يضعنا كتاب الناقد عواد علي “المسرح والتخييل الحر” أمام فضاء إشكالي لتداول مفهومي للقراءة والتلقي والمشاهدة، فالكتاب يسعى إلى تسويغ فكرة الحديث عن سردانية المسرح من خلال التخييل، ومن خلال الكشف عن علاقة هذا التخييل مع التاريخ والميثيولوجيا من جانب، ومع الأسئلة التي ظل المسرحيون يثيرونها حول أهمية المسرح بوصفه فنا شاملا في تجاربهم الإخراجية المتنوعة من جانب آخر، لأن المسرح نص وعرض وتقنيات وتحولات، وهو ما يصطنع لسياق الكتابة عنه، وفيه مجال يحتاج إلى التوصيف، وإلى نوع من التجنيس المهني، إذ لا يمكن فصل هذا الجانب “المهني” عن المسرح، بوصفه جهازه الاستعمالي والحرفي، وفضاءه التصميمي الذي يخصّ عمران المشهد، وحركة الممثل والموسيقى والديكور، فضلا عن التقنية الخاصة في تحويل سردية الحدث إلى أفق تصويري، وهذه آليات مهنية أكثر من كونها مخيالا مجرّدا، أو ممارسة مفتوحة للكتابة.
إشكالات جنسانية
يحتوي الكتاب، الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، على فصلين، يحاول من خلالهما الناقد عواد علي أن يلامس الكثير من إشكالات جنسانية للمسرح وعلائقه، حيث يكشف في الفصل الأول منه عن قراءاته الواسعة لعدد من التجارب المسرحية، والتي تنطوي على أفكار دأب عواد علي على مقاربتها في اشتغالاته “السرد- مسرحية” وتقصي أسئلتها، مثل المسرح العربي وتكييف ألف ليلة وليلة، بيانات المسرح العربي/ التأصيل والتأسيس، من السرد الحكائي إلى النص الدرامي، المسرح العربي وردود الفعل إزاء الكولونيالية، فضلا عن الحديث عن تجارب إخراجية في المسرح العربي وغيرها.
هذه المقاربات تدخل في الإطار الثقافي للفاعلية المسرحية، وبوظيفتها في مجال النقد الثقافي، إذ انحنى المؤلف، عبر وظيفة الناقد الحفري، على كشف الكثير من أنساقها المضمرة، ولا سيما تلك التي تخص “صورة أميركا في المسرح العربي والعراقي”، وكذلك موضوعات “المسرح العربي ومقاربة القهر السياسي والاجتماعي”، “مسرح الكباريه السياسي”، “الرقابة وأنماط القمع والتدجين”، “الجسد في المسرح النسوي العربي”، والتي تحتشد فيها الكثير من الإحالات والاختلافات، بما فيها الإحالة على اليومي والفلسفي والجمالي، فضلا عن الاختلاف في النظر إلى “محنة الوعي”، وقدرة التخييل على أن يكون استعارة كبرى للتورية داخل شفرات وعلامات ومجازات لمواجهة ما يجري من قبح وعنف وكراهية في واقعنا العربي.
وحتى الفصل الثاني من الكتاب، الذي حاول الناقد علي أن يخصصه لـ”مقاربات قضايا مسرحية” لم يكن بعيدا عن سياق أسئلته النقدية، إذ عمد إلى تسليط الضوء على قضايا تدخل في صلب المهنية المسرحية، والهوية الثقافية لها، فكتب عن “المسرح ما بعد الدرامي”، و”تمثلات الإنكار من الفلسفة إلى المسرحة”، و”التجريب المسرحي والتخييل الحر”، و”المنظور بين الإنتاج والتلقي في المسرح”، و”الإخراج المسرحي والقراءة المنتجة للنص”، وغيرها من القضايا التي تشغل اهتمام المسرحيين تأليفا وفكرا ونقدا وإخراجا، ولا سيما في الحديث عن موضوع إشكالي ودائب الحضور في الفضاء المسرحي، والذي يتعلق بـ”العقدة الشكسبيرية”، فالناقد حين يبحث عن “هوية بديلة لشكسبير” فإنه يكون أكثر وعيا بطبيعة هذه العقدة من جانب، وبتواتر القراءات والمعالجات للحدث وللشخصية الشكسبيرية، والتي ظلت، منذ عقود طويلة، مثارا للجدل، ولزوايا النظر في التعاطي مع مهيمناتها الأسلوبية والتاريخية والنفسية.
نقد يكشف سردانية المسرح
هذا الكتاب الغني في مرجعياته، وفي أسئلته يضع القارئ العربي والعراقي أمام جدّية النظر إلى الخطاب المسرحي، ليس لأنه فعالية ثقافية تآلف معها الجمهور، بل بطبائع التغيّرات التي واجهها هذا الخطاب في مجاله الثقافي والتوصيلي، وواجهها أيضا العرض المسرحي بوصفه التجسيد المادي والتقني للمسرح، فالحديث عن “المسرح الفقير”، مثلا، يدخل في إطار الكثير من الأسئلة التي تخص علاقة المسرح بالأفكار وأوهام التجريب، مثلما هي العلاقة بالإمكانات المحدودة، والتي يمكن من خلالها تحفيز التلقي، والرهان على الوعي في توصيل الرسالة وصناعة الأثر.
الناقد وصناعة النقد
يمكن أن نضع هذا الكتاب في سياق ظاهرة صناعة النقد، فبقدر ما مثل الكتاب مجموعة من مقالات منشورة في العديد من الصحف والمجلات العربية، إلّا أن هوية الناقد بدت فيه وكأنها سعي قصدي إلى تكريس المهنية التي تخص صناعته الثقافية، وتخص مسؤوليته في رصد الكثير من الإشكالات التي تواجه الناقد، والتي لا يمكن المروق عنها بسهولة، فالحديث عن الغطرسة الأميركية ليس حديثا في الحرب أو السياسة فقط، بل هو جوهر موضوع النقد الثقافي، بوصف أميركا مسؤولة عن صناعة العنف والغزو والعولمة، وكل الأخطار التي تعيشها العديد من البلدان ومنها العراق.
ولعل اختيار عواد علي للعديد من المسرحيات التي تخص هذا الموضوع تأتي في سياق تعزيز موقفه، ورؤيته لما يجري حوله، ولضرورة أن تكون صناعة النقد فعلا حقيقيا لأسئلة الحرية والإرادة، ولوعي الضرورة، فالعديد من العروض المسرحية التي تحدث عنها الناقد مثل “إنها أميركا” للمخرج الراحل قاسم محمد، و”ماما أميركا” للفنان محمد صبحي، و”بركات أميركا” لناصر العزبي، و”السيدة الفاضلة” ليوسف شموط و”عنبر و11 سبتمبر” للمخرج القطري غانم السليطي، و”سواني تيكا وصقع أميركا” للمخرج الليبي خميس مبارك، فضلا عن العروض الأخرى التي تدخل في سياق تأصيل مسؤولية الناقد، وتنشيط وظيفته النقدية، ورؤيته للمقموعات والمسكوت عنه في أنساق الثقافة العربية، وحتى عنونة الكتاب لا تضع موضوع التخييل الحر خارج دائرة المسرح، فهي محور اشتغالاته، وهي جوهر وظيفته في التجاوز والمفارقة، وفي إثارة المزيد من الأسئلة، التي تخص وعي المؤلف والمخرج والتقاني، مثلما تخص الجمهور أيضا بوصفه متلقيا للفرجة والأثر، والصانع الثالث للمنظور المسرحي.
جريدة العرب