عرفتُ عز الدين نجيب بوصفه ناقداً وفناناً تشكيلياً، له مكانة راسخة في هذا المجال، وكنتُ على وعي بفترة اعتقاله في عهد مبارك (بعد اعتقالين في عهد السادات)، وأعرف أنه عانى كثيراً في المعتقل آنذاك، ثم أدركتُ أنّ الرجل كاتب أيضاً. وعندما تقرأ مجموعته «نقطة صغيرة قرب السماء» (صدرت أواخر عام 2015)، تحتار في وصفه، ففي سرده يشعر القارئ بأنه يشاهد لوحة. ولا أقصد هنا مسألة الوصف أو القصة المشهدية، إذ إن ما يكتبه/ يرسمه عز الدين نجيب يتسم بأسلوب لا يخص أحداً غيره مما يجعلنا نلتفت إلى الإهداء الذي يشير فيه الكاتب إلى أنّ المجموعة «كتبتني أكثر مما كتبتها». ومرة أخرى، ليس المقصود هنا قراءة عتبات النص بل الهدف هو التأكيد على سلاسة الكتابة وعدم توجهها نحو الافتعال للحديث عن الفن التشكيلي بأي شكل من الأشكال. ربما لا بد من التوضيح أن عز الدين نجيب ليس جديداً على المجال الأدبي.
ففي المقدمة القصيرة التي استهل بها المجموعة، يطرح السؤال الذي يطارد القارئ، لماذا لم تظهر هذه المجوعة (التي تضم ثلاث عشرة قصة) قبل ذلك، على رغم أن له مجموعتين نشرتا في الستينات والسبعينات من القرن العشرين؟ ويوضح قائلاً أن مشروعه الفني استحوذ على المساحة بأكملها فأخلص له، لكنّ المفارقة أنّ ما قد يبدو أنه اختيار وتفضيل، لم يكن سوى إزاحة وتأجيل.
تأتي مجموعة «نقطة صغيرة قرب السماء» بوصفها جزءاً مكملاً لهذا المشروع الفني، لا تنفصل عنه بل تكرس رؤيته للعالم وتُرسخ توجهاته السياسية والاجتماعية. ومن هنا تظهر مسحة السيرة الذاتية- ممثلة في كون السارد غالباً فنان تشكيلي- لتعمل على توضيح مسار الفرشاة، والعوالم التي استلهمت منها ألوانها. فيتجاوز الحكي مهمته في كونه مجرّد بوح وفضفضة ليلقي الضوء على الكيفية التي تربط بين اللوحة والعالم، حتى أنه أحياناً ما يبدو الأمر وكأن العالم يقلد الفن (كما ذهب أوسكار وايلد) وهو ما جاء واضحاً في قصة «شجرة الدوم» التي توحد فيها الانسان بالأرض، فأثبت حقه فيها. أو في قصة «الزمن المفقود» التي يندمج فيها القارئ مع تفاصيل محاولة إزالة طبقة من الورنيش الرخيص عن لوحة تُصور الأب والابن. في محاولات عاصم الفنان لإزالة هذه الطبقة يدرك أن للزمن طبقات لا يمكن فصلها: «لقد أراد أن يزيل طبقة الورنيش النحاسية المؤكسدة باعتبارها العازل بين نقاء الماضي وبين عتامة الحاضر، ولم يدرك أن تلك الطبقة هي منتج مركب للخمسين عاماً التي مرت على الماضي فجعلت منه خبيئة، والتصقت بجلده حتى توحد معها وأصبح من المستحيل محوها...» (101
تتحول فلسفة الرسم والرؤية المباشرة للطبيعة بأكملها إلى جمل سردية متماسكة ترسخ العلاقة بين الفنان والعالم الذي يتفاعل معه ويؤمن به، مثلما فعل ماك ايوان في روايته «أمستردام» (حائزة جائزة المان بوكر عام 1998). فيها يأخذنا الموسيقار لينلي في تفاصيل تأليف سيمفونية الألفية. ينجز عز الدين نجيب تحدياً كبيراً بسلاسة حيث يحوّل جنساً فنياً إلى سرد، فتدخل معه في تفاصيل الرؤية الفنية، والإطار الذي يحكم فلسفة الفن. وفي الوقت ذاته لا يتخلى عن التوجه الاجتماعي المناصر للبسطاء والمهمشين، فلا ينبغي أن ننسى أنّ عز الدين نجيب هو من نجح في إنشاء علاقة وثيقة بين فلاحي مصر وتحديداً كفر الشيخ وبين قصر الثقافة الذي تولى إدارته في الستينات من القرن العشرين. ففي قصة «عروسة مريم» مثلاً تظهر هذه العلاقة بوصفها قائمة على الندية والتكافؤ وليس مجرد تعاطف مع البسطاء أو انتصار لهم. وفي هذا التضامن مع بسطاء يشكّلون ملح الأرض تتحول الطبيعة من صامتة إلى مؤنسنة، فتنتفي سمة النقل وتظهر سمة التفاعل الحقيقي كما ظهر في «شجرة الدوم» وفي «عشيق النخلة». إلا أن ذروة أنسنة الطبيعة- التي تدفع الفنان إلى الدخول في جدلية أفكار- تظهر في القصة التي تحمل اسم المجموعة «نقطة صغيرة قرب السماء».
المدهش في هذه المجموعة أنها كُتبت في نفس واحد في 2015 كما يقول الكاتب في المقدمة، فيما عدا القصة الأولى وعنوانها «أيقونات جبلية» (كُتبت في عام 1988). وعلى رغم هذه الفــجوة الزمنية لا يظهر أي اخــتلاف جذري في الرؤية أو اللغة، بل يســير الأمر بســـلاسة وكأن الكاتب يســـــتكمل ما بدأه بالأمس. بدأ الفنان في شبابه بالسرد ثم انتصر الفن التــشكيلي ليعود ويكشف عن نفسه في جنس أدبي مرة أخرى. «نقطة صغيرة قرب السماء» هي دمج اللوحة مع القصة في انجاز يتسم بالصوت الهادئ والألوان الواضحة.