مقدمة
يعد العصر الذي نعيشه عصرا رقميا بامتياز، نظرا للثورة الهائلة التي أحدثتها تكنولوجيا المعلومات والتواصل في شتى المجالات، مما انعكس على مختلف مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هذه الأخيرة أصبح من الضروري عليها مواكبة هذا التطور لتلبي حاجات الإنسان الفكرية والتعبيرية، فبدأت تظهر في الساحة الأدبية عدة بوادر من لدن مجموعة من الكتاب والباحثين والنقاد، تهم بعض الأجناس الأدبية كالشعر والمسرح والرواية تنظيرا وممارسة ونقدا، من أجل تجديد الوعي بالنقد والإبداع، الذي بدأ يدخل في علاقة تفاعلية مع الوسيط التكنولوجي.
أثرت هذه العلاقة على مختلف مكونات العملية الإبداعية، وعلى منطق اشتغالها، وجعلتها تنتقل من حقبة ما قبل الإنترنت إلى حقبة ما بعد الإنترنت، بعدما أثمرت نوعا جديدا من النصوص يقوم على الترابط وينفتح على وسائط متفاعلة، فأصبحنا نتحدث عن النص الورقي في مقابل النص الرقمي، والمبدع الورقي في مقابل المبدع الرقمي، وعن القارئ الورقي في مقابل القارئ الرقمي، وهذا ما يجعلنا نقول إن تغير الأداة الحاملة للنص أدى إلى حدوث تغيير على مستوى مكونات العملية الإبداعية.
* * *
1- مكونات العملية الإبداعية:
1.1-المبدع الورقي/ المبدع الرقمي:
يمكن اعتبار المبدع أهم مكون من مكونات العملية الإبداعية، ما دام هو خالق النص ومالكه الأول قبل أن ينتقل إلى القارئ، علاوة على كون التحول الذي طال طبيعة المبدع بانتقاله من مبدع ورقي إلى مبدع رقمي، أدى إلى تحول في طبيعة باقي مكونات العملية الإبداعية (القارئ والنص)، ذلك أن استعمال المبدع للورق كوسيط يؤدي إلى إنتاج نص ورقي يستدعي قارئا ورقيا، في حين إذا وظف المبدع جهاز الحاسوب كوسيط لإنتاج نصه، فإنه ينتج نصا رقميا يتطلب قارئا رقميا. في هذا السياق تقول فاطمة البريكي: " ويبدو من هذا أن كون المبدع ورقيا أثر على العملية الإبداعية، وطبعها بملامح خاصة، لم نكن لنشعر بها أو نميزها دون أن يظهر شكل آخر يمكن أن تتجلى من خلاله عناصر العملية الإبداعية الثلاثـة، وهو الشكـــل الإلكتروني الذي اصطبغت به منذ حوالي ربـع قــرن مــن الزمــان أو يزيد"(1).
يمكن مقارنة المبدع الورقي بالمبدع الرقمي من خلال ما يلي(2):
لا يصل المبدع الورقي إلى جمهوره، إلا عبر مجموعة من المؤسسات تمثل دور السلطة والوسيط بينه وبين قرائه نحو: دور النشر، المؤسسات الأكاديمية والثقافية والنقاد.. في حين نجد المبدع الرقمي يصل إلى جمهوره دون أية سلطة من تلك السلطات التي يمر عبرها المبدع الورقي، نظرا للإمكانات الهائلة التي تتيحها شبكة الإنترنت، بحيث يمكن لأي شخص أن يصبح مبدعا رقميا ينشر أعماله، فيتفاعل معها القراء في أي مكان، مباشرة بعد اتصالها بشبكة الإنترنت.
إن المساحة التي يتحرك فيها المبدع الورقي محصورة جدا، إذ تتسع فقط للأدباء والشعراء والروائيين المشهورين، الذين بإمكانهم إيصال إبداعاتهم للقراء بسهولة، في حين نلفي الأدباء والشعراء اللامشهورين، والذين يشعرون بقدرتهم على الإبداع الفني الأدبي، يعانون من تجاهل دور النشر وغيرها لإبداعاتهم التي لا تصل إلى القراء، لأن فلسفتها تقول، كلما كان اسم المبدع مشهورا كلما كانت المبيعات وإقبال القراء على إبداعاته أكبر والعكس صحيح.
أما المبدع الرقمي، فإنه يتحرك في مساحة شاسعة يتيحها الفضاء الشبكي، ما دام يتعامل مع قراء افتراضيين، وعليه لا يتم الاقتصار على فئة من المبدعين دون غيرها، بل الكل سواسية أمام شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى ذلك، نجد ما ينشره المبدع الرقمي يصل إلى مختلف أنحاء المعمور، متيحا الفرصة لأكبر عدد من القراء للتفاعل مع نصوصه.
ومن جانب آخر، يتميز المبدع الرقمي بكونه يتعدد بتعدد المؤلفين الذين يساعدونه في الإخراج، وأيضا بتعدد القراء الذين يتفاعلون مع نصه، من خلال مشاركاتهم عبر المساحات التي يتركها لهم لبناء النص وإعادة إنتاجه من جديد، ويتضح هذا الأمر جليا مع أغلب نصوص الإبداع التفاعلي الرقمي، في المقابل نجد المبدع الورقي غير متعدد، لأنه هو صاحب النص وهو الذي يكتبه دون مساعـدة أو مشاركة أحد.
إن التعددية التي يتسم بها المبدع الرقمي على مستوى الإنتاج والتلقي، جعلته يؤثر بشكل مباشر على طبيعة المتلقي، الذي أصبح بدوره مبدعا عبر مشاركته في بناء النص وإعادة إنتاجه.
* * *
2.1- القارئ الورقي/ القارئ الرقمي:
أدى التغيير الذي حصل في طبيعة المبدع بانتقاله من مبدع ورقي إلى مبدع رقمي، إلى وقوع تغيير في طبيعة القارئ الذي انتقل بدوره من قارئ ورقي إلى قارئ رقمي يتفاعل مع نص رقــــمي بواسطة شاشة الحاســـوب، هـذا المعطى الانـتقالي يــمكن توضيحـه كما يلي(3):
- تفرض على القارئ الورقي عدة قيود، تحد من خياراته القرائية تجاه النصوص الورقية التي تخضع مثلا لسلطة دور النشر والتوجه الديني والسياسي والثقافي السائد في بلد الجهة الناشرة.
في حين، نجد القارئ الرقمي متحررا لا يخضع لأية قيود أو سلطة أثناء تفاعله مع النصوص الرقمية المتصلة بشبكة الإنترنت، إذ يختار منها ما يريد وبالطريقة التي يشاء، إما قراءة أو سماعا أو مشاهدة أو يجمع بين كل هذه العناصر، مثلما هو الحال مع رواية الواقعية الرقمية "شات" أو أدب الواقعية الرقمية "صقيع" لمحمد سناجلة، دون أن يجبر على التفاعل مع شيء لا يرغب فيه، حتى وإن كان هو الوحيد المتاح.
- يخضع القارئ الورقي في الغالب لنظام القراءة الخطية الثابتة التي تفرضها النصوص الورقية، عكس القارئ الرقمي الذي يكسر نمط القراءة الخطية، نظرا للإمكانات الهامة التي تتيحها النصوص الرقمية للقارئ الرقمي، حيث يمكن له التجول بحرية في فضاءاتها واختيار المسالك القرائية التي يريدها دون شروط، "إن السمة الجوهرية التي يبنى بها النص المترابط تكمن في (لاخطيته). إنه نص غير خطي لأن القارئ يختار المسارات التي يتعين عليه اتباعها وهو يتعامل مع النص الجديد (النص المترابط) الذي يقرأ، ومعنى ذلك أن هناك (تفاعلا) بين بنيات النص والقارئ الذي يختار وهو يقرر ما يقرأ"(4). أما "هيمنة الخطية تبرز لنا بجلاء من خلال "الارتخاء" الذي يوجد عليه المتلقي وقت استقباله الأحداث لأنه لا يبذل أي مجهود كبير في التعرف على تسلسلها وتطورها. لذلك نجد حضورها في النصوص السردية القديمة وفي الرواية الواقعية"(5).
- يجد القارئ الورقي مجموعة من الصعوبات للحصول مثلا على كتاب صدر حديثا في بلد أجنبي غير بلده الذي يقطن فيه، حيث يتطلب وصوله وقتا طويلا، ويمكن ألا يصل إليه لسبب أو لآخر، وبالتالي يصبح عامل الوقت خارج سيطرته.
أما القارئ الرقمي، يصبح عامل الوقت ملكا له وتحت سيطرته، لأنه يجد عدة كتب متوفرة ومتاحة عبر شبكة الإنترنت التي يستطيع التجول في فضاءاتها وأخذ ما يريده في وقت سريع وقليل، علاوة على ذلك، هناك مكتبات رقمية تتوفر على كتب تراثية قد تكون طبعاتها نفذت. لكن مع ذلك يمكن للقارئ الرقمي الحصول عليها في تلك المكتبات بسهولة. في حين القارئ الورقي لا يستطيع الحصول بسهولة على كتاب ورقي قديم نفذت نسخته.
- ظل القارئ الورقي مستهلكا لزمن طويل. لكن بعد ذلك أصبح قادرا على التفاعل مع النصوص الورقية بقدر محدود لا يتجاوز الفهم والتأويل والنقد. أما القارئ الرقمي نجده أكثر تفاعلا مع النصوص الرقمية، نظرا للمساحات المهمة التي يتيحها له المبدع الرقمي في نصوصه، إذ يمكنه المشاركة في إنتاج النص من خلال تقديم اقتراحات أو القيام بتعديلات، في هذا الإطار تقول زهور كرام: "والذي يمنحه شرعية الشراكة في التأليف، هو طبيعة النص التخييلي الرقمي الذي باعتماده الروابط، وانفتاحه على تعددية اختيار البداية، مع احتمال الخروج من النص دون الانتهاء من قراءة كل تمظهراته، هي التي تجعل من فعل القراءة باعتبارها اختيارا لبداية معينة، وتنشيطا للروابط، وإمكانية تجديد قراءات/ زيارات الروابط بشكل مختلف، فعلا منتجا/ مؤلفا للنص"(6).
إضافة إلى ما سبق، لا يستطيع القارئ الورقي تجاوز المسافات، عكس القارئ الرقمي الذي يمكنه تجاوز المسافات خلال وقت قصير بواسطة اتصاله بشبكة الإنترنت.
* * *
3.1-النص الورقي/ النص الرقمي:
يتجلى الفرق بين النص الورقي والنص الرقمي كالآتي:
تعد القراءة الخطية أهم سمة تميز النص الورقي، الذي لا يمكن استكناه معناه، إلا عبر الحفاظ على تسلسل وتتابع أفكاره كما حددها المؤلف الورقي، فالقارئ الورقي يسلك مسارا تعاقبيا في تتبع الأحداث من البداية إلى النهاية دون أن يبذل جهدا كبيرا، في حين تعتبر "اللاخطية" سمة أساسية للنص الرقمي، مما يتيح للقارئ الرقمي حرية اختيار نقطة البداية التي يريد الانطلاق منها لقراءة النص الرقمي، لأن بناء هذا الأخير يقوم على أساس تعدد البدايات التي تختلف باختلاف القراءات، وعليه المسارات التي يختارها كل قارئ، وهذا ما يؤدي بدوره إلى اختلاف النهايات التي يصل إليها كل قارئ رقمي.
ينتهي النص الورقي بمجرد صدوره في هيئة كتاب، فلا يمكن إضافة أو تعديل أو تصحيح أو تنقيح أي شيء فيه، إلا بعد صدوره في طبعة أخرى. أما بالنسبة للنص الرقمي، فإنه قابل باستمرار للتعديل والإضافة من طرف القارئ الرقمي، لأن النص الرقمي معد سلفا لذلك من طرف المبدع الرقمي، مثلا نص "صقيع" الذي يفسح المجال للقارئ الرقمي للمشاركة والتفاعل معه.
يتميز النص الورقي بوصفه أحادي العلامة، حيث إن إنتاجه لا يتطلب سوى المعرفة بقواعد الكتابة وتقنياتها. عكس النص الرقمي الذي يتسم بتعدد العلامات، فهو يمزج بين الكتابة والصوت والحركة والصورة والمشهد السينمائي والرسم.. وتتطلب عملية إنتاجـه، إضافة إلـى المعرفـة بقواعد الكتابة وتقنياتها، معرفة بالمعلوميات وما يصاحبها من عتاد وبرمجيات، علاوة على ذلك نجد النص الرقمي معد سلفا للتلقي على جهاز الحاسوب عبر اتصاله بشبكة الإنترنت.
أما النص الورقي فهو يعد للتلقي بواسطة الكتاب، حتى وإن تمت معاينته على شاشة الحاسوب، فإنه لا يعدو أن يكون سوى نص إلكتروني مرقم، تنتقل مادته من الورق المكتوب إلى مادة معاينة على شاشة الحاسوب فقـط، دون حدوث تغيير يذكر ما عدا تغير الوسيط الحامل للمادة المكتوبة وهذا ما يؤكده سعيد يقطين بقوله:
"إن عملية الترقيم عملية تحويل النص المقروء (المطبوع) أو المسموع (الشفوي) ليصبح قابلا للمعاينة أو السماع من خلال شاشة الحاسوب. ومن ثمة في الفضاء الشبكي. فعندما أقدم على كتابة نص أو تسجيل صوت شاعر أو قطعة موسيقية، وأقوم بتحويل كل ذلك إلى الحاسوب بواسطة برامج خاصة أعدت لذلك، أكون عمليا أضطلع بعملية ترقيم لأجعل النص قابلا للتداول في الفضاء الشبكي أو من خلال أقراص محددة. أما عندما أنتج نصا ليتلقى على الشاشة موظفا كل الإمكانات التي تجعله مستجيبا للمعاينة، تكون أمام كتابة رقمية، لأنني منذ البداية، فكرت في إنتاج نص رقمي، ووفرت له كل الشروط الملائمة لذلك"(7).
يتألف النص الورقي من بنيات وعلاقات تربط بين تلك البنيات، فتصبح بذلك قراءته قراءة خطية أفقية، في حين يتشكل النص الرقمي من عقد وروابط تربط بين تلك العقـد، فتصير قراءته قراءة لا خطية تعتمد عـلى اختيارات القارئ الرقمي للمسالك أو المسارات التي يريدها والتي تربط بين عقد النص وأجزائه وبنياته.
يخضع النص الورقي إلى سلطة ورقابة دور النشر، فلا تجد جميع النصوص الورقية طريقها للنشر، لأن الأمر يرتبط بمدى شهرة مبدعيها أو عدم شهرتهم، في حين يجد النص الرقمي مجالا كبيرا للنشر، على اعتبار أن النص الرقمي في اتصاله بالفضـاء الشبكي يفتـح أبوابه لجميع المبدعين مهمـا تفاوتت درجـة شهرتهم، وهذا ما يوضحه محمد أسليم بقوله:
"النص الالكتروني يتميز برحابة الفضاء المحيط به مقارنة بالنص الورقي، الذي قد يواجه الإقصاء، ظلما في أحيان كثيرة، بسبب وجود الرقيب، أو بيروقراطية جهاز النشر، أو سوء تقدير دار النشر..إلخ، أما إلكترونيا، فتجد جميع الأعمال فضاء رحبا للتداول، وبالتالي، قد ينجح كاتب ما في إعلان نفسه كاتبا انطلاقا من الشبكة، فتجد أعماله طريقها للنشر الورقي بعد ذلك"(8).
* * * *
2-الأدب الورقي والأدب الرقمي بين مؤيد ومعارض:
أدى ظهور الأدب الرقمي في العالم العربي إلى بروز موقفين مختلفين: موقف مؤيد وآخر معارض ولكل واحد منهما مبرراته ووجهات نظره التي يحاول الترويج لها. فما هي إذن المبررات التي يدافع عنها مؤيدو الأدب الرقمي؟ وماهي الأسباب التي جعلت معارضي الأدب الرقمي يرفضونه؟
1.2-موقف المؤيدين للأدب الرقمي:
يسوق المؤيدون للأدب الرقمي عدة مبررات للدفـــاع عن وجهـة نظرهم، وهي كالآتي:
- يعطي الأدب الرقمي فرصة ومكانة للأدباء والنقاد المبتدئين لنشر إبداعاتهم وكتاباتهم بالقدر الذي يعطيه للنخب من الأدباء والنقاد، عكس الأدب الورقي الذي يظل حكرا على تلك النخب المشهورة.
- يعبر الأدب الرقمي عن العصر الرقمي وعن جيله الجديد الذي يقضي ساعات طوال أمام شاشة الحاسوب المتصلة بشبكة الإنترنت، مقارنة مع الوقت الذي يقضيه في قراءة كتاب ورقي.
- يتماشى الأدب الرقمي مع عصر السرعة، حيث يمكن للقارئ الرقمي أن يصل إلى المعلومة بشكل سريع، ويوفر له خيارات كبيرة للبحث عن تلك المعلومة داخل الفهارس الإلكترونية بواسطة الكلمة المفتاحية. عكس الأدب الورقي الذي يفرض نظامه على القارئ الورقي الذي يتصفحه أو يبحث عبر سطوره من أجل الوصول إلى المعلومة، وهذا يتطلب وقتا أطول مقارنة مع الأدب الرقمي.
- أعلى الأدب الرقمي منذ البداية من شأن القارئ الرقمي، وجعله في درجة متساوية مع المبدع في بناء وإنتاج النص، في حين ظل الأدب الورقي ردحا من الزمن يعلي من شأن المبدع فقط الذي كان مركز الاهتمام لدى النقاد، حتى تعالت الأصوات بعد ذلك التي تطالب بمنح القارئ الورقي المكانة التي يستحقها.
- تتمتع النصـوص الرقمية بقدر مهم من الحـرية والدينامية، فـي حين تقل أو تنعدم مع النصوص الورقية التي تخضع لسلطة ورقابة دور النشر وغيرها.
- يتميز الأدب الرقمي بسهولة تداوله عبر شبكة الإنترنت، ويمكن التنقل بعدد كبير من الكتب الرقمية إلى أي مكان بواسطة قرص مدمج أو تخزينه في ملفات داخل شاشة الحاسوب المحمول. أما الأدب الورقي فيصعب تداوله بسهولة عبر مختلف بقاع العالم، نظرا للإجراءات التي تتخذها كل دولة على حدة، كما يصعب معه حمل عدد كبير من الكتب والتنقل بها عبر حدود جغرافية واسعة لكونها تأخذ هيئة أجسام مادية.
- تعد درجة التفاعل التي يحققها القارئ الرقمي مع النصوص الرقمية عالية جدا، حيث توظف عدة وسائط متعددة متفاعلة (نصوص، صور، أصوات، حركات، مشاهد سينمائية...) تمكنه من التفاعل معها والإبحار داخلها، بواسطة تنشيط الروابط المختلفة التي تربط بين تلك الوسائط، إضافة إلى المساحات المهمة التي يتركها المبدع الرقمي للقارئ الرقمي من أجل الاقتراح أو الإضافة أو التعديل وما إلى ذلك.
تقل درجة تفاعل القارئ الورقي مع النصوص الورقية بسبب نظامها الخطي الذي تفرضه عليه، إذ لا يمكنه أن يقترح أو يعدل هذه النصوص الورقية، لأن ذلك يشوه مظهرها، إضافة إلى محدودية الوسائط المتفاعلة التي توظفها، مما يجعلها تتسم بالجمود ولا تتمتع بالحرية والحيوية التي تتميز بها النصوص الرقمية ذات النمط اللاخطي.
- تزايد عدد قراء الأدب الرقمي بشكل كبير، في المقابل تراجع عدد قراء الأدب الورقي الذي يعاني من ظاهرة العزوف عن القراءة، وهذا الأمر يقر به حتى المنتصرون للأدب الورقي.
- يتوقع المؤيدون للأدب الرقمي زوال الأدب الورقي وفنائه وعليه سيطرة الأول على الساحة الأدبية، لأنه هو المعبر عن الثورة الرقمية التي اكتسحت العالم بشكل سريع، " لقد انتهى عصر الورق. نعم سيتجاور الكتاب الورقي المطبوع مع الكتاب الإلكتروني، وسيبقى هذا التجاور طوال العشرين أو الثلاثـيـن سنـة الـقـادمة لكن في النهاية سيسود ابن هذا العصر وحـامـل معناه (الكتاب الإلكتروني)"(9).
* * *
2.2 -موقف المعارضين للأدب الرقمي:
يقدم المعارضون للأدب الرقمي مجموعة من الدلائل والحجج للدفاع عن موقفهم نلخصها كالآتي:
- يمثل الأدب الرقمي فئة نخبوية معلوماتية معينة وليس الكل، خصوصا وأن البلاد العربية توجد بها نسبة عالية لا تعرف، أو لا تحسن التعامل مع التقنيات التكنولوجية الحديثة، حيث دأبـت على الطريقة التـقليـدية في القراءة والكتابة، وهذا ما يخلق فجوة رقمية بينها وبين الوسيط التكنولوجي (الحاسوب).
- لا يتمتع الأدب الرقمي بحصانة تضمن حقوق النشر والتوزيع للمبدع في ظل غياب الرقيب، مما يجعله معرضا للسرقة بسهولة، في المقابل يتمتع الأدب الورقي بحصانة دور النشر التي تضمن للمبدع جميع حقوقه وتحد من مشكلة السرقة.
- يخرج الأدب الرقمي عن الأعراف والتقاليد الإبداعية الورقية، من خلال إشراكه للقارئ الرقمي كيفما كان مستواه المعرفي والفكري في عملية إنتاج النص، فنصبح بذلك أمام تعددية إبداعية تؤدي إلى القضاء على الملكية الفردية للعمل الإبداعي، وتساعد أيضا على طرق باب المحظورات، وهذا ما يجعل منه أدبا رقميا هجينا يعاني من مشاكل ترتبط بالثقة والضبط واختلاف القصدية (بين المبدع والقارئ)، أما الأدب الورقي فيحافظ علـى فكرة المبدع الواحد المالـك للعمل الإبداعي. ولا يلج عـالمه، إلا المتمكنون من أدوات وتقنيات التأليف والإبداع الورقيين. يقول سعيد بنكراد في هذا السياق:
"وهذا مصدر القول باستحالة جماليات رقمية تقدم للعين ما هو أجمل مما يقوله اللفظ. وعلى عكس ما توحي به الروابط التي تدفع النص إلى اقتراح انتقاءات متنوعة استنادا إلى وصف محدود لوضعيات محدودة، فإن مصدر الطاقة الانفعالية في التمثيل اللساني لا يكمن في تقديم معادلات نصية من خلال روابط هي، في نهاية الأمر وبدايته، وثيقة الصلة بقصدية أصلية هـي قصدية المؤلف وحدهـا ولا شيء غيرها، بل قد يكون ما يأتي به القارئ نقيضا لما توحي به هذه القصدية. إن الأمر يتعلق بلا وعي نصي مودع في ذوات تختلف عن بعضها البعض من حيث درجة الوعي والثقافة، ومن حيث الطاقات الانفعالية التي قد لا ترى من خلال ظاهر العلامة"(10).
- يركز الأدب الرقمي على الشكل أكثر من المضمون، إذ يهتم بتوظيف التقنيات المعلوماتية وما يصاحبها من عتاد وبرامج أكثر من المضامين النصية، فيتم من خلال ذلك إنتاج أدب بلا مشاعر إنسانية، في هذا السياق يقول حسن سلمان: "غير أن تلك التجارب الرقمية الجديدة بالعربية، قوبلت برفض شديد من قبل المتمسكين بالتقليد الورقي، حيث اتهم هؤلاء دعاة الأدب الرقمي بتقويض أركان قرون طويلة من الكتابة الورقية، وإنتاج أدب بلا مشاعر إنسانية"(11).
في حين نجد الأدب الورقي مليئا بالمشاعر والأحاسيس من خلال تركيزه على المضمون دون إغفال الجانب الشكلي.
- تصعب قراءة الأدب الرقمي في أي مكان وبأية طريقة لارتباطه بتقنيات تكنولوجية معينة، عكس الأدب الورقي الذي يمكن قراءته في كل مكان.
- يفسح الأدب الورقي للقارئ مجالا للتأمل والتدبر، دون أن تترتب عن ذلك أية مشاكل صحية، أما الأدب الرقمي فلا يقدم للقارئ سوى فكرة عن الموضوع علاوة على الصعوبات والمشاكل الصحية التي يواجهها أثناء الجلوس أمام شاشة الحاسوب لمدة طويلة.
- عدم قدرة الأدب الرقمي على الصمود والبقاء، وما يؤكد ذلك اختفاء عدد من الأعمال الإبداعية بشكل كامل من مواقعها على شبكة الإنترنت، مثال ذلك، أعمال محمد سناجلة ( ظلال الواحد، شات، صقيع...)، على العكس من ذلك أثبت الأدب الورقي قدرته على الصمود والبقاء من خلال الإمكانات التي توفرها دور النشر في علاقتها بالمؤلفين لإعادة طبع الكتب الورقية كلما دعت الضرورة لذلك.
* * *
3.2- علاقة الأدب الرقمي بالأدب الورقي:
في ظل احتدام الجدل القائم بين المؤيدين والمعارضين للأدب الرقمي، سنوضح في هذا المكون العلاقة التي تربط بين الأدبين الورقي والرقمي هـل هي علاقة قطيعة أو استمرارية؟
هناك من يعتقد أن الأدب الرقمي أحدث قطيعة مع الأدب الورقي واحتل مكانه. لكن تاريخ نظرية الأدب يقول بأن هناك تعايش واستمرارية بين الأدبين، يتجلى ذلك من خلال النقل التدريجي الذي عرفه تطور الوسيط الخاص بالكتابة والقراءة، بدءا بالأحجار وأوراق الأشجار مرورا بالعظام والجلود والألواح ووصولا إلى الأوراق وانتهاء بالحاسوب، فإذا رجعنا مثلا إلى كتاب العهد الحجري وطرحنا عليهم سؤالا عن إمكانية تغيير الكتابة على الحجر بالكتابة على الألواح والأوراق، لأجابونا في الغالب بلا. لكن التطور الذي عرفته البشرية أثبت العكس، فتغير الوسيط وتغيرت معه مختلف أشكال التعبير والتلقي. يؤكد فيليب بوطز مسألة التعايش بين الأدبين بقوله: "من المهم التذكير بأنه ليس هناك قطيعة مفاجئة بين الأعمال الأدبية الرقمية ونظيرتها غير الرقمية، بل هناك استمرارية أجرت نقلا للمسألة الأدبية بشكل تدريجي وبطيء"(12).
يتضح إذن، أن أي شكل تعبيري لا يولد من العدم ولا يقوم على أساس القضاء والقطع مع الشكل التعبيـري الذي سبقه، وإنما يتشرب منه ويستمر معه كخلفية نصية أو كبناء جديد، وهذا ما أشارت إليه زهور كرام بقولهـا: "إن تجربة الأجناس الأدبية لا تقول بموت جنس أدبي، أو بتلاشي شكل تعبيري بشكل نهائي. وإنما تقول بمعنى التشرب في الجنس اللاحق، لأن الأدب هو حياة تنتعش من تاريخها. لا يولد الشكل الأدبي من العدم كما أنه لا يتلاشى، وإنما يستمر في أشكال تعبيرية سواء كخلفية نصية أو يدخل في علاقة جديدة مع البناء الجديد، ليستمر وجوده باعتباره ذاكرة للكتابة والنص والتعبير"(13).
من الملاحظ أنه من الصعب القول بفناء الأدب الورقي لحساب الأدب الرقمي، لأن الأول يشكل دعامة أساسية للتعريف بالثاني لشريحة عريضة من القراء العرب الذين لا يعرفون أو يحسنون استخدام الوسيط التكنولوجي الجديد، عكس القراء الأمريكيين أو الأوربيين الذين قطعوا مراحل كبيرة جدا في التعامل مع الوسيط التكنولوجي على مستوى الإنتاج والتلقي، مما يجعل فئة كبيرة منهم تهتم بالأدب الرقمي.
يكتسب مبدأ التعايش والاستمرارية بين الأدبين الورقي والرقمي مشروعيته من التاريخ، فالذي حدث هو ظهور أداة جديدة أدت إلى خلق أشكال جديدة على مستوى الإنتاج والتلقي أو بمعنى آخر ما حدث هو تغيير سؤال الأدب، على حد تعبير زهور كرام: " ن ما يحدث في المجال التخييلي الرقمي، ليس قطيعة بقدر ما هو عبارة عن تغيير سؤال الأدب، من منتجه المباشر المؤلف/ الكاتب إلى القارئ، ومن التعامل مع اللغة السردية المألوفة باعتبارها جوهر الفعل المحقق للحالة النصية، إلى اعتبارها مجرد عنصر من بين عناصر لغوية جديدة تدخل بمنطقها وآليتها وطريقة تعبيرها (لغة البرمجة المعلوماتية)"(14).
يتبين انطلاقا من الممارسة والتفكير في الأدب الورقي، أنه لا يزال يمثل فئة عريضة من المجتمع العربي التي لم تستطع أو ترفض الاندماج مع التكنولوجيا الحديثة وما يرافقها من عتاد وبرمجيات، مما يجعلنا نتوقع عدم زوال الأدب الورقي لحساب الأدب الرقمي سواء على المدى القريب أو المتوسط، وبالتالي سيظلان معا جنبا إلى جنب يتعايشان ويتفاعلان في أشكال تعبيرية متنوعة على مستوى الإنتاج والتلقي.
* * * *
تركيب
أفرزت العلاقة بين الأدب والتكنولوجيا عدة إمكانات تهم طبيعة مكونات العملية الإبداعية، ذلك أن التحول الذي طال طبيعة المبدع بانتقاله من مبدع ورقي إلى مبدع رقمي، أدى إلى تحول في طبيعة باقي مكونات العملية الإبداعية (القارئ والنص)، فاستعمال المبدع للورق كوسيط، يؤدي إلى إنتاج نص ورقي، يستدعي قارئا ورقيـا، في حين إذا وظف المبدع جهاز الحاسوب كوسيط لإنتاج نصه، فإنه ينتج نصا رقميا، يتطلب قارئا رقميا. وهذا ما أكسب النصوص الأدبية الدينامية والتفاعلية.
إن القارئ في هذا العصر يقضي ساعات طوال أمام شاشة الحاسوب دون كلل أو ملل، بالمقارنة مع قراءته لعمل إبداعي ورقي، مما يفرض على المبدعين دخول العصر الرقمي والانسجام معه، حتى يلبون حاجات القارئ الرقمي الفكرية والتعبيرية.
توظيف الوسائط المتعددة المتفاعلة (النصية والصوتية والبصرية والحركية) في المنجز الجديد عبر الوسيط التكنولوجي )الحاسوب(، هو بمثابة الانتقال من النص الروائي الورقي إلى النص الروائي الرقمي على مستوى الإنتاج والتلقي.
علاقة الأدب الورقي بالأدب الرقمي، هي علاقة امتداد وتطور وتفاعل ومواكبة للعصر الذي نعيشه، سواء من حيث البناء واللغة والأسلوب أو من حيث شكل القراءة.
ظهور وسائل حديثة في الكتابة يؤدي إلى ظهور أشكال جديدة في الإنتاج والتلقي.
رغم وجود مجموعة من النصوص الرقمية في الساحة العربية، فإن الأمر لازال يتطلب انخراط المبدعين والنقاد والباحثين في التجربة الأدبية الرقمية، ممارسة وإبداعا ونقدا، حتى تتوفر لدينا النصوص الكافية على المستوى الكمي والكيفي بالقدر الذي يجلب ويحفز المبدعين والقراء على خوض غمار التجربة الإبداعية الرقمية.
إن أي شكل تعبير أدبي لا يولد من العدم ولا يقوم على أساس القضاء والقطع مع الشكل التعبيري الذي سبقه، وإنما يتشرب منه ويستمر معه كخلفية نصية أو كبناء جديد، وهذا ما يؤكده تاريخ نظرية الأدب الذي يقول بأن هناك تعايش واستمرار بين الأشكال الأدبية. كذلك العلاقة التي تربط الأدب الورقي بالأدب الرقمي لا تخرج عن هذا السياق.
نتوقع عدم زوال الأدب الورقي لحساب الأدب الرقمي سواء على المدى القريب أو المتوسط، وعليه سيظلان معا جنبا إلى جنب يتعايشان في أشكال تعبيرية متنوعة على مستوى التجلي والتلقي.
(أستاذ باحث في السميائيات والأدب المقارن بالكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية، جامعة المولى إسماعيل مكناس-المغرب)
* * * *
هوامش البحث
(1) فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2006، ص136.
(2) المرجع نفسه، ص137-138.
(3) فاطمة البريكي، مدخل إلى الأدب التفاعلي، ص139-140.
(4) سعيد يقطين، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2008، ص60.
(5) المرجع نفسه، ص66.
(6) زهور كرام، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 2009، ص39-40.
(7) سعيد يقطين، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، ص141.
(8) محمد أسليم، المشهد الثقافي العربي في الانترنت (قراءة أولية)، على الرابط:
http://www.addoubaba.com/aslim.htm
(9) عبد النور إدريس، النشر الإلكتروني والأدب التفاعلي من خلال رواية شات، على الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=59186
(10) سعيد بنكراد، الأدب الرقمي، جماليات مستحيلة، على الرابط:
www.arab-ewriters.over-blog.net/article-79429335.html
(11) حسن سلمان، الأدب الرقمي يهدد بابتلاع "الأدب الورقي"، على الرابط:
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539332
(12) فيليب بوطز، ما الأدب الرقمي، ترجمة محمد أسليم، مجلة علامات، العدد 35، 2011، ص. 109.
(13) زهور كرام، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، ص25.
(14) زهور كرام، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، ص28.
* * *
مراجع البحث
- المراجع العربية:
(1) البريكي فاطمة، مدخل إلى الأدب التفاعلي، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2006.
(2) كرام زهور، الأدب الرقمي، أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية، رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة، 2009.
(3) يقطين سعيد، النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية، نحو كتابة عربية رقمية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2008.
* * *
المجلات والدوريات العربية:
(1) بوطز فيليب، ما الأدب الرقمي، ترجمة محمد أسليم، مجلة علامات، العدد 35، 2011.
* * *
المواقع العربية:
(1) سلمان حسن، الأدب الرقمي يهدد بابتلاع "الأدب الورقي"، على الرابط:
http://vb.arabsgate.com/showthread.php?t=539332
(2) بنكراد سعيد، الأدب الرقمي، جماليات مستحيلة، على الرابط:
www.arab-ewriters.over-blog.net/article-79429335.html
(3) عبد النور إدريس، النشر الإلكتروني والأدب التفاعلي من خلال رواية شات، على الرابط:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=59186
(4) أسليم محمد، المشهد الثقافي العربي في الانترنت، قراءة أولية، على الرابط: