يمارس الروائى الفلسطينى ربعى المدهون فى روايته «مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، الفائزة بجائزة البوكر العربية للعام 2016، أكثر من لعبة سردية ذكية: يوهمك طوال الوقت أنه يحكى عن رحلة سياحية خلال عشرة أيام فى عدة مدن فلسطينية، بينما هو يقدم لنا رحلة أعمق فى الزمان والمكان والإنسان معا، يوهمك بأنها رواية عن الشتات الفلسطينى بعد قيام إسرائيل من خلال نماذج إنسانية اغتربت عن وطنها وأرضها، بينما هو يحكى عن الباقين هناك، وعن حلم العودة التى ستكون فى يوم من الأيام، يوهمك بأن الرواية عن قسوة الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلى، الحاضر بجنوده وأسلحته وأوراقه وتصريحاته فى كل مكان، بينما هو ينقل إليك حضورا فلسطينيا طاغيا ومكتسحا من خلال الشخوص والحكايات واللهجة والأغانى والطعام والشراب، والبيوت والأماكن التى لو تكلمت لبادلت العائدين شوقا بشوق، وسعادة بسعادة.
يمكنننا أن نصفْ «مصائر»، الصادرة فى طبعة خاصة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومكتبة كل شىء، ومكتبة تنمية، بأنها رواية «العودة والبقاء» بامتياز، خطها المحورى هو عودة وليد أحمد دهمان، الفلسطينى الحاصل على الجنسية البريطانية، مع زوجته جولى جون ليتل هاوس لتنفيذ وصية حماته الفلسطينية الأرمنية إيفانا أردكيان، بنثر رفاتها بين بيتها القديم فى عكا، وكنيسة القيامة فى القدس.
ولكن هذه الوصية تكتسب دلالات أعمق عندما تنفتح على عالم بأكمله لشخصيات فلسطينية تمسكت بالبقاء فى مدنها، رغم المعاناة اليومية، وتنفتح على دلالة رمزية واضحة، هى التعبير عن فكرة العودة والبقاء حياة وموتا، أن يعود الفلسطينى المشتت إلى وطنه من كل مكان، وبكل صورة من الصور، بما فى ذلك أن يعود رمادا محترقا فى تمثال من الخزف، يجسد شكل الجدة وعنفوانها وكبريائها، كانت قد هربت وهى شابة مع ضابط بريطانى أحبته، أنجبت ابنتها جولى فى فلسطين، ثم ذهبت بها رضيعة إلى بريطانيا، ولكن إيفانا لم تنس أن تطلب العودة فى قارورة، وأن يبقى رمادها فى فلسطين، مثلما نثروا جزءا منه فى نهر التايمز.
عشرة أيام ستعيد التاريخ بأكمله، سيقوم ربعى المدهون بإعادة بناء المأساة الفلسطينية (تغريبة وبقاء)، سيحضر المكان والزمان والتاريخ والواقع والحلم والماضى والحاضر وجيل النكبة وجيل النكسة وجيل الانتفاضة وجيل ما بعد الانتفاضة، وسيحضر الهولوكوست اليهودى لكى يوظفه ربعى من أجل فهم إنسانى أفضل للنكبة الفلسطينية.
وداخل الرواية ستولد رواية أخرى بعنوان «فلسطينى تيس» كتبتها جنين الفلسطينية الشابة، قريبة وليد، مستلهمة حياة والدها محمود دهمان، الذى كان يحمل لقب «الباقى هناك» فى الواقع وفى الرواية، لم يكن تيسا، ولكنه كان عنيدا، عاد إلى أرضه، وبقى هناك، كل الخطوط تتجه بك إلى حضور فلسطينى لا يمكن أن يزول، مدن مثل عكا والقدس وحيفا والمجدل عسقلان ويافا تحضر فى الرواية بوجهها العربى مهما أخفته اللافتات، ومهما تغيرت الأماكن، ومهما زحفت المستوطنات، ويحضر دوما الإنسان الفلسطينى بلهجته وطعامه وشرابه وأغانيه ومأساته.
اختار ربعى المدهون أن يكون البناء فى شكل يحتذى قالب الكونشرتو الموسيقى، يفترض أن يتحدد شكل الكونشرتو من خلال حوار بين آلة منفردة والفرقة الموسيقية، أو آلتين على أن تعمل الفرقة الموسيقية كخلفية لعزفهما، والكونشرتو يكون عادة فى ثلاث حركات، ولكن روايتنا مختلفة عن ذلك، لدينا أربعة أجزاء تماثل حركات أربع موسيقية، ولدينا صوتان رئيسان فى كل جزء/ حركة، ولكن هناك استطراد واضح فى السرد فى كل جزء مما يبعدنا بشكل كبير عن استحضار شكل الكونشرتو كتابة أو موسيقى.
ربعى المدهون يمتلك مادة وفيرة للغاية، وشخصيات حية وحقيقية تزاحم بعضها البعض على البطولة، ولديه طوفان من التفاصيل، وهو حكواتى بارع لا يترك قصة فرعية من دون أن يستوفيها، كل ذلك لم يحقق طموح استلهام شكل الكونشرتو المنضبط، كما أن التلاعب بالزمن ماضيا وحاضرا، وماضيا بعيدا وماضيا قريبا (خلال الأيام العشرة)، أربك البناء من دون داع، كنا فى حاجة إلى بناء أقرب إلى موال فلسطينى بسيط وعذب ومتدفق، يناسب الحكاية والحكواتى، لا إلى كونشرتو معقد ومتعدد الحركات، ولكن القارئ لن ينصرف أبدا عن القراءة، بسبب قوة المواقف، وبراعة رسم الشخصيات، وعدم إفلات الفكرة المحورية.
النماذج التى قدمتها الرواية مؤثرة: إيفانا الجدة الفلسطينية الأرمنية تختار أن يدفن جزء منها هنا (فى بريطانيا)، وجزء آخر هناك (فى ساحة عبود فى عكا وفى كنيسة القيامة بالقدس)، وجنين التى درست فى أمريكا، اختارت أن تعود إلى يافا، وأن تظل فيها، رغم معاناة زوجها باسم، الفلسطينى الذى يحمل الجنسية الأمريكية، من عدم حصوله على تصريح بالعمل فى إسرائيل. هى فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية، وهو فلسطينى يحمل الجنسية الأمريكية، وهما معا غرباء فى أرضهما، توحدهما الغربة ويفرقهما الوطن.
أما محمود دهمان فقد رفض أن يبقى فى المخيمات، ترك أسرته وعاد ليبدأ من جديد، حمل لقب «الباقى هناك»، وحصل على الجنسية الإسرائيلية، إذا كان ذلك سيجعله فى أرضه، شيوعى حلم يوما بالعدل سياسة واقتصادا، يظهر محمود أيضا فى الرواية التى تكتبها جنين، يحمل لقب «الباقى هناك»، لا تختلف صورته كثيرا عن واقعه، ربما تختلف النهايات، ولكن مغزى الشخصية يقدم نموذجا للمتمسكين بالأرض.
توسع الرواية أفق الرؤية بالربط بين الهولوكوست اليهودى والنكبة الفلسطينية، لا يسير الخطان معا كما يوحى عنوان الرواية، إذا أن الهولوكوست يستدعى فقط من خلال شخصية فى رواية جنين اسمها أفيفا، وهى جارة «الباقى هناك»، إنها امرأة تطاردها ذكرى مذبحة بابى بار فى كييف الأوكرانية فى العام 1941، تصرخ ليلا مستحضرة المحرقة، تطرد أولادها وتعيش وحيدة، ويتعاطف معها «الباقى هناك». ثم يحضر الهولكوست عندما يزور وليد متحف الهولكوست فى القدس (يد فشم)، هناك يرى الضحايا الفلسطينيين فى صور الضحايا اليهود، ويقول لنفسه: «حقا تتساوى الضحايا من الأموات عندما تتساوى حقوق الأحياء»، بل إن وليد يتخيل، فى أذكى أجزاء الرواية، مستقبلا يقام فيه متحف آخر للذاكرة الفلسطينية أمام متحف الهولوكوست، بعد مصالحة تاريخية قادمة تنهى الصراع بأكمله.
تحضر تفاصيل مذبحة دير ياسين المروعة كجزء أساسى من المشهد، بعد محاولات الإخفاء والتعتيم، دير ياسين لم تعد سوى خرائب وأطلال خرساء فى الواقع، ولكن المتحف المتخيل سيعيدها، يقول وليد لمرشدة المتحف المتخيل الإسرائيلية: «إن لم تفهمى ما حدث فى دير ياسين وتحفظى درسه جيدا، لن يفهم الآخرون ما جرى للضحايا فى يد فشم»، متحف مقابل متحف، والإنسانية لا تتجزأ أبدا.
لا يكتفى ربعى المدهون بأن يرتدى أقنعة الشخصيات التى يحكى عنها، ولكنه يجعل بطل روايته «مصائر» هو نفسه بطل رواية «امرأة من تل أبيب»، التى كتبها ربعى من قبل، ثم يأخذ ربعى خطوة أبعد عندما يشاهد وليد شخصا مثل ربعى المدهون بالضبط فى مطار بن جوريون باللد، يترك الشخص صحيفة القدس، وفيها مقال كتبه المدهون بالفعل عن توقيفه فى القاهرة، تمنح هذه اللعبة الرواية إضافة مدهشة، تكسر الإيهام، وتجعل من ربعى المدهون بطلا مشاركا للأبطال، وليس مجرد صانع لهم، إنه جزء من مأساة وطنه وشخصياته، وليس فقط مجرد راوٍ عليم بالحكاية من خارجها، إنه شريك الوقوف فى الطوابير، وشريك الصبر على رذالة رجال الأمن، وهو قبل كل ذلك شريكهم فى الإصرار على العودة، رغم اغترابه فى خارج فلسطين، وبطله وليد يمثله إلى حد كبير، فى مشروعه الروائى الطويل عن فلسطين، ولذلك يتكرر ظهور وليد فى «مصائر» بعد «السيدة من تل أبيب»، ليستكمل ما بدأ، وينوب عنه فى السرد، أو فلنقل إنه مندوب المؤلف فى رواياته.
ينحاز المدهون فى «مصائر» إلى القابضين على الوطن، كالقابضين على الجمر، ينحاز إلى «الباقين هناك» من دون هجرة، مثلما ينحاز إلى الذين يعودون رغم الظروف الصعبة، تتراوح لغته بين شاعرية عذبة، وتقريرية صحفية مباشرة، لا يريد أن يفلت لونا أو رائحة أو حركة، فى عباراته حس ساخر مدهش ولافت، لا يريد الروائى أن يترك واقعة فى وطنه الحاضر، من جرائم الشرف (التى تستحق ربما رواية مستقلة)، إلى برنامج «سفينة نوح» الذى أضحك أطفال المخيمات فى غزة، من تفاصيل البيوت والشوارع ومسجد قبة الصخرة وكنيسة القيامة، إلى طعم السمك والكعك بالسمسم والزعتر والكنافة..
هذه عين عاشق ترى الجمال الفلسطينى رغم الاحتلال: «عند مدخل سوق خان الزيت، استقبلتنا فلاحات جئن من القرى المحيطة بالخليل، تسللن، كالعادة، من طرق التفافية بعيدا عن الجيش الإسرائيلى، هربن أنفسهن وروائح النعناع والزعتر والنباتات الخضراء الأخرى بعيدا عن أنظار الجنود وأنوفهم، ونشرنها فى كل مكان مررن به فى المدينة، بدت السوق حين عبرناها مطرزة بالفلاحات، وهن مطرزات بأثوابهن، وأثوابهن بحرير بلدى».
فى رواية يحمل فيها محمود دهمان الجنسية الإسرائيلية، ولكنه يطلق على أولاده أسماء مثل «فلسطين» و«غزة» و«جنين»، ويحجز فيها الكاتب الفلسطينى المغترب خالد عيسى طاولة فى مطعم فى يافا تظل باسمه حتى يأتى لزيارة وطنه، ويقول فيها وليد إن إسرائيل مرحلة عابرة فى تاريخ فلسطين، وتطالب فيها جولى بضرورة أن تعود مع زوجها وليد نهائيا إلى أرض فلسطين، ويبدو فيها رماد الأم وسيلة لبعث الابنة وزوجها، يصبح من الأرجح أن يختار وليد القرار المناسب والأصوب، بالعودة مرة أخرى إلى فلسطين، وربما الإقامة الدائمة فيها.
عشرة أيام فقط جسدت العودة، وحكت التاريخ، ومنحت الجغرافيا ألوانها، ورسمت معالم المقاومة بالبقاء، عشرة أيام صنعت رواية مدهشة تستحق جائزة بوكر، وتستأهل صيتها، لتعبيرها عن فكرتها بذكاء، ولمزجها الخاص والعام والإنسانى، بطريقة فنية بارعة.