يكتب الناقد المصري ان رحلة المصري «سمحان» في هذه الرواية عبر الزمان، تنطلق من "طهنا الجبل" التي يرجع تاريخها إلي عصر الدولة الفرعونية القديمة، والعصر القبطي إلي جانب الآثار الإسلامية. فهي عامرة بتاريخ العلاقة بين السماء والأرض، مما يجعل إنبات شخصية معنية بتلك العلاقة منطقيا.

الدين والحياة .. في «جبل الطير»

شوقي عبدالحميد يحيى

رغم تواجده من فترة ليست بالقصيرة، إلا انه بعد صعود تيار الإسلام السياسي، واستيلائه علي السلطة في كل دول الربيع العربي، إرتفع صوته، وتعددت أفعاله، حتي بات يهدد وحدة البلاد، ويزعج العباد.  فبات ضروريا البحث في أصوله، والتنقيب عن جذوره، كمرض سرطاني يقسم البلاد، ويفتت ذلك التجانس الذي كان قبل ظهور تلك الجماعات المدعية والمتحدثة باسم الله ورسوله وهم منه براء.

فإذا كانت السلطات قبل الثورات - والتي سيمت أملا ورجاء بالربيع العربي - هي التي رعتها بالنمو والحماية، ليس حبا فيها لذاتها، وإنما كي تكون ذراعا وأداة تستخدمها وقت الحاجة. مستندة علي تلك الأفكار المتطرفة التي لعبت علي الوتر السحري لشعوب المنطقة، وهو الدين، مستغلة تلك الرعاية المستترة للسلطات واحتياجها كذراع لها وسط صفوف الجموع، جعلها تتوهم قوة ما، وتحاول فرض هيمنتها علي الشارع العربي والإسلامي بصفة خاصة، الأمر الذي جعل تواجدها فيه غير منكور، والسعي نحو محاربتها، بالإقناع والحجة، لا بالسيف والمسدس، هو ما يجب أن تسعي إليه السطلة، وهو ما أتصور أن عمار علي حسن، قد سعي إليه، كنموذج وعبرة، لكلا الجانبين. الشارع والسطلة معا، من خلال ملحمته المدهشة، والتي تعود بالفن الروائي إلي أصوله الأولي (الملحمة)، مثلما تعود بالتجربة الإسلامية السياسية إلي جذورها الأولي.

وربما كان من أبرز مظاهر التطرف، لدي تلك الجماعات، ما برز علي السطح بشدة، ما تم في حوادث هزت الأرض المصرية في الكشح ونجع حمادي والعمرانية، ووصلت ذروتها عند انفجارات كنيسة القديسين بالأسكدرية مع الدقائق الأولي للعام 2010 ، والتي وجهت الأصابع فيها مباشرة إلي تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة، الكارهة لكل آخر، وليس للمسيحي فقط.

وقد نتصور أن ما حدث في قرية "دير جبل الطير" – والتي تجاوز أعداد المسيحيين من سكانها عدد المسلمين - كانت المنطلق لكتابة الرواية. إيمانا بأن أي عمل إبداعي –حتي لو كان فانتازيا- لابد له من منطلق علي أرض الواقع، ويكفي استشهادا، قصة سفاح اسكندرية "محمود أمين سليمان، الذي أقام عليها عظيم الروائيين العرب "نجيب محفوظ" رائعته الباقية "اللص والكلاب".

 فحيث جري العديد من الاشتباكات بين المسلمين والمسيحيين. كان منها تلك الواقعة الشهيرة التي جرت في 3 سبتمبر 2014. حين اختفت سيدة متزوجة، وتم إتهام مسلم باختطافها، لتقع مشادات بين المسلمين والمسيحيين علي إثرها. كما تعددت مثل تلك الواقعة في أماكن عدة.

ومن هنا – كما أتصور – حمل عمار علي حسن سيفه - الذي يملك - وراح ينحت في صخر الصحراء، صانعا له مدقا معبدا نحو البدايات، ليسير عليه نحو "جبل الطير"[1] الرواية، الزمان، والمكان. سابحا علي نسمات سرد متماوج متهادي، يتفادي به وعورة وقسوة الصحراء، نحو مسري الرسل والأنبياء، وما قبلهم. نحو فكرة التوحيد التي نبعت من صعيد مصر التي كانت بعدها موطن العدل والنماء والسماح علي يد "يوسف"، وحيث كانت أثار أقدام المسيح وأمه مريم، فضلا عن كونها – مصر – كانت محط اللقاء الأول بين البشر وبين الله، حين كلم الله موسي من طور سيناء، وحيث انزرعت بذور الإسلام الصحيح المعتدل. ولينفذ من خلالها إلي رسالة السماء إلي الأرض، كهداية للإنسانية، يتعانق فيها البشر، وليتعاون فيها جناحاه وفقما خلقه الله بهما، الروح والجسد، محلقا في دنياه بما تيسر له من قويً خافٍ عليه كنهها، وعلمٌ مكنه الله منه.

فرحلة المصري "سمحان" عبر الزمان، تنطلق من "طهنا الجبل" الواقعة شمال شرق المنيا، والتي يرجع تاريخها إلي عصر الدولة الفرعونية القديمة، والتي من آثارها معبد نيرون  ومقصورة للمعبودة حتحورومجموعة من مقابر العصر القبطي إلي جانب الآثار الإسلامية. أي انها عامرة بتاريخ العلاقة بين السماء والأرض، الأمر الذي يجعل إنبات شخصية معنية أو مهمومة بتلك العلاقة منطقيا، وأن انغماسها فيها ليس شيئا اختيارا، ولكنها البيئة والمنشأ هو من أهلها لذلك الدور المرسوم.

يخرجه أبوه من الدراسة بعد الإبتدائية، ما يؤهله للقدرة علي القراءة والكتابة، وينجح في مساعيه لدي أحد أقربائه العاملين في هيئة الأثار، لتعيينه خفيرا علي الآثار، ليبدأ مع الليل وأسراره، وما يدور فيه تحت جنح الظلام، بدايات الاتصال بالقوي الخفية التي يعيش معها، وتتفتح مسامه، علي تلك العلاقة بين السماء والأرض فتتحرك في نفس "سمحان" التساؤلات :

{لماذا يتناحر الناس حول السماء وهي عالية وجليلة ومترامية وكافية كي تظللهم جميعا؟ لماذا تسيل دماء باسم الله وهو يرزق الكافرين به كما يرزق المؤمنين؟}ص129.

ويكشف رجل الآثار – قريب سمحان – عقيدة الفراعنة المتسامحه، والتي ترفض أي تعصب ديني، عندما يلًوح والد "سمحان" له بما يوحي بذلك، حيث يغضب قائلا:

{هذا كلام فارغ ، ولا يجوز ان تنطق به، أنت تتحدث مع رجل علمته دراسة آثار مصر أن يحترم عقائد وتواريخ ثقافات كل الناس، ولا يفكر بهذه الطريقة المتخلفة المعششة في رؤوس الجهلة والمتعصبين}ص332.

تتعدد الزيارات الليلة الغرائبية ل"سمحان"، ولما كان الأمر فوق احتماله، حتي أرهقته، استطاعت أمه إقناع أبيه للذهاب إلي قريبهم من جديد ويطلب منه نقله إلي مكان آخر. ويري ذلك القريب "مفتش الآثار"، نقل "سمحان إلي المحطة الثانية.

(القسم الثاني) . حراسة دير العذراء الذي يقع أعلي قمة "جبل الطير" والذي يعد مزارا سنويا للملايين من المسلمين والمسيحيين للتبرك في عيد العذراء والذي يحل بعد عيد القيامة بنحو شهر. والذي يتذكره "سمحان" فور أن تحط قدمه عنده، عندما كان يعوده بيد أبيه صغيرا. وفي طريقه إلي الدير، يري ذلك الولد الصغير أيضا "برهان" يمسك بيد أبيه – أيضا – ولم يكن قد عرف بعد، بأنه سيكون له معه قصة. وهناك يأتي الهاتف المتجسد في شكل رضيع ما أن يرفع إصبعه حتي يحرق الساحرة الشريرة، وكأنه يرتفع خطوة في طريق الصعود نحو القوي النورانية. وهناك أيضا يتعرف علي "جميلة". تلك الراهبة، أو مشروع الراهبة في الدير والتي لم تستطع مقاومة رغباتها الإنسانية، واحتياجها للآخر، فطاردتها الأحلام بلقاءاتها ب"سمحان" الذي كان قد حدث له تلك اللقاءات أيضا معها، دون أن يلتقيا علي أرض الواقع، فسعت إلي لقائه، وتمني لقاءها، وعندما إلتقيا، رآهما معا الأنبا "أبنوب" الذي اشتعلت غيرته عليها- وهام بها حبا فيما بعد -. ولما صدته سعي لنقل "سمحان إلي مكان آخر، حيث تم النقل بالفعل إلي المنيا بعد أن يقضي شهرا في المحطة الثالثة.

 (القسم الثلث) في "البهنسا"، تلك المدينة العامرة بالبرديات الفرعونية، والتي كانت حصينة عند فتح العرب لمصر. ولذا سميت بلد الشهداء، لكثرة من ماتوا فيها، من المسلمين، عند الفتح، كما يذكر التاريخ عنها،أن سبعة من الراهبات تعاوّنَ مع الفاتحين، تخلصا من ظلم الرومان الذين كانوا يحتلون البلاد حينها، وتم قتلهن، وهو ما أشار إليه عمار في:{ وهل قيل لكم إن سبع راهبات ساعدن جيش المسلمين علي اقتحام أسوار مدينة "البهنسا" الحصينة، وانهن قُتلن في المعركة؟}ص442.

وقد اختار "عمار علي حسن" البهنسا" لتكون المحطة التالية لإنطلاقة مسيرة "سمحان" بلمحة زكية، ودراسة فعلية للمكان العامر بالآثار الفرعونية، والذي شهد بدايات دخول الإسلام مصر. وحتي تكون المسيرة علي الوجه التاريخي (الفرعونية، المسيحية ثم ..  الإسلام].

 فضلا عن استمرار وتنامي العلاقة بين "سمحان" و "جميلة" وكأنه يوثق تلك العلاقة بين الديانتين. وقد عبر عن تلك العلاقة الوثيقة بينهما بشكل إبداعي، إنسيابي، يؤكد التشابه بينهما في الجوهر، وما الاختلاف إلا في الشكل. حيث نقرأ في المقابلة الأولي – المباشرة - بين كل من "سمحان" و "جميلة"، وكان قد سبقها لقاءات روحية:

{رشق عينيه في وجهها، فهزه حسنها من جديد، إذ راح قلبه يخفق، وشعر أن صورتها تتسلل إلي شرايينه، وتسلبه بعض المكابرة والغرور والقسوة التي ألفها طيلة السنوات الفائتة، لاَنَ وصارت صخرة نفسه عجينا فوقه ماء، وتملكه إحساس واطمئنان إلي أنه يعرف هذه الفتاة منذ زمن بعيد. وفي حاله هذه رد عليها، بصوت مبحوح، عطوف:

  • أنا مسلم.
  • مسلم؟!
  • اسمي "سمحان عبد الباطن".

ضحكت وقالت:

  • ليست هناك مشكلة، يمكنك أن تترهبن.
  • أتقصدين أن أصير مسيحيا؟
  • لا .. بل تترك الدنيا وراء ظهرك، ويملأ الله قلبك بنور المحبة، وتنشغل بالباطن يا "عبد الباطن".}ص238.

وهي ذات الحالة التي عليها الصوفية في الإسلام، وما تسعي القوي اللامرئية لتجهيز "سمحان" لها.

ويتزوج العاشقان "سمحان وجميلة". بينما يتم نقله إلي المحطة الرابعة.

(القسم الرابع) إلي المنيا وقد تخلص من (الشومة) – التي كانت عُهدة العمل منذ بدأه - رغم استمرار عمله كحارس، وحيث ابتعد عن الجبل واقترب من النهر، ودخل إلي الحضر، وليقترب من "مسجد الفولي"– والذي له معه جولة أيضا-  والمنسوب لأحد علماء الحديث، وكأن "سمحان" قد استوفي دراسة العلاقة بين السماء والأرض (التوسع الرأسي)، ويبدأ في (التوسع العرضي)، بالاقتراب من فهم الناس للدين، وليقترب في ذات الوقت من العصر الحديث، في مسيرته عبر الزمن. وهنا يصطدم بالجماعات المتطرفة، والمتحدثة باسم الإسلام، والكاشفة عن الفهم الخاطئ للرسالة السماوية. فنري تلك الجماعات التي سعت لتدمير الآثار، ولتكفير من ليس علي ملتهم، رغم تعايش أهل المكان معها لسنوات، دون أن يتطرق لها هذا الفهم المتحجر:

{ولدنا هنا فوجدناها ولم نستغربها، ولم نعبدها.. لكن ظهر في بلدنا شباب يرتدون جلابيب بيضاء قصيرة، ويطولون ذقونهم، ويحكون جباههم في الحصر حتي يرسموا فيها ما يدل علي أنهم يسجدون ليل نهار، أما ألسنتهم فمبارد حادة، لا ترحم أحدا، هذا فاسق، وهذا كافر،وهذا جاهل،وهذا غافل،وهذا يجب أن يحضر أمامهم ليعلن توبته ....}ص427 ،428. وتبدأ هذه الجماعات في التدخل في حياة "سمحان" وزوجته "جميلة" سعيا وراء ضرورة إعلان إسلامها، الأمر الذي يتنافي مع ما سبق أن وعدها به بعدم التدخل في ديانتها، ويتنافي في ذات الوقت مع علاقتها المساعدة والمعضدة له، بينما يتلمظ شيخ الجماعة وبنضح شبقه نحوها، وهي المسيحية التي يرونها .. كافرة.

ويستمر "عمار" في كشف مساوئ المتحدثين عن الإسلام علي الأرض، حتي من خارج تلك الجماعات، وكأنها داعمة ومصدر من مصادر ظهور تلك الجماعات. حيث الاعتماد علي النقل فقط، دون إعمال الفكر، أو مراعاة ظروف التاريخ والجغرافيا، والتي أتاحها الدين نفسه، عندما سمح للمسافر الإفطار في يوم رمضان، وسمح للمرأة الإفطار أيضا في فترة الحيض. بل اشترط لأداء فريضة أساسية منه مراعاة الظروف الخاصة والعامة، عندما فرض الحج علي من استطاع إليه سبيلا. وفُسِرت الاستطاعة بإمتلاك المال والراحلة والقدرة الجسدية، فضلا عن أمان الطريق.

فعندما بدأ الحديث بين النسوة وعلي المقاهي، عن زواج "سمحان" من مسيحية، واكتشف أنه سيتسبب له فيما لم يحسب له حساب، قرأ "سمحان" في صندوق عمه "رشيد" – ذلك الصندوق الذي يحوي الكتب، وكأنها كتب الأولين – أن زواج المسلم من المسيحية جائز. لم يرتح ضميره، وذهب إلي شيخ الجامع يسأله. فأجابه الأخير بالآيات [[ ولا تَنكحوا المشركات حتي يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ...]][2]إلي آخر الآيات. وسكت. فسأله "سمحان" الاستزادة. فقال الشيخ:

{ من ناحيتي أعرف الآن وأنا أمامك أنه لا بأس أبدا من زواجك من مسيحية.. لكن دعني أعُد إلي كتب عندي، وأستخلص لك إجابة مُحكمة.

في اليوم التالي جاء بفرخ ورق وقد كتب عليه كلاما كثيرا نقله من كتب قديمة، وراح يقرأ........... وضاع عقل "سمحان" بين تلك الروايات، فنفخ قليلا، ثم فتح فمه في هدوء:

  • وماذا فهمت أنت من كل هذا يا شيخنا؟  }ص303 -304.

وتاه عقل الفتي مع الشيخ ولم يصل منه لرأي محدد.

وفي (القسم الخامس) يشتبك العلم الغيبي مع العلم الأرضي، في خطوة جديدة من خطواط "سمحان" والتي تخطو به هذه المرة نحو المستقبل. فيقترب "سمحان" من "برهان" ذلك الطفل الذي كان يمسك بيد أبيه ساعين نحو مولد العذراء. ونتعرف علي أن الفتي قد أصبح طالبا في كلية العلوم. ويحدث النقاش بينهما وتدور حوارات، قائمة علي إنكار "برهان" لما يرويه "سمحان". إلي أن يسافر "سمحان" إلي المستقبل عبر رحلة، ربما اقتربت قليلا من المناقشة المنطقية، وابتعدت قليلا عن الإسلوب الإنشائي، ليحضر "سمحان" تجربة عملية يجريها حفيده "عبد العليم محمود سمحان" – والذي تزوج ابنة "برهان" – لتحليل الأصوات والوقوف علي مدي صدقها. كتحليل حديث موسي وفرعون، للوقوف علي مدي صدق الروايات عنها، وتحليل حديث عرب الحجاز في أوائل القرن السابع الميلادي. في إشارة خفية نحو تفنيد ما توارد من أحاديث الرسول (ص) التي لم يبدأ تدوينها إلا بعد وفاته بمائة وخمسين عاما، فتم تحريف الكثير منها، وتم إضافة أقوال أو أفعال، لم يأتها الرسول، بل وربما تتنافي مع ما هو معروف عنه.

التقنية الروائية
من الأمور التي يحسد عليها "عمار علي حسن" في إبداع تلك الرواية المدهشة، أنه رغم اقتراب تلك الرؤية السابق إيضاحها، مدعمة باختيارات الأسماء –علي نحو ما سنوضح لاحقا- فإنها تنفتح في ذات الوقت علي الرؤي الكونية المتأملة في وجود الإنسان علي الأرض، والذي لا يمثل إلا بعضا من حلم، أو بعضا من يقظة، يعيشها وليس لديه يقين بما إذا كان ما يعيشه هو الواقع أم أنه رؤي غيبية أو ليلية.

فإذا ما تأملنا البداية والنهاية، لذلك العمل الذي استغرق آلاف السنين، وجاب شتي البقاع، متنقلا من الصحاري إلي الوادي، ومن الدير إلي المسجد، ومن الحلم إلي الحقيقة، وعلي مدي ستمائة أربعة وأربعين صفحة، لوجدنا أننا أمام لحظة في عمر هذا الإنسان، حيث البنية الدائرية، والتي تجعل النهاية عند نقطة البداية، وكأن الإنسان لم يبرح ساعته، ولم يبرح مكانه. راجعا به إلي نقطة إنطلاق، لا الإنسان فحسب، وإنما نقطة انطلاق الكائنات. ففي البداية، يتأمل "سمحان" في لحظة من لحظات تأمله، لعلاقته بزوجته ومعشوقته، ورفيقة مسيرته "جميلة" ووسط حيرته، يستعيد ذلك الحوار الذي دار بينهما عند "دير العذراء":

{حين لم يكن بينه وبينها رسول سوي أحلام الليل، حول العابر والمقيم في حياة البشر: النوم أم اليقظة؟ فحيوان منوي نائم في صلب رجل، وبويضة نائمة في رحم امرأة، يستيقظان فجأة علي عناق حار وامتزاج، تتخلق منه علقة، فمضغة، فعظام تُكسي لحما، ويصير جنينا، لكن هذه الرحلة لا يستيقظ فيها صاحبه، بل يظل نائما في مخدع الرحم تسعة أشهر أو سبعة ، يتغذي في صمت من حبل سري، وبعد أن يصرخ وهو يري قبح الدنيا وزينتها، يعود إلي النوم المتقطع، والذي يستغرق ثلث اليوم تقريبا، إلي أن يأتي الرمق الأخير وبعده نوم طويل غارق في السكينة. وفي ساعات اليقظة في أيام العمر يظل السؤال: هل سجل حياتنا يحدده ما نراه في النوم من رؤي وأحلام وكوابيس؟ أم هو ما يضنينا وما نبتهج به في اليقظة؟}ص11.

 وما بين النوم واليقظة يسافر "سمحان" رحلته الممتعة ممتطيا صهوة الوقت، لتتجاوز المحدود إلي اللامحدود عبر تركيبة إسلوبية، تستدعي للذهن أثر الليالي.

ويتفق ذلك إذا ما تصورنا أن الرحلة بكاملها قد دارت في ساعة القيامة، بالرجوع إلي الآية رقم 3 من سورة التكوير {{ وإذا الجبالُ نُسِفَت}}، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كلُ ذات حملِ حملها، وهو اليوم الذي عايشه "سمحان" منذ البداية  {حين فتح الشيخ "سمحان" النافذة لم يجد الجبل مكانه. حملق بشدة مصارعا جيوش النمل التي زحفت في شرايينه، ثم عصر عينيه وفركهما بقسوة، وعاد ليرشق بصره في كل شئ أمامه، والدهشة تملؤه، ممزوجة بالحيرة والخوف. وراح العرق يتفصد غزيرا من جبينه رغم النسمة الباردة التي تهب عفية من الخلاء، وهو غارق في كل ما قاله شيخه "عبد العاطي" قبل أن يغمض عينيه إلي الأبد}ص9.

وهو ذات المشهد –تقريبا- الذي عاشه في نهاية الرواية، ذلك العالم الذي تفوق رؤياه خيال البشر {وبينما غاص جسمه بين ضفاف الرمل، ولم يبقَ سوى رأسه معلقاً في وجه الحديقة البعيدة القريبة، رأى رجلاً يشبهه، يقف عند ناصية الأرض، يلملم الريح في عباءته، ويجذب الشمس من حبالها الذهبية، وتسقط في كفيه، فيرميها على بحرٍ أصفر ناعم، لتتدحرج ويجري خلفها، غير عابئ بالعتمة التي أخذت تلف المكان، ولا بالسحاب الذي وقف عاجزاً في بطن سماء حبلى بقناديل الفضة الشاحبة، بل مدَّ أنفه ليسحب من نسائم رخية هبَّت بلا انقطاع، ورفع هامته مغمضاً عينيه كأنه يريد أن ينسى كل شيءٍ، لينعم بحياة أبدية}ص624.

وكأن عمار علي حسن  قد اصطحبنا في رحلة "سمحان" إلي العالم الأخر، وكأنه يبدأ معنا رحلة الصعود مع  "أليجرو دانتي" في "الكوميديا الإلهية" أو "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري. إذا ما استسلمنا لذلك الوصف الذي يقربنا من (الفردوس).

كما يمكن قراءة هذا المشهد، في ظل تعدد الرؤي التي يمكن أن يسير بها إلينا، علي أنه لحظة النهاية، أو لحظة موت "سمحان"- والذي يمثل الإسلام المتسامح مع الآخر- الإسلام الذي لا يسعي إلي دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، وكأنه يقول، إنه بموت هذه المعاني... مات الدين. وكأن المشهد علي الأرض ينذر – علي الأقل – بموت الإسلام، الذي ضاعت معانيه علي يد قلة من مدعيه، خدمة للمصالح الشخصية، وخدمة لجهات الأمن. مثلما أشار الشيخ في محادثته مع "ابن فطومة" في رواية العظيم "نجيب محفوظ" ا"رحلة ابن فطومة"، والتي ساح فيها ابن فطومة في دروب البلاد شرقها وغربها، متنقلا بين الرأسمالية والشيوعية، وصولا إلي "دار الجبل" التي يتطلب الوصول إليها المكابدة والتعب، ودون (كلام)، حتي يعود إلي بلاده وقد حمل لها ما يفيدها. حين شاهد ابن فطومة مظاهرة تنادي بحرية الشذوذ – في دار الحلبة، بلاد الغرب - فقال لشيخه:

{لو بُعث نبينا اليوم لأنكر هذا الجانب في إسلامكم.

فتساءل الشيخ بدوره؟

ولو بُعث عليه الصلاة والسلام، أما كان يُنكِر إسلامكم كله؟!}.

جبل الطير وألف ليلة وليلة
بالعودة إلي ما قالته الدكتورة "سهير القلماوي" عن خصائص "ألف ليلة وليلة" باعتبارها أول من فتح باب دراسة الليالي في رسالتها للدكتوراه، وما أوردته عن مضمون الليالي، فسنجد: {جمع الكتاب بين المعتقدات الشعبية والروح الإسلامية القوية. أما الحياة الدينية في تلك الليالي فركزت علي الأديان السماوية الثلاثة والدين المجوسي وتحكي العلاقات بين المسلمين والمسيحيين.}

وهو ما يتأكد لنا بدراسة التماس الكبير في صياغة "جبل الطير" و "ألف ليلة وليلة" من حيث إضفاء أجواء من السحر والخرافة، واعتماد الخط الرئيسي في القص علي قصص العشاق، وإن تواجد عشق المرأة في الليالي كعنصر رئيس، أما في "جبل الطير" فوجوده كعنصر مساعد، إلا أن الصوفية والزهد المشدود إليها "سمحان" تعتبر أيضا نوعا من العشق (الإلهي) حيث يعتبر هنا هو المحرك الضمني – إن جاز التعبير..

ومن حيث الشكل، نلحظ كذلك، تداخل الحلم بالعلم، والشعر بالنثر، والعجيب والغريب والمألوف والواقع، والإسم بالدلالة. والكثير مما يستحضر صورة الليالي، والتي عبر عنها محسن جاسم الموسوي[3] بـ :

{ تكاد (ألف ليلة وليلة) أن تضع القارئ والدارس في محنة معقدة وهو يبحث عن أنماط الكتابة وأمزجتها فيها: فهل هي تلجأ إلي النثر أم إلي الشعر، إلي الكناية أو الاستعارة أم إلي التوصيل المباشر للكلام مرة واحدة؟ وهل هي معنية بتقاليد كتابية محددة أو أنها تخرج عنها لتوجد شيئا آخر، وسطا خاصا بها يختلف أيضا عن الحكاية الشعبية؟ وماذا يمكن أن يكون اسلوبها أو أساليبها، حوارية أم إعترافية، متداخلة أو متنوعة؟ وماذا بشأنها متنوعة يختلط فيها العجائبي بالواقعي والغريب بالدنيوي؟ وما حجم المأخوذ عن الواقع، نادرة أو قصة رمزية مثلا؟ وما أشكال التكييف فيه؟ وماذا عسانا أن نقول بشأن الدخيل عليها من آداب الآخرين؟}}.

والحقيقة أن "جبل الطير تُوقع قارئها في ذات الحيرة، حيث نستطيع أن نجد كل ذلك فيها. حيث نواجه بالنثر الفني الممتع، إلي جانب الشعر، منثورا وموزونا. خاصة أنه أقرب لروح الصوفية التي عليها"سمحان".

كما نستطيع أن نجد الكناية في التلميحات حول أنبياء الله، دون أن يأتي ذكرهم مباشرة، في مثل:

الإشارات إلي موسي وفرعون:

{هذه مدينة السحر، في كل جانب منها طلسمات علي هيئة أُناس لهم رؤوس قردة، ويسكنها السحرة، ويمارسون فيها كل طاقة يمتلكونها علي إتيان الأعمال الخرافية.

  • وهل الملك يسكنها؟
  • الملك له قصور في مدن عدة}

وأيضا الإشارة إلي يوسف عليه السلام: { أصلي ليل نهار من أجل أن يبارككم الله، ويساعدكم في إنجاز ما بدأناه، فنخرج من هذه السنوات العصيبة، ونسترد أبقارنا السمينة وسنابلنا الخضراء}[4].

والمسيحية: { فالعذراء ذهبت إليها وعلي ذراعها المسيح، وجلست هناك تحت شجرة لاتزال حية، وشربت من بئر طالما سقيت الناس سنين طويلة}ص441. 

كما نجد فيها المباشرة التي تتجلي في الكشف عن تجاوزات الجماعات المتأسلمة، ومضايقاتها ل"سمحان" وجميلة"، وأيضا في حوار "سمحان" وحفيده حول قدرة العلم وضرورة التزواج بينهما.

كما تلعب فكرة التكرار (وهي أيضا من خصائص الليالي) علي فكرة الثابت والمتحرك، والتي أشار إليها الكاتب في بداية الرواية عن خاطرة "سمحان"، والسابق الإشارة إليها. فبينا آلة الزمن تدور ب"سمحان" وتتنقل به عبر الأزمنة، وهو ما يجعله في شكل المتحرك، نجد عبارة تتكرر في كل الفصول – تقريبا- وتمثل الثابت، أو الدافع الخفي الغائب عن العيون، أو الجاذب لحركة "سمحان" والتي تشير إلي أولئك الذين رحلوا – وهم بالطبع في وضع السكون، ويظهرون ل"سمحان" كي يضيئوا له الطريق أو يرشدوه إلي حيث هو ذاهب، وهم :

{ "عبد العاطي"، والرجل الذي كان يسير مع السيدة التي تحمل طفلها علي ذراعها، والرجل الذي ناداه عند المقبرة ليدخل الحضرة، وذلك الذي طرق باب "الكشك" قبيل الفجر}.

 حيث يمثلون جميعا نقطة انطلاق ثابتة في مكان ثابت مجهول، بينما يتبعونه في تنقله عبر الزمان وعبر المكان.

كما أن إسم "سمحان" أيضا يرجع إلي الذهن الكثير من الأسماء التي تتفق معه في الوزن، مثل "قمر الزمان"،" شاه زمان" و كهرمان. وإن كان "سمحان" في رؤيتنا الأولي للرواية، واعتباره المصري (حارس المقابر) أو حارس التاريخ، والذي يظل حارسا، (مجرد حارس)، أي أنه غير صانع له، وفق ما يؤكده، أو ما تطمع فيه الرواية في النهاية، عند مشهد الجد مع الحفيد، فيجد الحفيد الذي يسعي لإدخال العلم في التاريخ (وفي الحياة عامة)، كان يتعامل مع زملائه، ليس بالعربية، وإنما بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها. وإذا ما رجعنا إلي المقولات الدارجة علي ألسنة العامة من أن المصري بطبعه (متسامح)، وهو ماأكدته الرواية مباشرة. حيث ذكرت أمه أنه اسم علي مسمي، فالإسم هنا هو الصفة. إلي جانب سماح كل من أتباع الديانتين، الإسلامية والمسيحية، باستخدام الإسم، وهو ما يمكن قوله أيضا علي اسم الحبيبة والزوجة "جميلة"، والتي تصلح لكلا الديناتين، أو أنه ليس مرفوضا في أي من الديانتين.

فضلا عن الإشارة الدلالية التي تعطيها كثير من أسماء الشخصيات مثل "عبد العاطي" الرامز إلي القوة الروحية الدافعة نحو الخير(إشارة إلي صاحب العطاء الكوني)، أو الروح.

"عبد العليم" وهو الحفيد والمنشغل بالعلم، إشارة إلي العلم.

 و"برهان" طالب كلية العلوم، إشارة علي إعتماد عمله علي الأدلة والبراهين.

وأيضا "رشيد" العم، وصاحب صندوق الكتب، والتي اتخذها "سمحان" كمرشد له في طريقه، بل وربما يشير الاسم أيضا إلي حجر رشيد الذي اكتشفه علماء الحملة الفرنسية وما يعنيه من كشف أو معرفة مرشدة لكثير من المعرفة.

 وهكذا ليصبح الإسم مرشدا للقارئ في تيه الحكايات العجائبية والغيبية في الرواية.

ومن الأمور المحسوبة للكاتب، أنه علي الرغم من الصد الذي قد يواجه القارئ حين تقع عينه علي الرواية، بحجمها الكبير، والذي قد يعوق المغامرة بالقراءة، إلا أنه لو غامر وبدأ فيها فسوف يجد نفسه مدفوعا نحو الاستمرار والاستزادة، مشدودا بذلك الإسلوب السلس، المطعم بتلك الاستعارات والكنايات التي تجسد المحسوس، وتوجد الغائب من الملموس، صانعا تلك الصورة الحسية، مجسما للصغير فيصير كبيرا.

فعلي سبيل المثال، من بين الكثير والعديد من تلك الصور:

{وعرفه علي كل شئ هنا، الحجر والبشر، ما يراه تحت قدميه والمدفون في بطن التاريخ} حيث جسد التاريخ ليتوافق مع رحلة الزمن التي ارتحلها "سمحان".

وأيضا: {بدلا من جلوسك هنا لتحرس زمنا فات}، {رمي الصمت حمولته الثقيلة علي المكان} ، {فغرس فيهما مقلتيه}، { وهو ذاهب من الحضور إلي الغياب}، {سار خلفه هابطا في الزمن نحو القرون البعيدة}، {غرف إبتسامة من بئر أحزانه العميقة ورشها علي وجهه}، {وعلي شاطئه فرش النجيل جسده واستراح} و { اصطادت السطور عيني "سمحان"}. لينضاف كل ذلك إلي كل ما اتبعه "عمار" من أساليب للتنقل السلس بين ما هو واقع وما هو خيالي، والدخول إلي ما يشبه "ألف ليلة وليلة" في الغرائبي والعجائبي، ليقدم في النهاية وجبة ممتعة لا تخلو من الفكر العارض لمرض الوطن، مساهما فيما يتصوره حل لمشاكله، دون وعظ أو صراخ. الأمر الذي معه نستطيع القول بأنه إن كانت الدولة تسعي بالفعل لتجديد الخطاب الديني، فعليها بالأمر فورا بتقرير تدريس "جبل الطير" علي طلاب مدارسها.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1]- عمار علي حسن – جبل الطير – مكتبة الدار العربية للكتاب – ط 1 – 2015 .

[2]- الآية 221 من سورة البقرة

[3]- محسن جاسم الموسوي – مجلة فصول المجلد الثالث عشر –العدد الأول ربيع 1994 – الهيئة العامة للكتاب – القاهرة.

[4]- إشارة إلي تفسير يوسف في السجن لحلم الملك بالبقرات السبع.