يكتب الناقد أن عالم هذه الرواية قريب من فتنة "ألف ليلة وليلة" وطيرانها في عالم الأشواق والهيام المرفوع إلى درجة علوية من الحلم، ونسقه الملتوي غير القابل على التصديق والملموسية. بول أوستر، يلعب برؤانا، ويمنحنا اللذة الفنية والصدمة الغرائبية. الشخصيات المحورية في الرواية محدودة، ولكنها عاملة وتؤدي أدوارها بإتقان على مسرح زمان الرواية ومكانها في المدن الأمريكية.

«مستر فيرتيغو»: طغيان الحلم وعلوّ الأسطرة

هاشم شفيق

يُعد الروائي الأمريكي من أصل بولندي بول أوستر أحد أهم من رفع مرتبة الخيال إلى الأعالي، وحلق عالياً في المتخيّل. لكتابته طعم من السحر الممتزج بعذوبة الواقع وقاعه الرهيب الذي حاول استكناهه وسبر عوالمه دون كلال وتوقف، ماضياً في كتابة رواية بعد أخرى، وهو المقروء على نطاق واسع ورواياته تُصنّف عالمياً ضمن الأكثر مبيعاً، إضافة إلى كونه المرشح الدائم لجائزة نوبل التي لم يفز بها حتى كتابة هذه السطور.

قرأت له قبل "مستر فيرتيغو" رواية "ليلة التنبؤ"، وهي رواية مزدوجة، أي رواية داخل رواية. رواية مضفورة بشبكة خيطية من عناصر الفتنة والتشويق والشغف العالي في كتابة رواية، تتحدث عن معنى الكتابة ومعنى الحياة، وسحر الفن في النص الروائي. وهكذا يمضي سدني أور الشخصية الرئيسية في الرواية في كتابة حياة بطل نجا من الموت فيقرر أن يبدأ حياة جديدة مختلفة عن حياته السابقة.

أما "مستر فيرتيغو" التي نحن بصددها، فهي الأخرى لا تقل رتبة خيالية عن سابقتها، إن لم تتفوق عليها، نتيجة انغمارها بطابع حلمي غامر، وبفعل علو درجتها الجمالية التي تغترف من عالم الهيمان والنشور والأسطرة. إنها رواية تتسحرن وتتشظى هُياماً بالغرائبي والانغمار فيه حد التوله. أنه سياق مشعرن مداف في العجائبي الميال إلى التشيطن، واللعب بالعقل والذهن والحواس الإنسانية، إنه عالم قريب من فتنة "ألف ليلة وليلة" وطيرانها في عالم الأشواق والهيام المرفوع إلى درجة علوية من الحلم، ونسقه الملتوي غير القابل على التصديق والملموسية.

نعم "مستر فيرتيغو"هي هكذا، أو هو هكذا بول أوستر، يلعب برؤانا، ويمنحنا اللذة الفنية والصدمة الغرائبية، حين يجعل من الصبي والت ابن التاسعة ، الصبي المشرد واليتيم والذي يتسول البنسات في أحد شوارع مدينة أمريكية، يجعله يطير ويمشي على الماء، ويعمل الخوارق حتى تسميه الصحافة الصبي العجيب، وكأننا حقاً أمام حمال خارج من زقاق»ألف ليلة وليلة في بغداد»، أو آخر يرتدي طاقية الإخفاء، أو أننا حقاً نجد أنفسنا طائرين على بساط سحري نتجول من مدينة إلى أخرى لنشاهد عروض الصبي العجيب والت الذي سيُطلق عليه فيما بعد لقب "مستر فيرتيغو".

الشخصيات المحورية في الرواية محدودة، ولكنها عاملة وتؤدي أدوارها بإتقان على مسرح زمان الرواية ومكانها في المدن الأمريكية، وهم الأستاذ، وهو الرجل الذي لديه قدرات على منح الصبي أمكانية تحدي الجاذبية وخلق الأعاجيب الحقيقية أمام جمع من النظارة، والجماهير المندفعة لترى ماذا يفعل الصبي العجيب والت، كيف يمشي على الماء فوق بحيرة، وكيف يحلق فوق مسافة عشرة أقدام ويزيد أمام جمهور مأخوذ بالدهشة والسحر والنشوة، وهو يرى صبياً رقيقاً يرتفع مسافة عن الأرض ويعلو ليدور في الأفق والفضاء أمام أعين المتفرّجين المتدافعين الذين يدفعون بأموالهم من أجل رؤيته كيف يحلق في السماء، على مسافة خفيضة ويقوم بحركات في غاية الصعوبة، يعجز الأكروبات ولاعبو السيرك عن عملها وهم ثابتون على الأرض، أو أمام حبال وأدوات روافع تساعدهم وتدعمهم في تأدية أدوارهم الأكروباتيكية.

إذاً شخصيات الرواية هي فضلا عن الأستاذ والمعلم، هناك إيسوب الطالب الذي يتبناه الأستاذ مذ كان صغيراً ليدرس على حسابه ويعيش في منزله إلى جانبه وجانب المدبّرة الأم سيوكس، تلك المرأة التي تعمل في البيت، تطبخ فيه وتنظفه وتعد الأسرّة وتغسل الثياب والصحون. وهناك السيدة وذر سبون صديقة الأستاذ ومساعدته حتى في المال، كون لديها المزيد من الشركات والمشاريع التجارية، ولكنها تعيش في مدينة أخرى في منزلها الكبير، ويظهر في خلفية الرواية أورفيل كوكس زوج وذر سبون، وكذلك المدبرة الثانية السيدة هاوثرون التي ستحل محل الأم سيوكس، بعد وفاتها بمرض مفاجئ، ويظهر أيضاً دين ودزي في نهاية الرواية ، ثم يظهر كشخصية هامشية، ولكن مؤثرة ولها دورها البارز والخبيث في إحدى محطات الرواية، وهو سليم خال الصبي والت، صانع العجائب والغرائب وحاصد المال والشهرة التي تثير غيرة خاله القاسي والمفلس والسكير.

تدور أحداث هذه الرواية الممتعة، والتي ترجمت إلى العربية على يد شاعر حاذق ومترجم ماهر هو المصري عبد المقصود عبد الكريم، تدور في ولاية كانساس الأمريكية، أو في ولايات أمريكية، كأننا نسافر عبر المدن مع الصبي العجيب، ليرينا هو والأستاذ أهم المدن الأمريكية التي ستتم فيها العروض، ويرينا وقائع أحداث أعوام نهاية العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، ولكأننا مرة أخرى نكون «على الطريق» مع جاك كيرواك ليبهجنا بالمدن التي سيعبرها في رحلته الغريبة، ولكن مصائر وأحداث رواية بول أوستر هي مختلفة في تفاصيلها وإحداثياتها، فإن كانت «على الطريق» شبه مذكرات يومية لجيل «البيت» الأمريكي، فنحن هنا أمام رواية متكاملة، يصنعها الخيال الغرائبي لبول أوستر، ونشاطه المحموم في إثارة القارئ، وجعله متحفّزاً، لكي تسرع الصفحات ويصل إلى النهاية.

في مدينة سانت لويس يجد الأستاذ هذا الصبي المتسكع ذا السبع سنوات، يراقبه لمدة أسبوع، فيجد الأستاذ أن الموهبة كامنة فيه، ولا يحتاج فيما إذا جاء معه سوى التدريب المضني والجميل أيضاً بالنسبة لوالت الصبي. يعرض الأستاذ عليه الأمر، ولكنه لم يوافق بسهولة على عرضه، فهو ابن شارع، والشارع مدرسته ومكانه المؤنس والمفضل، ومكان عمله، وهو الحصول على السنتات بمساعدة أحدهم، كنقل رسائل، أو توفير سيارات أجرة لأشخاص متأنقين، كالأستاذ وغيره، ولكنه يتحاشاهم، يتحاشى التماس معهم ، فهو يعرف أن هؤلاء المتأنقين وسكارى آخر الليل، قد يبحثون عن الصبيان من أمثاله لتحقيق مآربهم الشخصية، ولكن الأستاذ الذي كان يرتدي قبعة الحرير والثياب السوداء، يبدو له أنه لم يكن منهم، حسب العرض الذي عرضه عليه. إنه عرض مشروط من قبل الأستاذ، والشرط أن يعلمه الطيران خلال ثلاث سنوات وإذا لم يحقق له هذه المعجزة عليه أن يقطع عنقه بفأس، إضافة إلى ذلك العرض السخي، فإنه سيعيش في مكان آمن ونظيف، يتعلم ويجتهد عبر موهبته التي وجدها فيه الأستاذ، مما حدا به أن لا يكون سارقاً للفتى، أو خاطفاً له، أنْ يراقبه، أين يسكن وأين يكون، فطرح هذا الأمر على خاله، كونه الراعي، وبحضور زوجته، فيوافقان بالتخلي عنه دون مقابل، لكي يتخلصا منه ومن نفقات طعامه وسكنه لديهم.

بعد جدل ومحاكاة بخصوص الطيران وأطر الشهرة وعالم التحول من صبي فقير، يتسول الحسنات، إلى مليونير فتى، يذهل العالم بحركاته التي لم يستطع أحد قبله ولا بعده، أن يفعلها ويطير حقاً، محلقاً في عالم النشوة واللذة وإدهاش النظارة بما سيفعل حقاً، كل هذه الأحلام ستراوده حين يقنع بالعرض الغريب والمدهش والمُعجز.

في القطار الذاهب إلى كنساس ليلاً وفي ساعة متأخرة من الليل، سينام الأستاذ، بينما الصبي والت ستستغرقه الوساوس في هذه الورطة، هل حقاً سيكون الأستاذ أستاذاً، أم انه قاتل ونصّاب ومشعوذ، يحاول ابتزازه والضحك عليه؟ تتدنى الوساوس وترتفع الأحلام حين تبدأ الحياة بداية رحيمة، عبر أفعال الأستاذ وما سوف يقوم به من رعاية ونقاش بخصوص حياته المقبلة، وما سيترتب عليه فعله، دون أن يقلق، وعليه أن يختبره ويجرب ما سوف يصدر عنه، حتى مسألة الهرب سيطرحها عليه. وفعلا سيهرب الفتى بعد أن يصل إلى تلك البلدة الصغيرة في كنساس، وهي مختلفة في مناخها وعالمها وأجوائها عن سانت لويس، هادئة ومعتمة، وناسها قليلون، سيهرب عبر خطط يرسمها بنفسه، ولكنه سيفشل، ليعاود الكرّة ثلاث مرّات، إلى أن يستقرّ ويأنس ويصدِّق حياته الجديدة، عبر بدء التدريبات وعبر بدء التآلف مع إيسوب الذي سيصطدم في البدء معه، وعبر الحنان الذي سيلاقيه من الأم سيوكس وعبر الانخطاف والانبهار والمراعاة التي سيجدها من لدنّ الأستاذ ومحبته وبنوَّته له، ستأسره صورة الأستاذ وتعاليمه، وسيتعلق به ليس كأب ومربٍّ وراعٍ، بل كصديق وعالم ومثقف كبير، ومطلع على أسرار الحياة والكون والعالم.

بعد الرعاية والتدريب والعيش المشترك أصبح الصبي والت جزءاً من تلك العائلة الغريبة والمُلفتة في عيشها الاشتراكي، دون أنانية واستحواذ وتعصب لشيء، سوى للعلم والعمل والدرس والتدريب ومحبة البشر وتقديس الطبيعة الإنسانية.

سيطير والت الصغير، بعد تدريبات يشرف عليها الأستاذ تارة، وتارة يتركه لشأنه لكي يتحدى الجاذبية بنفسه، وعبر موهبته ومقدرته في اختراق الكون والسباحة فيه من دون أجنحة ودون واسطة، سوى الإصرار على تحقيق الحلم المنوط به. تمرّ سنة، ينصت فيها الصبي إلى تعاليم أستاذه دون أن يفرض عليه الأستذة، بل يفرضها بأسلوبه وفنّه ولسانه البارع والمذهل، في الإقناع في القضايا العلمية.

كان الصبي يتلقى الأفكار والوصايا التي ستساعده على تحقيق الحلم التاريخي في الطيران كبشري من دون حيلة وسحر وشعوذة.

ستشهد الرواية أحداثاً مثيرة، ميلودرامية، تراجيدية تارة وأخرى تشبه الملهاة، مثل سفر إيسوب إلى مدينة أخرى لغرض الدراسة وتحقيق مراده في العلم ونيل المعرفة وعلى حساب الأستاذ، ثم عودته ثم مرضه وموته بعد موت الأم سيوكس، زواج وذر سبون ثم العمل معاً، بمساعدتهم في تقديم العون والمساعدة، جني الأموال وحصدها بعد العروض التي تمت في كل مدن أمريكا، والبلدات الصغيرة، تراجع المقدرة على الطيران وعدم المواصلة في العمل من قبل والت، بعد أنْ تدهورت قدراته الجسدية، وتعليل الأستاذ لذلك بعدم التمكن الكامل للإنسان من اختراق الجاذبية، موت الأستاذ بمرض السرطان، تقدم والت في العمر والعيش سيكون في توظيف ما لديه من مال وما تركته له وذر سبون من أرث، سيعيش على حلم ذكرياته ويواصل عمله عبر فتح مطاعم وملاه ليلية والعيش كإنسان عادي، ولكنه يظل يرى في أيّ صبي وطفل بأنه من الممكن أن يطير ويحقق الحلم في الطيران.

 

بول أوستر: «مستر فيرتيغو«

ترجمة عبد المقصود عبد الكريم

المركز القومي للترجمة، القاهرة2016

صفحة343

 

 

جريدة القدس العربي