يصور القاص الليبي شخصية من الشخصيات الشعبية، باحثاً في منشأه الغريب، وسلوكه من خلال عيني طفلٍ صغير وأصدقائه، القوي الذي يسرق من الأغنياء ويساعد الفقراء والكل تخافه وتخشاه، والشخصية تكاد لا تخلو منها مدينة عربية حيث تلقي مصيرا تراجيديا في الواقع والنص.

مصرع اليحياوي

معاوية محمد الحسـن

 

- ( 1 ) -

من خلال ثلمة في احدي جدران منزل اليحياوي رحت أتطلع لاسراب الحمام التي كانت تتهادي في باحة الحوش . بعضها بيضاء وأخري سوداء رمادية الذيل . إنحنيت أكثر فابصرت حبل الغسيل وعليه جلابية تتأرجح مع هبوب الصيف . خيل الي أنني أيضا رأيت اليحياوي جالسا علي مقعد خشبي ينثر بذورا للحمام وعيناه ساهمتين في فضاء بعيد . التقطت حجرا صلدا .تجاسرت علي خوفي، محاولا كسب الرهان مع صبية الحي فيما يتعلق باستفزاز الرجل . سافقا عينيه وأسبه أيضا فأنا رجل من صلب رجال وساخلص الجميع من شروره . أنا أكثر رجولة منه ولا يهمني شيء . كان العرق يتصبب من كل أجزاء جسدي ويداي ترتعشان . حلق الحجر في مدي لم يتجاوز قامة الفراغ الذي كان يفصلني عن قمة الحائط الطيني كثيرا ثم هوي مرة أخري عند اسفل قدمي . . 
لم يحدث شيء في بداية الأمر سوي أن الحجر أحدث صوتا طفيفا لدي ارتطامه بالأرض بعدها استجمعت قواي الخائرة . مسحت العرق عن جبهتي وحاولت أن أتغلب علي تلك الرعشة التي كانت قد طغت علي أطرافي . تذكرت رهاني مع صبية الحي . التقطت الحجر مرة أخري . تقدمت بإصرار يشوبه شيء من الاضطراب والحذر ناحية الجدار مرة أخري . ابتعدت عن الجدار قليلا عندما لمعت في ذهني صورة اليحياوي بعينيه الباردتين المتوحشتين. تراجعت بعض الشيء .أخذت أفكر في طريقة للنجاة . تحسست جيوب سروالي . عثرت علي النبلة قابعة في احدي زوايا الجيب الخلفي . أخذت الحجر وصوبت القذيفة عاليا باتجاه المنزل .سمعت دوي القصف .كان هائلا لدرجة أن الحمام بالداخل أجفل كله . بعد برهة سمعة زمجرة كزمجرة الريح
في تلك المسافة الفاصلة بين الرعب والاطمئنان وبين الخوف والسكينة , تذكرت كلمات أمي حين قالت :

- يا ولد أبعد من اليحياوي.
لكنني كنت مثل من يطلب ثارا لدي الرجل . في حقيقة الأمر لم أكن مولعا به فقط ولكنني كنت أغار من سطوته في البلدة حتي تحولت تلك الغيرة الي ما يشبه الانتقام مازلت أتذكر جيدا كيف انني وحينما كنت انخرط في اللعب مع أبناء الجيران اتبختر وسطهم مزهوا بقوتي كأنني اليحياوي
كانوا يهابونني ولا شك فقد كنت طويل القامة وممتلئ العضلات . أخذ ما في أيديهم عنوة وأقتدارا. أصرع أشدهم باسا في حلبة النزال. أتحدث انا فينصتون . أقوم فيتبعنوني . اجلس فاذا هم يجلسون. اضحك فيقهقون وعندما اصمت كانوا ايضا يلوذون بالصمت . كانوا كلهم يخطبون ودي ولكنني مع ذلك كنت مفتونا باليحياوي . أحس بالضالة أمام جسده الضخم . أود أن اصير الي ما صار إليه .كنت اصنع شاربا مزيفا من شعر الماعز واحمل عصا من شجر السلم محاولا أن أحاكي مشية اليحياوي الفريدة . أتذكر أن العصا كانت أعلي من مستوي قامتي كثيرا ولكنني كنت اتغلب علي عثراتي في الطريق , رافعا الرأس أتهادي في المشية مزهوا كأنني نظير اليحياوي . في المدرسة طردني المعلم من الصف لأنني أتشبه بالصعاليك والسفهاء
حين علم أبي بالواقعة جلدني بسوط العنج وقال:

-الله يخيبك.و هل اليحياوي إلا سفيه لقيط ,شارب خمر وآفاق لا يعرف الناس له فضيلة؟

 بكيت بحرقة .كرهت ابي . خرجت من البيت ثم عدوت باتجاه الصحراء المحاذية للبلدة من الجهة الغربية . لم أحس بالتعب وانا اغوص في كثبان الصحراء ذاهبا بإتجاه منزل اليحياوي الذي كان يقبع في وسط الفلاة وحيدا .كانت الكثبان الرملية تحيط البيت الطيني المتواضع من جوانبه . لا شيء كان يؤنس وحدة اليحياوي هناك، في ذاك المكان الموحش غير أسراب الحمام التي كان يربيها في البيت ويتعهدها بالرعاية . برغم سطوته وجبروته كان وديعا مثل فراشة مع الحمام . توغلت أكثر فأكثر في البيداء حتي بدت البيوت خلفي وكانها انجم بعيدة معلقة في الفضاء . جوفي محروق وأنفاسي لأهثة تذكرت رهان الصبية

-لو أنك راجل لذهبت الي هناك وقلت لليحياوي يا ود الحرام

كانت العفاريت تعوي في داخلي . صعدت تلا رمليا كبيرا بآخر ما تبقي لدي من أنفاس ومن هناك أشرفت علي بيت الأشباح المرعب . تذكرت أن لا أحد من أهل البلدة كان يجرؤ علي القدوم الي هنا فارتعشت مفاصلي قليلا لكنني سرعان ما تمالكت نفسي ثم خطوت بضع خطوات باتجاه البيت الذي كان غارقا في الغموض المرعب .
صرخت بصوت تكسوه الرهبة والفزع
- يحياوي. .يحياوي. .أنا راجل متلك يا ود الحرام.

وحدها زمجرة الريح في بيت الخواء هي التي أجابتني . أتبعت النداء مرة بأخرى. أطلقت صوتي بالزعيق والشتائم ولكن اليحياوي لا يجيب . قلت فيما يشبه الهمس :

-يحياوي يا مرا.

رجع صدي صوتي خائبا بعد أن ارتطم بقمة أحد الجبال . ضاع صوتي في متاهة الصحراء . تقدمت بجرأة صوب ثلمة في الجدار ورحت انظر للداخل . أصغيت إلي الحمام وهو ينوح وأبصرت حبل الغسيل يتارجح وحيدا . ركلت باب القصب بقدمي الصغيرتين فأنفتح وحين صرت في الحوش لم أكد أري شيئا في الغرفة الوحيدة بالمنزل سوي أشباح اليحياوي تتراقص في الفراغ . أجلت عيناي في المكان .كان ضوء الشمس منعكسا علي ريش الحمام . تناثرت الأشياء في فوضوية غريبة . ثمة أنية لإطعام الحمام مبعثرة في باحة المنزل , بذور الحمام تغطي الأرض , حذاء اليحياوي الأسود الضخم والذي كان قد سلبه أحد عساكر الجيش ملقي هكذا , فردة هنا وأخر هناك . صحف ومجلات . اليحياوي لم يكن يجيد القراءة . ما معني هذا ؟ يبدو انه كان ينزع أوراقها حتى يستخدمها لحفظ بذور الحمام .هذا مؤكد . حدقت النظر أكثر فرأيت الأسلحة قابعة بالداخل . ساطور , فؤوس مختلفة الأحجام , سكاكين وسيف مغمد في جفيره معلق علي الحائط . أحسست بالرعدة تسري في جسدي لكنني قاومت . نعم قاومت مثلما يقاوم الغريق تيارات النهر العنيفة ثم جثوت علي ركبتي وهمست :

- يحياوي..أين أنت يا يحياوي . ؟

طار الحمام . ليس كله في واقع الأمر فقد ظلت بضع حمامات سوداء لمحتها وهي تتجه نحوي كأنها تنوي افتراسي . في بداية الأمر نظرتني بأعينها الحمراء المدورة والمتقدة مثل الجمر ثم أخذت تتقدم نحوي في ثبات الفرسان عندما يحمي الوطيس . أصابني الرعب وأحسست بالدم يتجمد في أطرافي . لم تكن تلك الكائنات من جنس الحمام الذي نعرف علي الإطلاق ولم تكن أيضا نسورا جارحة . كانت أشبه بطيور الرخ الخرافية . حاولت أن أهش عليها لكنها أخذت تتقدم نحوي وأعينها الحمراء مشتعلة بالغضب . انحنيت علي الأرض حتى التقط شيئا ادفع به عن نفسي ولكنني تبولت في سروالي لشدة الخوف. تراجعت ناحية الباب فقفز الحمام المرعب باتجاهي أكثر . سمعته حينذاك يزأر مثل الاسد الكاسر. أطلقت ساقاي للريح . أحسست بجيوش الحمام المتوحش تسد علي دروب الصحراء ومسالكها فندهت الشيوخ الصالحين الذين كانت أمي تتوسل بهم
قرأت المعوذتين اللتين كنت قد حفظتهما في المدرسة عن ظهر قلب بصوت مرتجف , عدوت وعدوت كما يعدو مفزوع الم به مارد او شيطان وعندما أدركت أنني قد اقتربت من البلدة , أخرجت صوتي المبحوح وصرخت :
-
اليحياوي يا ود الحرام .
حينما وصلت الي البلدة في اول المساء كنت قد ألفيت الناس يتحدثون عن واقعة اغتيال اليحياوي علي يد مليشيات أولاد الكجم وكانت حمي عفاريت بيته الملعون تفعل فعلها في أغوار روحي المضطربة والمنهكة .

- (2)

عندما أنجلي ضوء الصباح كانوا قد عثروا علي اليحياوي مكتوف اليدين ومقيد الرجلين عند شجرة (الحراز ) الكبيرة القائمة عند تخوم الفلاة المحاذية للبلدة , وجهه غارق في الدم , عيناه الكبيرتان جاحظتين ,شعره رأسه الكث معفر بالتراب وشفتاه متيبستين كأنهما أديم الارض الظمأي ,المتشققة بفعل الجفاف والعطش . أبصرنا أيضا علي جميع جسده خطوطا حمراء طويلة يسيل منها الدم , كأنها رسم سريالي علي صفحات الجسد المسجي في البيداء . كانت الدماء القانية تسيل من وركيه وساعديه وظهره المكشوف , بينما اسراب الذباب تقوم وتحط علي جثته الهامدة الممدة امامنا . تدلف جحافل الحشرات الي دهاليز فمه المفغور والممتليء بذرات الرمل ثم تخرج .
قال أحد اعمامي :

-لا حول ولا قوة الا بالله يا رجال. أهذا هو اليحياوي الذي كان الناس يفزعون من ظله ؟

السماء الزرقاء التي تتدلي فوق روؤسنا تبدو بلهاء . كأن ما حدث لا يعنيها . ليست حزينة مثلما أنها ليست مبتهجة . شيء غامض يصعب تفسيره وهكذا أيضا بدت لنا تلك الصحراء الشاسعة الممتدة علي طول الأفق . موحشة وصمتها قاتل . خلفنا كانت بيوت الحي تتناثر هنا وهناك كأنها احدي قطعان الخراف الضالة. لا نهاية لها الا عندما يبدأ شجر النخيل بالتزاحم علي امتداد شريط النيل الضيق.

أحنيت رأسي باتجاه الرمل ورحت أتأمل بقع الدم الكبيرة التي تشربتها تربة الفلاة . بقعة هنا وأخري هناك .لأبد أنه كان قد قطع مسافة طويلة وهو مثخن بالجراح قبل أن يضجع ضجعته الأخيرة هنا تحت شجرة الحراز ولابد أيضا أنه قد حاول الهرب والتفلت من بين أيدي جلاديه لكنه لم يفلح . كيف يموت اليحياوي المرعب صاحب السيرة المرعبة هكذا مجندلا فطيسا .؟

عند أعلي الافق لا تكاد العين تبصر شيئا غير السراب . هنالك فقط أثار لقوافل الصحراء بينما كانت العربات الخلوية قد عمقت اخاديدها علي الرمال ولكن بطريقة عشوائية.
قال عمي:

- وهل أبلغتم شرطة المديرية ؟

لم يحر أحدهم جوابا فقد كانوا منهمكين في الفرجة وجحافل الالغاز الكاسحة تغزو رؤوسهم . اليحياوي يموت وحيدا . خاتمة المشهد في فصول مسرح العبث . هل كان يتوقع نهاية كهذي ؟ لمحت سنه الذهبية الصفراء تلمع تحت شمس الصحراء الحارقة والدم ينز عنها . من الواضح أن القتلة كانوا قد حاولوا سلبها أيضا . تخيلت قامته الضخمة تتأرجح أمامي . زنداه الممتلئين , عضلاته المفتولة , صدره الواسع العريض , جبهته البارزة للامام قليلا وعينيه المتوحشتين الباردتين . اليحياوي قصة فتوة مكتملة التفاصيل . كان لا يصمد أحد من الناس أمامه في النزال . قوي الشكيمة وصارم . عندما ينزل للنهر لا احد يباريه في السباحة . جسده كأنه بنيان أسمنتي صلب . كان متصعلكا شريدا . عمل بناءا ثم نجارا قبل ان يمتهن حرفة صناعة المراكب , جرع الخمر وتعاطي البنقو لكنه كان يصلي وينفق بعضا من ما يسلبه أحيانا , يمنح ذراعه الخضراء للمحتاجين والضعفاء بلا مقابل ومع ذلك كله كان مجرد أسمه يثير الفزع والرعب . حين يسطو علي محلات التجار لا يجرؤ احد علي ابلاغ الشرطة وحين يثمر النخل كان لليحياوي حصته المجانية من الثمار مثلما كانت له حصته ايضا من الشراب حين يغشي بيوت الخمر . كان الناس يحاولون تفاديه اتقاء شره – هكذا يقولون – لكنهم في الواقع كانوا جبناء امام جبروته الضارب .

-من منا كان لا يهاب اليحياوي يا ناس ؟ ولكن انظروا اليه الان مجندل مثل بقرة نافقة .

هكذا قال أحدهم وهو يضع خرقة من القماش علي وجه الرجل الملطخ بالدماء .

تغلبت علي غصة كانت قد أصابت حلقومي فجأة ثم أشحت وجهي عن الجسد المسجي في العراء . من قتل اليحياوي ؟ اليحياوي قتلته المرافعين . لا بل قضي عليه الهمباتة . اولاد الكجم المحاربين الاشاوس . اولئك النفر مشهورون بافعال الهمبتة والنهب . يذرعون الصحراء من (سلوم ) وحتي نواحي (بيوضة ) أسلحتهم حادة وخيولهم مطهمة . يباغتون ضحيتهم مثلما يباغت الثعبان اب درق فلاحا تغوص قدماه في العشب الطري . يقول عمي الماحي ود حسب الله :

(و من قال انهم لصوص ؟ علي الطلاق ليسوا لصوصا ,فهم لا يتسترون في جنح الظلام مثلما يفعل اللصوص كما أنهم لا يتسللون خفية الي مزارع النخيل حتي يسطو علي الثمار في موسم الحصاد ولكنهم يباغتون الناس ويقلعون حقهم عيني عينك , يظهرون بغتة مثلما يداهم سيل وادي الملك البيوت والمزارع . اليحياوي قتله اولاد الكجم حين انفردوا به في الخلاء وحيدا . اليحياوي لم تصرعه المرافعين ولا الضباع الكاسرة.)

و هكذا أخذت تروج في البلدة روايات مختلفة حول مصرع اليحياوي .

- 3-

الم به بعض السابلة عند مرسي المراكب الشراعية وهو في نحو الخامسة عشرة من العمر , هكذا يتحدث سائر الناس . سألوه عن والديه لكنه لم ينبس ببنت شفة . قالوا له من اي البلاد جئت لكنه ظل متخندقا بالصمت والنظرات الفارغة . كان وجهه شاحبا ولونه الاسمر الداكن قد استحال الي ما يشبه السواد الغامق بفعل لهيب الشمس والجوع والاعياء . أخذوه الي خلوة الفكي سليمان . أكل وشرب ونام طويلا . نحو ليلتين كاملتين وهو يغط في النوم وحين استيقظ في اليوم الثالث كانوا قد أعادوا عليه السؤال ذاته :
-
من أين جئت يا ولد ؟
يرفع بصره في وجوههم ويردد بلكنة اعجمية :
-
يحي .. يهيا .. أدروب 
-
يحي من ؟
- يهيا ..

أسماه الناس اليحياوي .حتي عندما كبر كنا نناديه هكذا (يحياوي ) ولكنه لاحقا كان قد تمكن من اختلاق اصل ونسب مزيفين .

ذكرت احدي الروايات ان والده من احدي جهات الشرق فهو ادروب ابن أدروب . يمتشق الحسام في سوح المعارك ويعاقر القهوة . كان والده قد تركه لدي بعض التجار حين أزمع سفرا طويلا باتجاه صحراء السلوم حيث يشتغل بالهمبتة مع اولاد الكجم الذين كان قد غدر بهم حين غنم بعض المنهوبات لنفسه وهكذا بدأت رحلة الثأر الطويلة ضد اليحياوي عندما ايقن الهمباتة انهم لن يظفروا بأبيه فقرروا الانتقام منه .
كان الطفل مستغرقا في النوم ذات يوم وحين استيقظ وجد التجار قد قذفوه صوب الخرطوم مخافة أن يعثر عليه اولاد الكجم وهناك تشرد طويلا . عمل نشالا .بائعا جوالا. متحصلا للنقود في احدي المراحيض العامة وشحاذا عن عتبات الجامع الكبير . ذات يوم عثر علي بعض عمال الدريسة حين كانت الشرطة تطارده بتهمة السطو مع بعض الاحداث علي محل لبيع الملابس النسائية . أتفق مع عمال الدريسة علي أن يركب القطار مقابل أن يخدم ويصنع الشاي والقهوة . وافق السائق ايضا ولم يكن يعلم أن الصبي يطارده البوليس . حين لفظ القطار انفاسه المجهدات في احدي محطاته الاخيرة في الشمال القصي ترجل ثم ركب النهر حتي وصل الي ديارنا التي مكث بها منذ يومه ذاك مثيرا الاضطرابات الكبيرة ومتزعما العصابات الخطيرة .

-(4) –

جاء ت عربة الشرطة . ترجل منها سبعة عساكر وضابطان . كانوا مدججين بالأسلحة النارية . كلبهم البوليسي يتقافز امامهم . امروا الناس بالابتعاد عن المكان قليلا . تلاشت دائرة الفرجة الكبيرة وانفرط عقد الرجال كمسبحة تناثرت حباتها . اخذوا يقلبون الجثة يمنة ويسرة . يقيسون المسافات وينقبون عن اي أثر للمجرمين . عندما ازاحوا الخرقة التي كان أحد الرجال قد غطي بها وجه القتيل , طارت جحافل الذباب في الهواء ثم حطت علي وجوهنا واكتافنا . اصطحب رجال الشرطة معهم في ذلك اليوم (سالم القصاص) , خبير قفاية الأثر المعروف الذي انهمك فور وصوله في تعقب الأثار . في البداية شرع في تفحص المكان بعينين وثابتين متقدتين ثم أخذ عصاه المصنوعة من شجر الحراز وبدا يرسم بها دوائر كبيرة واخري صغيرة حول أثار الاقدام الادمية والحيوانية .

 تتبع الخطي المرسومة في الرمال حتي وصل الي مسافة بعيدة في الخلاء لدرجة أننا رأيناه يغوص في السراب وحين عاد ادراجه , نطق بكلمة واحدة :
-
اولاد الكجم .

*****

هاهي الريح تزمجر في الفلوات. الأشجار تتراقص مع هبوب الصيف . الحقول تغط في النوم ليلا وتستيقظ عند الفجر . السماء ليست حزينة وليست مبتهجة ولكنها ساكنة كفراغ مسطح . صفحة النهر تبدو وادعة لكنها تموج بالتيارات العنيفة . اليحياوي مات كما تموت العير أو الشياه لا كما تموت الأسود أو النمور . مركز البوليس سجل البلاغ ضد مجهول . مجهول .كيف ؟ الكل يعلم ان من فتكوا به هم اولاد الكجم لكن البوليس يخشي انتقامهم أيضا
شعرت أن الناس قد تنفسوا الصعداء أخيرا بعد مصرع اليحياوي . صاروا يأمنون علي حقولهم ومواشيهم وتجارتهم . قلت اذا مات اليحياوي فسيقوم في الناس يحياوي أخر أشد فتكا . حلمت في تلك الليلة حين أويت الي فراشي باكرا أن اليحياوي قد ضبطني متلبسا وأنا اتلصص منزله من بين فرجات الثلمة في الحائط . هدر مثل الرعد . رفعني بكلتا يديه الثقيلتين ثم أستل عيني اللتين كنت بهما أتلصص من محاجرهما . صحوت مفزوعا أصرخ . أمي أمسكت برأسي تتلو التعاويذ وأبي لعن اليحياوي الذي ما فتئ يثير الهلع والرعب حيا وميتا . قال :
-
اليحياوي مات . انت كنت تحلم يا ولد .
قلت :
-
لا يا ابي اليحياوي حي يرزق . رأيته يشرع السلاح مطاردا اولاد الكجم في الخلاء وفي بيته اسراب الحمام تطير ثم تحط .
عندما انتصف النهار أو كاد , أخرجت عصاي التي صنعتها من خشب الحراز ثم أخذت خنجر أبي الحاد والملتوي عند الوسط خلسة دون أن يراني , وضعته تحت ابطي بعد أن لصقت الشارب المعمول من شعر الماعز علي شفتي العليا , شذبته في عناية ثم مسحت عليه , بعد ذلك نفخت ذراعي ثم شددت صدري إلي الأعلى كثيرا وخرجت صوب الصحراء ميمما شطر منزل اليحياوي .

انتهت