يكتب الناقد الأردني أن الشفاهية هي مفتاح ثقافة الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغه المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية. فالصحراء تعتمد على الشفاهية في مختلف شؤونها. والشفاهية تشمل الشعر والسرد معا. ولها تأثيرات بليغة في إنتاج المادة الأدبية نفسها، ثم في تداولها ونشرها وحفظها.

الصحراء: رؤية تأسيسية في ثقافتها وسردياتها

محمد عبيد الله

(الصحراء): كلمة مفتاحية مهمة في اللغة العربية، وهي معروفة وشديدة الشيوع إلى درجة ضياع دلالتها بسبب ما يظن أنه وضوحها الزائد. ولكنها ربما للسبب ذاته تبدو محتاجة إلى وقفة موجزة تعيدنا إلى فضاء الكلمة للوصول إلى تعيين المدلول وتصور الدلالة.

 تبدو تسمية (الصحراء) –ابتداء- تسمية مكانية يقدمها المعجم العربي بأنها: "الصحراء من الأرض: المستوية في لين وغلظ. وقيل: الفضاء الواسع...لا نبات فيه..الصحراء من الأرض مثل ظهر الدابة الأجرد ليس بها شجر ولا إكام ولا جبال، ملساء. وأصحر المكان: اتسع.. أصحر القوم: أي برزوا إلى الصحراء. وهو فضاء من الأرض واسع لا يواريهم شيء". (لسان العرب وغيره) ولا يفيدنا المعجم بأكثر من ذلك فهي مرتبطة بالفضاء الواسع والفراغ الممتد، وبالانكشاف والبروز. وذلك عائد إلى طبيعتها الجغرافية ومناخها من ناحية استوائها وغياب الجبال عنها، وقلة أمطارها مما يجعلها جرداء لا نبات فيها. وهذا ما يجعل منها أرضا قفراء فقيرة صعبة على قاطنيها، وتقتضي طريقة خاصة في العيش يتأسس في ضوئها الوعي الصحراوي والثقافة الصحراوية.

أما لفظ (البادية) فلفظ آخر يتداخل مع الصحراء ومن دلالاتها المعجمية أيضا: "بدا القوم بدواً خرجوا إلى باديتهم. وقيل للبادية بادية لبروزها وظهورها. وقال الليث: البادية اسم للأرض لا حضر فيها (أي لا استقرار ولا ماء يستقرّون عنده). وقال أبو منصور (الأزهري): البادية خلاف الحاضرة. والحاضرة: القوم الذين يحضرون المياه وينزلون عليها في حمراء القيظ. فإذا برد الزمان ظعنوا عن أعداد المياه وبدوا طلبا للقرب من الكلأ، فالقوم حينئذ بادية بعدما كانوا حاضرة". وقد نظر العلامة ناصر الدين الأسد في هذه الألفاظ ولاحظ التداخل بينها وقال"فنحن نرى..مبلغ التداخل في معاني هذين اللفظين، فهما بمعنى واحد أو معنيين متقاربين جدا لا يكاد ظاهر النصوص يميز بينهما" (تحقيقات في اللغو والأدب، ص77).

أما الإنسان الذي يرتبط بالبادية والصحراء فهو البدوي والجماعة: بدو، وكذلك أعرابي وجماعتهم: أعراب. ووفق رأي الأسد فثم فرق في الدرجة بين البدو والأعراب رغم ما بينهما من تداخل في الاستعمال ، ونفهم من تحليله الطويل أن البدو يقطنون ظاهر البلد أو القرية وتتداخل حياتهم في بعض وجوهها مع حياة القرى القريبة وقد يكونون من أهل الشياه أو المواشي وليس الإبل. وأما الأعراب فهم أهل إبل وأبعد عن الحضر والعمران، ويمثلون درجة أبعد في التصحر والتبدّي أو الإيغال في الصحراء والبعد عن الحضر، وصلتهم بالحضر أضعف وإقامتهم في صحاريهم أطول. 

ويخيل لنا أن الصحراء وحياتها هي نمط واضح في حياة العرب قبل الإسلام وبعده، وأن انتصار النمط الحضري وحياة الاستقرار وإن بدأ في عدد من القرى قبل الإسلام فإنه ليس النمط الغالب. يدلنا على ذلك وضوح صورة الصحراء ومكونات الطبيعة الصحراوية من قفار وحيوان (الناقة والإبل) حتى في أشعار أهل الحضر وآثارهم. وقد استلزم هذا التحول من الصحراء إلى المدينة ومن الترحل إلى الاستقرار زمنا طويلا، بل يمكن القول إن المدينة لم تهزم الصحراء تماما بل قد دخلت الصحراء ذاتها بوعيها وأنماط تفكيرها إلى المدينة، ولم ينته الصراع إلى اليوم.

وفي نظرنا فإن الصحراء -مكانا وبيئة وأنظمة- قد خلّفت وعيها الخاص المعقّد، وما من عربي إلا وبه مس من الصحراء مهما يحاول التحضر والتمدن. (التحضر يعني الاستقرار ولا يعني تفضيلا) وقال الشاعر القديم معتزا ببداوته:

ومن تكن الحضارة أعجبته    فأي رجال بادية ترانا

الحضارة في أصل دلالتها ترتبط بالاستقرار في مقابل البادية أو الصحراء المتسعة التي يتحرك الناس في بقاعها بحرّية أكبر وبإقامة أقل في المكان الواحد. الصحراء حرية والمدينة سجن. الصحراء مفتوحة والمدينة مغلقة. الصحراء ممتدة والمدينة مرتدّة.

الصحراء أيضا ليست ثابتة تماما على مر الزمن، فقد "تتحضّر" بعض بقاعها إذا ما تغير مناخها وظهر نباتها وصلحت بعض أراضيها للزراعة، وقد يتصحّر الريف وتتصحر القرى إذا ما تعرضت لتغييرات معينة، كأن يجف مطرها ويقل نباتها. ولكن مثل هذا التغير يكون على مدى أزمنة طويلة. وكذلك هناك تغيرات وهجرات من الصحراء وإليها، فقد يتحضر (يقيم ) البدوي،  وثم أخبار ومرويات سجّلها الرواة الأوائل عن الأعراب الذين انضموا للحواضر وغدوا قنوات لنقل معارف البادية وأشعارها ومروياتها السردية، و تمكننا المصادر العربية من معرفة بعض أسمائهم. وأكثر من يلقبون بـ "الأعرابي" أو "ابن الأعرابي" وهم كثر في أخبار المؤلفين والرواة، هم ممن لهم صلة بهذه الفئة من الرواة الأعراب الذين انتقلوا إلى الحضر، أو ظلوا يترددون بين البادية والحاضرة. وهناك رحلات العلماء الحضريين (الأصمعي وغيره..) إلى البادية وعودتهم بحكايات ومرويات كثيرة تمثل صورة من صور التقاط صور البادية وثقافتها بمنظور حضري وأدوات كتابية. وقد يتبدى بعض أهل الحضر ويدخلون في البادية، فيتحولون إلى البداوة بتغيير نمط حياتهم. وفي الحديث نهي عن التبدي "من بدا جفا" وهو موقف مفهوم في ضوء تبني الإسلام للنمط الحضري. وهذا يدلنا على أن التفريق يعتمد نمط المعيشة على الأمد البعيد أكثر مما يرتبط بمجموعات سكانية ثابتة أو معينة. ولذلك فقد نجد قبائل منقسمة بين نمطين أو ثلاثة كما يدل على ذلك بحث أستاذنا الدكتور الأسد الذي أشرنا إليه.

السرد والصحراء:

للصحراء سردها، وسرد العرب في جذوره سرد صحراوي إجمالا، وإذا كان الشعر هو فن الصحراء الأثير فإن ذلك سببه ثبات الشعر أكثر من النثر والمرويات السردية، من ناحية قابليته للحفظ مع وجود الوزن والقافية والرواة الموكلين بحفظه وإنشاده.

ويبدو لنا أن الشفاهية هي مفتاح ثقافة الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغه المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية. فالصحراء تعتمد على الشفاهية في مختلف شؤونها.  والشفاهية تشمل الشعر والسرد معا. ولها تأثيرات بليغة في إنتاج المادة الأدبية نفسها، ثم في تداولها ونشرها وحفظها. والكلمة الشفاهية/كلمة الصحراء هي ما يقال بالفم، وليس ما يرى بالعين أو يخط بالقلم، إنها جزء من المتكلم أو الناطق، وهي أقوى وأثبت وأشد تأثيرا حتى حدود الأسطرة والسحر.. في ثقافة الصحراء الكلمة المنطوقة تكفي: فلها قوّتها وفعلها وسيطرتها، أما الكتابيين فيضعف تأثير الكلمة المنطوقة عندهم ويحتاجون إلى الكلمة المكتوبة الموثقة (وإذا تداينتم بدين فاكتبوه) في القرآن الكريم، وهذا مطلب حضري جاء مع تبني الاسلام للنمط الحضري. أما البدوي فعند كلمته (المنطوقة الملفوظة) ولا يحتاج كلاما مكتوبا لتثبيت وعده أو فعله، بل كلمته هي قوته وفعله.

والشفاهية ثقافة كاملة مثلها مثل قرينتها الكتابية، ولكننا قرأنا الأولى بمنظور الثانية، فدخلنا إليها بجملة من "التحيزات" الكتابية والحضرية فاستغلقت دوننا الصحراء وثقافتها وشفاهيتها. ولذلك فإن استبعاد تلك التحيزات هو أول ما ينبغي الالتزام به للإنصات إلى صوت تلك الثقافة التي محا ذلك التحيز كثيرا من معالمها، وهو أمر ألح عليه الأكاديمي السعودي سعد الصويان ونوافقه عليه أشد الموافقة في مثل هذا التناول.

ولقد تنبه الجاحظ (ت255هـ) للطبيعة الشفاهية العربية ولخصائصها الكبرى قبل الإسلام خاصة. فقال من ضمن ما قال: "وكل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام. أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا. ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرّسه أحدا من ولده. فكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون.... وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب" (البيان والتبيين، طبعة هارون، 3/27-28).

وفي ضوء ما سبق فإن سرد الصحراء هو المنبع الشفاهي الذي ولد منه السرد العربي، بمختلف أنواعه وحيله. وتظهر الخصائص الشفاهية في صور كثيرة منها "القوالب الصياغية" الشبيهة بما يظهر في الشعر الشفاهي، وهي ليست من باب التقليد كما يظن الكتابيون وإنما هي علامات لفظية يتقصد منها تنظيم الذاكرة ومساعدتها على تتبع حركة المادة المروية وتطويرها اعتمادا على تلك القوالب. ومن بين هذه القوالب صيغ خاصة للافتتاح والانتقال (حسن التخلص) وصيغ ختامية ذكية تجعل من السرد الشفاهي مادة حيوية ممتعة. والمطلعون على الحكاية الشعبية الريفية (الحدوثة) أو البدوية (السالفة) يدركون بلاغة تلك القوالب وأهميتها الفنية والتقنية والتواصلية في عملية السرد.

ويتبع ذلك أن السرد يتميّز بالتحول واللاتناهي، ففي كل مرة تروى فيها الحكاية تدخلها تحويرات وتغييرات بحسب المتلقّين وبحسب مزاج القاص/الراوي وبحسب المقام أو الموقف الذي يكون فيه. فليس هناك قصة واحدة ولا حكاية واحدة وإنما هناك صيغة جديدة في كل مرة. إنه سرد لا يمكن تقييده أو حبسه أو السيطرة عليه، وتبدو عملية الكتابة هنا سبيلا لحبس الكلمات وتقييدها (استخدم العرب مصطلح تقييد وكأنهم فهموا هذا المعنى: حبس الكلمات وإلغاء حريتها) أما السرد الشفاهي فسرد حر لا يمكن السيطرة على حركته وجموحه وحيويته.

ووفق أولتر أونج مؤلف (الشفاهية والكتابية) فإن "القصص مهمّة في الثقافات الشفاهية لأنها تستطيع أن تدمج مادة هائلة من التراث في أشكال طويلة نسبيا، وقابلة للديمومة ديمومة معقولة، وهو ما يعني في الثقافة الشفاهية أشكالا قابلة للتكرار" (الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين، ص149).  والديمومة التي يشير إليها ليست نقيض التحول، وإنما هي ديمومة مؤسطرة متحولة تحافظ على ملامح المعنى ولا تحافظ على التفاصيل، وتساعد القوالب الصياغية ووسائل التذكر والوظائف السردية النمطية والمكررة على تمكين الراوي من استعادة القصة مرة بعد مرة مع ما يدخلها من تحويرات وتعديلات.

 

  • محمد عبيد الله أستاذ الأدب والنقد بجامعة فيلادلفيا