عنوان الكتاب يشكل عتبة لنصوص الرسائل، ومفتاحاً لدخول عوالمها، ويحمل في محتواه معنى رمزياً واضحاً، مدلوله هو تلك الحياة التي تنقسم إلى نصفين، فالحياة في كل تجلياتها الزمنية والمكانية، مصحوبة تارة بورد، وتارة أخرى برماد.كل ذلك تعكسه الرسائل الحميمة والصديقة بين قطبين متباينين ومختلفين في نواحي الإبداع والكتابة ولكنهما يلتقيان في زوايا الحس والمشاعر والطرق الوجدانية.

«ورد ورماد» .. رسائل الزمن الحميم

بين الروائيين محمد شكري ومحمد برّادة

هاشم شفيق

في زمن التحولات التكنولوجية والتواصل الالكتروني غاب البريد الحميم، وعبق الورق في الرسائل الورقية، وهو ما يعني هنا غياب بعض اللوامس الحسية للشم والنظر واللمس. شم رائحة الورق والتمتع بلونه ولمس مدلوله، وكنهه، وشكله وصيغته الصناعية. غاب البريد وساعيه وشكل الخط ونوع الحبر والورق والطابع الذي يحمل معنى البلد والمدينة ويعكس إلى حد ما تاريخها وماضيها، فإنْ كان الختم أو الطابع البريدي يحمل رمزه، ذلك أنه يدل على قيمة البلد وماضيه الحضاري، وإذا ما كانت هناك نخلة على الطابع البريدي فسرعان ما يتبادر إلى الذهن أنه قادم من العراق، وإذا كانت ثمة أرزة فنحن سنكون مع لبنان، أو هرم فإننا دون شك سنلمس سحر مصر، وإذا ما كانت قلعة فإننا سندرك أنه أحد بلدان المغرب العربي، وهكذا هو الأمر مع الشراع الذي سيوحي بأنه قادم من دول الخليج العربي.

لكننا حين نكون أمام البريد الالكتروني فإننا سنكون مباشرة أمام الصمت والفراغ، وربما يكون في داخَلنا نوع من عدم المبالاة والتغاضي والانزياح السايكولوجي المصحوب بالكآبة.

ما دفعني إلى تسطير هذه المقدمة، هو صدور كتاب جميل وأنيق وشيّق، للروائي والكاتب المغربي محمد برّادة، بعنوان «ورد ورماد».

العنوان هنا يشكل عتبة لنصوص الرسائل، ومفتاحاً لدخول عوالمها، ويحمل في محتواه معنى رمزياً واضحاً، مدلوله هو تلك الحياة التي تنقسم إلى نصفين، إلى حلو ومرّ، وإلى أسى وسرور، أو إلى الرمز الأوثق والأدل «ورد ورماد». هي هكذا الحياة في كل تجلياتها الزمنية والمكانية، مصحوبة تارة بورد، وتارة أخرى برماد.

كل ذلك تعكسه الرسائل الحميمة والصديقة بين قطبين متباينين ومختلفين في نواحي الإبداع والكتابة ولكنهما يلتقيان في زوايا الحس والمشاعر والطرق الوجدانية.

هناك الكثير من الأسى والشكوى والمرارة والخذلان والانكسار والتشظي الفكري والروحي والباطني لدى محمد شكري، ذلك الكاتب العصامي الذي تعلم القراءة والكتابة في سنوات الشباب، وفي مرحلة متأخرة من عمره، قافزاً التعليم النظامي الذي يتلقاه الكائن العادي، كون حياة محمد شكري نفسها، غير عادية، وغير مستقرة منذ ولادتها، حتى بزوغها في تطوان وسط عالم رث، عالم الفقر والعوز والجوع والتشرّد، واللهاث وراء العيش والنمو بأية طريقة حتى لو كانت تقتات الخبز الحاف لوحده، الخبز دون شريك من طعام آخر، ودون سند من بقية الأغذية المليئة بالحياة والعافية، باعتباره قد ترعرع في أزمنة «الخبز الحافي» أي في أزمنة الجوع واللهفة إلى الحياة السوية، ولكن هيهات، من أين يتأتى ذلك، ومحمد شكري عاش في جوّ عائلة فقيرة، لأب فقير وقاس، وأم ليس لها حول ولا قوّة، من أين يأتي الحنان، وهو يشهد موت أخيه خنقاً بيد أب قاس لا يمتلك ذرة من الرحمة، لذا لم يجد الصبي شكري سوى الهرب والنجاة بجلده، ليكون ضيفاً خفيفاً على الرصيف والزاوية والشارع، لا مفرّ سوى التشرّد والعيش بطريقة بوهيمية، وعدمية ولا إنسانية.

من هنا نجد رسائل شكري حتى وهو قد أصاب قسطاً من الشهرة، نجدها رسائل تحمل الكثير من اللوم على العامة والمحيط، وتارة على الأصدقاء والأهل وبعض المقرّبين. حتى الشهرة حين تقدمت إليه على طبق من فضة أو من معدن لم تكن مثل أي شهرة، فثمة منغّصات وحكايات وتذمر وسطور أليمة، عن ناشري كتبه وموزعيها ومسوّقيها، وثمة قصص وبَرَم عن مترجمي كتبه ومروّجي اسمه وصانعي شهرته، من أمثال بول بولز والطاهر بن جلون وبعض الأسماء من الكتاب والأدباء والناشرين العرب والمغاربة، لكنه كان في المنقلب الآخر، وفي بعض الرسائل نجده منشرحاً مع الكأس الذي لم يفارقه، ومن صحبة إحداهنَّ من النسوة اللواتي كان يلاقيهنّ في حياته المتعثرة حيناً، والسالكة أحياناً أخرى، وما أكثرهنّ، حين يُعدّد بعض أسمائهن، في بعض الرسائل، مضيفاً اليهنّ بعض الأجنبيات اللائي كان يصادفهنّ في المهرجانات، كمترجمات أو مُعينات أو دليلات لرحلته، في عالم الغرب وصحافته الأدبية التي تعتني بالأدب المختلف والمحظور والممنوع والكاشف لعوراتنا التاريخية.

نال محمد شكري، شهرة، وكان الألمع عالمياً بعد المصري نجيب محفوظ، تُرجمتْ أعماله إلى لغات عديدة، وطاف بلداناً كثيرة، رآها ذلك الصعلوك الشهير، والمتشرد الأمير، بعد ذيوع روايته المكتوبة بصيغة السيرة الذاتية «الخبز الحافي» ونيلها تلك المكانة المرموقة بين الآداب العالمية، ثم تصنيفها من قبل بعض الدور العالمية بخانة الأدب المطلوب والمُشترى، أو الأكثر مبيعاً، بينما حين حاول طبعها في العربية نُعتتْ من بعض الدور التي رفضتها في بيروت بالأدب الفضائحي، أو الأدب الإيروتيكي، الممنوع والمحرّم، أو أدب الاعتراف، كما لمسناه لدى جان جاك روسو وهنري ميلر وأناييس نن وتينسي وليامز صديقه ورفيق تجواله، خلال بعض لياليه وسهراته وتسكعه، إبّان إقامته في طنجة، وكذلك هو الأمر مع جان جينيه ذلك الملك الملعون في اعترافاته الشهيرة «يوميات لص» وهو أيضاً صديق تشرّده وصعلكته أيام إقامته في طنجة وبعض المدن المغربية. هذا الكاتب الخارج عن المألوف والمعروف بمحبته وولائه للعرب وللقضية الفلسطينية بخاصة، نكاية بسارتر الذي سمّاه مرّة بالقديس في كتاب خصّصه له بعد خروجه من السجن بسبب السرقة، ولكنه انحاز ويا للعجب، هذا الوجودي الألمع والماركسي الأبرز، إلى قيام دولة إسرائيل، شأنه شأن الأحزاب الشيوعية العالمية والعربية عموماً التي أيّدت قيام دولة إسرائيل، ذلك الكيان المزعوم على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

غير أن محمد شكري وصديقه الأثير برّادة، نراهما في قمة المدافعين عن القضية الفلسطينية وشؤونها السياسية واليومية، هذا ما تؤكده بعض الرسائل المؤرّخة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وفيها ذكر حتى لمن ينال من القضية أو يتطرّق إليها بطريقة ما، من قبل بعض المستشرقين والمترجمين وبعض الكتاب ودور النشر العالمية.

في الجانب الآخر من الرسائل، وهو الجانب الذي يخصّ برادة، يخبر هذا الجانب عن صديق مبدع ، متفان، وفيّ، صادق ومحب لأدب صديقه محمد شكري، إذ توضّح هذه الرسائل طبيعة الشخصيتين، وتكشف بطريقة فلسفية وسايكولوجية، سلوك وأفعال وردود فعل كلّ منهما، عن شؤون صداقة بعضهما، أي عن تفاصيل حياتهما المتباينة، في الصغيرة والكبيرة، وتسلط الضوء الكاشف على مسيرة كليهما الجمالية والاجتماعية والاقتصادية، كيف يتحركان، كيف يعملان، بمن يلتقيان، ماذا يكتبان، ماذا يسمعان من الموسيقى والأغاني، وأي كتاب أجمل هناك، ومن نشر كتاباً مهماً، حتى انهما يستفيضان على صعيد الطبخ والمأكل والملبس، ويتطرّقان في حديثيهما المكتوب والمكثف والصافي، لرسائل أديبين بارزين، عن الحب والشراب الجيد والرديء، وعن الكتاب اللافت والعادي، أو الممل، وعن مشاريع الكتابة المقبلة، وعن دور النشر وأصحابها المغاربة والعرب والعالميين، وعن المجلات التي ينشرون فيها، وحتى عن الأمزجة النفسية والروحية، وعن طرق وأساليب فن الكتابة الروائية والقصصية، وأين يفضلان نشر هذا الكتاب أو تلك القصة أو تينك المقالة، عن الندم والحب والجوع والممنوع والمؤجل، وكذلك عن السفر وهموم العمل، وخصوصاً لدى الكاتب والروائي محمد برّادة الذي بدا لصاحب هذه السطور، القطب المختلف والإيجابي على الدوام والمهموم بالعمل في مسلك التعليم والدراسات العليا والسفر والتحضير للمحاضرات والانهمام المتواصل والدائب لحضور مؤتمرات عالمية وعربية، والسفر إلى هذا المهرجان أو ذاك، وتأسيس مجلات أدبية وثقافية والتي عليه متابعة شؤونها التي لا تنتهي، ومتابعة شؤون الكُتّاب، وهي كثيرة، تعب يومي وجهد مبذول وعمل دؤوب وشاق ومتواصل، من قبل محمد برّادة الذي يتحيّن الفرص والوقت المسروق لغرض الكتابة الشخصية، ومواصلة عمله، في مشروع رواية أو قصّة بدأ الكتابة فيها، ولكن لسبب ما من هذه الأسباب المذكورة قد تركها ثم عاد بعد وقت للعمل فيها ومواصلة همه الأساسي الذي هو الكتابة والإبداع والإنتاج الروائي ومواصلة نسق عمله والتعود على تخصيص وقت معين للشروع في منتجه الجمالي.

أظهر الروائي والكاتب محمد برادة وجها نقدياً للأعمال التي كان يطلع عليها، وأظهر كذلك حرصاً على حث شكري على مواصلة الكتابة، والالتفات إلى الوقت، وعدم إهداره وكذلك الانتباه إلى صحته ومشواره اليومي وعدم إضاعته في التسكع والشراب والسهر اليومي مع أناس قليلي الأهمية، قد يسببون له مشاكل هو في غنى عنها. وأفصح برادة أيضاً عن ذلك الناصح المتواري، والأخ غير المرئي لمحمد شكري، فضلاً عن كونه ذلك الصديق الدافئ والإنسان الشفاف كما توضّحه رسائل شكري له، وكما تكشفه رسائل برّادة بلغتها المأنوسة والصقيلة.

 

«ورد ورماد»:

محمد شكري ومحمد برادة

قطاع الثقافة في مؤسسة «أخبار اليوم»، القاهرة 2016

191 صفحة