يقدم لنا القاص والكاتب السوداني المرموق الذي اعتاد أن يقدم (للكلمة) الإسهامات الألمانية في تحليل واقعنا، مرثية وداع لصديق مبدع، عانى من أوجاع الغربة، ولكنه واصل فيها التعبير عن رؤاه ومواجده العراقية الخالصة، فالمنفي يحمل معه الوطن الذي تركه وراءه، ولا ينأى عن همومه وقضاياه.

المبدع والقارئ

اربعينية الروائي والشاعر العراقي صبري هاشم

حامد فضل الله

في مثل هذه المناسبات الحزينة، تتقاطر الذكريات على الرأس: تأمُل الغربة ــ كملاذ مؤقت ــ بحلوها ومرها وهمومها، منها هموم الوفاة خارج الوطن، بعيداً عن ترابه، عن مرتع الطفولة والأتراب والأهل والاصدقاء والذكريات الحميمة.
تعرّفتُ على صبري عند عودتي الثانية إلى برلين، وهو قادمٌ إليها من هانوفر عام 1996.
ضمتنا في البداية، حلقة ثقافية/ أدبية صغيرة بمشاركة الشاعر العراقي حامد حميد والكاتب والشاعر السوداني أمير حمد علي ناصر. كنا نقرأ ونناقش ونتبادل انتاجنا. لكنها اندثرت سريعاً شأن كل منظماتنا العربية، لا عمراً طويلاً ولا ثمراً وفيراً. ولكن توثقت علاقتي معه لينضم إلى اصدقائي العراقيين وما أكثرهم وما أكرمهم. كنت أعرض عليه قصصي القصيرة، يطالعها متمعناً وناقداً وهو الكاتب المتمرس، وأنا أحبو في مجالٍ وحقلٍ بعيداً عن تكويني وتأهيلي، دون إهمال التكوين الذاتي. نبهني إلى أهمية العنوان في القصة، فهو العتبة الأولى التي تُغري القارئ بالدخول الى عالم النص ويتضمن العلامة والرمز، فتتجلى بذلك جوانب أساسية من دلالات النص. وهذا ما نبهني إليه أيضاً كاتبنا المبدع الراحل الطيب صالح، عندما شرَّفنا زائراً ومشاركاً في جمعيتنا الأدبية البرلينية.

وصبري الذي كان يعاني قسوة الترحال والهجرة القسرية، من الموصل إلى الكويت ومن عدن إلى دمشق ومن هانوفر إلى برلين، كان لابد ان ينعكس ذلك في انتاجه الشعري والنثري. يكتب في قصيدة "برلين مدينة الكراهية" (17.2.2011):

لا تحزن يا ولدي

حين تعلم أن مَنْ لا وطن يحتويه

لا تحتضِنُهُ المنافي

وحتى لا يصدم عنوان القصيدة القارئ المتعجل، يسبق صبري القصيدة بتوطئة، فبرلين هي المدينة التي احتضنته وأتاحت له الاستقرار:

إلى ابني أصيل

اعلم يا أبني أن في صدر كل امرئٍ

جنيناً عنصرياً يظهر إن لم يردعْهُ ..

يكبر إن لم يحجمهُ .. يتهور إن لم يكبحْهُ

ويقول في قصيدة "غريب ما بين عدن وبرلين" (16. 4. 2014)

حين أبحث في برلين

حين أبحث عن وطنٍ بلا جدوى

تسخُر من ضعفي المنافي

وعلى وجهي تهب الرياحُ

ويكتب "في الرحيل الأبدي، لست في ضلال"

قال، سيكون الرحيل أبدياًـ قلت سأعود

واختفى من ليلي بدرٌ حَلمْتُ به، كان وجهُ العراق

ويكتب بلوعة في روايته الرائعة "هوركي أرض آشور": وكان العراق بعيداً .. بعيداً. ألم يصرخ الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم من باريس في قصيدته (في الغربة): والنيلُ بَعيِدْ، النيلُ بعيِدْ.

والوطن هو الوطن مهما طال الغياب، والعراق الحبيب وشعبه الجريح الذي يعاني القهر والقسوة والظلم، عراق الجواهري والسياب ونازك الملائكة والبياتي وسركون بولص وغائب طعمة فرمان وعلي الوردي وجواد علي ومصطفى جواد وعلي جواد الطاهر وعبد الملك نوري وجواد سليم وإبراهيم السامرائي ويوسف العاني - الذي تشرفت بمعرفته في صيف 1958 في مدينة لايبزج - لايزال حُلماً بعيداً.

في ديوانه "جزيرة الهُدهُد" تطالعك قصائد الومضة أو البرقة أو اللحظة. يكتب في قصيدة "اغتياب":

إلى واحدٍ

لا أعرِفُهُ

رفقاً

بواحدٍ

لا تعرِفُهُ

وفي قصيدة "صحوة":

أيها الصديقُ

أيقظتنا

حيثُ كنا نمنحُ صداقةً

لِمَنْ أتلفت خلاياه

الضغينةُ

وجفَّ ضميرُه

وفي قصيدة "بحث":

كلما حاولتُ

البحثَ

عن الوفاءِ

كلما

ضاقت دائرةُ

الأصدقاءِ

وفي قصيدة "هلام":

الصوتُ القادمُ من جوفِ قوقعةٍ

صوتُ نبيٍّ أسير

أو فارس عابثَ حوريةً

في غياب القمرِ

أو فتىً تاه في الأعماقِ

أغوته رقصةُ الخلجانِ

في زرقةِ الحريرِ

هذا الصوتُ القادمُ

صوتُ صبيًّ

استهوته امرأةٌ

خُلِقت من مسكٍ وعبير

وفي قصيدة "سأحتفي بكَ أيها القمر" 27. 11. 2015

سأحْتمي بوردِك مِن ضياعٍ أيها القمرُ

أنا طائرُ المتاهةِ

نجمتي أغواها إلى الرحيل دليلُ

وارتحلتْ

ثم مَنْ أوهمتْني المسافاتُ

وأنا أضعتُ إليكِ الطريقَ

فأعذريني يا زرقاءُ ثانيةَ

ثم احتملي جنون طائرٍ باتَ بلا سفرِ

الكلمات السهلة والبسيطة، يجب أن لا تصرفنا عن تجاوز مضمونها الحرفي والعناوين المعبرة، بجانب جمال الصورة ورنين الاِيقاع. كما تجد في قصائده أحياناً، الجمع بين النقائض ولا تخلو من المفارقة، التي تعكس وعى الذات الشاعرة أمام التجربة الفعلية، وكما يكتب في قصيدة "شوق لعينيك":

في عينيكِ

اتساعُ للكواكبِ

في عينيكِ خلاصةُ نبيذِ هذا الكون

في عينيكِ

مِشوارٌ طويلٌ ... زمنٌ من حنين

حبيبتي

لم أنسَ شراءَ أشرطةٍ

لضفائركِ الجميلة

لكنني

نسيتُ تقبيلك هذا الصباح

قبلاتي

من هي هذه الحبيبةِ، التي تفوق عينيها اتساع الكواكب والحنين والشوق الى ضمها وتقبيلها؟ انها دنيا ابنة الشاعر.

قدم صبري محاضرةً، أثناء مشاركته في الملتقى الأول للرواية العراقية المغتربة، لندن، تشرين الأول/أكتوبر 2013، بعنوان "شهادة روائية - السردية في الرواية الشعرية"، عارضاً فيها أعماله الروائية وقائلاً: على حذرٍ أُلامس المصطلحات .. وعلى حذرٍ أكبرَ أقترب من وضع المفاهيم. ماذا أسمى عملاً كتب معظمه شعراً: "قصيدة روائية، رواية شعرية، ملحمة قصيرة"؟ لقد تركت الأمر للنقاد والباحثين. ربما تسعفه هنا رؤية الناقد الأدبي الكبير صبري حافظ: «الشكل الأدبي ليس وعاء للتجربة، ولكنه التجربة ذاتها وقد تشكلت بهذا النسق المعين، ومن هنا فإن الشكل نفسه رؤية وموقف ومضمون، ولا تجوز محاكمته من منطلق انفصاله عن الرؤية التي ينطوي عليها أو المضمون الذي يقدمه، أو العالم الذي يتشكل عبر عناصره وأدواته المختلفة.»

 

في قصته القصيرة "نقشٌ على جِدارِ الصَمْتٌ" في مجموعته القصصية "ليلة ترخم صوت المغني"، نجد بجانب السرد والحوار والقصدية، مقاطع مثل: لا تطير الروح السوية كالفراشة في الفضاء الرمادي المتزوبع بالأرواح الشريرة ... "مريا اااام" وتوزع في المناحي دون إستجابة حتى صداه ... يتماوج في الآفاق محمولاً على ذرات النسيم ... هبط المساء وراحت الشمس بعيداً تجمع بقايا خيبتها ... أنفاسها المتعثرة ... أصابعها المحمرة". هذه مقاطع شعرية. ماذا نطلق على هذا الجنس الأدبي؟ القصة الشاعرية، أو القصة الغنائية، أو الكتابة عبر النوعية، أو القصة-القصيدة.

ونقرأ الفقرة التالية في رواية هوركي أرض آشور:

"ونحن نطير .. نطير. نحن الفتيان من فوق الماء كدنا أن نطيَر. حاولنا والبصرة نحونا ذاهلة تسرح النظر، إنما القادر منّا يطير .. عنّا يرتفع ومن فوقنا إلينا يُحدُق .. يبتعد .. سُهيل يبتعد ويطوف الأرجاء ونحن مازلنا في المحاولة نرفرف .. يطير.. يطير والخَلق من حولنا إلى كبد السماء يصوبون البصر .. وحين يرسم في الهواء نجمة عارية الفخذين وقرنفلة تراقص ساقية إلى خريرها يهاجر اليمام .. وحين يلقي فوق كل بيت جنة صغيرة، يدهشون، وهو يطير .. يطير، ونحن مازلنا نحاول أن نطير حين تنزل الشمس بكل أبهتها إلى بركة ماء وإليها يطير العشاق في غيبوبة الجسد. يطير وعن عجزنا نعلن: حاولنا أن نطير ولكن. لكن سهيلاً هو القادر فينا، يحلق بعيداً يتجاوز الأنحاء .. ومن خوفنا نصيح: يا سهيل انزل لئلا تسحرك الشمس .. يصدمك الطير .. يعشقك النجم. لم يسمع حين نضيّع في غمرة الدهشة نداء".

هنا أيضاً السرد والحوار المخفي والقصدية، تتخللها مقاطع شعرية. أليس هذا مثال للقصةــ القصيدة بمفهوم إدوار الخراط، وهو مبدع وناقد أدبي في عين الوقت، المختلف عليه، بالرغم من أن النص داخل رواية. وربما نجد نمازج لذلك في روايته "الخلاسيون" التي صاغها شعرياً ترتبط عضويا داخل جسد الرواية.

يقول صبري في حوار مع السيدة وفاء الربيعي بتاريخ 25. 1. 2013: "في معظم أعمالي ثمة تغيير في طريقة السرد وتغيير في طريقة البناء وتعدد في مستويات الخطاب أو ما يسمى بالالتفات. لم لا نكتب نصاً عصياً على الكسل النقدي أو الغباء النقدي؟ نريد نصاً لا يمكن إخضاعه في حالة نقده إلى هذه المدرسة البنيوية أو تلك التفكيكية أو الأخرى الشكلانية". ومواصلاً في شهادته اللندنية: "إنني حذر من ملامسة والاقتراب من المصطلحات والمفاهيم، تاركاً الأمر للنقاد والباحثين". وأنا أضيف، القراء.

ربما نفهم تبرم المبدع من تعدد المدارس النقدية. ولكن هذا ما يفرضه التطور في النقد الأدبي وما توصل اليه من قواعد وأصول والبحث عن المنهج. وبالرغم من تباين وجهة النظر، لابد من ضبط المفاهيم والمصطلحات وإلا دخلنا في فوضى التفسير والتأويل والقراءة الاعتباطية والانطباعات الشخصية التي تبعد القارئ عن الوصول الى الفهم العميق لدلالة النص وتذوق جماليته، فالقارئ عامل أساس في تفسير النصوص وليس عاملاً ثانوياً كما في الماضي. أود في هذا الصدد، أن أشير بايجاز، ودون الدخول في التفاصيل، إلى نظرية التلقي والمعروفة باسم مدرسة كونستانس Die Theorie der Rezeption التي تركّزُ على دور القارئ في تحديد معنى النص أو تفسيره. ومن أبرز ممثليها في ألمانيا Hans Robert Jauß هانز روبرت ياوس وكتابه الجامع "الخبرة الجمالية والتأويل الأدبي" Ästhetische Erfahrung und literarische Hermeneutik وفولفجانج إيزر Wolfgang Iser وكتابه الهام "فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب" Der Akt des Lesens , Theorie ästhetische Wirkung عارضا فيه نظريته حول التلقي والأثر، ومعضلة حرية التأويل وحرية التلقي.

شارك صبري بإثراء حياتنا الثقافية، عارضاً أعماله الأدبية أو ناقداً أو معلقاً على غيرها. وصبري بطبيعته السمحة، وهى خليط من التواضع والأدب الجم، ولا يوصف بالنرجسية، التي يعتبرها البعض من مُتلازِمة الشعراء.

إن النضال السياسي والميداني والثقافي والاعتقال والغربة من أجل الحرية والكرامة الانسانية، كان لابد أن تترك أثارها النفسية والجسدية عليه، فكتب بعض رواياته وقصائده وهو طريح سرير المستشفى.

ألا يعتريك الحزن والألم، عندما تقرأ بعض قصائده، التي كتبها في فترة قصيرة قبل رحيله، كانون الثاني/ يناير وآذار/مارس 2016. هنا مقتطفات من قصيدتين:

رتّبي بعضَ اشيائكِ

ولا تَعصفي بكياني أنا الذاهبُ نحوَ الرّيحِ

نحوَ الأصواتِ التي لم يأتِ مِنها صَدى

لا تَعْصِفِي بِحزني

فعلى مًن تَبكي العيونُ مِن بعدِيَ أنا الغاربُ

أعلى وطنٍ

وفيه تُزهقُ الأرواحُ

وتُحصدُ الأحلامُ

أم على بلادٍ أضحتْ خراباً في الجوارِ

أم على التي لم يبقَ مِنها سوى ذاكرةٍ؟

على مَن تَبْكِي القلوبُ أيُّها القدرُ؟

 

إلى هناك يازرقاءُ نرتحِلُ

لمْلِمْ أشياءَكَ وتهيئي للرحيل

لمْلِمْ أشياءَكً فلقد أزف الوداع الأخير

والقافلُة أوشكت على السفرِ

يصيح الراوي وهو على قمة جبل هوركي "أرني وجهك أيها الرب البديع يا حامل الأسماء الحسنى ... أنا عبدك الذي هجره الأولياء والمتقون. هجره الرفاق والمنافقون ... يا أيها الرحمن الرحيم ... أنا عبدك الفقير ... لقد زهقت أرواحنا من هذا الرعب الساكن فينا. ابعث في نفوسنا الطمأنينة، من هذا الخلاء أنقذنا وبرحمتك فاشملنا ..."

أثناء اعداد هذه الورقة، كانت تتراءى أمام عينيًّ صورة صبري: الجسد النحيل والصوت الهادي بنكهته الجنوبية البصراوية والبسمة الصافية، فلا تُصدّقُ أنه يعاني. وفي الخلف، تختبي الروح المتوقدة التي تكابد وهن الجسد ووجع الابداع، فالكتابة معاناة ومغامرة مستمرة، والشعر توتر، فتأتي الكلمات متفجرة، متوهجة، منفعلة، ناقدة، ومحرضة. وكان يطوف في ذهني أيضاً هذا اللقاء، ومردداً في السر، يا صبري، نحن هنا، هذا الجمع النبيل، هذا الجمع الحزين، نقول لك: يا أيها الراحل المقيم، نحن نبادلك محبةً بمحبةٍ ووفاءً بوفاءٍ.

 

(ت. 11 نيسان/أبريل 2016)