بعد جهد استمر لأكثر من ثلاثة أعوام، وحوارات كثيرة، وقراءة واستماع لوجهات نظر متعددة، انتهيت من كتابي (تعدد الرواة دراسات سردية في الرواية)، الذي يحتوي على 18 دراسة، 12 منها لروايات عراقية، وثلاث لروايات عربية، ومثلها لروايات عالمية. وبعد ذلك، كانت هذه خاتمة ذلك الكتاب:
ثمة توقع لاعتراضات على ما سبق، من مثل: ذلك عدد قليل من الروايات متعددة الرواة، في العراقية والعربية والعالمية! وهو كذلك فعلا، إذ أعرف عددا آخر قد يقترب مما احتوى هذا الكتاب، ولكن أغلبها لم أحصل عليه وما تبقى.
ولا يمكن اعتبار الروايات عينة الدراسة كلها متعددة الرواة! وهي كذلك أيضا، لاسيما عند تطبيق المقياس الذي تم التوصل اليه في المبحث النظري؛ حيث يمكن أن يشترك القارئ مع المؤلف في التجنيس، اختلافا واتفاقا.
ولم تتمتع كل الروايات التي اعتبرتها هذه الدراسة متعددة رواة بميزة تكرار المسرود وبالبناء العمودي، أو المتوازي، وهذه مشكلة فعلا، طالما لاحظتها؛ ولأن الأمر شأن تأليفي، فقد ظهرت كثير من الروايات عينة الدراسة بشكل متمدد أفقيا، وقام الرواة بإكمال حكي بعضهم، إلا نادرا، ربما لاعتبار التكرار شيئا معيبا في الحكي بشكل عام؛ لذا يمكن القول بضرورة وجود تكرار مسرود، وبناء عمودي للرواية، وإن في أجزاء قليلة، ولن يترتب على انتفاء هذه الميزة إخراج الرواية من جنس متعددة الرواة، اذا وجد فيها أكثر من راو.
وإن الروايات عينة الدراسة قدمت أشكالا فنية مختلفة للرواية متعددة الرواة! وهو أيضا صحيح؛ فقد كان من صدفة الاختيار، أو من ظاهرة الانتشار، تميز النصوص السردية بميزات مختلفة أكثر منها متشابهة، في هذا الجنس السردي.
ويمكن، وتأسيسا على ذلك، القول: إن اللبس الحاصل في هذا الأمر - وهو ما كان سبب البحث ومشكلته، والموجود في النقد الأوربي، حسب إشارة جنيت، وتواتره في النقد العربي والعراقي - نتيجة منطقية للتنوع الفني/ التقديمي للروايات التي يمكن أن تجنس، أو تقترب من جنس الرواية متعددة الرواة! وهو ليس كذلك تماما، فيجب التفريق بدقة بين أمرين هما: من يرى، ومن يتكلم. فالتبئير، أو وجهة النظر، ميزة سردية مهمة، يفترض وجودها في كل نص سردي، لأن شخوصه هم "أناس أحرار مؤهلون للوقوف جنبا الى جنب مع مبدعهم، قادرين على ان لا يتفقوا معه" (شعرية دوستويفسكي، ص 10)، لكن لا يجب أن يقوموا كلهم بعملية الحكي/ الروي/ السرد. يمكن أن يكون واحد منهم راويا، ويمكن أن يكون الراوي خارجيا، ويمكن أن يكون بعض منهم رواة (الرواية متعددة الرواة)، لكن ذلك كله مختلف عما جاء عن هنري جيمس وبرسي لوبوك، المتعلق بالتبئير، وعما جاء عن باختين، فيما يخص كل الاختلافات بين الأشخاص، وهما شرطان أساسيان لكل رواية، فضلا عن ما يضفياه من جمال عليها.
وحين ركز النقاد العرب والعراقيون دراستهم على وجهة النظر أو المنظور أو التبئير، الذي جعله الدكتور سعيد يقطين بديلا لمقولة الصوت عند جنيت، فقد حجّموا من دور الراوي كثيرا، واختزلوه بموضوع التبئير. ويمكن - لتوضيح ذلك - الاستعانة بمثل تقريبي، كالتصويت في الأمم المتحدة، فعند التصويت على القرار (س)، تكون النتيجة: (88) نعم، و (75) لا، و (32) امتنعوا عن التصويت، فينتج ثلاث وجهات نظر لا ثلاثة أصوات؛ لأن عدد الأصوات هو (195)، ولا يمكن اختزال الـ (88) أو الـ (75) ولا الـ (32) بصوت واحد لكل منهم.
المشكلة جاءت من باختين أو من ترجماته، فما عناه بالأصوات لم يكن الراوي تحديدا، بل كان اللغات ووجهات النظر والاختلاف في أسلوب الحكي وطريقته، وغيرها من الاختلافات البيئية والفكرية، مما ينطبق على شخصيات الرواية كلهم، وعلى الروايات كلها، وعلى التفريق الشديد بين أية شخصية وبين المؤلف، أو حتى الراوي، من خلال ذلك؛ لذا يفترض استبعاد مصطلح الصوت واستبداله بالراوي، للدلالة على المتكلم فقط. فالصوت، هو الكلام لا اللغة، هو موجات الهواء التي تتحرك بين الحنجرة واللسان، الصوت هو العملية الفسلجية، وما يتعلق بها من نغمة أو لثغة، أو طريقة نطق للحروف. لذا فهو في السرد ليس سوى الراوي، ولأن مصطلح الصوت أخذ أكثر من دلالة، فقد استبدلته بالراوي.
*****
وثمة، جنب الاعتراضات، ملاحظات، منها:
إن هذا الجنس الروائي هو محاولة للتخلص من سلطة الراوي العليم، والاقتراب مما يختلف به كل فرد عن الآخرين، لا في وجهة النظر فحسب، بل في تحديد العلم بالسمع والنظر، والتوقع بالحدس، والميزات الشخصية الأخرى، التي يمكن أن تتجلى في الحكي.
ويمكن تقسيم الروايات من خلال وجهة النظر وتعدديات باختين والنقد الانكليزي الى: أحادية، وحوارية، ومن خلال الراوي الى: ذوات راو واحد، وذوات أكثر من راو؛ فيمكن أن تكون متعددة الرواة أحادية الرؤية، بسبب سيطرة المؤلف وتأكيد وجهة نظره، وافتقاد الرواة الى رؤى وميزات مختلفة، ويمكن أن تكون ذات الراوي الواحد حوارية، اذا اتضح الفرق في وجهات النظر وفي ميزات كل شخصية، مثل (النخلة والجيران)، و (الرجع البعيد).
ويتواجد الراوي الخارجي أحيانا، جنبا الى جنب واحدٍ أو أكثر من الرواة الشخصيات، المشتركين في الأحداث، وربما ذلك من تبعات الشكل التقليدي للرواية، يفضل الاستغناء عنه.
وكانت بعض نماذج هذه الدراسة مكتوبة بضمير الغائب، مع المحافظة على محدودية العلم، والتبئير على الشخصية، ولكن ذلك خدش قليلا صورتها الجديدة، وألصق بها ميزة تقليدية.
وفي نتيجة عرضية، لم يكن الكشف عنها مستهدفا في خطة البحث وأثناءه، ظهرت في بعض الروايات حالة استخدام أكثر من تقنية سردية، التقليدية والحداثية ومابعدها، هي موجودة تحصيل حاصل، فتقنية تعدد الرواة ميزة حداثية، أما تقنيات النص الداخلي، أو الوثيقة، أو دخول المؤلف في النص، هي من تقنيات الميتاسرد. وهو، وإن لم يكن ضارا كثيرا بنظام تعدد الرواة، إلا انه شتت الانتباه على شكلين أو أكثر، يكاد الاهتمام البنائي للنص ينقسم عليها، فقلل من أهمية تعدد الرواة.
وأخيرا: تبين أن لا شكلا واحدا، ولا نموذجا متكاملا للرواية متعددة الرواة، ربما بسبب ما ورد في (الصخب والعنف)، وما تواتر في اعتبار (رباعية الاسكندرية) متعددة رواة، وهي ليست كذلك، وحتى رواية (ميرامار) التي يمكن اعتبارها نموذجا، تعرضت لخدش صغير في إعادة حكي راويها الأول مرة واحدة في نهايتها. ولكن بعض الروايات التي تمت دراستها، والتي تعد رواية متعددة الرواة، قدمت أشكالا فنية معقولة، يمكن اعتبارها نماذج، مثل: (الصخب والعنف)، و (الرجل الذي فقد ظله)، و (بريد بغداد) لولا كون الوثيقة نصا محوريا فيها ولو كانت رسائل متبادلة لكانت..، وحتى (المبعدون) التي يمكن نمذجتها عراقيا، لتوازي (الرجل الذي فقد ظله) في هذا الجنس الروائي؛ لو حكيت بضمير المتكلم، و(اسمي احمر). كذلك كانت (عين الدود) و(عشاق أرابخا) و(شباك أمينة) لولا قليلا.