توطئة
ترى ما الذي يمكن أن يتشكل في النفس البشرية ليكون نصا ً روائيا ً حين يكون الحزن الجليل بؤرة الرؤيا وعدستها في النظر إلى التجربة الوجودية واستبصار أمشاجها التي تتجمع من منابع شتى، مثل الواقع الاجتماعي والتاريخي، والتجربة الشخصية اليومية، والذاكرة والنفس وانشغالاتهما، والمخيلة وآفاقها الرحيبة، واللغة وتجلياتها الرائعة؟ ذلك هو السؤال المهم الذي يثور في نفس قارئ رواية (سيدات زحل: سيرة ناس ومدينة)(1) للمبدعة الكبيرة لطفية الدليمي. تلك الرواية التي مثلت في تقديري إنجازا ً مهما ً في تاريخ الرواية العراقية، لأنها تجسد الرواية التي تكافئ جسامة تجربة الإنسان العراقي عموما، ممثلة بتجربة المرأة العراقية على وجه الخصوص، إذ ينبغي لنا أن نتوقف عن القول بأن الرجل فقط هو من يمثل تجربة الإنسان الوجودية العامة للجنسين معا، لأن للمرأة الحق نفسه في أن تتصدى لتجسيد رؤيتها الخاصة والمختلفة للتجربة الإنسانية دون أن تزعم أن نتاجها يمثل بديلا ً أو منطلقا ً للاستغناء عن الإبداع الذكوري. والحقيقة أن الوقوف على خصائص الأدب النسوي لا يتأتي تعبيرا ً عن رغبات أو انطلاقا ً من موقف تأملي بقدر ما هو حصيلة دراسة للنتاج الروائي والقصصي والشعري والنقدي الذي أنتجته المرأة.
1. في خصائص السرد النسوي
يتصدى الأدب النسوي في تجلياته المختلفة (شعر، سرد، نقد، مسرح، كتابة فكرية) لمعضلة التعبير الإبداعي عن الرؤيا الخاصة بموقع المرأة الوجودي والاجتماعي في لمحيطها الاجتماعي ذي السمات الحضارية المتميزة، ولموقعها الخاص من هذا الإطار الاجتماعي. ولما كان من المؤكد أن المجتمعات كافة، شرقا ً وغربا ً، في العالم المتقدم علميا ً وحضاريا، وفي العالم الذي ما زال يرزح تحت نير التخلف والجهل، تعيش حال دائمة من النزعة الذكورية السائدة والثقافة الأبوية المهيمنة، فإن من أبرز صور التصدي لهذه الهيمنة الذكورية في الرواية النسوية كانت من خلال استثمار اللغة السردية المعبرة عن موقف المرأة الخاص وأيضا من خلال استثمار أساليب السرد، مثل موقع السارد في النص ووجهة النظر وأسلوب تقديم الشخصيات النسائية بالمقارنة مع تقديم الشخصيات الرجالية. كل ذلك يجري صوغه في ضفيرة يفترض أن تكون مجدولة بعناية لكي تجسد تفرد تجربة المرأة على المستويين الذاتي الوجودي والموضوعي، تلك التجربة التي تختلف عن تجربة الرجل في جوانب مهمة. إذ أنه، ولأسباب اجتماعية وتاريخية وحضارية معروفة جيدا، كانت مشكلات المرأة أعظم عمقا وأكثر تنوعا من مشكلات الرجل في أيما مجتمع، وإن كانت المواقف إزاء هذه القضية متباينة قديما وحديثا. فقد التفت أفلاطون إلى مشكلة الأدب والفن وعلاقتها بالاختلافات البيولوجية عند المتلقي فطرح في كتاب الجمهورية، وعلى لسان الأثيني وهو يحاور كلينياس، المسألة على النحو الآتي:
«والآن ينبغي أن نتدبر إنْ كان هناك نوع من الموسيقى يناسب النساء، ونوع آخر يناسب الرجال، ونحدد خصائص كل نوع من التوافق الهارموني والإيقاع (...) ويمكننا أن نضع قواعد التوافق لهذا النوع من الأغاني ولذاك، ونحدد قواعد الأغاني المناسبة للنساء، بعد ملاحظة الفوارق الطبيعية بين الجنسين. وسنفترض أن مزاج الذكور بحسب القانون والمنطق مزاج يتميز بالجلال، ويميل للشجاعة، بينما مزاج الإناث ينحو نحو النظام والاعتدال.»
وإذ يعدّ ُهذا الكلام أول إشارة تاريخية مدونة إلى الوعي بالمشكلات الفنية والبنيوية المتكيفة مع اختلاف جنس المتلقي، فإنه يكشف في الوقت نفسه عن تبن ٍ صريح لواقعة استنتاج تراتبية المنزلة الذكورية المستمدة من الاختلاف البيولوجي بين الجنسين، وذلك من خلال نسبة الجلال والشجاعة للرجال ونسبة النظام والاعتدال للنساء. فالجلال، كما يعبر عنه كتاب الجمهورية، هو جلال الحِكمة والحُكم معا؛ أما الشجاعة فهي التعبير الواقعي الصريح عن القوة الجسدية لا شجاعة الموقف، لأن الأخيرة يمكن أن تكون للنساء بقدر ما هي للرجال. أما النظام والاعتدال المنسوبين للنساء فإنهما ليسا بمزيتين مقصورتين عليهن، لذلك فإننا نعتقد أن أفلاطون يعني بالنظام الانصياع والإذعان لما يفرضه الرجل. والحقيقة أن المشكلات النابعة من اختلاف جنس المبدع أو المنشئ للنص الأدبي لا تقل أهمية عن المشكلات التي تخص جنس المتلقي؛ وهي مما خصه أفلاطون بالبحث في الجمهورية وقصر الكلام عليه. ذلك أن المشكلات النابعة من اختلاف جنس المبدع تتعلق برؤيا العالم من وجهة نظر المرأة أساسا، وذلك لأن رؤيا العالم من وجهة نظر الرجل كانت في السابق هي الأساس الذي بنيت عليه كل التأملات في الأدب والفن. ومما لا شك فيه أن الرؤيا النسوية لا بد أن تعكس طبيعة تجربة المرأة واختلافها عن طبيعة تجربة الرجل. وهي تعكس بالضرورة موقف المرأة من اللغة ومن المجتمع ومن نفسها بوصفها، من الناحية الإنسانية، كائنا ً متساويا ً في الأهمية مع الرجل.
وقد أسهم النقد النسوي في وضع أسس معرفية في قراءة الإبداع النسوي على نحو فيه شيء من الاختلاف نظرا ً لتباين الموقف والموقع والتجربة الوجودية بين المرأة والرجل. ويرى أحد الباحثين بأن مسارات النقد النسوي في الغرب شهدت ثلاث مراحل: الأولى كان فيها الأدب النسوي يسعى إلى محاكاة القيم الجمالية (الذكورية) السائدة، والثانية كانت فيها المبدعات يسعين إلى المساواة مع الرجل عند الحديث عن الأدب، أما الثالثة فهي تمثل وعي المرأة بذاتها وقدراتها، وهذا ما حفزها إلى البحث عن التمايز والاختلاف تأكيدا لخصوصية الكتابة النسوية.(2) ولسوف نرى بأن هذا التشخيص للحركة الإبداعية النسوية في الغرب ينطبق إلى حد بعيد على كثير من الكتابات النسوية المعاصرة، وخصوصا ً في البلاد التي تكتب بالعربية.
ولعل اللغة، بوصفها مؤسسة اجتماعية، هي من أهم الظواهر التي اختزنت في داخلها هذه المشكلة وما يرتبط بها وما يتفرع عنها. كما تجلى ذلك أيضا ً في الصيرورة الأدبية للغة في الكتابات النسوية التي أعادت النظر في موقع المرأة الوجودي والاجتماعي من جهة؛ كما تجلت في كتابات الرجال عن المرأة. ففي حقل النقد النسوي، جرى طرح مفهوم جديد هو التمركز الذكوري، أوandrocentrism المدعوم بالموقف الأبوي patriarchal attitude. وقد تغلغل هذان المفهومان في الحاضنة المؤسساتية للغة، فتحول هذا البعد، أعني بعد التمركز الذكوري، إلى مهاد أساسي قد يكون ضمنيا ً أو صريحا ً في شتى صور التعبير اللساني في كل اللغات. ولم يحدث حتى الآن أن نجح الموقف المناهض للهيمنة الذكورية في أن يرسخ مفهوم التمركز الأنثوي، أو gynocentrism، على الرغم من جهود أديبات مثل سيمون دي بوفوار وفرجينيا وولف وجوليا كريستيفا وديبورا كاميرون وسواهن كثيرات. فمثلا، يعدّ النص الأدبي عند كريستيفا ُنسيجا لإنتاج مادة اللاشعور التي تعكس شبكة للدلالات، وهذه الشبكة، كما تقول كريستيفا، مبنية على إرث المرأة الأيديولوجي المشبع بالتقاليد والعادات ل "أنا" الكاتبة التي تعكسها الحقول الدلالية للنص. وأما مناقشاتها المعمقة فقد تضمنت البديهيات التي لا تحرر الجنس البيولوجي من أن يكون ملكا لأحد الجنسين. ولذلك فقد كانت وجهة نظرها حول الأدب النسائي ترتكز على الآتي:
أولا : رفض التحديدات البيولوجية التي تعتبر أساسية في التمايز الجنسي، فالمرأة تطالب بالانخراط المتساوي على المستويين الواقعي والرمزي للتعبير عن التحرر الحقيقي للنساء.
ثانيا: النساء، من وجهة نظرها، يرفضن التراتب الرمزي الذكوري باسم التمايز.
ثالثا ً: رفض اللغة الجنسانية (sexist language) التي هي تجسد وتؤكد وتعزز التمييز ضد النساء أو الإلحاق الأبوي للنساء بالرجال.(3)
ولكننا إذ نعتقد أن ليس هناك من عمل روائي نسوي بعينه يمكن أن يتوفر على كل هذه الشروط التي هي خلاصة الدرس النقدي لعدد كبير من الروايات النسوية المختلفة، التي كتبت في ثقافات ولغات مختلفة، إلا أننا سوف نعمد إلى استقصاء الظواهر النصية التي تعبر عن تمثلات الكاتبة لهذه الحدود الكبرى للكتابة النسوية.
وفي تقديري أن رواية (سيدات زحل) ذات أهمية خاصة في سياق التجربة الإبداعية في الأدب النسوي العربي لأنها استوعبت المشكلة المركبة، لا بل المعقدة للمرأة في مجتمعنا العربي والعراقي. فالرواية إذ تتناول المشكلات الاجتماعية والسياسية في زمن الاضطرابات العظمى، زمن الحروب المفجعة، من وجهة نظر امرأة تروي الأحداث التي عاشت القسم الأعظم منها، فإنها تجعل من تلك المشكلات ذات طبيعة موضوعية من خلال ربطها بالتجربة الذاتية المباشرة. وهذا ما جعل الرواية تلتزم بمعايير روايات الصوت الواحد في شكلها الفني وفي لغتها. وإذا كانت الرواية قد استثمرت أسلوب السرد الذاتي بضمير المتكلم بصورة أساسية، فكان ذلك الضمير يعود على بطلة الرواية حياة البابلي، فإن هذا الصنيع قد أسبغ عليها سمة الرواية الغنائية التي تقترب كثيرا ً من الشعر، وإن لم تبتعد كثيرا عن جوانب من القيمة الموضوعية للسرد عبر تنويع ضمائر السرد الذاتي، فهناك بعض الفصول التي ترويها شخصيات أخرى من خلال الرسائل المتبادلة مع البطلة فنقرأ على سبيل المثال مقاطع مأخوذة من رسائل شخصيتي ناجي ومنار. ومن خلال المذكرات مثل المقاطع المستلة من كراسات (البنات) الأخريات. وإذ تتمحور الرواية على تجربة امرأة عراقية على أعتاب الأربعينيات أثناء الحرب الأخيرة التي انتهت باحتلال العراق، إلا أنها لا تقف عند حدود زمكان النص، فنرى أن المخيلة والتاريخ والذاكرة قد شكلت أبعادا أخرى في إنشاء نص روائي يتجاوز سقف الواقع الخارجي المشار إليه ليصوغ عالما نفسيا نابضا بالرؤى والعواطف والرغبات المشبوبة والتجارب المريرة. ونلاحظ هنا أيضا أن نوعا من التداخل والعبور من راو إلى آخر، والتنقل بين المذكرات، وسلطة الراوي العليم، قد يجد طريقه إلى تمظهرات السرد في الرواية. وهو ما سوف يحظى بتحليل كاف في دراسة قادمة.
2. تفكيك العنوان
ولسوف نبدأ البحث، أولا، في الممكنات الدلالية الوسيعة التي تنبثق من العنوان نفسه. والمعنى الأول للعنوان، هنا، هو اسم لمسمى هو النص السردي الروائي الذي انجزته الروائية لطفية الدليمي. ولن يكون من الحكمة النظر في علاقة التسمية هذه باستخفاف، لأنها جزء أساسي من فلسفة بناء النص نفسه. ونلاحظ أن الكاتبة تبدأ نصها الروائي بنص مواز قصير مأخوذ من صاحب المكابدات الشهير عبد الجبار النفري، إذ تقتبس منه موقف التذكرة على النحو الآتي:
«وقال لي لكل شيء شجر، وشجر الحروف الأسماء، فاذهب عن الأسماء تذهب عن المعاني. وقال لي إذا ذهبت عن المعاني صلحت لمعرفتي.» (ص. 7)
إذن فإن الأسماء شجر الحروف، وإذا كانت الأسماء علة العلم أو معرفة التكوين الأول بحسب القرآن الكريم "وعلم آدم الأسماء كلها"، فإن الوقوف عليها مهم قبل أن يغادرها المتصدي للتجربة الصوفية ليتحقق له الكشف والمعرفة اللدنية. ولسنا هنا بالباحثين عن معرفة لدنية، وإنما نرى في الوقوف على القصد من وضع هذا المفتتح المأخوذ من النفري، أنه ليس سوى مفتاح، أو إشارة أولى لتحولات الدلالة في النص الروائي، وكذلك بوصفه إشارة أولى إلى أهمية التسمية كونها تعطي المسمى صفته وتقرر هويته. لذلك كان علينا أن نبدأ أولا ً بتجلية التحليل الدلالي للعنوان (سيدات زحل) ما تنطوي عليه عملية التسمية هذه من دلالات عميقة.
ففي عبارة العنوان القصيرة (سيدات زحل: سيرة ناس ومدينة) سنقف عند العنوان المركزي المؤلف من المضاف والمضاف إليه أولا، وسنتحدث عن العنوان الثانوي، أو النص الموازي للعنوان ثانيا، فنقول: قد تكون الدلالة في العنوان المركزي محض الإضافة التي تجعل من السيدات مركزا ً لعبارة العنوان، وقد تنصرف الدلالة السطحية لهذا العنوان إلى أن لفظة ’سيدات‘، وهي تسمية تطلق عادة على المتزوجات من النساء، يمارسن فعل السيادة على زحل بحكم الإسناد. وزحل هو العنصر الرمزي الذكوري في الرواية. وهذا المعنى خادع وينقضه التحليل المتعمق لمغزى مثل هذه الإضافة فضلا ً عن أن صيرورة متن النص الروائي نفسها تنقض مثل هذا المعنى بوصف أن العلاقة بين العنوان والمتن الروائي علاقة عضوية متبادلة. لذلك يعمل الاثنان، أعني العنوان والمتن الروائي، بصورة متضافرة في إنتاج دلالة التركيب الإسنادي الكلية. إذن فإن العنوان مكون من لفظتين: هما المسند، المتمثل بلفظة ’سيدات‘ الدالة على جمع المؤنث السالم النكرة الذي يطلق على الإناث من البشر، والمسند إليه المتمثل بلفظة ’زحل‘ الدالة على المفرد المذكر المعرفة وهو من الجمادات. ومن الواضح أن لهذه العلاقة الإسنادية دلالة أولى هي الإضافة التي توحي بأن السيدات هن من يقتصر عليهن معنى العبارة، فالمقصود هنا سيدات زحل وليس سواهن من السيدات. ومرة أخرى نقول إنها إشارة خادعة لأنها تخفي الدلالة الأعمق المتولدة عن الفهم التداولي النصي الناتج من إضاءة العنوان للنص الروائي وإضاءة النص الروائي للعنوان وعلاقة كل من هاتين العمليتين بسياق إنتاج النص ونشره. فالإضافة جعلت المضاف إليه، وهو لفظة اسم الجمع النكرة ’سيدات‘، معرفا ً، أي أن المشار إليهن بهذه اللفظة لسن بذوات صفة محددة تكفي لإخراجهن من عالم النكرات إلى عالم المعارف. وهنا تشتغل التقسيمات النحوية الظاهرية للاسم بوصفها جزءا ً مهما ً من نسق مضمر. فلفظة (سيدات) تعني أنهن يفتقرن إلى القدرة على أن يكتفين بأنفسهم، بمعنى أنهن مجهولات الهوية، لكنهن، وبفضل الإضافة، يغدون معرفات، أو ذوات هوية محددة. أما لفظة ’زحل‘ فإنها دالة على المفرد المذكر المعرف لكونها تشير، ظاهريا ً، إلى كوكب من الكواكب السيارة في المجموعة الشمسية هو الكوكب زحل أو Saturn. من حيث الحجم، يأتي زحل ثانيا ً بعد كوكب المشتري أو Jupiter، [و سوف نستبق القول فنلفت النظر إلى ضرورة أن نلحظ هذا الثنائي المكون من الكوكبين زحل والمشتري الذي سيتكرر مرة أخرى في مستويات القراءة اللاحقة، ولنلحظ أيضا ً علاقته بثنائي آخر في الرواية هو ثنائي ناجي الحجالي الذي يقابل زحل وقيدار البابلي الذي يقابل المشتري]. وبذلك فإن المعنى الضمني الأساسي لصوغ العنوان على هذه النحو هو أن الاسم المفرد المذكر الجماد ’زحل‘ قد قام بعملية منح هوية للفظة ’سيدات‘ الدالة على كائنات حية أنثوية، وذلك من خلال عملية الإضافة نفسها. ومن هنا فإن زحل، بوصفه مذكرا ً، هو المركز في العلاقة الإسنادية مع لفظة ’سيدات‘ وليس العكس. فهو ما يمنح هوية للسيدات. وهذا هو المعنى الخفي الحقيقي والمضمر لعملية الإضافة أو الإسناد في هذا العنوان.
لكن ما الدلالات الثقافية غير اللسانية التي تتخفى تحت سطح الإضافة إلى اسم ’زحل‘؟
يظهر التحليل أن هناك ثلاثة احتمالات لمغزى الإشارة إلى زحل في عنوان الرواية. الأول هو الإشارة إلى الكوكب المعروف بوصفه جرما سماويا، ولكن ما يميز هذا الكوكب عن الكواكب الأخرى هو حلقاته المتعددة الجميلة التي تحيط به حتى ليمكن القول أنه الكوكب الأجمل، ولعله في هالاته تلك يشبه الطائر الذكر بريشه الملون الزاهي الذي يجعله أجمل من الإناث من جنسه، ولنتذكر في هذا السياق الديكة والطواويس التي تتبختر بين إناثها، أو لنقل (سيداتها). وتأتي أقمار ’زحل‘ وعددها 32 قمرا ً، لتكون ’توابع‘ له، تدور في فلكه كما تدور الإناث في فلك الطائر الذكر أو حوله.(4) وهذا أحد التفسيرات المهمة التي ترتبط على نحو وثيق بإشارات النص الذكية إلى عملية الدوران في فلك ’سيد‘ واحد نتيجة الافتقار إلى الهوية، أو إلى ما يحقق الذات على نحو مستقل عن الرجل. والآن، كيف يتفاعل متن الرواية مع هذا التحلي؟ في مطلع الرواية، نلتقي بحالة حياة البابلي، تلك المرأة التي شارفت على الأربعين، وهي (سيدة) تفتقر إلى اليقين بخصوص هويتها، نقرأ:
"- أأنا حياة البابلي، أم إنني أخرى؟؟ ومن تكون آسيا كنعان التي أحمل جواز سفرها؟
- أنتِ أنتِ، أجل حبيبتي، أنك هي، أنتِ حياة، ثقي بي ... أنتِ حياتي."
(ص 9)
وهذا المفتتح للمتن الروائي يفصح عن مشكلة الهوية التي تعد ثيمة أساسية من ثيمات الرواية. وستتردد هذه الثيمة في مواضع كثيرة من المتن الروائي، وعلى لسان أكثر من شخصية. وثيمة فقدان الهوية أو الشك بماهيتها تجعل الشخصية ممزقة، وتتناهبها المخاوف لأنها تعاني من الشك العميق في طبيعة هويتها: أهي حياة البابلي أم آسيا كنعان؟ أم أنها شخص آخر؟ ولكن من يخاطبها، وهو ناجي الحجالي، يؤكد لها أنها هي نفسها حياة البابلي، وهذا اسم علم دال على هوية ولا يحتاج إلى إضافة لكي يكتسب ماهية خاصة به. لكن محدثها يضيف قائلا: "أجل حبيبتي، أجل حبيبتي، أنك هي، أنتِ حياة، ثقي بي ... أنتِ حياتي."، فيذهب إلى صيغة الإضافة لشخصه في لفظتي ’حبيبتي‘ و’حياتي‘ لكي يظهر أن حقيقة هويتها لا شك فيها؛ ولكنه وهو يفعل ذلك يقوم بعملية إلحاق لشخصيتها بشخصيته، وذلك في موضعين في حديثه القصير، فهي ’حبيبتي‘، و’حياتي‘. وهذا يثير مسألة ذات طابع نفسي وفلسفي هي قدرة الذات على أن تعرف ماهيتها بالاسم المجرد دونما إضافة، فلا يكفي أن يؤكد لها أنها حياة البابلي نفسها، بل ينبغي أن يقرن ذلك بإضافة اسمها إلى ضمير التملك (حبيبتي، حياتي) حتى يستقيم منطق الإلحاق؛ والنسق المضمر لألحاق الأنثى بالذكر.
ويرد اسم زحل على نحو غامض ومثير للشك في مطلع الرواية، فنقرأ شيئا ً عن الاضطرابات السياسية والاجتماعية وانعكاساتها النفسية التي تواجهها حياة البابلي، بطلة الرواية. وفي لحظة مواجهة مع الخوف، تفتح مزاليج الباب الأربعة لتخرج من سردابها، أو لنقل عالمها الداخلي، إلى:
«الحديقة شبه عمياء ... تعثرت لدى الباب بمظروف أزرق فتحته فإذا بداخله بطاقة عليها رسم لكوكب زحل، ما يعني هذا؟ ولماذا زحل؟ قرأت ما كان مطبوعا ومنسوخا عن بريد ألكتروني:
عزيزتي حياة،
صعقتنا عودتك المفاجئة إلى بغداد، أرجو أن يكون هذا القرار نهاية آلامك، وأن لا يثقلك الندم، أعرفك أنت لا تقترفين ندما ً قط، أهنئك بميلادك التاسع والثلاثين الذي لن أنساه،
راوية التي تحب جنونك وجنونها
من تكون راوية؟ أسمها يراوغ ذاكرتي، يلتمع ثم يتلاشى فلا أتوصل لشيء، قلت سأعرفها عندما أتأكد أولا ً من أكون. سأتذكرها حالما أفتح كراسات الحكايا وأجد أطيافهم تحوم فيها." (ص 11)
في هذا المقطع الذي نجد فيه تكرارا ً لثيمة الشك بالهوية الذاتية، يرد ذكر زحل في المتن الروائي للمرة الأولى. ولكنه هنا يرد مثل علامة رمزية لكونه يرد بصفة رسم لكوكب زحل على بطاقة قد تشير إلى جماعة قد تكون سرية أو علنية، وسنكتشف لاحقا ً أن الرسم رمز لأسرة البابلي نفسها. ولكن نلاحظ أن الراوية تتساءل عن معنى وجود بطاقة تحمل رسم زحل؟ ولماذا زحل؟ دون أن نجد جوابا لهذين السؤالين. وقد يقول قائل أن هذا الإنكار بمعرفة المقصود برسم زحل ينفي وجود علاقة بين الشخصية وما يرمز له الكوكب زحل، ولكن بقية المقطع توضح أيضا أن الشخصية لا تكاد تعرف شيئا عن راوية، وهو اسم إحدى الشخصيات، التي تكشف رسالتها إلى البطلة عن علاقة شخصية وثيقة تربطها بحياة البابلي، ويؤكد سياق الأحداث اللاحق وجود هذه العلاقة ورسوخها. إذن فإن حياة، التي لم تكن متأكدة من هويتها الخاصة نفسها، ولم تتعرف على إحدى صديقاتها، سوف تنكر معرفتها بالدلالة الرمزية لزحل، وهي بذلك لا تعبر عن جهل حقيقي بماهيتها الذاتية بقدر كونها تعبر عن حالة مضطربة نفسيا تكاد تقترب من فقدان الذاكرة، وتؤكد حياة ذلك بقولها: "نسيت اسمي ونفسي ومن أكون." (ص 21) مما يفصح عن أن هناك صلة وثيقة بين حياة البابلي وزحل، وهي صلة علاقة الإضافة المفضية إلى التعريف بالنقيض. أعني أنها صلة رمزية يمكن اختصار مضمونها على أنه النسق المضمر لعملية إلحاق المرأة بالرجل. لكن ما يميز هذا الطرح لنسق الإلحاق الذكوري هذا هو أنه يقدم هنا من وجهة نظر نسوية لا تذهب إلى حد التنكر للعلاقة مع الرجل أو نفيها بالمطلق، وإنما على العكس ترى أن هذه العلاقة علاقة وجود وهوية بالنسبة لها، ويفترض أن يكون كذلك بالنسبة للرجل. ومن الواضح هنا أن الإضافة إلى زحل في العنوان إنما هي إضافة إلى رمز ذكوري صريح، مما يجعل من هذا العنوان البسيط ظاهريا ً مكونا ً من ثنائية ضدية أو binary opposition على أكثر من مستوى تمنحه توترا دلاليا خاصا. ولعل هذا العنوان على قصره، وبدعم من متن الرواية نفسه يختزن في أعماقه مفهوم الصراع بين الجنسين منذ الأبد وإلى الأزل.
لقد مر بنا التعريف بماهية زحل من الناحية الفلكية. ولكن من الناحية الأسطورية، فإن ’زحل‘، في الميثولوجيا الإغريقية والرومانية، إله الحراثة والبذار القديم. ولنلاحظ هنا العلاقة الضمنية الخفية بين الحراثة والبذار من جهة والعملية الجنسية من جهة أخرى. فآلة المحراث تماثل آلة الذكورة عند الرجل، والشق الذي تحدثه الحراثة في باطن الأرض وإلقاء البذور في رحمها يماثل عملية الممارسة الأيروسية، ونتيجة العملية هي النماء والتكثير في كلتا الحالتين.
وفي بعض الأساطير المتأخرة، يجري التعريف بزحل بالارتباط مع الإله الإغريقي كرونوس، Cronus الذي يذهب إلى إيطاليا بعد أن عزله ابنه زيوس، Zeus (وهو في الميثولوجيا الرومانية جوبيتر Jupiter) ليحكم في عصر ذهبي من السلام والسعادة التامين.(5) وهناك احتفالات سنوية تتسم بالوحشية تقام لمدة سبعة أيام تحت اسم عيد الإله زحل أو ساتورن وتحمل اسم Saturnalia. ولنلاحظ هنا أن اسم جوبيتر يدل على المشتري، وهو الكوكب الأول من حيث الحجم في النظام الشمسي، مما يظهر تناسخ ثنائية زحل/ جوبيتر، أو زحل والمشتري في الميثولوجيا وفي علم الفلك. وهذه الملاحظة تظهر تداخل البعد الأسطوري مع البعد الفيزيائي الفلكي. ويرتبط هذان البعدان في المتن السردي للراوية مع شخصيتي ناجي الحجالي وقيدار البابلي. ولنلاحظ علاقة اسم (ناجي) بمعنى النجاة أو الهروب من قدر ما، وأما اسم قيدار البابلي، إذا ما جردناه من حرفي الزيادة: الياء والألف، فإنه يشير بقوة إلى علاقة ضمنية مع القدر، بل هو اسم القدر نفسه. فإذا كان قيدار البابلي صورة رمزية للمشتري، فإنه يقترح علينا النظر في المستوى الثالث من دلالات العنوان، أعني المستوى الذي يربط بين مصائر الناس ومواقع النجوم والكواكب في علم التنجيم.
وإذا كنا قد تحدثنا عن الدلالة العميقة المترشحة عن تحليل بنية العنوان المركزي، فإننا سنبحث عن المغزى الأعمق لدلالة العنوان، ولن يكتمل هذا دون الذهاب إلى ما هو أبعد من الدلالتين الفلكية والميثولوجية لاسم زحل. وهنا تأتي دلالة ثالثة مقترحة نجدها فيما يطلق عليه اسم علم التنجيم، أو astrology. ففي هذا الحقل من الممارسة النفسية والروحية، تكون لزحل معاني أخر مضافة تعزز البعد الرمزي في دلالة العنوان. فيوصف زحل، على وفق علم التنجيم، بأنه جرم له الفلك السابع، وبأنه مذكر نهاري ترابي بارد يابس مفرط، فهو يطلع من النور إلى الظلمة، وهو نحس مطلق، وشر بحت، وصلاحه بالمشتري، (ولنلاحظ هنا عودة العلاقة الثنائية زحل والمشترى) الذي يحول طبيعة زحل إلى الخير ويحل ما يعقد من الشر في مواليد النهار. فهو مذكر، طلوعه بالعشي من أفق المغرب كونه في الناحية المذكرة من وتد السماء إلى وتد الشرق ومن وتد الأرض إلى وتد الغرب. ويصور زحل، رمزيا، على هيأة رجل عجوز بساقين يشبهان الوتد ويد منجلية الشكل، وهو مما يذكرنا بزحل في الأساطير. ومنزل زحل في برجي الدلو Aquarius والجدي Capricorn.(4) وهو يدل على الولاية والتوحد والتفرد والوعود والمودة والعقل والمكر والتجربة في الحيل، وعلى التعب وترك الفرح والطرب. ليس هذا فحسب، بل أن النظر إلى كوكب زحل يورث الحزن، فشروقه على هيئة رجل أسود في كساء أخضر أقرع الرأس في يده منجل. وبهذا الوصف التنجيمي لزحل، تكتمل صورة المكونات الموحية بتعدد صور الدلالة في العنوان. فالسيدات، اللائي يمثلن الذات الجمعية النسوية، يتحولن إلى توابع لإله واحد هو زحل، ذلك الذكر المفرد، الممعن في خيلائه، المزهو بنفسه، الذي هو نحس مطلق، وشر بحت والذي يتميز بولعه بالتوحد والتفرد والوعود والمودة والعقل والمكر والتجربة في الحيل، وهو الكائن الأسطوري الذي يورث النظر إليه الحزن، وهذا الكائن هو من يمنح السيدات هويتهن، وينقلهن من حالة التنكير إلى حالة التعريف. ومن المثير للدهشة هنا أننا نرى أن حياة البابلي تقضي جل وقتها في البحث عن رجلين هما: عمها قيدار البابلي، وحبيبها الأثير ناجي الحجالي في محاولة منها لتكتسب منهما تعريفا لوجودها الذي يفتقر إلى الهوية الذاتية. فحياة البابلي تعبر في مواضع عدة من المتن الروائي عن شكها بهويتها، مما يمنح رحلة بحثها عن الرجلين، أو لنقل الكوكبين، ناجي وعمها قيدار البابلي سمة البحث الأسطوري عن هوية الذات، وعن النجاة من القدر الغاشم. ففي مقطع آخر يتجسد هذا الشك بالهوية في الآتي:
«أنا الآن حياة، رائحتي رائحتها، وجلدي جلدها، وصوتي؟ أيشبه صوتها؟ أصرخ: حياة ... حياة. ولكن يا امرأة، هبي أنك صدقت كونك حياة، ألا يحتاج الأمر إلى أحد يؤكد ذلك؟" (ص 19)
هنا تتضح صورة الالتباس النفسي المعبر عنه بذلك القلق بين الشك واليقين، وينتقل السؤال الذاتي عن هوية الراوية إلى سؤال وجودي أعمق يتجاوز الموقف الآني للشخصية هو: "هل يعرف الآخرون من نكون حين نجهل ذواتنا؟ أيمكن أن يعرفنا الآخرون أفضل مما نعرف أنفسنا؟" (ص 19) وحين تستعيد حياة شيئا ً من ثقتها بنفسها، وتبدأ في النظر إلى وجهها وملامحها بما في ذلك عيني وشعر حياة البابلي، تنتقل الراوية إلى أسلوب الميتافكشن حين تصرح الراوية التي لا تخفي أنها كاتبة النص، وهي في الوقت نفسه حياة البابلي، قائلة:
"أنا حياة، وهذه كراساتي التي شرعت بكتابتها منذ سنوات ودونت فيها حكاياتنا، حكاية عشقنا الصاعق، قصص الفقد وأوجاع السجن والاختفاءات، عار الخصاء وبتر اللسان، خزي اغتصاب البنات، دونت أكثر من ثلاثين كراسة طوال كارثة الحصار وحرب الاحتلال، وكنت كلما أنهيت واحدة منها وعدت إليها أفاجأ باختفاء الاسماء، فتختلط الأحداث وتمحي أسماؤنا جميعا ً وتصبح الحكايات منسوبة للجميع فأعيد تدوين الأسماء لتختفي مرات ومرات حتى يئست من محاولاتي. (ص 20)
إذن فإن وعي الكتابة حاضر بوصفه أحد أهم تجليات الميتافيكشن. ولنلاحظ أيضا ً أن غياب الأسماء ليس من فعل الكاتبة، وإنما هو حدث يتسم بالغرابة التي يسمح بها النص الروائي الذي يتجاوز سقف الواقع الموضوعي واشتراطاته. ورغم ذلك فإن اختفاء الأسماء يعيد مرة أخرى ربط الأحداث بالمسار الاجتماعي والسياسي العام، ويواصل عملية التناسج الدقيق بين لحمة الذاتي وسداة الموضوعي. فهو إشارة إلى أن الأسماء ليست مهمة بالقدر نفسه الذي نجده في بشاعة الجرائم التي حدثت للشخصيات، وهي جرائم تتوارثها كل شخصية دونما اعتبار لكونها قد ذاقت مرارة تجربتها بنفسها أم لم تذقها! وو ما تركته تلك الجرائم من آثار مدمرة على تلك الشخصيات. ولسوف تستمر الراوية في الحديث عن هذه الظاهرة العجيبة، فنقرأ:
"أرعبتني فكرة ضياع الأسماء واختلاطها وعشت رعبا ً مضاعفا ً عشرات المرات، فقد يكون ما حدث لهالة في سجن أبي غريب قد وقع لي وما فعله رجال القاعدة بمنار وأهلها هو ما حدث لراوية ولعل ما جرى للمى هو ذات ما حدث لهيلين، وما فعله السجانون بأمي في أول السبعينيات قد يكون ما حدث معي على أيديهم في التسعينيات." (ص 20)
إذن فنحن هنا في مسار سردي يجعل من تبادل الأدوار نوعا ً من الخضوع القدري للدوران في فلك الجريمة والانتهاك اللذين يمارسهما الآخرون علينا. وهذا الأمر سوف نناقشه لاحقا.
ولو عدنا إلى العنوان الثانوي أو الموازي، وهو: "سيرة ناس ومدينة"، فإننا نلاحظ أن هذا العنوان الثانوي لا يظهر على الغلاف الخارجي، وإنما نجده في الغلاف الداخلي. وربما يكون عدم ظهور العنوان الموازي على الغلاف قد حدث سهوا، ولكن ذكره في الصفحة الداخلية يشير إلى أن الكاتبة تنظر إلى روايتها على أنها سيرة ناس ومدينة، فهي إذن ليست سيرة ذاتية، فكيف تحولت سيرة الناس الآخرين إلى سيرة ذاتية؟ هنا نجد الكاتبة تتحدث عن كونها قد كرست نفسها لتدوين كراريس تتضمن حكايات الناس والمدينة التي هي بغداد. ولأنها جزء من الناس، ومن سكنة بغداد، وعانت معهم ما عانوه، فقد وجدت فسحة وسيعة للمزج بين السيرة الذاتية وسيرة الناس الآخرين. وإذا كان من وظائف العنوان الثانوي أو الموازي أن يقوم بتحديد مجال العنوان الرئيسي أو يوضح ما يمكن أن يكون غامضا ً من دلالاته، فإننا نلاحظ أن العنوان الموازي في هذا الرواية لا يحدد مجال العنوان الرئيسي، فلا علاقة واضحة بين ما تحدثنا فيه من معاني العنوان الرئيسي والعنوان الثانوي، وهو لا يعد توضيحا ً للنوع الأدبي، وهو هنا فن السيرة، الذي يمكن أن تندرج تحته الرواية لأنها تفتقر إلى الكثير من الشروط الفنية الشكلية والموضوعية لكتابة السيرة. لذلك نرى أن العنوان الثانوي يعمل مثل علامة نفسية خاصة تصرح بأن دافع الكتابة عن الآخرين هو الأصل، ولكنها في القوت نفسه تغيب حقيقة الكتابة عن الذات. فما الآخرون والأخريات في هذه الرواية إلا أقمار تدور في فلك بطلة الرواية ’حياة البابلي‘.
3. تحليل بنية الرواية
لا شك أن الخيارات الشكلية في الأدب والفن تعبر صراحة عن تفضيلات جمالية وذوقية، وهي في الوقت نفسه تنطوي ضمنا على خيارات فكرية وفلسفية تعبر عن رؤيا النص الأدبي. ولذلك فإن تحليل بنية النص الروائي سيمنحنا الفرصة، في نهاية المطاف، لاستنطاق تلك التفضيلات والخيارات الجمالية والشكلية والوقوف على اشتباكهما الجدلي وعلى الدلالات الضمنية المترشحة عن ذلك. ولو عدنا إلى الرواية، لوجدنا أن الكاتبة اختارت شكلا ً معماريا يستند على تقسيم متن الرواية إلى تسعة فصول. وقامت بتقسيم كل فصل إلى أقسام ثانوية. ووضعت عنوانات فرعية لثمانية من الفصول وتركت الفصل التاسع والأخير بدون عنوان. وكانت عنوانات الفصول على الآتي: الأول (الأسماء)، والثاني (بيت البابلي)، والثالث (متاهات)، والرابع (غراب قابيل)، والخامس (كتاب الحب)، والسادس (كتاب زبيدة)، السابع (كتاب قيدار)، والثامن (كتاب البنات). وكل فصل، عدا الفصل الأول، مكون من عدد من الكراسات، وهكذا فإن تفكيك صيغة احتواء الفصل على عدد من الكراسات يحتمل بقوة الإيماء إلى أن الفصل، وهو اسم مفرد مذكر دال معجميا على القطع لأنه عكس الوصل. ومنوط به أن يحتوي على عدد من الكراسات، والأخير اسم جمع مؤنث سالم دال على التكريس والاحتواء والتضمن. فهل تعبر الدلالة الضمنية لمثل هذا التقسيم عن وصف لواقع أن الرجل مهيمن على المرأة ومتحكم فيها، وأن المرأة مكرسة للرجل؟ ثم ألا تعبر هذه الصيغة عن هيمنة اللاوعي الجمعي الذي يحضر من خلال عملية التأويل على وعي النص الذي يستخلص من تحليل دلالات النص؟ نترك الإجابة للقارئ، ونعود لنقول أن خلو الفصل التاسع من العنوان لم يكن نتيجة سهو، وإنما هو أمر مقصود وله دلالته التي سنتحدث عنها لاحقاً.
عمدت الكاتبة إلى تقسيم كل فصل من الفصول التسعة على النحو الآتي: احتوى الفصل الأول (الأسماء) على أربعة أقسام ثانوية هي: الأول حمل عنوان (بغداد نيسان 2008)، والقسم الثاني معلم برقم (2) فقط، والقسم الثالث حمل عنوان (هوامش في أوراق بغداد 2003)، والرابع معلم أيضا بالرقم (4) فقط. أما الفصل الثاني (بيت البابلي) فقد تم تقسيمه إلى كراسات، وفيه خمس كراسات حملت العنوانات الآتية: بيت البابلي، سرداب الرؤيا، شارع الطاووس الأزرق، بيت النساء، برسكا برنار. وكان الفصل الثالث (متاهات) مقسما ً إلى خمسة كراسات أيضا.
إن تحطيم الشكل التقليدي للرواية من خلال بعثرة المادة السردية على النحو الذي تحدثنا عنه يعبر عن موقف نسوي إزاء اللعبة الشكلية، فالشكل المتقن، والصارم في تصميمه الهندسي يعد تعبيرا ً عن النزعة الذكورية المركزية التي وضعت الأسس الأولى للشكل الروائي، وترى الحركة النسوية أن الشكل وسيلة هيمنة لأنه يشكل بابا فتحه الرجل، وعلى الجميع أن يلجوا بوابة كتابة الرواية منها. إذن، يتجسد الموقف النسوي هنا من خلال تقديم شكل فني يفتقر إلى الإحكام والضبط المألوفين في السرد الروائي. ويجسد هذا الصنيع نوعا ً من النسق المضمر، لكنه هذه المرة نسق مضمر كامن في شكل النص الأدبي كما تمظهر في رواية (سيدات زحل). أليس كذلك؟
الهوامش والملاحظات:
- لطفية الدليمي، (2010) سيدات زحل. فضاءات للنشر والتوزيع، عمان.
- أنظر كتاب:
Gramley، Stephan and Kurt-Michael Pätzold (1992) A Survey of Modern English London، Routledge. P. 275.
- أنظر ما كتبته جوليت ميتشل في: Mitchell، Juliet، Femininity، Narrative and Psychology in Lodge، David and Nigel Wood (1988) (eds) (Modern Criticism and Theory: A Reader.(2edn) Longman. Harlow. ( pp. 388- 392).
4. أنظر: Microsoft ® Encarta ® Reference Library 2005. © 1993-2004 Microsoft Corporation.
5. بصدد الطبيعة الملتبسة لزحل، أنظر: Biedermann، Hans، (Ed. James Hulbert، Dictionary of Symbolism: Cultural Icons & the Meanings Behind Them. Meridian Books. New York. Item (Saturn).
6. عبد النور إدريس " النقد النسائي بين فرجينيا وولف وجوليا كريستيفا" الأنترنيت. موقع القصة السورية. تاريخ الدخول 20/12/2007.