقيمت جلسة مهمة للغاية عن الشعر والترجمة، تحدث بها نور الدين الزويتني، والناقد الشاب مصطفى دادا، كما عقدت على هامش الملتقى لقاءات لا تنسى بين تلاميذ المدارس والشعراء الضيوف، وهي لقاءات رفعت منسوب الأمل في مستقبل أوطاننا.

هل قلت: «أيام زاخرة بالبهجة »، أجل.. كانت أيامًا جميلة، ذلك لأن طيورًا شعرية فاتنة سعت إلى آسفي من أطراف الأرض الأربعة، لتصنع مع طيور آسفي ذاتها سربًا نادرًا لا يشبهه سرب، كأن لكل ريشة في هذا السرب لونًا، ولكل طائر فيه سجعة وإيماءة.

هاهي مامتا ساجار، شاعرة الهند المرموقة التي أتت من مدينة صغيرة في جنوب الهند لتقدم لنا تجربتها الشعرية شديدة الخصوصية، من خلال لغة محلية مشحونة بالموسيقى، وهي لغة (الكانادا)، لتبقى تجربة مشرقية بامتياز بما يكتنفها من سحر خاص، خاصة حين تقف على ذلك الخط الفاصل بين الفلسفة والتصوف. وهاهو ريكاردو روبيو، الشاعر والناقد والدراماتيست الأرجنتيني الذي أضفى بحكمته وسكينته وروحه الشفافة جوًا من الطمأنينة العميقة بقيت تلف الجميع أينما حل، وقد جاءت إسهاماته الشعرية ومداخلاته النقدية دليلًا قاطعًا على عمق تجربته في الفن والحياة.

ثم ماريو بوخيركس، شاعر المكسيك اللامع الذي يعده النقاد علامة أساسية في فضاء الشعر المكسيكي الحديث، بما تمتاز به تجربته بالجسارة الواضحة التي تطمح إلى تحرير الشعر من قبضة المعتاد والمكرور، وعلى المستوى الإنساني بان لنا ماريو إنسانًا شديد الدفء رغم صمته وانشغالاته ذات الطابع التأملي. بعدها يأتي دور هيروشي تانيوشي، الذي يحلو لي أن أسميه: صاروخ الشعر الياباني، إنه الشاب اليافع النشط صاحب الابتسامة الآسرة، الذي أبهر الضيوف في كل مكان قرأ فيه بأداءاته المسرحية المثيرة، تلك الأداءات التي بدت وكأنها اقتراح جديد في مزج الشعر بفنون أخرى. هنا نصل إلى حسين حبش الذي أحب أن أسميه: تاجر البهجة، إنه الشاعر الكردي السوري، الذي هاجر إلى ألمانيا منذ عشرين عامًا، كي تتفتح موهبته الكبيرة في مهب ريح الاغتراب والنفي كوردة وحشية قادرة على انتخاب عشاقها وإيلام أعدائها.. أعداء الحياة، وقد استطاعت قصيدة حسين الواضحة كغضبه وفرحه، والعميقة كطعنة، أن تعثر على قارئها في كل أرض وصلت إليها، حيث دائمًا ما يتعدد الناس بينما يتوحد الجرح.

أما خاتمة العقد ستكون هي محسن الرملي، الروائي والشاعر العراقي القدير صاحب الحضور الحي، والحكاء الثري الذي وضع لمسته في كل مكان، وفي كل نفس، الأمر الذي هيأ له أن يكون حلقة وصل بين الجميع.

قوس واسع في فضاء المغرب

في الطريق إلى مدينة كلميم كان علينا أن نمر باليوسفية، مدينة الفوسفات الصغيرة، وبتنسيق مع محترف الإشعاع الثقافي بها قرأ الشعراء قصائدهم على جمهور بالغ التميز والوعي، غير أن كلميم بقيت المحطة الأساسية، ليس باعتبارها بوابة للصحراء فحسب، بل بوصفها بوابة للحقائق التي لا يطالها زيف أو يداخلها التباس، مدينة صحراوية هادئة السطح بينما قلبها موار بمحبة البشر والحياة، يصعب أن تلقى بها وجهًا عابسًا أو قلبًا زايله الأمل، كذلك تمتلك كلميم نخبًا رفيعة قابلناها في جمعية أدوار للمسرح التي أخذت على عاتقها إقامة مهرجان كلميم الدولي الرابع للشعر تحت شعار ذي مغزى: (عندما يزهر الشعر سلامًا)، أجل.. قابلنا هناك مسرحيين كبار مثل عتيقة أبو العتاد وعبد اللطيف الصافي، قابلنا أيضًا الناقد المهم إسماعيل هموني والدكتور موراد اللتيوي والشاعر هشام الدللوري وغيرهم، حيث أقيمت جلسة نقدية مهمة تناولت العلاقة بين الشعر والمجتمع، أما في واحة (واد نون) الصحراوية البديعة وتحت خيمة من وبر الجمال، فكان موعدنا مع (الطاجين)، وهو الإناء الفخاري الذي يشتهر به المطبخ المغربي، حيث ذقنا منه خليطًا شهيًا من الخضر والفاكهة مع لحم الإبل، ثم كان الختام ليلًا مع أمسية شعرية رشيقة، قرأ فيها شعراؤنا الكبار نصوصًا باذخة.

وبعد رحلة استغرقت نحو 11 ساعة في طرق جبلية منحدرة، وبين لوحات من طبيعية استثنائية، وصلنا إلى محطة أساسية أخرى، أعني ورزازات، مدينة السينما الشهيرة التي كانت ولا تزال موطئًا لأقدام أعظم سينمائيي العالم الذين صنعوا في بلاتوهاتها ديكورات أهم الأفلام التاريخية، والتي تحولت فيما بعد إلى متاحف تؤرخ للفن السينمائي في أروع مراحله. كان استقبال ورزازات لنا مبهرًا بكل مقياس، فقد قدمت فرقتها للفنون الشعبية عرضًا غنائيًا راقصًا مستوحى من الثقافة المحلية يصعب تصويره بالكلمات، وعلى مسرح كبير ومنمق يتبع مندوبية الثقافة، قرأنا نحن الشعراء الضيوف والمحليون على مدى يومين، قصائد في الدورة الثانية لمهرجان ورزازات الدولي للشعر، وشاركنا في جلسة حول الترجمة والتواصل الحضاري.

لم يكن هناك بد من المرور والتوقف بمراكش قلب المغرب النابض، ونحن في الطريق إلى بني ملال الذي استغرق نحو 12 ساعة، وهناك شارك الشعراء الضيوف مع شعراء بني ملال في الدورة الثانية من مهرجان بني ملال الدولي عبر أمسية شعرية بالغة الثراء، ثم كان بعد ذلك أن تتوجه القافلة إلى مدينة خنيفرة على قمة الأطلس كأجمل ما يكون الختام.

يبقى القول بأن شاعرًا ومثقفًا كبيرًا هو الشاعر الكبير عبد الحق ميفراني، ومعه ورفاقه في مؤسسة الكلمة، كانوا هم العقل والقلب والساعد وراء هذه الفعالية الثقافية التي أظنها الأبرز والأهم من نوعها الآن في عالمنا العربي.