تتواشج سيرة بلقيس شرارة (1933) مع سيرة العراق في تحولاته واضطراب أحواله، منذ ثلاثينيات القرن المنصرم إلى الاحتلال الأميركي للعراق (2003). سيرة على هيئة «حقيبة ذكريات» كما تقول عنها في مذكّراتها «هكذا مرّت الأيام» (دار المدى). الطفلة التي تنتمي إلى أسرة لبنانية استقرت في النجف العراقية مطلع العشرينيات، ولدت سنة صعود هتلر إلى زعامة الحزب النازي في ألمانيا، وهيمنة نوري السعيد على مفاصل الحكم في العراق، بعد وفاة الملك فيصل الأول. كأنها كانت منذورة للحروب والمصائب والكوارث التي ستصفعها في أكثر من منعطف، إلى أن التقت المعمار العراقي المعروف رفعة الجادرجي العائد لتوه من لندن الخمسينيات، وتزوجا بعد أشهر من تعارفهما، من دون طقوس الزواج المعروفة. لم تكن بلقيس شرارة في وارد كتابة مذكراتها لولا إصابة رفيق دربها بشلل جانبه الأيسر، وقضاء أوقات طويلة إلى جانبه في المستشفى، ووحيدة في بيتها، فوجدت في الكتابة عزاءً في معالجة أحزانها.
ابنة محمد شرارة مدرس اللغة العربية الذي خلع العمامة وارتدى الزي الرسمي للموظفين، انتسبت إلى قسم اللغة الإنكليزية في جامعة بغداد، وسوف تشارك في انتفاضة 1952، بوصفها يسارية ناشطة، ما عرّضها للاعتقال، فيما كان والدها يقبع في السجن. انخرطت بعد زواجها في أوساط النخبة العراقية، غير عابئة بالأعراف، فقد كانت أول امرأة تدخل مقهى للرجال، كما ستكون العصمة بيدها. هكذا ستتواتر أسماء سيكون لها شأنها في حقول الأدب والعمارة والرسم، مثل جبرا إبراهيم جبرا، وبلند الحيدري، وجواد سليم، وفائق حسن، وقحطان المدفعي، ومحمود صبري، وإسماعيل الشيخلي، وعبد الرحمن منيف، وآخرين.
هذا ما سينعكس على اهتماماتها الجديدة بتأثير مناخات زوجها المنفتحة على المعرفة بأطيافها المتعددة، وخصوصاً في مجال العمارة. شكّل هؤلاء طليعة الثقافة العراقية الجديدة بما سميّ مجموعة «الرواد». ورغم الحالة البوليسية التي كانت تعيشها البلاد في المرحلة الملكيّة، إلا أن ما سيأتي لاحقاً سيجعل من هذه الممارسات مجرد بروفات أولية للعنف. ثورة 14 تموز (1958) التي قادها عبد الكريم قاسم كانت مجرد نسمة عابرة في تاريخ العراق. في هذه الفترة صمّم رفعة الجادرجي ثلاثة أنصبة تعبّر عن الثورة، وهي نصب الجندي المجهول، ونصب 14 تموز، ونصب الحريّة (طوله 52 متراً، وعرضة 6 أمتار)، على أن يقوم جواد سليم بإنجاز جدارية نصب الحرية. وقد تحمّس جواد للفكرة بقوله: «لم يشهد العراق نصباً بهذا الحجم منذ العصر الآشوري»، ثمّ سافر إلى فلورنسا لإنجاز النصب، وبقي هناك نحو سنتين، إلى أن تناهى إلى سمعه أن الزعيم عبد الكريم قاسم يرغب في أن تتجلى إنجازاته الثورية في هذا النصب، وذلك بإبراز صورته، ما أصاب جواد بصدمة نفسية، أدت إلى دخوله مستشفى للأمراض العصبية، ليتكشّف الأمر على أن ما سمعه مجرد شائعات ووشايات مخبرين أمنيين.
عاد جواد إلى بغداد للإشراف على تنفيذ النصب، إلا أنه أصيب بنوبة قلبية أدت إلى وفاته (1961) ففقد العراق أحد أهم مبدعيه. لم تطل مرحلة عبد الكريم قاسم، إذ أطاحه انقلاب 8 شباط 1963، وحكم عليه بالإعدام، وتسلّم السلطة عبد السلام عارف، وستلقي هذه الحقبة بظلالها الثقيلة على حياة رفعة الجادرجي بإصدار مرسوم جمهوري بتجميد أمواله ومنعه من السفر كنوع من تصفية حساب معه. هكذا اضطر إلى تقديم استقالته من العمل الحكومي ليتفرّغ لمكتبه الخاص في الاستشارات المعمارية، كذلك ستجري مضايقة بلقيس بفصلها من عملها في الجامعة. لم تعد بغداد كما كانت في الخمسينيات، فقد أضحت معتقلاً كبيراً، من انقلاب إلى آخر. هكذا انخرط رفعة في مشاريعه المعمارية، وذلك من طريق «صهر التراث بالأشكال الحديثة»، فيما تقول بلقيس إنها شغلت نفسها بتعلّم الطبخ، وسوف تنجز لاحقاً كتاباً عن تاريخ الطبخ.
انقلاب 17 تموز/1968 الذي قام به حزب البعث أعاد البلاد إلى أجواء الرعب مجدّداً، وزج الآلاف في المعتقلات والسجون والتصفيات الجماعية. وكان اسم رفعة الجادرجي في قائمة المطلوبين بتهمة الماسونية، و»وصلت الموجة إلى التدخّل في أصغر تفاصيل حياة الناس الخاصة»، إذ أصدر صالح مهدي عماش، نائب رئيس الجمهورية تعليمات بمطاردة كل من ترتدي» الميني جوب»، وكل من يتبع موضة «الخنافس» في إطالة شعره. سيتعرّض رفعة للاعتقال والحكم عليه بالمؤبد، انتقاماً من مواقف والده كامل الجادرجي، أحد رموز الحركة الديموقراطية في العراق، على يد أحمد حسن البكر، رئيس الجمهورية حينذاك، قبل أن يتخلى عن السلطة قسرياً، لمصلحة صدّام حسين. هنا بدأت حقبة أشدّ هولاً عبر حملات التهجير الجماعية والاعتقالات والإعدامات التي طاولت رفاق الأمس «وانحدر العراق تدريجاً إلى الهاوية». ما إن خرج رفعة من السجن فجأة، بأمر من الرئيس، وتعيينه مستشاراً لتحسين مدينة بغداد، حتى علا صوت طبول الحرب مع إيران (1980) لتعيش البلاد كابوساً طويلاً، وسيعيش المعمار العراقي المعروف، صدمة قرار صدام حسين بهدم نصب الجندي المجهول. ثم تتالت الصدمات، فقرّر الزوجان مغادرة البلاد إلى أميركا، ثم استقرا في لندن ليتفرجا على دمار البلاد عبر الشاشات، من حربٍ إلى أخرى، كما ستنتحر شقيقة بلقيس، حياة شرارة إثر انتحار ابنتها، بعد أن ضاقت بهما سبل العيش في بغداد. كأن بهجة بلداننا توقّفت عند حقبة الخمسينيات، قبل أن يزحف العسكر إلى السلطة، ويدمّروا كل ما في طريقهم.
ملحق (كلمات) جريدة الأخبار اللبنانية