ليس سهلاً على فلسطيني يكتب الرواية، أن يحمل جديداً إلى قضية شعبه التي اقترنت بالمأساة منذ ولادتها، وظلت تدور في هذا الفلك لأنها لم تعرف حلاًّ عادلاً يخرجها من النطاق المأسوي ويُعيد الفلسطينيّ إلى حياته المعتادة التي فقَدها منذ نكبة 1948. إلا أن حيوية الأدب الفلسطيني المعاصر حققت إنجازات في الشعر والنثر حررت هذا الإبداع من ضيق «الواقعية الملتزمة»، ودفعت به إلى آفاق تزاوج بين مأسوية التاريخ ورحابة المشاعر الإنسانية المتدثرة بجمالية تعلو على السياقات الظرفية... والروائي ربعي المدهون يندرج ضمن هذه الكوكبة من المبدعين الذين يعون جيداً أن الشكل، في كل تعبير، يكتسي أهمية قصوى لأنه يسعف على التقاط خصوصية التجربة وعلى استنطاق الجوانب والمشاهد المهملة داخل الإطار العام نتيجة إيلاء الانتباه إلى التجليات الكبرى للموضوع المستوحى في الرواية.
من هنا، نتفهم اتجاه المدهون إلى التجريب وحرصه على تأكيد هذا التوجه في مطلع النص؛ أكثر من ذلك، يعلن عن نزوعه التجريبي في عنوان فرعي مضاف على هذا النحو: «مصائر: كونشرتو الهولوكست والنكبة» (مكتبة كل شيء، والمؤسسة العربية، 2016). قد نسلم مع الكاتب بأن شكل روايته يطابق شكل الكونشرتو، لكنه لم يكن في حاجة إلى هذا التوضيح، إذ إن نوايا الكاتب قلما تطابق منجزه النصي. مهما يكن، فالكاتب يصرح بأن استيحاءه للكونشرتو يتمثل في توظيف الحركات الأربع، حيث يركز في كل حركة على شخصيتين ويعود، في الحركة الرابعة، إلى جعل كل الشخصيات تتقاطع والأحداث تتكامل، فيكتسب النص المتشظي ملامح دلالية تضيء جوانب متباينة من القضية الكبرى القابعة في خلفية النص.
الشكل وطرائق السرد
سأحاول أن أستجلي شكل «مصائر» وعناصرها السردية انطلاقاً من المكونات النصية، على أساس أن إشارة الكاتب إلى استعانته بشكل الحركات الأربع للكونشرتو إنما هي تأكيد للشكل المتشظي الذي يفرض نفسه على الرواية العربية الحداثية التي تستوحي مجتمعات متشظية، متفجرة، تعيش وتنمو بعيداً من التراتبية التي فرضتها التصنيفات الطبقية في المجتمعات البورجوازية والتي بلورتها الرواية الكلاسيكية.
في الحركة الأولى، يطالعنا الحافز المزدوج الكامن وراء الفعل لدى شخصيات الرواية، والمكون للحبكة العامة. ذلك أن إيفانا الأرمينية، والدة جولي، أوصت قبل موتها أن يحرق جسدها وأن يوزع رماده على المدن التي عاشت فيها، ومنها عكا في فلسطين المحتلة. ولأجل ذلك جاءت جولي صحبة زوجها وليد حيث استقبلهما صديقهما جميل وزوجته الروسية لودا؛ وأثناء هذه الزيارة، تستيقظ رغبة جارفة لدى جولي في أن تسكن مع زوجها في عكا بدلاً من لندن. وتنتهي هذه الحركة الأولى بتوادع الأصدقاء في مطار بن غوريون وحوار بين جولي ووليد عن احتمال العودة للسكن في عكا؛ لكن وليد يجيب: «هذه ليست عودة جيجي. أنا لن أعود إلى البلاد لكي أعيش فيها غريباً. عندما نصل إلى لندن نناقش الموضوع بعيداً عن ضغط لحظة الفراق هذه». ص 65. بعبارة ثانية، تنطلق الرواية من نهاية زيارة وليد وجولي إلى فلسطين، ثم تأتي الحركات أو الفصول التالية، لتستعيد ما تم خلال تسعة أيام من زيارتهما، وصولاً إلى اليوم العاشر، يوم عودتهما.
في الحركة الثانية، يتناوب على السرد ضمير الغائب وجنين زوجة باسم، ووليد دهمان إلى جانب ضمير الغائب في النص الروائي الذي تكتبه جنين ويقرأ بعض فصوله وليد. وهذا التنويع في الأصوات الساردة يتيح لملمة تفاصيل متباعدة عن علاقة جنين وباسم في حياتهما المتوترة بسبب مضايقات الإدارة الإسرائيلية، وعن تجربة بطل رواية «فلسطيني تيس» الذي يحمل اسم «باقي هناك» والذي هو أبو جنين الذي رفض الهجرة بعد احتلال إسرائيل فلسطين وأصر على البقاء ومقاومة الاحتلال في شروط مهينة... وفي الحركة الثالثة، يقرأ وليد فصولاً من رواية كتبتها جنين ويشركنا معه في متابعة حياة «باقي هناك» حين كان يعيش مع زوجته الثانية في منزل مجاور لليهودية أفيفا التي نجت من المحرقة النازية، وظلت الكوابيس تطاردها داخل إسرائيل. بل إنها تموت ثم تعود إلى الحياة قبل أن تغادرها إلى غير رجعة. والمسكين محمود جارها يتحمل نزواتها وإزعاجها ويهيء نفسه لتأبينها كما طلب منه ذلك زوجها.
ويشتمل هذا الفصل على لقطات ساخرة وفانتاستيكية يختلط فيها الواقعي بالمتخيل، ليرسم ملامح من حياة عرب 48 داخل إسرائيل العنصرية، كما يحكي عن ما يتعرضون إليه من سوء معاملة عندما يزورون بلداناً عربية. وفي مقطع بعنوان «دهمان في غزة»، يرسم الكاتب من خلال نص رواية جنين وإضافات وليد تعليقاً على ما كتبته، صورة للدور الذي كان الراديو يلعبه في لم شمل الفلسطينيين وتسليتهم في أرض الشتات. ومن ثم، فإن إدراج رواية داخل رواية «مصائر» هو عنصر سردي وسّعَ نطاق المحكيات وشكْل تقديمها من زوايا مختلفة. وفي الحركة الرابعة واليوم العاشر، يُجمِّع الكاتب خيوط المحكيات والشخصيات التي طالعتنا في الحركات السابقة ليسلط الضوء على موضوع أساس يتصل بضحايا النازية الذين أقامت لهم إسرائيل متحفاً يحفظ ذكراهم؛ وكذلك متحف ذاكرة الفلسطينيين الذي أقيم بعد مصالحة اتفاقية أوسلو، لكنها مصالحة وهمية لأن السلطة الإسرائيلية لم تتوقف عن ارتكاب جرائم التقتيل والعسف ضد شعب فلسطين.
جوانب أخرى من المأساة
إلى جانب هذه العناصر الشكلية والسردية، هناك عناصر أخرى تدعم البناء التجريبي للرواية، وتتمثل في المزج بين شخصيات واقعية وأخرى مستمدة من نص روائي مُدمَج في رواية «مصائر»، كتبتْهُ جنين التي هي إحدى شخصيات الرواية/الأصل. وهي عملية تخلق مرآة موازية تعكس المواقف والخطابات من زوايا متباينة. يضاف إلى ذلك، أن الكاتب استحضر اسمه ضمن بعض مواقف الرواية ليؤكد البعد السيْر الذاتي - التخييلي في روايته. أكثر من ذلك، يعمد الكاتب إلى استحضار أسماء تحيل على أسماء كُتابٍ وشعراء معروفين في الساحة الأدبية، ويتمادى ليجعل شخصية وليد في «مصائر» استمراراً للشخصية ذاتها التي طالعتنا في رواية سابقة للكاتب تحمل عنوان» السيدة من تل أبيب». وواضح أن هذه اللعبة السردية تلتقي بما ابتدعه سيرفانتس في «دونكشوت» (1605 - 1614)، حيث عدّدَ كُتابَ روايته، وجعل بطليْه دونكشوت و سانشو يلتقيان بشخصية من شخصيات الجزء الثاني المزيّف من «دونكشوت» الذي كتبه روائي مجهول لانتقاد سيرفانتس... وهذا العنصر اللّعبي، يفتح الباب أمام القارئ ليُسائل الكاتب ويتخيل صيغة أخرى للسرد وعلائق الشخوص. يضاف إلى كل ما تقدم، لجوء الكاتب إلى استثمار عنصر الفانتاستيك لتكسير حدة الواقعي وإبراز الجانب الخرافي الذي يتسلل إلى عقول الناس وتصوراتهم، على نحو ما يورده وليد على لسان زوجة عمه وهي تتحدث إلى أمه عن الصخرة في مسجد قبّة الصخرة: « معك خبر يا أمينة أنه الصخرة طارتْ ولحقت النبي، عليه الصلاة وأفضل السلام، ليلة الإسراء والمعراج. فنهَرها النبي عليه الصلاة وأفضل السلام: اتأدّبي. فوقفتْ مطرحها...آه طبعاً وظلت معلقة في الهواء». ص 228.
لا شك في أن الجهد الذي بذله ربعي المدهون في تشكيل الرواية وتنويع طرائق سردها ومستويات اللغة والكلام المهشم على لسان الشخصيات الأجنبية، وتوظيف السخرية اللاذعة والفانتاستيك، قد أتاح له أن يستوعب مجموعة من تفاصيل الحياة داخل فلسطين المحتلة وفي الشتات، ليجعلها تصب في موضوع أساس له مظهران واضحان: الأول عن مأساة ضياع الوطن وشعور الفلسطينيين جميعهم، لا فرق بين مَنْ هم في الداخل أو في الشتات، بوطأة الاحتلال الإسرائيلي. والمظهر الثاني، يلامس تلك المفارقة التي يعيشها اليهود داخل «إسرائيل الديموقراطية»، حيث تقيم الدولة متحفاً يخلد أسماء ضحايا الهولوكوست، وفي الآن نفسه يستمر جيش الاحتلال في قتل الفلسطينيين الأبرياء وتدمير منازلهم والزج بهم في السجون. يقول وليد محدثاً نفسه وهو يزور متحف ذاكرة ضحايا النازية في القدس.
إن رواية «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة» هي، في نهاية التحليل، رواية تبدّد الأوهام التي قد تكون لا زالت قائمة لدى بعض الفلسطينيين تجاه إسرائيل المُستَعمِرة ومزاعمها الديموقراطية؛ ذلك أن تفاصيل العيش بالنسبة إلى من يعيشون في ظل «السلطة الوطنية» التي لم تحصل بعد على اعتراف بدولتها، أو بالنسبة إلى من هم حاصلون على جنسية إسرائيلية، تؤكدُ أن إسرائيل لا تريد سلاماً ولا اعترافاً بحق الفلسطينيين في الاستقلال، بل تبرهن يومياً على تشبثها بسياسة العنف الاستعماري ومصادرة الحريات، والإمعان في التمييز العنصري... ومن ثمّ أصبح جميع الفلسطينيين يعيشون مأساة الاحتلال والشتات والقهر، على قدم المساواة، بخاصة بعد أن تبدد وهْمُ المواطنة عند فلسطينيي 48 الذين اختاروا البقاء بعد النكبة. وهذا ما رسمته «مصائر» عبر مسار محمود دهمان، ومن خلال تجربة وليد وبَاسم وجنين الذين يعيشون ممزّقين بين العودة إلى الوطن المحتل، أو البقاء في الغربة. وهو تساؤل يُحيل أيضاً على معضلة الهُوية الممزقة، المحاصرة بتفاعلات شتى ضمن صيرورة تطاول جميع الشعوب والمصائر البشرية... كل ذلك يصلنا عبر إنجاز سردي متنوع، وشكل روائي مفتوح على مرايا جمالية تتبادل الرؤية، وتفسح المجال للسخرية واستحضار المشاعر الإنسانية التي يحتمي بها من يعاني من الاستعمار والقهر لكي لا تتلّبسه وحشية المستعمِر الجلاد الذي يتناسى مأساته حين كان، في الأمس القريب، ضحية الهولوكوست.
عن جريدة الحياة