في الذاكرة الشعبية لجبال القوقاز وبلاد الشيشان وداغستان توثق قصة الثائر المسلم الإمام الشامل (1797 ـ 1871) لمحاولات المسلمين في مناطق وسط آسيا مواجهة الإمبريالية الروسية وبناء استقلال أو دولة تحكمها الشريعة. إلا أن قصة الإمام شامل تتجادل فيها الظروف الجيوسياسية وحسابات الدول الإمبريالية في القرن التاسع عشر ضمن ما عرف باللعبة الكبرى. وتظل شجاعته هي التي أهلته لموقعه في التاريخ بالإضافة لموقعه الديني وحنكته العسكرية والسياسية. فقد وصفه الأمير إيليا اوربلياني (شقيق الشاعر الجورجي والقائد العسكري غريغول أوربلياني) والذي قضى أشهرا في أسر شامل وكتب كتابا عن تجربته «ثمانية أشهر في سجن شامل» بأنه أكثر القادة العسكريين دهاء وتصميما وبسالة ومميزات شخصية. فقد كان الإمام الثالث في داغستان ولم يقتصر عداؤه للروس فقط بل للجورجيين جيران القوقاز وكان يطمح لإنشاء دولة إسلامية وعاصمتها تبليسي. وحظي شامل بدعم من السلطان العثماني وفي أثناء حرب القرم حظي بدعم من الملكة فيكتوريا. ومثل كل الثوريين من عز الدين القسام وعبد القادر الجزائري وتشي غيفارا، لم يحقق شامل حلمه وقضى بقية حياته في أسر الروس. وعامل الروس شامل معاملة جيدة كما عامل هو أسراه معاملة جيدة وبنفس الطريقة التي احترم فيها الفرنسيون فروسية وشجاعة وموقع الجزائري الديني. فكلا البطلين كان يقود طريقته الصوفية.
ومن هنا تحتوي قصته على الكثير من العناصر الدرامية التي جعلت منه رمزا حيا في التاريخ والذاكرة لمسلمي القوقاز. فهذا البطل الخارج من داغستان والمسلح بإيمانه الصوفي ـ المريدية- يعيش في ذاكرة الشيشانيين والداغستانيين حتى اليوم رغم الهزائم التي تعرض لها على يد الروس واستسلامه الأخير في عام 1859 وعيشه في المنفى مدة عشرة أعوام قبل أن يسمح له بالسفر إلى الحج وفي أثناء زيارته للمدينة توفي هناك . وفيها قابله قبل وفاته الشيخ طاهر الجزائري العالم والمحقق المعروف الذي أنشأ المكتبة الظاهرية في دمشق. وتحتوي قصة الإمام شامل على عناصر التوتر، حملاته العسكرية، حركته الصوفية، إمامته لداغستان والشيشان، رؤيته للآخر الروسي، القصص الأسطورية حول بطولته، شجاعته ورجولته ومعاملته للأسرى ولأهل بييته وعلاقته مع شيخه. ولكن كيف نموضع قصة الإمام شامل في الواقع الحالي ونضعها في سياق «الحالة الإسلامية» المعاصرة والحرب على الإرهاب ونربطها بالمنفى والهويات المتجادلة/المتصارعة. وكيف نقرأ تاريخ الإمام شامل الصوفي ورؤيته السياسية والدينية والعسكرية للحرية والتحرير؟ تظل المغامرة في الكتابة عن شامل وإحياء صورته في الحاضر عملا شائكا.
التاريخ كقناع
الروائية السودانية المقيمة ليلى أبو العلا تخوض هذه المغامرة في عملها الروائي الثالث بعد «المنارة» و «المترجمة» ففي هذا العمل الجديد تحاول كعادتها في استكشاف الهويات المتناقضة والنصف نصف البحث عن معنى المنفى والإنتماء وتجدل كل هذا في حبكة روائية جميلة ومثيرة في الوقت نفسه في روايتها الجديدة «حنان الأعداء». ويبدو التاريخ هنا، تاريخ الإمام شامل تكأة تتكئ عليها لتبحث في معنى التوزع لدى الأبطال ومعنى أن تحمل هويات متعددة وأثر هذا على رؤية البطل لنفسه ورؤية العالم له. وتضيف الكاتبة هنا أبعاد العرق والدين والسياسة والحرب على الإرهاب في السرد لتضعنا أمام عمل معاصر يتحول فيه الإمام شامل وعائلته ونوابه وشيخه إلى أبطال من هذا الزمان ويقعون كما تقع بطلة الرواية ناتاشا حسين وأوز (أسامة) راج ووالدته ملك في لعبة التنوع ـ التناقض وأثر كل هذا على المسارات والقرارات التي يتخذها البطل في محاولته للتعرف على نفسه والعالم حوله. تبدأ الرواية بفضولية باحثة أكاديمية للتعرف على سيف الإمام شامل بعد اكتشافها احفادا له جرت عليهم قاعدة «الخليط» وتكتشف ناتاشا حسين/ ويلسون أن هناك توازيا في الحالة بينها وبين من تحاول التعرف عليهم، فهي تعثر على ذاتها من خلال اكتشافها قصة ملك وأوز، وهو تمويه لاسمه الحقيقي أسامة الذي يذكر بأسامة بن لادن وهجمات 9/11 فالزمن الروائي الذي تدور أحداث القصة هو ما بين 2010 ـ 2011 أما الزمن التاريخي، أي زمن شامل فهو يبدأ من حصار أخولغو عام 1839 إلى نهاية الحملات العسكرية و 1859 استسلام شامل ومن ثم نهايته في البقيع بالمدينة المنورة. وشيئا فشيئا تتكشف لنا أبعاد القصة. فقد ضحى الإمام شامل بابنه جمال الدين لإنقاذ شعبه المحاصر. ولم يف القيصر الروسي نيكولاس الأول بوعده ويعيد الإبن الذي لم يكن يتجاوز السادسة من العمر. ونقل جمال الدين إلى سانت بطرسبرغ حيث كبر في الثقافة الروسية وأصبح عسكريا ولكنه ظل غريبا رغم اندماجه. وكأن ناتاشا تريد أن تخبرنا أن تغيير الإسم والهوية لا يكفي لتقبل المجتمع المضيف. فرغم قرب جمال وإنجازه العسكري إلا أن القيصر رفض الموافقة على زواجه من داريا سيمونوفيتش. وكانت الذريعة هي أن جمال الدين يجب أن يتزوج من بنات جنسه حتى يحقق طموحات الروس في القوقاز ويكون سفير الحداثة والتقدم في بلاده. ومن أجل استعادة ابنه قام الإمام شامل بأسر الأميرة آنا سليلة العائلة المالكة في جورجيا التي سلم ملكها البلاد للقيصر الروسي من أجل السلام كما تعتقد. وهي متزوجة من عسكري هو ديفيد تشاتشفديز الذي لم يكن راضيا عن قرار زوجته البقاء في المزرعة الحدودية التي تملكها زوجته في تسيندالي- مقاطعة كاخيتي ولا يفصلها عن القبائل القوقازية سوى النهر. ووجدت الأميرة راحة في العيش في هذه القرية المعزولة لأنها لم تكن ترتاح لمراسيم القصر في بطرسبرغ ولشعورها أنها جورجية/ خارجة عن السياق، على خلاف زوجها الذي كان يعتقد بهويته الروسية والحداثة التي تعيشها عاصمة القيصر مقارنة مع الأجواء الريفية التي رضيت بها زوجته. فقد كانت قانعة بالعيش مع زوجها القائد العسكري بالمنطقة ومربية أولادها الفرنسية مدام درانسي التي جاءت إلى تبليسي كي تفتح مكتبة لبيع الروايات الفرنسية ولكنها فشلت بسبب اندلاع حرب القرم وانتهت مربية لالكسندر الصغير وليديا التي كانت لا تزال في سن الرضاعة. وسيكلفها قرار البقاء في القرية ثمنا باهظا عندما أرسل الإمام شامل قبائل قوقازية لاختطافها ومن في المنزل، في محاولة منه لمبادلتهم مع ابنه الأسير جمال الدين. فهذا الأخير يئس من وصول فرق إنقاذ لتحريره من أسر الروس وتقبل الحياة التي فرضت عليه وأصبح في عقله وسلوكه روسيا ونسي ما تعلمه من القرآن والصلاة بل ونسي لغة «أفار» التي يتحدث بها قومه. وستكتشف الأميرة آنا التي تخسر ابنتها في الطريق إلى أسرها الجديد في دارغو ـ فيدين مقر الإمام شامل الحياة على حقيقتها. ورغم ألم الفقد وضياع البنت إلا أنها تعيش رحلة بحث عن معنى حياتها وتواجه حياة صعبة خاصة في ظل مضايقات زيادت زوجة الإمام شامل، وابنة شيخه الصوفي جمال الدين. ومع ذلك نعثر في تفاصيل التجربة على موقفين: الأميرة التي رغم غضبها تشعر بتعاطف مع الإمام شامل وزوجاته والحياة البسيطة وتنتهي بفتنازيا وحلم بالعودة ملكة إلى بلادها التي ضمها الروس لسيادتهم. ويتلاشى هذا الحلم عندما تنجح المفاوضات ويتم مبادلتها بجمال الدين. أما مدام درانسي فلم تتقبل حياة المسلمين وتمسكت بمسيحيتها وظلت تقاوم أي فكرة تدفعها لفهمهم مع أنها قدمت رؤية معتدلة عن المعاملة التي لقيتها وهي في الأسر. وأسهمت معلوماتها لاحقا بمساعدة الروس على تدمير دارغو ـ فيدين.
بين – بين
من ثنايا السرد تخرج شخصية شامل المتسامح الذي يعامل أسراه كضيوف. ولكنه لم يكن قادرا على الحد من تصرفات زوجته زيادت ولا إرضاء شيخه جمال الدين الذي دعاه لأن يطلق أسر الأميرة، فرفض رغم الإحترام والإجلال الذي يكنه للشيخ والذي لم يخرج أبدا عن طوعه. وفي النهاية نجح الإمام باستعادة ابنه وتسليم الأميرة باحترام، والمثير للحزن أن جمال الدين الذي تعود على حياة الحضر والمدينة لم يتكيف مع حياة الجبال وأصيب بمرض السل. ولعل حرص والده على استعادته من الأسر هي رغبته في استعادته لهويته الدينية والعودة لأصوله والتخلص من فكرة البين- بين.
بين اسكتلندا ولندن والخرطوم وروسيا وجبال القوقاز تجدل أبو العلا قصة الثائر المسلم وتقدم مقاربة بينه وأحفاده، فحفيدته ملك وإن حافظت على تقاليده الصوفية وبعض تراثه وسيفه إلا أنها تعتبر خارجة عن طوع العائلة، فهي ممثلة ونتاج ثقافة هجينة. ويوقع ابنها الطالب الجامعي وتلميذ ناتاشا نفسه في دوامة الحرب على الإرهاب، فهو يوقع نفسه بمشاكل عندما يتخذ من «سيف شامل» ويكتب لناتاشا أنه قام بتحميل «دليل القاعدة من موقع وزارة الدفاع الأمريكية». وكان هذا كاف لمداهمة مكافحة الإرهاب بيت والدته واعتقاله حيث كانت ناتاشا بزيارة للعائلة في بحثها عن تراث الإمام الداغستاني- الشيشاني. وكانت تجربة صادمة للأم وناتاشا التي تعرضت شقتها للتفتيش وعاشت مشردة بين الفنادق وبيت زوج أمها توني لحين إصلاح الضرر في شقتها. بعيدا عن الصور والمشاهد واستعادة زمن شامل تكشف لنا أبو العلا النزاع داخل الأبطال من شامل إلى جمال الدين وآنا وملك، وتقوم في الوقت نفسه بالعودة إلى نفسها. شيئا فشيئا نكتشف قصتها، وهو ما تريد الساردة منا معرفته. فقصة شامل هي قناع تحاول من خلاله التحرر من آثامها وخطاياها- بحق الجنين الذي أجهضته- تقاريرها للأمن عن نشاطات الطلاب لكي تثبت ولاءها- الأم التي تركتها- والأب الذي هجرته. ونكتشف أن ناتاشا هي طفلة «الحرب الباردة» تعرف والدها السوداني عليها في أثناء دراسته الجامعية في موسكو. وجاء اللقاء عرضيا حيث أصيب كتفه بكسر ولأن الأم كانت تعمل خبيرة تدليك بدأت علاقة لم يكن يريدها الأب ولكن الأم لاحقته حتى تزوجا. وتقول ناتاشا أن صورة الزفاف المدني تظهر حيرة الأب. وأخفى الزواج عن أهله. وعاد إلى السودان بزوجته الحامل. وبسبب ميوله اليسارية لم يحقق أمله بوظيفة جيدة مع أنه كان يحمل شهادة دكتوراه الهندسة. ومنع زوجته الجورجية من العمل بالتدليك ولهذا وجدت في عمل الكعك فرصة للخروج من رتابة الحياة في السودان. وعن طريق عمل الكعك تعرفت على توني البريطاني «البلي بوي» المعروف بنوادي الخرطوم الليلية وذا التاريخ المشبوه والذي كان يعيش في الخرطوم بفيلا. وبدأت علاقة حب انتهت بطلاقها من الزوج السوداني والتبرؤ منها وابنتها. وهنا نعرف سر الغضب الذي حملته البنت تجاه والدها. وغيرت اسمها من حسين إلى ويلسون حيث تبناها توني.
في قصة ناتاشا وإسقاطاتها على التاريخ صورة عن التشظي الداخلي للبطل والرحلة من الضياع والتصالح مع النفس وكلما كبر البطل ونضج زادت فرصه للتصالح مع الذات. فالرحلة إلى الخرطوم لزيارة الوالد الذي كان في النزع الأخير- وصلت بعد وفاته- صورة عن التصالح مع الماضي. فحتى الوالد اعترف بخطيئته عندما تخلى عن ابنته. واعترافه وإن جاء متأخرا كان قبولا للواقع وللجزء غير السوداني في هويته. وفي السياق نفسه فقد وعت ناتاشا أن لا حاجة للتخلي عن هوية لصالح هوية أخرى. فالإنفتاح والتعايش وتعدد الهويات أفضل. وفي داخل كل منا زوايا جميلة يجب أن لا نقمعها أو نجهضها. فقد انتصر شامل على التحيز وقبلت ملك مصيرها واعترفت آنا بالإختلاف وقبل جمال الدين الواقع وكان ضحية في كل الأحوال.
Laila Aboulela: The Kindness of Enemies
Weidenfeld & Nicoloson, London/ 2016
320 pages
عن جريدة القدس العربي