يرى الناقد المصري أن السرد في سلاسته يوهمنا بأن الموضوع جد بسيط، بينما نجدنا في بئر عميقة، نبحث عن مخرج، غير أن الظلام يعوق سيرنا فلا نستطيع الوصول إلي بر، لنكتشف أنه يجعلنا نعيش داخل الحالة المصرية في سنواتها الأخيرة، بطريقة إبداعية، خبأت في جوانيتها أكثر مما أظهرت في حكايتها.

حين يصنع الثلج سورا في الصحراء

شوقي عبدالحميد يحيى

لم يكن يتصور أي مصري أن تتحول مظاهرة تخرج إعتراضا علي وزير الداخلية، وما يجري من انتهاكات في أقسام الشرطة وخارجها، أنها ممكن أن تتحول للمطالبة برحيل رأس الدولة نفسه. بحماس الشباب خرجت، بعد أن كانت الطرق أمامهم مسدودة، فألهبوا حماس الجميع. ساندهم الكثيرون من مختلف الأعمار، وخرج معهم الكثيرون من مختلف الأعمار. فتحولت مصر كلها إلي ثورة علي الظلم كله، ونبت أمل في حياة كريمة، وعيشة أفضل، بعد أن التهبت الحناجر بالهتافات الرافضة بحسم وإصرار، حتي بات الأمل وشيكا.

وبعد أن أجبر مبارك علي الرحيل، وتولي المجلس العسكري إدارة البلاد، ظن الغالبية أن طريقا جديدا سيسلكونه نحو الرفاهية والحرية والكرامة.

وما أن تمر الأيام حتي تكون أشعة الشمس قد نجحت في هزيمة جحافل الظلام، وبدأ الجميع يتحسس موقع قدمه، ليكتشف كم الطين اللزج المنتشر عليه، يعوق هذا عن السير، ويُسقط هذا في وسط الطريق، ويزرع الخوف في قلب هذا من عبوره للجانب الآخر، فتحول الحلم إلي كابوس، وتحولت الجنة المنتظرة إلي جحيم مستعر تمتد ألسنته لتطال في البداية ذلك الشباب الذي غامر في البداية وقاد المسيرة، ثم امتد اللهب ليطال الجميع.

أدار المجلس العسكري البلاد بنية كانت مخبأة في الصدور، ولم يكن يعرف غير ما عاش وتربي عليه. وسلم البلاد لمجموعة المتأسلمين، بعد أن خرجوا من جحورهم، وقد غشيت أعينهم من شدة الضوء بعد عشرات السنين في الظلام، فكانت رغبة الانتقام، وكانت رغبة التعويض هي دافعهم، فثار عليهم الناس من جديد، وتدعو القوات المسلحة الشعب للمساندة والخروج علي حكم ضج الناس من غبائه، ويستسلم الغالبية لهم من جديد. لتعود البلاد مرة أخري لما كانت عليه. ويصبح سلوك المرحلة هو السلفية، لا السلفية الدينية فقط، وإنما السلفية السياسية أيضا.

سنوات من التخبط والتوهان، أسئلة كثيرة تثار، ولا إجابة قاطعة، حلم بالجنة، يتحول لجحيم في الواقع. الموت في كل مكان، ومن لم يمت بالرصاص، مات بالتفخيخ، أو مات بالحزام الناسف، أو مات بقطع الرؤوس. تعددت صور الموت، وخيم جوه علي البشر.. فاصبح الموت أمنية من لم يمت. وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك علي سلوك البشر، انفلت الزمام، فمن يصر علي التمسك بما كان، ومن يصر علي فرض واقع جديد، غاب الحوار، وأصبح العنف وسيلته الجديدة. مرض أناس. سعي آخرون للانزواء والهجرة. الهجرة الداخلية أو الخارجية.. فقد غاب الانسجام وعمت الفوضي، وطالت السنون.  وذلك ما سعي "محمد سليم شوشة" أن يعبر عنه في روايته "سور ثلجي في الصحراء"[i]، والتي أعتبرها الجزء الثاني في ثنائية (الهروب) بعد روايته السابقة "شَّرود أبيض"[ii] والتي عرض فيها للحالة المصرية بعد 25 يناير 2011، فكانت الجزء التمهيدي والمساعد في فهم والوصول لمرامي "سور ثلجي في الصحراء" بما احتوته من سهولة خادعة، وبساطة ماكرة.

فالسارد، أو الشخصية الرئيسة في كلا العملين: إنسان مثقف، يعيش حالة الهجرة بعيدا عن الناس، سواء كان اختياريا (في شرود أبيض) أو إجباريا (في سور ثلجي)، يتمني الموت بعد أن مات الكثير من حوله. العلاقة القوية والتي تصل للتبعية للأب. يعيش وحيدا بعد هجر الزوجة (بالهجرة لأمريكا في شرود أبيض) أو بالموت (في سور ثلجي). فارقه طفله الوحيد، سواء بالهجرة مع الأم (في شرود أبيض) أو بالموت (في سور ثلجي). أي أن التشابه والتداخل بين العالمين يكاد يكون واحدا. فضلا عن خروج "شرود أبيض" للنور في 2015، وفوزها بجائزة قصور الثقافة، وصدور "سور ثلجي في الصحراء" في 2016، وفوزها بجائزة المجلس الأعلي للثقافة. الأمر الذي يدعونا لقراءة العملين كعمل واحد.كذلك ما نلحظه في إسلوب الكتابة فيهما من  تشتت الرؤيا، فبينما الرواية تدفعنا نحو اليمين، لا تلبث أن تدفعنا جهة اليسار، وبينما يأخذنا حديث السارد الحميم في الحكي، نُفاجأ بشق طريق يسير في اتجاه آخر. يسير السرد بسلاسة وبساطة، توهمنا بأن الموضوع جد بسيط، بينما نجدنا في بئر عميقة، نبحث عن مخرج، غير أن الظلام يعوق سيرنا فلا نستطيع الوصول إلي بر يسوقنا إليه الكاتب، لنكتشف في النهاية أنه يرسم حالة، يجعلنا نعيش داخل الحالة المصرية في سنواتها الأخيرة، بطريقة إبداعية إحترافية، خبأت في جوانيتها أكثر مما أظهرت في حكايتها، فلم يكن أمامنا إلا الاجتهاد في التأويل، حتي نستطيع الوصول إلي شفرة عمل احتل جزأين في صورة روايتين. تتحدث الأولي "شرود أبيض" وهو، العنوان، المنحوت من أرض الواقع الصعيدي، حيث "الشَّرود" هي الغنمة الصغيرة المنطلقة خارج السرب، والتي لا تعرف حتي أمها إلا ساعة الرضاعة، بينما هي طول الوقت شبه شاردة بين اللعب والتنطيط، ومعاكسة (الماعز) الصغيرة مثلها. وهي في الغالب ما تكون بيضاء. وهي نفس الحالة التي وجدنا فيها الشخصية الرئيسة في الرواية "حميد سليمان الشافعي". حامل الدكتوراه التي حصل عليها في سن باكرة، وأصبح أستاذا جامعيا. أي أنه ليس كالشرود الأبيض في انطلاقه العفوي، وإنما هو انطلاق الإنسان المثقف، الواعي لما يدور حوله. وهو ما يدفعنا نحو رؤيته الرمزية وراء رؤيته الواقعية. ونبدأ معه رحلة الهروب خارج إطار الجماعة ونفوره منها، حتي من أقرب الناس إليه، من أمه ذاتها. حيث يجد نفسه مدفوعا لذلك. بعد أن كره الحديث في السياسة التي دمرت حياته، حياة المجتمع {والتقيت شعبان صديقي المقرَّبَ المُمتِعَ قديمًا،المُصِرَّ الآن على الحديث في السياسة برغم استشعاره رغبتي في الابتعاد عنها}. الأمر الذي نري معه العلة النفسية التي تدفعه للهروب بعيدا عن جو لا يستطيع التعايش معه، فاصابه الشعور بالانقسام، وكأنه بداية ظهور المرض{ فاشل في أنْ أكون فردًا عاديًا في  الأسرة يستمتع دون هروب ويمتِّعُهم بحضوره أكثر مِن أنْ يعذِّبهم بالغياب والشُّرود، معلَّقٌ أنا بين ذاتي التي لاأجد لها ملامحَ تدلّ على الحضور الحقيقيّ في دُنيا الناس البسيطة وبين علاماتٍ كثيرةٍ على حضور حقيقيٍّ في هذا الواقع المادّي الذي أبدو فيه غريبًا . في الغالب، أنا نصفُ شبح ونصفُ إنسانٍ، ومِن هنا ينتُج العناء، وكثير مِن المتعة}.

وهو ما كان حتميا بعد تعدد صور الموت من حوله {أناحزين لموت أبي، وحزين لموت كميل، وحزين لموت نصرة، وحزين لموت جورجينا، وحزين لطمع عمي عبدالحميد، وحزين لأنّ كميل لم يخبرني بموعد موته وكذبَ عليَّ لأول مرةٍ، حزين لأنَّ ابني سيعيش مع أمه التي يُسيطر عليها تمامًا الأسود العربيّ المهاجر إلى أمريكا، حزين لأحوال مصر السياسية والصراع الدائم الدامي فيها وفي أغلب الوطن العربي}.

حتي زوجته السورية "ديما"، تلك التي هام بها كثيرا، وأنجبت له "سليمان"، لم تستطع العيش في هذه الأجواء الدامية، رغم ما تركته في بلدها "سوريا". فهربت بابنها، ابنه، إلي أمريكا. وحين حاول استمالتها للعودة بابنه، أرسلت إليه { مشاهد القبض على مسئولين سابقين تدلُّ على تقلُّب الأحوال وعدم استقرارها وأنَّ الصراع في أشدُّه وقد يأخذ مراحلأ خطر في القادم، هكذا علَّقتْ بتعليقات مُقتضبةٍ على بعض الفيديوهات لتبرِّر لي رأيها وأنها على صواب حين فضَّلت الهروب بابنها، وبذكرياتها الجميلة معي كما تدّعي وأكذِّبُها باستمرارٍ. ناقشتُها وقلت لها إنَّ هذه فترةٌ انتقالية ومرحلةٌ استثنائيةٌ والأمور ستكون أفضل، وليس كلّ مَن يعيش في مصر يُقتَلون أولا ينعُمون بالحب والحياة الطبيعية مثلما هي الحال في سوريا كذلك، ولكنها أحيانًا تتجاهل الردَّ، وكأني لم أقل شيئًا، أو أتحدَّث في فراغٍ}. ورفضت العودة.

أما الحادث الأكبر الذي قاده للعمي، وكأن العمي هنا عارض جسماني لمرض نفسي أيضا، وهو الرغبة المكبوتة في عدم رؤية ما يدور من حوله من صراعات هزلية، بلغت ذروتها، عندما اخبره صديقه الحميم "كميل" المسيحي، بأن أحد المتطرفين ترك لهم منشور من شباك المنزل يهددهم ويتوعدهم بطرد المسيحيين خارج القرية. طمأنه السارد بأن هذا لا يمكن أن يحدث، فنحن في دولة. إلا أن خبر ضرب الكنيسة يصله بموت من فيها ومنهم "كميل" وأخته "جورجينا" جميلة القرية، والتي شعر السارد بالميل نحوها. فيصيبه العمي، وتتحطم صورة الدولة {أغلب ما تابعتُ المحطات الإخبارية التي أتلمَّس فيها وجه مصر ومستقبل عيني، سمعتُ أخبار فضِّ الاعتصام وارتحتُ للحسم والقوة التي تحاول أنْ تظهر بها الدولة، وكأنّ عودة الدولة سيعيد لي الابصار أو سيعيدني للماضي بكل تفاصيله}.حيث الربط بين الشخص والدولة، وكأن الكاتب يكشف لنا عن البعد الرمزي لحميد سليمان الشافعي. حيث سري تيار من الارتياح النفسي لدي الجميع حين ثارت الدولة بعد خلع الإخوان المسلمين من حكم البلاد، والفض الشهير لتجمعهم في ميدان رابعة العدوية، والذي كان يمثل أكبر انتهاك، وتحد لقوة وسلطة الدولة. فيحتار حميد لفرحه، هل شعر بالثأر لصديقه المسيحي، أم لعودة الدولة من جديد {لستُ أدري هل أرجو الحسم مِن الدولة رفضًا للإخوان أم حبًا لمصر التي أريد أنْ أشعر بقوَّتها وأخشى الفتنة التي تفرِّقها، تشكَّكت في نفسي كثيرًا كما تشكَّكت في كلِّ شيءٍ حولي}.

قبل أن يرحل مبارك، كانت قوات أمنه المركزي قد راحت تحصد الأرواح وتفقأ العيون. وبعد أن تولي المجلس العسكري، كانت كشوف العذرية في التحرير، والمذابح في العباسية وماسبيرو، وبعد أن تولي الإخوان، كان حرق الكنائس وقتل الجنود علي الحدود. وبعد فض رابعة ومن راح فيها من الجانبين، ومن المدنيين الذين ليس لعم أي ذنب. ظل الإخوان يقاتلون للعودة إلي الحكم بأي ثمن، وندموا علي أنهم لم يًزيدوا من القتل والعنف وكانت البلاد قد انقسمت من جديد في معسكرين متحاربين {بين حين وآخر أختلس النظر إلى الجهة المقابلة حيث قبر أبي، يتحدَّثان عن القتل وفضِّ الاعتصامات وأنا لا أفكِّر إلا في موت أبي، يَشكُو ان القسوة مِنا لنظام ثم في غفلةٍ منهما يؤكِّد ان أنَّ خطأ الإخوان الوحيد أنهم لم يَقتُلوا مثل الذين جاءوا بعدهم، ويتندَّمون على أنهم لم يستغلّوا الفرصة ويقتلوا ويسجنوا المعارضين لهم حتى يستتبّ لهم الحكم، شعبان يعرف أني ضدّ القمع وضدّ القتل ودائمًا ما يحاول الدخول لي مِن هذا المَدخل، وغانم يحاول الدخول لي مِن باب العلم ومسئولية أستاذ الجامعة الذي هو ضمير الأمة كما يقول.}.

وهكذا سارت البلاد من قتل لقتل، ومن عنف لعنف أشد. فاشتد اليأس وضاع الأمل وضاعت الثورة. ولم يملك صاحبنا حيلة إلا الهروب والعودة للسلبية التي كانت، بعد ان كان العمي قد طال، وانصرف كلٌ لشأنه، فيعلنها صريحة ويختم بها شوشة روايته الصارخة في هدوء

{لاأَمَل في أنْ تخفَّ حدَّة الظلام.}.   

وعندما يريد الطبيب أن يدرس الحالة المرضية، يرجع لتاريخ المرض، مع المريض وعائلته. وقد حدد "د.محمد سليم شوشة" أسباب المرض وأعراضه في "شرود أبيض"، ثم راح يستقصي تاريخه في "سور ثلجي في الصحراء". وكأن النيران قد اشتعلت في كل الجوانب حول "محمود خليفة" في عزلته في الصحراء، فأراد أن يبني حوله سور عازل من الثلج، وكأن الإنسان الفرد "محمود خليفة" و الإنسان العربي عامة قد مات بالفعل، فتم وضعه في الثلج.

محمود خليفة، تم وضعه في مزرعة عامرة بكل أنواع الفاكهة، ولديه من المال والأطيان ما يمكنه من استجلاب العمال والخدم، إلا أن المكان يخلو من الناس، يخلو من التواصل الإنساني، فقد تفسخت العلاقات، وأصبح كل إنسان يعيش فردا.. مات الأب الذي أتي به إلي هذا المكان، ومن قبله كانت الأم قد ماتت، وماتت الزوجة، فعاش يتسول الوصل الإنساني، مع الخادمات، إلا أنها علاقات لا تقوم إلا علي الخوف، والتستر. فهي علاقات مبتورة. فضلا عن أنه يعيش بماضِ ملوث، وبلا مستقبل. يحاول أن يلحق بالحاضر، أن يعيش الآن. غير أن العمر تقدم، ولم يعد بمستطيع القيام بمهامه، فشاخت المزرعة بشيخوخته، وبدأت ثمارها تنضب وتجف.

تحطم ماضيه من جراء حادثة إعتداء عامل المصنع عليه في صباه الباكر. فكان الحل الذي رآه والده الحاج خليفة، أن يبتعد به عن العمران، أقام له مزرعة أحاطها بالأسوار، بين التربة الطينية، والتربة الرملية، فلا هي في الصحراء ولا هي في الحضر، لكنها كانت مزرعة عامرة بالفواكه والخيرات.

وعندما تزوج زيجته الثانية "صبحية" أنجبت له "عصام" الذي بدأ يعامله مثلما كان الحاج خليفه يعامله هو، اتخذ منه صديقا، وانعقدت الأمال عليه. غير أن القدر لم يمهل "عصام كثيرا" فقتله اللصوص أمام عينيه، فتحطم حلمه، وتاه مستقبله. غير أن ضياع المستقبل، لم يكن بمعزل عن فعلة الماضي. فانحفرت كلمات أمام عينيه، لم يرها غيره، ليست بالكتابة، ولكنها حروف بارزة في داخله تقول "عصام لم يكن معصوما" محملا ذاته مسئولية موت ابنه. فإذا كان محمود خليفة، قد رأي أن حياته كلها (وسخ) إلا الست أو السبع سنوات الأولي، وهي السنوات السابقة لفعلة عامل المصنع. أي ان عصام عندما ولد، كانت جرثومة التلوث قد أصابته، وبالفعل أصابت ابنه، ف(لم يكن عصام معصوما).

1952 وتكرار الماضي

من الأمور الملفتة، أنه في أثناء الثمانية عشر يوما التي كانت فاصلة في ثورة الشعب في 25 يناير 2011، استدعاء الكثيرين لرمز حركة الجيش في 1952. وارتفاع صوت الأغاني التي ترددت كثيرا في ستينيات القرن الماضي في ميدان التحرير، لتصورهم أنها ستفعل فعلها مثلما كانت في وقتها، من إلهاب للحماس، واستدعاء روح التحرر. واعتبر الكثيرون أيضا أن ما حدث في يونيو 2013 ، هو تكرار لما حدث في يوليو 1952، مع الاستفادة من خبرات التاريخ واستغلال الظروف المغايرة.

 ويستغل محمد سليم شوشة ذلك التشابه ليضع أمام أعيننا تجربة تشعرنا بأنها من أرض الواقع، لفرط طبيعيتها، وقدرته علي السرد الحميم الذي يقترب من الحكي، وبعيدا عن الدرس المباشر، أو التحذير الصريح، فضلا عن ذكر قناة سيزوستريس التي يعتبرها شريان الربط بين الماضي والحاضر، وفق ما سيتضح بعد قليل، يقدم لنا تجربة تنطق وتعبر عن فشل تلك السياسة التي تصورت يوما أن صلاح البلاد هو في دخول الصناعة، متناسية أن مصر كانت سلة العالم الغذائية، ولها سمعتها العالمية. فكان محمود خليفة {ملابسه كلها 100 % قطن منذ مدة طويلة}. وكان ما سعت إليه علي حساب الزراعة، وفي النهاية، لا صناعة أدخلت، ولا علي الزراعة أبقت.

مثلها الكاتب في ذلك التحول التدريجي والمنطقي بالمزرعة، مما كانت تحفل به من خيرات أقرب للجنة، ومن صناعات ارتبطت بالزراعة، إلي ذلك الخراب وجفاف الزرع وانهيار حال المزرعة من جراء فعلة (عامل المصنع) التي كانت السبب في ذلك التدهور، النفسي لصاحب المزرعة، والمادي للمزرعة نفسها.

فقدم لنا صورة مبهجة لما كانت عليه الحال قبل اللجوء لإنشاء المزرعة في الصحراء:

{يشعر أن بيتهم القديم في مدينة بني سويف علامة من علامات الشؤم.. في أرض المحلج أقدم منطقة، كان من أجمل البيوت، عراقة وفخامة واتساع، وسقوف مرتفعة، وأعمدة محلاة ومغلفة من أسفل بدوائر نحاسية لامعة مثل الذهب}.

كما كانت تلك صورة الراسمالية الوطنية التي زعموا الحفاظ عليها، وما كانت تقدمه وتفعله، وما افتقدته النماذج التي أتت من بعده:

{الحاج خليفة ملك كثيرا من الدنيا، ملك رضا اللواء محافظ بني سويف الذي قربه إليه وفقا لتعليمات عبد الناصر في ذلك الوقت 1960 بالحفاظ علي الرأسمالية الوطنية وصنع تعاون حقيقي بينها وبين القطاع العام والحكومي، وبالفعل تبرع الحاج خليفة بخمسين ألف جنيه للجيش، وعرض مشاريعه علي المحافظ شارحا دورها في صنع فرص عمل ودعم الانتاج الزراعي تحديدا وغيره، ومبينا أنه لا يعمل أبدا في الاستيراد أو يساعد في أن تكون مصر عالة علي الدول الأخري.

من يري الحاج خليفة يظن أنه عامل عادي بسيط في ملابسه، وقد يركب المواصلات العامة، وقد لايعرفه بعض العمال الكثيرين لديه، وقد يفاجأ بعض العمال أنه هو ذلك الرجل الذي يعمل معهم منذ ساعة مثل أي عامل... يعرفونه اسما ويتوه وجهه بين وجوههم المجهدة الفقيرة}.

وعندما قرر الحاج خليفة إقامة المزرعة، بعيدا عن العمران، كنوع من الهروب من جراء ما أصابه وأصاب ابنه من (عامل المصنع) والذي كان بداية الجرح والانشقاق النفسي والمعنوي، سعي لإقامة مملكته ومملكة ابنه من بعده:

{في هذه المنطقة الجديدة التي قلما يصل إليها الناس، كانت حكومة 52 قد شقت ترعة صناعية جديدة مجلدة بالأسمنت والخرسانة لتوصيل  المياه إلي مناطق رملية جديدة.

إلي جانب المعلف يوجد عنبر متوسط  للفراخ والبط وبقية الطيور البلدية، كالرومي وأحيانا النعام. بدا خليفة في هذه السنوات القليلة كمن ينشئ دولة قائمة بذاتها، كاملة الأركان، دولة خاصة وعالم آخر يبذره  بصمته ورفضه وبجرح ابنه الذي لايقدر علي ألأمه}.

ومن الأمور التي ساهمت في تحطيم الزراعة، تفتيت الأراضي الزراعية وتحديد حد الملكية، الذي حد من القدرة علي الميكنة { بالقانون القديم الذي وضعه عبد الناصر ليحد ملكية الإقطاعيين وكبار الملاك بما لا يزيد عن 50 فدانا من الأراضي الطينية}.  وكذلك تمليك الأراضي لمستأجرها، حتي أن عبد التواب مستأجر الأرض القديم {مات بالذبحة الصدرية} عندما أصرت حكومة عاطف صدقي علي تطبيق القانون الجديد قي عام 1992بحق مالك الأرض في استردادها، الأمر الذي رفض معه أبناء عبد التواب الاستمرار في زراعتها.

وحينما وجد محمود خليفة نفسه وحيدا في المزرعة، ووجد نفسه لا هو في العمار، ولا هو في الصحراء، ولا مفر من العيش في الظروف الجديدة، راح يواسي نفسه حتي يستطيع العيش فيها:

{لو أوغل في الصحراء قليلا لمات من الجوع هو وأبوه ولما حلم بشاطئ الحياد الذي بات فيه ليلته بعيدا عن البروستاتا، ولو أوغل في الأراضي الطينية لعاش طبيعيا بين الناس مشغولا بمشاغلهم ولما حلم بشاطئ الحياد، لكنه استقر بين الطين والصحراء، فنجحت مزرعته وكانت مثل أشجار الجنة التي رآها في الحلم. هكذا استقر فكر محمود بعد تفكير طويل في الحلم}.

  وبدأت حياة المزرعة في التبدل، وبدأ الانهيار يأخذ طريقه إليه. فبعد أن كان محمود خليفة يشرب من المياه الجارية، لصفائها :

{انفجرت اليوم المواسير لغياب الصيانة وتحتاج إلي إصلاح سريع مثل مولد الكهرباء الذي تأخر الميكانيكي في المجيئ لإصلاحه. ذات مرة ضاجع صبحية علي الرمل في الخلاء، ولم تتكرر مرة أخري برغم الفرص الكثيرة... يبدو أن هناك اتجاها للمزرعة في أن تحد من المتعة علي أرضها}. {من قبل كانت الأرض كلها مزروعة وكان بالمزرعة عاملان علي الأقل دائمان، أما الآن فليس هناك حاجة للعامل الدائم}.

وبدأت الأمور تتأزم متسارعة نحو ضياع المزرعة، مع مرور الأيام وبعد ركوب الإخوان لحكم البلاد، ليتحد ضيق أفق حكم حكومات 52،  مع ضيق أفق الوضع الجديد تحت حكم الإخوان، وكأن الانهيار قد أخذ مداه بحكم المتأسلمين:

{بعد أشهر من العمل والمثابرة صدم صدمة كبيرة حين جاءه الحاج إسماعيل أول تاجر يتصل به لشراء محصول المزرعة .. صدم من الأسعار التي عرضها عليه، صحيح دائما ما يكون هناك مجال للأخذ والرد، لكن الأسعار خُمس أسعار الأعوام السابقة، والغريب أن إسماعيل لايقبل بأي زيادة، ويؤكد أنه يشتري منه محبة له فقط.. برر إسماعيل هذه الأسعار أولا بأن المحصول سئ جدا، وثانيا بأن حكومة الرجل أبو دقن حسب وصفه أوقفت التصدير تماما حتي تكون الأسعار في الداخل جيدة... يستعجب إسماعيل وهو التاجر الإقليمي أن رئيسا يريد مصلحة الوطن يوقف التصدير، عبد الناصر أوقف الاستيراد، وحكومات العالم النامي عادة تحت ضغوط توقف الاستيراد حتي لا يكون عبئا علي الاقتصاد، وهذا يوقف التصدير.

باين إنه مجنون ومش هيكمل فيها.

الزرع انهار والبوم يزيد وعيونه أصبحت أكثر حدة... باع له الزرع وهو في حسرة كأن هذا الانهيار في المحصول إشارة إلي نهاية كل شئ، بداية الفشل وبداية النهاية}.

بعد أن كان البوم قد كثر في المزرعة، بما يضفيه من إحساس بالشؤم والخوف من الغد.

ويركز محمد سليم شوشة علي الأغاني التي لعبت دورا كبيرا في عملية الخداع والوهم التي غلفت المرحلة، والتي وصلت للرغبة في عدم قيام ما يعتبره دراويشها من أهم إنجازاتها، وهو السد العالي، بطريقة ساخرة، ومعبرة عن هلامية الأحلام فيها:

{سد يا روحي سد، بابا يوم الحد، سافر راح أسوان، علشان يبني السد يا روحي، يا روحي سد، بابا هيرجع ويهنينا ويفرحنا ويملي إيدينا، راح يسعدنا ويودينا ويفسحنا في كل جنينة ويوصلنا لحد المجد). ليته لم يبن السد حتي يأتي الفيضان يغمر كل هذا الروث، ويجرف في وجهه كل هذا العفن الذي يحياه، الكهرباء لم تصله في المزرعة، ومولد الكهرباء الصيني الصنع الصغير سينفجر قريبا من كثرة العمل، والميكانيكي شخص يستحق القتل لكذبه المستمر في المواعيد}.

التقنية الروائية

الحلم في أبسط صوره، وفي ذهن العامة، هو الأمنية البعيدة. فأن يتحدث الطالب غير المُجد عن النجاج، فيسارع من يستمع إليه (إنت بتحلم). وأن يتحدث العاصي عن رضي الله، فيسارع من يستمع إليه (عشم إبليس في الجنة). وهو ما حدث مع بدايات الثورة المصرية في 25 يناير، حَلُم الكثيرون بالمستحيل، حَلُموا بالتغيير، فكانت بداية الثورة حُلم. وكانت بداية "سور ثلجي في الصحراء" حُلم. رأي محمود خليفة نفسه في حلم، أنه في الجنة. شمس تضيئ بلا شعاع ولا حرارة. مقاعد بمجرد أن يحلس عليها الشخص، تصبح علي مقاسه. فواكه كثيرة تشبه الموز والعنب والتفاح، لكنها ليست موزا ولا عنبا ولا تفاحا. شراب يشبه ما ألف شربه (العنب المعتق والينسون)، لكنه ليس هو. {شارع نظيف وجميل جدا ومبان من طابق واحد علي جانبيه، لونها واحد وتصميمها كذلك، وملامح المارة حيادية جدا، لا تدل إلا علي الانتظار، لا تدل علي فرح أو حزن أو شقاء أو نعيم}. يقابل فيها {رجلا يلبس الملابس العربية القديمة التي يرتديها الممثلون في المسلسلات التاريخية.. ملابس العربي جميلة وأنيقة ويعتمر عمامة فخمة أنيقة وملامحه مطمئنة}.

وفي نهاية الحلم، يختفي الرجل العربي،  ويعود بنا الكاتب إلي تاريخ المصري الفرعوني {والرجل العربي دو الهيئة الغريبة تلاشي تماما بين الأشجار، التفت حواليه كثيرا حتي تبدد الإندروفين تماما وتراكم عليه فجأة إجهاد أعوام السخرة في حفر قناة سيزوستريس مع القدماء المصريين.... .و .... حين جلس تأكد أنه جلس علي خازوق سليمان الحلبي، وأن المُخرِج الذي جاء به ليؤدي دور سليمان الحلبي خدعه وحول التمثيل إلي حقيقة.. كأن مفرق رجليه انفجرت فيه اسطوانة الغاز، أو سقط في برميل حمض الكبريتيك الذي يضيف منه لمياه الري}. ليفجر لنا سليم شوشة أكثر من قضية، امتدد شعاعها الخافت في ثنايا الرواية، وكأنه يبدأ من النهاية، أو كأنه يضع بؤرة المشكلة، ثم يبدأ في عرض النتائج. إذ يستمر السرد في بداية الفصل التالي، وكأن فصلا من الرواية لم ينته، أو ان الحالة مستمرة، سواء في الحلم أو ما بعد الحلم. فبعد الجملة {كأن مفرق رجليه انفجرت فيه اسطوانة الغاز، أو سقط في برميل حمض الكبريتيك الذي يضيف منه لمياه الري} تأتي البداية بعدها مباشرة { استيقظ محمود خليفة فجأة علي آلام البواسير والتهاب البروستاتا}. وليستمر تعب البواسير والبروستاتا يلازم السارد حتي النهاية، في عملية ربط أو تماه بين الحلم والواقع، وكأن لا فاصل بينهما.

ثم ذكر {وتراكم عليه إجهاد أعوام من السخرة في حفر قناة سيزوتريس) ف{تراكم عليه} هنا تُوحد ما بين السارد والمصري عامة، فيصبح السارد هنا هو المصري الذي يعاني السخرة في حفر قناة سيزوستريس. وقد كان ذكاء من الكاتب هذا الاختيار، حيث حفر القناة  في عهد سنوسرت الثالث' عام 1850 ق.م،  أي في عهد الفراعنة للربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط.، وحيث تم تحديث وتجديد القناة في العهد الفارسي ثم العهد اليوناني والروماني ثم العهد الإسلامي إلي أن أمر جعفر المنصور بردمها منعا للإمدادات من مصر لمكة. ثم أعيد حفرها باسم قناة السويس في عهد الخديوي سعيد، ثم تم عمل تفريعة جديدة باسم قناة السويس الجديدة في عهد عبد الفتاح السيسي. أي أن تاريخ هذه القناة يحمل معه تاريخ المصري أيضا منذ الفراعنة وحتي ما بعد ثورة يناير. وعلي الرغم من أنها حملت في تاريخها الكثير لمصر، إلا أنها أيضا حملت تاريخا مغايرا كرمز للسخرة. وهو ما يؤكد أيضا التماهي بين محمود خليفة والمصري عامة.

أما خازوق سليمان الحلبي فهو إلي جانب الربط بين (الخازوق) وبين معاناة محمود خليفة الدائمة مع البواسير والبروستاتا. فهو يمثل أبشع جزاء للمهمة الشريفة، حيث أتي سليمان الحلبي لمقاومة المستعمر الفرنسي، وقتله لكليبر، إلا أن موتته بإجلاسه علي الخازوق حتي الموت، الأمر الذي يقال دائما لمن خاب سعيه بعد أن كان متصورا الحصول علي جائزة بأنه (أخد خازوق). وهنا يثار التساؤل عن العلاقة بين قناة سيزوستريس وسليمان الحلبي؟

في تصورنا أن الرابط بينهما، هو الرجل العربي الغريب، والذي ظنه الحالم في البداية سيجيبه علي تساؤلاته المحيرة، إلا أنه لم يجد لديه إجابة شافية { أعرف أن لديك أسئلة كثيرة وتريد إجابة عنها ... استطيع أخبرك بما أعرف وبما رأيت ولكني أؤكد لك أنه لن يكفيك أبدا مهما قلت لك أو وصفت. هنا نحن نعيش الانتظار ونقوت منه وفيه اللذة وفيه كل عنائنا}. فما الذي كان يحتاج معرفته محمود من الرجل العربي؟ لقد كان يحتاج أن {يختصر الزمن ويخبره بكل شئ، يخبره بالماضي ويخبره بالمستقبل}. فهل الدين الذي جاء به العربي إلي مصر حاملا أوصاف الجنة، وما فيها من نعيم ومتع، والذي أسلم به المصري واستسلم له وأسلمه القياد {ومشي مع الرجل مسلوب الإرادة تائه الفكر}، هل  أجابه عن هذه الأسئلة؟ وإذا كان الدين حين جاء.. جاء بهذه المتع، وبهذه الأوصاف، فما الذي أصابه، أو بمعني أدق أصاب المتحدثين باسمه فيما بعد؟ يكفي ذلك التعبير الدقيق المعبر في نهاية الحلم {والرجل العربي ذو الهيئة الغريبة تلاشي تماما بين الأشجار) لنعلم أن ذلك الحلم ضاع بين بين الخضرة والأشجار(رمز البهجة والسعادة).. بين الصورة المريحة للعين والمبهجة للنفس، فلم يعد موجودا. أما النموذج الحالي فيتمثل في "القياد" الكبير وابنه أحمد، اللذين يمثلا امتداد ذلك التيار في عهدنا الحاضر. واستمر النظر إليهما علي أنهما المتحدثين باسم السماء، وعلي الجميع السمع والطاعة {هو يصدق ابن القياد كما صدق أبوه القياد الكبير من قبل ويصدقه وسيظل يصدقه برغم موته منذ أكثر من ثلاثين عاما. والده الحاج خليفة كان يصدق القياد، وها هو يصدق ابنه، وكأن الصدق في نسل القياد نهر مستمر، والتصديق في نسله هو نهر مواز. هكذا يتصور علاقته وعلاقة أبيه من قبله بالشيخ القياد وابنه من بعده}.

فإذا ما تصورنا أن "القياد" الكبير ومن بعده ابنه "أحمد" كانا يعملان لصالح المخابرا، وأضفنا إليها عبث الرئيس "أبو دقن" بالاقتصاد. نستطيع أن نتصور عبثية الاستسلام لهذه الرموز. تلك العبثية التي يعيش فيها الحاج خليفة بعيدا عن الناس، بينما يرفض أن يدفن بعيدا عن الناس بعد موته {حين اقترح الحاج خليفة علي ابنه بعد أن توقفت علاقتهما بالمقدوفة  أن تكون مقابرهم بها، اقترح هو عليه أن يجعلا المقابر في المزرعة بين الأهل القليلين، فرفض الأب بحسم: خلينا وسط الناس يا ابني}. فنحن في هذه الحالة أيضا نمشي إلي الخلف، إلي التدهور. كنا أفضل، وأصبحنا أسوأ. وهي الحالة التي يقرها الجميع بعد حالة الفوضي، خاصة من الإسلاميين، بعد الثورة.

وهكذا يتسرب من المقدمة (الحلم) شعاع يمتد بطول الرواية ويصبح كاشفا لها، في غير تصريح.

بناء الشخصية

علي الرغم من أنه لايمكن القول بأن أيا من الروايتين، رواية أشخاص، وإنما يمكن أن نطلق عليهما "رواية حالة" إن جاز التعبير، إلا أن أيا من الروايتين، لم تخلُ من صناعة الشخصية بكل أبعادها، وهو مالا يتوقف بأي منهما عند حدود الرمز، وإنما نجد الإنسان هو جوهرها، وهو ما يؤكد أن الإبداع عموما عمل إنساني بالدرجة الأولي، فضلا عن التعبير عن انعكاسات المرحلة محل التناول علي الإنسان، الذي هو صانعها، وهو في ذات الوقت صنيعتها.

فمحمود خليفة، الشخصية الرئيسة في "سور ثلجي"، كان أبوه (الحاج خليفة) أحد رموز الرأسمالية الوطنية في عهد عبد الناصر، أقام المشروعات التي تقود الزراعة، حيث كانت الزراعة في ازدهارها. اصطحب ابنه معه في كل مكان، كي يلقنه العمل. وبدأ الإبن يستجيب لملاعبات أحد عمال مصنع الثلج، الذي يوزع منتجاته علي كل القرية والقري من حولها. إعتدي عامل المصنع علي شرف الإبن محمود. فحفرت نقطة في أعماق الإبن تعذر ردمها طوال سنوات حياته. حيث عاش بقية حياته يعاني البواسير، والبروستاتا، ولم يجرؤ علي إعطاء الجزء السلفي من ملابسه الداخلية لمن يغسلها، اصابه الوسخ ولازمه. أصبح يجمع تلك القطع في كيس بلاستيكي {الملابس الداخلية العليا فقط يتركها في الغسيل مع بقية الملابس، أما القطعة الداخلية الأخري فدائما يخفيها في الدولاب في كيس بلاستيكي ويغلقه بإحكام حتي لا تفتحه هند أو زينب في النهار وقت عملهما. الملابس الداخلية تحمل أسرار الجسد وأسرار الشخصية مثل المذكرات السرية، يجب إخفاؤها، ولا تنشر إلا في المكان المناسب وعلي الجمهور المناسب.. بعد أن يمتلئ الكيس البلاستيكي بملابسه الداخلية وبأسراره يأمر أحد العمال بحفر حفرة بجانب السور مخبرا أنه ينوي شتل شجرة جديدة في هذه الحفرة بعد مغادرة العمال وشتل الكيس بها ويطمر الرمل عليه جيدا}. – فإذا ما تأملنا التعبير (يستجيب لملاعبات عامل المصنع) وإن كانت تحمل في طياتها علي المستوي الإنساني بعض الوزر علي الإبن، إلا أنها ترمي في الصميم علي المستوي الرمزي. إذا لم تكن الزراعة بمستطيعة مقاومة تيار الصناعة التي كانت هي مرمي نية الحكم في ذاك الوقت، حيث يمكن أن تعطي معني الاستجابة، علي استحياء، لإغراءات الحكم.

فإذا أضفنا هذا إلي محاولات "حميد سليمان" في شرود أبيض تغيير الملابس باستمرار، وشعوره باتساخ ملابسه المرضي، نعلم أن سارد محمد سليم شوشة، مريض بالوسواس (العصاب القهري) والذي يأتي من أهم مظاهره رغبة الشخص في عدم الاندماج في المحيط الاجتماعي، وصعوبة التوافق النفسي مع الآخرين. وهو ما وضح علي حميد سليمان ومحمود خليفة. وحيث يُرجع أطباء النفس بعض أسباب ذلك للتنشئة، أو عوامل التربية. فسنجد أن ارتباط الحاج خليفة بابنه محمود كان ارتباطا مرضيا { في البداية أغلق الحاج خليفة علي نفسه وعلي ابنه قدر الإمكان دائرة العلاقات، حد من علاقاته مع الجيران البعيدين مساحة وفكرا.. فكر أن يعلم ابنه تعليما خاصا داخل المزرعة، وأن يأتيه المدرسون باستمرار ويذهب فقط لأداء الامتحانات ... لم يكن يترك يده أبدا في أي مكان يذهب إليه ... شعر أنه ظل أبيه المنكسر علي الأرض بضعف وهوان .... بالرشوة والأموال استطاع محمود أن يجتاز المراحل التعليمية الأولي حتي وجد نفسه وجها لوجه مع الانفصال عن أبيه مرة أخري للسفر إلي الجامعة.} وحينها لم يستطع محمود أن يتعايش مع زميل في المدينة الجامعية، فقد تأصل بداخله الخوف من الآخرين، خاصة ساعات النوم، فاستأجر مسكنا خارج المدينة الجامعية منفردا. حيث لم يستطع محمود التوافق النفسي مع محيطه. فكان يري في المزرعة الجنة والنار. يخلق  بالموسيقي من الفراغ المحيط به، يتناسي فيه الماضي (عامل المزرعة) والمستقبل (عصام لم يكن معصوما) والحاضر الذي لا يستطيع أن يعيشه(سعيه للحصول علي زينب، وخوفه منها)  في الوقت الذي يتمني الحياة ويتمني الصخب. حتي أنه تمني أن يكون مجرما تسلط عليه الأضواء. يحلم بالحصول علي زينب ويخشي الاقتراب منها {موسيقي راجح داوود تحديدا عنده مثل سؤال امتد بطول الحياة ولا إجابة عنه، سؤال يبحث دائما عن إجابة دون جدوي. حين يغرق في المسيقي يتجرد من كل شئ، من الماضي والحاضر والمستقبل ومن اللهاث وراء زينب ومن طموحه في أن يصبح مجرما يُلقي به في قلب الصخب، تتابعه الجرائد والقنوات مثل سفاح النساء}.

 وتلك الصورة هي ما يقع فيها كثير من الأباء، وهي طريقة التعليم المصري القائم علي التلقين، والقاتل لفرص التفكير والتميز، وهي التي خلقت أجيالا تبحث عن الزعيم وتسلم له القياد ولا تريد إلا ما يريده الزعيم. وتلك هي الصورة التي حاول الكثير من الأباء منع أبنائهم من الاشتراك في بدايات الثورة الأولي في 25 يناير 2011. 

غير أن حالته النفسية، والقلق الذي يعيشه يشككه في قدراته في الفعل{هل سيقدر علي قتل زينب بعد اغتصابها؟ هل سيقدر علي التحرش بها؟ ماذا لو منحته نفسها راضية؟ كيف سيكون شعوره بعد مضاجعتها راضية وتمدده بجوارها علي سجادة الصالة أو في حجرة النوم علي سرير صبحية؟}.

حتي مع صبحية ، ورغم أنها زوجته، إلا أنه كان يهرب بها من جناحه في الفيلا (رغم رفضه لكلمة فيلا، التي تعطيه الإحساس بالوحدة، ويفضل عليها كلمة بيت، التي تشعره بالناس). كان يهرب بها إلي إحدي الحجرات خارج أجنحة الفيلا. وكذلك استمتاعه بالفرجة علي زينب مع أحد العمال في قبلته لها حتي بداية رفح جلبابها، واستخدامه للنظارة المكبرة  للفرجة عليهم من بعيد دون أن يروه. وحرصه علي مشاهدة الأفلام، والفيديوهات الإباحية، وكأنه يبحث عن طفولته التي لم يعشها، ويحاول أن يعيشها من جديد {شعر ببعض الراحة والعودة التدريجية للحياة لاسيما مع مطاردة زينب وهند ومشاكستهما كفتي مراهق يشتاق لمذاق علاقة أولي مع فتاة}.

كل تلك ظواهر تؤكد بشرية محمود خليفة، وتصرفاته المرضية، والتي تؤكد وجوده المادي، كفرد صنعت به الظروف، وصنع به المجتمع ما صنع. فضلا عن وجوده الرمزي.

السمات الإسلوبية

لم يقدم الكاتب تلك الرؤية التفصيلية لقارئه جاهزة علي طبق من الفضة، بل حثه علي أن يبحث عنها، مثل من يبحث عن ثمرة معينة وسط مزرعة مترامية حاشدة بالثمار. إلا أنه استمر طوال الوقت يقنعه بألا يمل، أو ييأس، فراح يغريه بما يشبه شهراز التي استطاعت أن توقف رغبة شهريار في القتل والدم بالحكايا والتشويق. وقد اعتمد في ذلك بطريقتين. الطريقة الأولي، هي تسريب ما يريد إيصاله لقارئه بين ثنايا السرد، وكأنه يخرج من حكاية لحكاية. فبينما هو يتحدث عن "صبحية" زوجة "محمود خليفة"، نراه وبلا مقدمات يتحدث عن "القياد الكبير ومدفنه {تعرف ما تفعله الزوجات الجميلات قبل الرحيل وهن في صورة غير جميلة.ابن القياد لم يتأخر عنها بدعواته التي فشلت، مثل دعوات أبيه للحاج خليفة، جاءها مرتين في مرضها، قرأ  أورادا وأذكارا ودعا الله كثيرا بتضرع وبكاء. لا يعرف ـ أحد سببا واضحا لبكائه، الأقرب أنه يبكي علي أبيه المدفون في مقام مزركش ومزخرف غارق في النظافة والعطور والنذور}.

أما الطريقة الثانية، فتعمده ذكر التفاصيل (غير المملة) والتي تجعل القارئ يشعر ويلمس المكان أو الشخص، فيخلق نوعا من المعايشة الحميمة، التي تمسك بالقارئ حتي النهاية، مثل:

{اتجه إلي المطبخ يبحث عن أي طعام يعده، لديه أشياء كثيرة.. فراخ مجمدة في الفريزير، وفراخ بانيه، جاهزة تحتاج للتسخين فقط في الزيت، ومعلبات مربي وعسل وصلصة وطحينة ولحوم بلدية مجمدة، ونوعان من الأرز، وأنواع من المكرونة..}.

لقد استطاع محمد سليم شوشة أن يقدم حالة روائية نفذت إلي جوهر الحالة المصرية فيما بعد 25 يناير 2011 وما شابها من قلق وتخبط ودسائس ومؤامرات، وسعي حثيث علي الوصول للسلطة، بدأت من العام 1952 وحتي ما بعد حكم الإخوان في العام 2013 ، بتجربة المزرعة التي صورت مصر بمزرعة التجارب التي لخصها بتكثيف معبر وغير مخل في:

{ليته لم يولد، أو لم تحدث حادثة المصنع التي ألقت به في هذا الموقع الغريب البعيد عن الخلق... كثيرا ما يشعر أن المكان سر شقائه. المشكلة أن هذا المكان خبيث وماكر جدا، يبدو بريئا وجميلا وهو في الحقيقة شيطان كبير أفسد عليه كل حياته. أو قد يكون الشيطان الأكبر هو عامل المصنع الذي أسلمه إلي شيطان أصغر هو هذه المزرعة}.

وإذا كان في نهاية "شرود أبيض" قد أعلن يأسه الكامل بإحساسه بألا أمل في الغد. فإنه يعود هنا، في "سور ثلجي في الصحراء" ليزرع بصيصا من الأمل المشروط {من المناسب جدا صيانة المزرعة .. بدأ يشعر أن صيانة المزرعة صيانة لجسده، وأنها إذا صحت وعادت لقوتها فسوف يستعيد هو شبابه}.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[i] - محمد سليم شوشة – سور ثلجي في الصحراء – رواية – سلسلة الفائزون – الهيئة العامة لقصور الثقافة – 2016.

[ii]- محمد سليم شوشة – شرود أبيض – رواية – إبداع للنشر والتوزيع – 2015. (المركز الأول في مسايقة المجلس الأعلي للثقافة)